Ads by Google X

رواية نوتفكيشن كاملة بقلم دينا ابراهيم روكا (من الفصل الأول للأخير)

الصفحة الرئيسية

نوفيلا نوتفكيشن كاملة جميع الفصول بقلم الكاتبة دينا ابراهيم الشهيرة بـروكا، وهي رواية رومانسية، وكما واضح من الأسم نوتفكيشن "notification" بمعنى تنبيه أو أشعار، وبالتأكيد هذه له دور كبير في الرواية، وسوف نشاركم جميع فصول الرواية كاملة من الفصل الأول إلى الفصل الأخير عبر مدونة دليل الروايات للقراءة والتحميل pdf.

رواية نوتفكيشن كاملة بقلم دينا ابراهيم

نوفيلا نوتفكيشن