رواية ابتليت بعشقك الفصل الخامس عشر 15

الصفحة الرئيسية

رواية ابتليت بعشقك الفصل الخامس عشر 15 بقلم بسنت علاء وبسمة عبد العظيم

رواية ابتليت بعشقك الفصل الخامس عشر 15

اشتقت لذلك السلام الذي كان يسكن نفسي .. لتلك الابتسامة التي هجرت ثغري ... تلك الحياة التي كنت اعيشها قبل أن ابتلي بعشقك فيصبح كل شيء عكسه .. ليصبح الوجع رفيق قلبي الدائم ... ليصبح ذلك الحب الذي من فرطه يسيل في القلب حممًا ونيرانًا تحرقه حتى يستهوي الحرق بناره كل مطلبي فأين المفر من حب مُعذِب لمعذبه
"من تلك الفتاة التي قتلتها ؟" 
حدق بها في صدمة وقد فقد قدرته على النطق ... ماذا ؟ أين ! كيف من الأصل !! يا الهي ! ، أخذ يتراجع تلقائيًا بأعين مذعورة وقد تجسدت صورتها أمامه في وجه ملاك فبات يرى وجهها مبتسمة تلك الابتسامة البريئة التي محاها ... هو ، كان يهمس بـ "لا ... لا" 
بينما هي تأكدت من تلك المعلومة من ملامح وجهه ... تريد أن تبكي الآن حقًا ، رؤيته هكذا مذعورًا خائفًا وكأن مسًا أصابه أكثر من قدرتها على الاحتمال وأيضًا تأكيد تلك المعلومة عصف بها ، كان وكأنه قد تجمد لم يستطع اخراج أي صوت ، أراد أن ينفي كاذبًا .. أن يسألها من أين عرفت لكن الصمت ! كان الصمت هو المسيطر على الغرفة تاركًا مهمة تملكهم من الداخل للضوضاء العارمة فقد كان في داخل كل منهم من الضجيج ما يكفي ويفيض ، ظلا على هذا الوضع لبضع دقائق قبل أن يعمل عقله ولو قليلًا معطيًا قدميه الإشارة بالمغادرة فهرول سريعًا خارجًا يتخبط في ذلك و ذاك لا يرى إلا اللون الأحمر أمامه ... دماء ... دماء كثيرة متخثرة تغطي يديه .. تغطي كل شيء ، وصل سيارته بأعجوبة وبأعجوبة أكبر قادها حتى وصل إلى مكان مهجور على قارعة الطريق ... خرج من سيارته يتعثر في أشياء وهمية ، مشعث الشعر بفعل أصابعه ... مبعثر الثياب يريد أن يخلعها من النار التي تنضح من داخله ثم وفجأة شق سكون المكان حوله بتلك الصرخة ... صرخة شقت حنجرته مسببة شرخًا كبيرًا فيها ... فرغ فيها كل آهاته و ألمه ووجعه منذ ما حدث ... فرغ بها كل شيء ، ثم تهاوى أرضًا مع تواصل تلك الآهات المتقطعة التي خفتت قليلًا ، يضرب رأسه من الخلف في سيارته المستند عليها ، ظل هكذا لفترة قبل أن ينهض غير واعيًا أن دموعه قد بللت وجهه و ياقة قميصه ثم اعتلى السيارة وأدارها على أقصى سرعة وأخذ يجول بين الطرقات متمنيًا أن تصدمه سيارة أو يحدث له حادثًا فيرتاح للأبد ... هذه أسمى أمنياته حقًا في هذا الوقت....
**
كان غيث جالسًا يعمل بتركيز على حاسوبه إلى أن فُتِح الباب بقوة ليطل من خلفه زياد بعينان حمراوتان وهيئة تدل على ما به ومن وراءه كانت ياسمين تحاول منعه من الدخول بهذه الطريقة لكنه صرفها بإشارة من يده بينما عيناه لم تحيدان عن عينيّ صديقه المشتعلتين بقدر اشتعاله الداخلي وبمجرد أن أُغلِق باب المكتب عليهما كانت قبضة زياد قد عرفت طريقها نحو وجه غيث ، لكمة أوقعته أرضًا من على كرسيه ! ثم صاح زياد بهياج
-: لماذا ؟ 
نهض غيث بسرعة وهو يدلك فكه مدركًا أن صديقه ليس بكامل وعيه فابتعد عنه قدر الإمكان حتى لا يؤذي إحداهما الآخر تاركًا زياد يكسر ويركل كل ما تطاله يداه وهو يصرخ بكلمات غير مترابطة لكنه فهم من محتواها أنه شيء له علاقة بماضيه ! حقًا .. ومتى يتحول زياد الهادئ إلى ذلك المارد إلَّا عند تلك النقطة ! ، حاول الحديث وهو يتخذ خطواته نحوه بحذر إلَّا أن زياد صاح بقوة أكبر موجهًا حديثه له
-: لماذا تفعل هكذا بي ؟؟ ألم تقل أنك ستساعدني على كسب قلبها من جديد ؟ لماذا تخبرها بهذا الآن ! في تلك الفترة بالذات بعد أن وجدت راحتي في رؤياها دائمًا ... الاعتراف بحبي لها ... شعوري بتأثرها بي لمااااذا !! لم أعهدك قاسٍ هكذا يا صديقي ... ألم يكفي ما في قلبي من وجع حتى تأتي أنت بسكينك وتتفنن في تقطيعه !! 
قال هذا وتهاوى جالسًا وهو يلهث بقوة ويمسد موضع قلبه الذي ينبض بقوة آلمة بينما كان غيث واقفًا مبهوتًا من كلام صديقه واتهاماته المباشرة !! ماذا حدث لكل هذا ! ، ذهب وجلس على مكتبه محاولًا التحدث بعقلانية وهدوء
-: ماذا حدث بالضبط يا زياد لم أفهم منك شيئًا ؟ 
صفق الأخير على المكتب وهو يصيح بأعلى ما يملك من صوت
-: لا تتغابى يا غيث أنت تفهم جيدًا
أخذ يسعل بقوة في نهاية حديثه وهو يشعر بالألم في حنجرته فشبك غيث كفيه أمامه 
-: من الأفضل لك أن تحكي ما حدث سريعًا حتى لا أطلب لك الأمن ليطردوك خارجًا لما سببته 
أشار إلى المكتب حوله فتبعت عيون زياد يده باضطراب ثم تنهد بقوة وهو يمرر يده على وجهه ويحكي له ما حدث في كلمات مختصرة أنهاها باتهامه ثانية
-: أخبرني إذًا ... من أين ستعرف ماذا حدث في الماضي إن لم يكن منك ! كيف لها أن تعرف أخبرني فأنا أكاد أجن 
أخذ يمرر يده في شعره بقوة وهو يزفر بقوة ويهز قدمه بعنف لكن جاءته إجابة غيث بما جعله يحدق به لثوانٍ
-: أنت بداخلك متأكد من أنني لم ولن أخبرها لكن أخبرني أنت يا زياد ! هل كنت تنوي إخفاء الأمر للأبد ! هل غرقت في لذة تحررك من عقدة الماضي وتناسيت إخبارها وتخييرها قبل كل شيء ! 
أخذ زياد يفتح فمه ويغلقه محاولًا الكلام بلا جدوى وكأن عقله قد توقف عن العمل غير قادر على خلق إجابات لأسئلة غيث التي ضربته في الصميم ... أخذ يحاول ويحاول عبثًا إلى أن زمجر بقوة وهو ينهض خارجًا بقوة ساحبًا زوابعه المتنقلة معه تاركًا غيث وراءه يتنهد بقوة و حزن على حكاية صديقه و اخته التي تزداد تعقدًا مع الأيام حتى يئس من وجود حل........
**
ظل يجول بسيارته في طرق ممتدة يشعرها بلا نهاية ، يدخل هنا ويخرج من هنا بلا هدف ... لم يتكلم قط فقد كان ضجيج عقله يكفي ويفيض ، لم تكن تصدر منه سوى تلك الأنات والآهات والتي مصدرها قلبه ، قلبه الذي يشعره سيتوقف من كثرة ما يحتدم بداخله ، تتردد كلمات غيث بداخله ... أيخبرها و يتحمل نتائج أفعاله كالرجال وكفاه هروبًا ! أم يرحل بدون أن تكرهه ! وحبه ! وقلبه ... هل سيحكم عليه بالموت ثانية ! وهي !!!
تأوه بصوت عالٍ مُعذِب هاتفًا بحرقة 
-: يا الله 
ثم وبدون تفكير أكثر أسرع بسيارته نحوها قبل أن يتراجع 
**
اقتحم الغرفة بدون استئذان فانتفضت في جلستها ناظرة له بذعر ، تردد قليلًا ، يود لو يجري مبتعدًا لكنه أخذ نفسًا عميقًا ثم قال سريعًا
-: تريدين أن تعرفي؟ حسنًا سأخبرك فلا مفر ... لكن أرجوك لا تنطقي بحرف حتى انتهي 
أماءت برأسها وقلبها يهبط من صدرها للألم المرسوم بل المحفور حفرًا على ملامحه وتلك النبرة التي يتحدث بها .. نظراته التي احتدت من اللاشيء للاشيء لكنها آثرت الصمت وهي تقوي نفسها لكي تسمع الحكاية أخيرًا..... 
جلس هو على المقعد المجاور للفراش مستندًا بمرفقيه إلى ركبتيه مخفضًا رأسه قليلًا ناظرًا للأرض بأعين غير مبصرة سوداء ، يتذكر كل ما حدث بالتفصيل _وكأنه نسيه من الأصل_ يمر أمام عينيه كفيلم سينيمائي رخيص رديء الإنتاج وبابتسامة قاسية أوجعت عظام فكه بدأ يسرد...
-: مات أبي و أنا في سن العشرين ، الأب المثالي ... لم يكن يمت لتلك التسمية بصلة ... كان أبعد ما يكون عن المثالية .. كان سكيرًا قاسيًا ... قاسيًا حد أنه كان يضربني كالحيوانات على أصغر ذلة مني حتى بت لا أشعر ، أتعرفين ماذا كان أيضًا !
سألها بلهجة ساخرة ثم أجاب بتلك الابتسامة التي تحجرت على شفتيه
-: كان خائنًا !! كنت أنا و أمي نعرف بهذا ، كنت أواسيها ليالٍ طويلة متوعدًا بضربه والانتقام منه شر انتقام لكن بمجرد وقوفي أمامه كانت تهوي كل وعودي أرضًا أمامي ، لكن تخيلي...
ضحك ضحكة صغيرة متهكمة وهو يتذكر تفاصيل الموقف
-: تخيلي طفل في السادسة عشر مازال يتلمس طريقه نحو الرجولة يدخل إلى مكتب أبيه ليجد أبشع مشهد يمكن أن يراه و السخرية أن أبطال المشهد لم يكونوا سوى أبيه وسكيرتيرته الفاضلة ! ،وقتها ابتعدت هي عنه بهدوء وخرجت وكأن شيئًا لم يكن بينما بقيت أنا محدقًا أمامي في ذهول أريد أن أتقيأ من هول ما رأيت لكنه أخبرني بابتسامة بشعة لامبالية ما يستحيل أن أنساه
"ماذا ؟ أأنت مصدوم ؟ لا تحدق بي هكذا إنها طبيعة الرجال .. نحن لا نكتفي بامرأة واحدة ... أمك أصبحت أرضًا بور ما يجذبني لها كل بضعة أشهر هو الحب الذي كان ... يجب أن استمتع بشبابي ... لا تقلق ستكبر وتعرف ... ستكون حتمًا مثلي .. مثلنا جميعًا" 
قال تلك بابتسامة قاسية وقد ترقرقت دموعه بينما ملاك كانت دموعها قد سالت بالفعل وهي تقاطعه
-: أرجوك لا تكمل لا أريد أن أعرف
فصاح هو بعصبية ألجمتها
-: لااا ، طالما أردتِ المعرفة هي حقك وطالما بدأت لن انتهي إلَّا وأنت تعلمين كل شيء
رجع لنفس وضعه الأول وأكمل بارتعاش حاول إخفاءه
-: ليلتها انكسر شيء ما بداخلي ... رجولتي الوليدة شُرِخت ، أخذت أبكي في غرفتي كالأطفال بلا سبب محدد ... شفقة على أمي ! على حالي ! كره لذلك الرجل الذي التصق إسمه بإسمي لا أعرف ولا أهتم... 
أخذ نفسًا عميقًا يعبئ رئتيه يخفف من انقباض صدره الذي جعل التنفس من أصعب الأشياء الآن وهو ينتقل للجزء الأسوأ ... لبداية الحكاية
-: يوم موته ... لم أذرف دمعة واحدة وكيف أفعل ! يمكنك القول أنني كنت ... سعيدًا إلى حد ما ... فقد زال سبب شقائي وشقاء أمي في هذه الدنيا ، لكن ما لم أحسب له حسابًا أن أكون أنا سبب شقاء كلانا ... أن أتحول إلى نسخة مصغرة منه....
تراءت إلى مسامعه شهقتها الصغيرة التي كتمتها بيدها فابتسم بمرارة ... لقد كان محقًا إنها ملاك لا يجب أن تسمع لا ... لكنه بدأ في السرد وانتهى الأمر ، ابتلع تلك الغصة الملازمة له و أكمل
-: لا أدري ماذا حدث ! كل وعودي لأمي بالراحة بعد وفاته تبخرت في الهواء ... استغليت الشيء الوحيد الجيد الذي تركه وهو المال، استغيلته أسوأ استغلال يمكن لشاب يافع أن يفعله ... وقد وجدت مرشدي الأمين الذي وجهني نحو طريق الخطيئة توجيهًا صحيحًا لا لبس فيه ... أجزم أنك عرفتيه ... نعم سامر 
كرر الأسم بدون صوت وهو يهز كتفيه بضحكة مكتومة على حاله
-: كان رفيقي أنا وغيث في الجامعة لكننا ابتعدنا عنه لسوء خلقه الذي ظهر لنا واضحًا بعد معاشرته ... لا أدري كيف عرف بحالي وتسرب حولي من جديد حتى بات يلازمني كأنفاسي ، انغمسنا في الخطأ معًا ... كان هو من علمني كل شيء ... ارتكبت كل المعاصي لم أترك واحدة ... كنا مشهورين في كل صالات الألعاب ، الملاهي الليلية ، بيوت الدعارة باختصار كنا شياطين ....
ازدرد لعابه و دموعه تركل باب عينيه غير راضية بذلك الحبس فأنزل رأسه بين ركبتيه لكي لا تراه غير مدركًا أن مع أول دمعة ترقرقت في عينيه كانت تسيل على وجنتيها أضعافًا وقد شعرت به وبألمه ، عبأ صدره بالهواء ثانية وهو يكمل 
-: كنت أتلذذ برؤية تذلل الفتيات لي خائفات من الفضيحة بعد تسليم أجسادهن لي بإسم الحب الذي أخدعهن به في البداية ... إلى أن جاءت واحدة ...
-: كفى أرجوك كفى أرحم نفسك و أرحمني
قالتها بنبرة ملهوفة وهي تبكي بحرقة غير آبهة إن سمع بكاءها أم لا فأكمل وهو يهز رأسه
-: أرجوكِ أنا أحتاج أن أحكي ، يجب أن تعرفي ، كان اسمها "حياة" ، كانت تلك الفتاة كالغراء .. تظهر لي كل يوم وفي كل مكان .. تهددني تارة ، تتلمس عطفي تارة أخرى ... كنت مستمتعًا في البداية لا أنكر لكن بمرور الوقت الأمر بات مملًا و مزعجًا ... ثم...
لم يستطع السيطرة على تلك الرعشة التي ضربته كله فانتفض في جلسته وأكمل بصوت مرتعش مهزوز وهو يشعر بقطرات العرق تتجمع على جبينه
-: ذات يوم أرسلت لي ورقة مع نادلة الملهى تخبرني أنها تنتظرني خلفه ... فخرجت لها مخمورًا معميًا بغضبي لتخبرني وهي تبكي وتتوسلني أنها حامل !! ، لا أتذكر ما حدث بعدها إلا أنني لم أستفق إلا وهي مسجية أرضًا أمامي غارقة في دماءها وقد نجحت بجدارة في إنزال ذلك الطفل ، هربت بالطبع .. كنت أتعثر في ظلي ... أخذت أجري و أسقط حتى امتلأت ساقيّ بالجروح المدمية وكل ما يتردد بذهني أنني قتلتها ... أنا قاتل ... مثله فهو قتلني وأمي بالحياة ، علمت بعدها بالطبع من مصادري أنها لم تمُت ، لكن جاءتني صحوة ضمير متأخرة وقررت الذهاب إليها والاعتذار وطلبها للزواج إن وافقت فقابلتني بكل إباء وقسوة قائلة
" إن كانت مسامحتك تتوقف عليها حياتي فسأفضل الموت بصدر رحب ... سأعيش و أموت يا زياد وذنبي وذنب طفلي في رقبتك ليوم الدين" 
ثم بعدها بشهر ماتت ! هكذا بدوت مقدمات ، ماتت بسكتة قلبية ... هل تتخيلين !؟ 
أرجع رأسه للخلف مقهقهًا بقوة حتى أدمعت عيناه فبات لا يعرف مصدر تلك الدموع المنهمرة بدون توقف وأكمل وهو مازال يضحك
-: لقد قتلتها ... و إن لم يكن بشكل مباشر ... ماتت بحسرتها على طفلها الذي قتلته أنا ، الذي هو طفلي أنا أيضًا !! 
وثب من مكانه وهو مازال يضحك ... ثم في ثوان انقلبت ملامحه إلى متوحشة ارعبتها وهو يصيح غير واعٍ 
-: أرأيتِ !! أرأيت أي شيطان أنا ! قتلتها هي وطفلها ... كدت أقتلك بشكل أو بآخر ... قتلت نفسي بالحياة بعد موتها ... تدور حياتي حول القتل والقذارة ولا شيء غيرهما ... أنا نجس .. شيطان ... شيطاااان 
أخذ يلهث قليلًا غير مبصرًا إياها ثم صرخ ثانية
-: أخبريني إياها ملاك هيا .. أخبريني أنني شيطان مجرد من الآدمية ... أخبريني أنك تزدريني و تحتقريني ... أطرديني الآن .... هيا افعلي مثلهم جميعًا هياا
كان غير واعٍ وكأنه انفصل عن العالم ... غير واعٍ لاحمرار عينيه ودموعه المتساقطة بغزارة التي في خضم انفعاله تطاير بعضًا منها على يديها ، فهمست له بقلب مفطور ودموعها تنساب بغزارة حتى بللت عنقها
-: زياد !! زياد أنا أحبك 
و إن كانت تنوي ارجاعه للواقع فقد فعلت ... حدق بها قليلًا و هو يعي الزمان والمكان ... يحاول استدراك نفسه واسترجاع تلك الكلمة التي يتأكد سماعه لها فهمس وهو يهز رأسه عاقدًا حاجبيه بتعجب
-: ماذا قلتِ ؟ 
انخرطت في بكاءها مغطية وجهها بكفيها ولم يصله إجابة منها سوى صوت شهقاتها العالية فغرس أصابعه في شعره بقوة صائحًا
-: لا .. لا تبكِ أرجوك 
ارتفعت وتيرة بكاءها أكثر فزمجر وهو يركل المقعد الذي كان جالسًا عليه بقوه قبل أن يقول جملته الأخيرة بعنف
-: إن كان ما سمعته صحيحًا فالأمر لم يتنهِ بعد 
ثم خرج كالإعصار صافقًا الباب خلفه تاركًا صدى كلماته يتردد حولها في الغرفة معذبًا إياها....
**
ركب سيارته وهو يغلق الباب بقوة كادت تخلعه ثم أخذ يمرر يده على وجهه ، يضرب ويخرب كل ما تطاله يده ، كانت تصدر منه تأوهات مكتومة ... لقد تجسد كل شيء أمامه لحظة بلحظة بنفس الشعور .. وهي !! لقد عرفت حقيقته أخيرًا ! هل ستحكم عليه بالموت ثانية ! هل ستكرهه ! ابتسم بسخرية من سؤاله الغبي ثم قال بقسوة مخاطبًا نفسه وكأن تعذيب الذات أصبح هواية لديه فلم يصبح يكفيه ما بداخله 
-: وما الذي لا يجعلها تكرهك ! ما الذي يشفع لك ؟ حتى حبها لك قتلته .. هذا هو ما تتفنن فيه على أي حال 
أدار السيارة بسرعة يهرب ثانية كما العادة وهو يتنهد صائحًا 
-: يا الله 
ثم أخرج هاتفه سريعًا وهو يتصل بغيث وبمجرد أن فتح الخط قال بصوت مظلم
-: اذهب لملاك الآن بسرعة فهي تحتاجك 
ولم يكد غيث الذي عصف القلق به أن يرد عليه حتى أغلق الخط وهو يرمي الهاتف بلا اكتراث مسرعًا السيارة أكثر....
**
وصل مسرعًا إلى غرفتها وهو يلهث من فرط التوتر ... فتح الباب بقوة وهو يدخل بدون استئذان لتضربه تلك الغصة في قلبه على الفور لرؤيتها هكذا جالسة تغطي وجهها بكفيها وهي تبكي بصوت يمزق نياط قلبه ببطء ... يبدع في العزف على أوتار وجعه ، تحرك نحوها بخطوات واسعة حتى جلس بجوارها وبدون كلام أخذها بين أحضانه بقوة  أجفلتها في البداية لكنها تعرفت عليه على الفور وبدلًا من أن تدفعه عنها كما توقع تشبثت به بقوة وهي تبكي بصوت أعلى ... بقهر أكبر ... تفرغ كل دموعها على صدره لعلها تنضب وتريحها !
ذُهِل من ردة فعلها لكنه ظل يهدهدها برقة تاركًا إياها تفرغ كل ما بداخلها بينما كان يسب ويلعن زياد داخله على ما يسببه لاخته ... اللعنة لم يكن يخطط لهذا أبدًا ... لكنه لا يستطيع منع ذلك الجزء الأناني داخله من الفرحة لإحساسه ببدء عودتها إليه ، قاطع شروده صوتها الخافت من وسط بكاءها وهي تتشبث به أكثر 
-: أنا أحبه يا غيث ... أ...حبه جـ..دا
سمعها بصعوبة ... وبصعوبة أكبر حجم غضبه لكي لا يلعنه أمامها وقال بهدوء مفتعل 
-: أعرف حبيبتي ... 
ارتفعت وتيرة بكاءها وهي تهتز بين يديه ثم أكملت
-: لكني لا استطيع مسامحته ... لا استطـ...يع ، آلمني كثيرًا ومازال ... كل تصرف منه يؤ...لمني ... حبه يؤلمني .. أشعره مفتعلًا أو شـ.... شفقة
نطقت تلك الأخيرة بصعوبة وهي ترجع للنحيب ثانية غير مدركة لما فعلته كلماتها بغيث ... لكم الألم الذي ينحر في قلبه الآن ... لاحتقاره لذاته الذي يستمر في التزايد ، لم يعلق على قولها بل همس بصدق متوجع وملامح وجهه تتقلص بألم
-: سامحيني ملاك 
قالها وشدد من احتضانها لتحتضنه هي بالمقابل قائلة 
-: أحتاجك غيث ... جدًا جدًا ... تعبت من تصنع القوة
أخذ شهيقًا قويًا يزيل أثار بكاء لم يبدأ بعد ثم قال بحنان وهو يسند ذقنه أعلى رأسه 
-: و أنا أحتاجك أضعافًا ... فلنتفق على شيء 
مد يده يكفكف دموعها المتساقطة ثم أكمل بابتسامة مرتعشة
-: حتى و إن لم تسامحيني فاقبلي وجودي بجوارك ... دعيني أرى ابتسامتك فأنا أحتاج لهذا أكثر منك ... اسمحي لي أن أتصدر لزياد و أضع حدًا لما يحصل ، لكن سؤالي هو هل تريدينيه ؟ هل ستقبلين به ولو بعد حين ؟ 
صمتت وهي تتشبث أكثر بملابسه تحتمي به من سؤاله الذي يهدر قلبها مجاوبًا عليه لكن عقلها اللعين يحبس كلماتها في فمها بقفل من فولاذ ، تتنهد غيث سائلًا 
-: ماذا فعل إذًا منذ قليل ليتركك على على تلك الحالة ؟  
ثم أضاف بتردد وصوت خافت قليلًا 
-: هل ... أخبرك؟؟
رجعت لبكاءها ثانية لكنها لم تقل سوى 
-: إنه يتألم ... بشدة 
كفكف دموعها ثانية برفق وهو يقبل رأسها 
-: شششش كل شيء سيكون بخير أنا بجوارك ولن أتركك أبدًا
أخذ يمرر يده على شعرها بلطف حتى هدأت ثم قال فجأة وابتسامة الحنين تتربع على شفتيه 
-: أتذكرين ملاك طفولتنا ؟ أتذكرين كيف كنتِ تلعبين دور الأم دائمًا رغم صغرك ! 
ضحك بخفوت وهو يرجع بذاكرته لتلك الأيام البريئة حيث لا وجع 
-: أتذكرين يوم انزلقتِ على الدرج وحينما سارعت لإمساكك انزلقت معك و سقطنا على الدرج من أوله إلى أخره
ضحكت بقوة أحسها مفتعلة قليلًا ... وكأنها تختلق الحجج لكي تضحك وتبتسم  ، أكمل وهو يضحك هو الآخر
-: كانت شغف معنا وقتها ... كنت أفرض عليها حصاري دائمًا ثم رأتني بذلك الموقف المزري
أخذ يضحك بقوة حتى دمعت عيناه مع استمرارها هي الأخرى بالضحك 
-: آآه ... ليت تلك الأيام تعود 
همهمة خافتة صدرت منها لم يسمعها وعندما نظر لها وجدها تغط في نوم عميق ... هزها برفق فلم تستجب !
يبدو أنها هربت من الواقع ثانية بالنوم ، نهض من جوارها بحذر وهو يريحها في نومتها ثم جلس على الكرسي المجاور وهو يحتضن يدها قائلًا بوعد رجل صادق
-: أعدك ملاك أنه من اليوم ستكون مهمتي هي إسعادك ... ولن يهنأ لي بال إلَّا عند رؤية إشراقتك من جديد ولو كان آخر ما أفعله بحياتي ... أعدك حبيبتي 
ثم قبل يدها بقوة وهو ينهض ليغادر كابحًا رغبته في الذهاب لهذا المعتوه فلو رآه أمامه الآن لأشبعه ضربًا حتى يزهق روحه بين يديه
**
بعد منتصف الليل 
دخل إلى المنزل مستنزف القلب والروح والجسد ، يسير بتهالك بطيء في الظلام الذي كان ساترًا لحالته لكن فجأةً أُضيئت الأنوار ليظهر من خلفها وجه أمه القلق وهي تهرول نحوه بذعر هاتفة 
-: زياد حبيبي أين كنت ؟ أكاد أموت من القلق عليك و هاتفك مغلق وغيث أيضًا ماذا حدث بني أجبني !! 
ترقرقت بعض الدموع في عينيه قبل أن يهمس بصوت مختنق
-: احتضنيني أمي 
نفذت طلبه على الفور وهي تسحبه نحو أحضانها مربتة على رأسه بحنان سائلة
-: ماذا بك بني ؟ لا توجع قلبي عليك ! 
خرج من أحضانها ليشعر بنفس الخواء لكنه قال بصوته المبحوح وهو يتجه نحو غرفته 
-: أريد أن أنااااام ... مجهد ، لأبعد حد ، حد الموت
**
دخل إلى المنزل مبتسما بمزاج رائق وهو ينادي 
-: حبيبتي أين أنت ؟
لم يصله رد سوى ذلك الصمت المطبق فعقد حاجبيه وهو ينادي ثانية متجها لغرفة النوم لعلها تكون نائمة 
-: حبيبتي !! 
لم يجدها أيضًا لكن فجأة سمع صوت ارتطام اشياء قادم من المطبخ فذهب مسرعًا وسرعان ما ابتسم براحة عند رؤيتها واقفة على الموقد 
-: لماذا لا تردي حبيبتي لقد أقلقتني 
التفتت له ويا ليتها ما التفتت فقد كانت هي ملاكه إنما بوجه أخرى !! وجه "حياة" ! ابتسمت له تلك الابتسامة البريئة قبل أن يتحول وجهها في ثوان إلى وجه طفل رضيع بنفس الابتسامة ... كل هذا وهو متجمد مكانه بذعر ... ماذا يحدث !! 
سمع صوت صادر من ذاك الطفل .. لكنه كان صوتها هي بنفس تلك النبرة القاسية مخبرًا إياه 
"سأعيش و أموت يا زياد وذنبي و ذنب طفلي في رقبتك ليوم الدين" 
ثم وبدون مقدمات أخذت تنزف بنفس الابتسامة حتى اختفت لتصبح مجرد بقعة من الدماء على أرض المطبخ مع استمرار ذلك الصوت المعذب في أذنه 
"ستموت أنت أيضًا وكل من تحبهم" 
شعر بالتوهان والأرض تميد به وتدور حتى تهاوى أرضًا وقد تحول المطبخ إلى ذلك الملهى الذي اعتاد ارتياده ليجد سامر يجلس بجانبه مبتسمًا ببشاعة وهو يمد له يده بالمخدر وبجانبه شذا ... شذا تزيد من سرعة السيارة لتصدم ملاك بكل قوتها فتسقط غارقة في دمائها لتتحول في ثوانٍ لنفس بقعة الدماء
استيقظ وهو غارق في العرق البارد صارخا بجزع حتى بح صوته
-: ملااااااااااااااااااك
أخذ يلهث بعينين مفتوحتين حتى كادتا أن تخرجا من محجريهما محدقًا في الظلام ... ثم أخذ يتلفت يمينًا ويسارًا بهيستيريا وهو يضرب بيديه على الفراش ،  ظل يردد إسمها بنبرة خافتة قليلًا غير واعٍ أين هو ! ، اقتحمت أمه وهي تضيء الأنوار هاتفة بإسمه بجزع 
-: زياد ! ماذا بك يا حبيبي لماذا تصرخ ؟
شهقت بقوة وهي ترى حالته فسارعت نحوه تحتضنه ، قاومها في البداية وعيناه محدقتان في البعيد غير مبصرتان لكنه استرخى قليلًا مستسلمًا لأحضانها عندما همست له
-: لا تقلق حبيبي ... أنا أمك وأنت في غرفتك لقد كان كابوسًا ... كابوسًا حبيبي .. أفق 
كانت دموعها ودموعه تتساقط بغزارة بدون وعي أي منهما لكنه قال متسائلًا بصوت مرتجف وهو يجول بنظره في الغرفة
-: كابوس !! كيف ! لا لقد كان حقيقة 
اختنق صوته وهو يشدد من احتضان أمه باحثًا عن راحة و أمان فقدهما منذ زمن 
-: لقد كانت ملاك ، حـ... حياة وسامر ... شذا .. شذا أيضًا كانت تصدم ملاك بـ.... سيارتها 
ثم هب من حضن أمه مبتعدًا وهو يقول بجزع مذهول 
-: وملاك ! ملاك ماتت يا أمي ماتت 
أخذت تبكي وتشهق بصوت عالي وهي تهز رأسها يمينًا ويسارًا صائحة بقوة
-: حلم أفهم أنه حلم 
حدق بها لدقيقتان ثم هز رأسه علامة النفي هامسًا ببحة 
-: لا ... لقد كان كابوسًا 
دس نفسه بقوة بين أحضانها ثانية ثم أمسك بكفها يضعه على رأسه في طلب غير منطوق فأخذت تمسد له فروته بلطف كما يحب ، همس لها بعد قليل 
-: أنا أتعذب أمي ... قلبي يموت ويعيش في اليوم مئات المرات 
ازداد انهمار دموعها وهي تشدد من احتضانه بغير رد فأكمل 
-: الوجع خط بقلمه باحتراف على قلبي حتى بات لوحة فنية تجسده بأسمى معانيه ، أصبح رفيقي الدائم ... أصبحت.........
صمت فجأة و لم يكمل فنظرت له من بين دموعها لتجده قد غط في نوم عميق ... أو هرب من واقعه المُعذِب ... لا فرق ، أخذت تتأملة بحسرة وقلب مفطور هامسة
-: ماذا تفعل بنفسك يا بني ! لماذا ؟
ثم تركت أسألتها تحوم حوله مدركة أنها لن تلقى لها إجابة وهي تذهب إلى غرفتها لتتوضأ وتصلي وتدعو له لعل الله يستجيب ويخلصه مما هو فيه.......
**
اليوم التالي صباحًا....
خارج من غرفته بخطوات ناعسة وهو يتثائب ، بالكاد يرى أمامه بأعين نصف مغلقة إلى أن اصطدم بشيء صغير ! 
لا بل التعبير الأصح هو جسم صغير ! فتح عينيه على وسعهما وهو ينظر تحته ليجدها متكومة أرضًا تدلك ذراعها بملامح متألمة منزعجة ، فسألها بحدة 
-: ماذا تفعلين أمام غرفتي في هذا الوقت من الصباح !! ما الذي يوقظك مبكرًا هكذا من الأصل ؟
وثبت من مكانها صائحة بصوتها الرفيع وهي تشهر سبابتها في وجهه
-: ماذا ؟ هل حُرِم التجول في هذا البيت !! وماذا فيها إن استيقظت هل أنا عبء عليك لتلك الدرجة التي لا تتحمل وجودي بها !! 
كانت نبرتها تحولت من حادة إلى خافتة متبرمة فنظر لها لمدة دقيقة دون أن يتكلم ثم تحرك ناحية الحمام بدون اكتراث في تجاهل تام لها ! 
فصاحت من خلفه بغيظ
-: لقد استيقظت مبكرًا لأعد لك الإفطار ... خسارة فيك والله 
ثم أكملت في سرها بهمس "أيها الجلف الأحمق".......
بعد قليل كانا يجلسان على مائدة الطعام يأكل هو بنهم وهي تلعب في طعامها في صمت مطبق ، تضرب بشوكتها بخفة على سطح الطبق ، تتنحنح ، تسعل بخفوت وتفتعل أي حركة تجعله ينظر إليها لعله يشكرها على الطعام حتى لكن لا حياة لمن تنادي ! يبدو كجندي عائد من الأسر وهو منكب على الطبق هكذا ! 
تجرأت أخيرًا وتكلمت بخفوت 
-: هل ... أعجبك الطعام ؟ 
أماء برأسه في صمت ومازال مسلط النظرات على الطبق فتنحنت وأكملت وهي تضع يدها خلف عنقها بحرج 
-: اممم سيف ! لماذا لم تقبل طلب صداقتي على الـ "فيس بوك" ؟ 
نجحت في جذب انتباهه فرفع وجهه وهو ينظر إليها بشك ثم قال ببطء
-: وهل أنشأتي حسابًا من الأصل ؟ متى كل هذا ! 
أخفضت هي وجهها ناظرة إلى طعامها قائلة بخفوت 
-: نعم أنشأت وأرسلت لك طلب صداقة بإسم .... انثى الطاووس 
قالت كلمتها الأخيرة بسرعة فعقد حاجبيه قليلًا ثم انفجر ضاحكًا بصوت عالٍ جعلها تنتفض في مكانها ، خفتت ضحكاته تدريجيًا وهو يقول 
-: انثى ماذا ؟ الطاووس !! 
ثم أخذ يضحك ثانية لكن هذه المرة شعرت بطعم الاستهانة مرًا في كلماته فضربت على الطاولة بقبضتها قائلة بقوة
-: نعم ، أنا أحب الطاووس ليس من شأنك ، وتعلم شيئا !! أنا لا أريد صداقتك من الأصل... 
ثم نهضت بذقن مرفوع يناقض قلبها المكسور لردة فعله متجهة إلى غرفتها تاركة إياه يناظرها بقليل من الذنب وذلك الصوت اللعين بداخله يردد 
-: انثى الطاووس حقًا.....
**
بعدها بقليل....
شركة الهاشمي الفرع الرئيسي
جالس في مكتبه يعمل بمزاج رائق نوعًا ما ، فكل شيء في تحسن ، علاقته مع ملاك و شغف ، و قريبًا جدًا سيذهب إلى زياد ليضع حد لهذه المهزلة فقد أيقن أنه حكى لها ... أصدر هاتفه صوت أزيز يعلن عن قدوم رسالة ففتحها بهدوء وروتينية ليجد ما جعل حدقتيه تتوسعان حتى كادتا أن تخرجا من محجريهما...
google-playkhamsatmostaqltradent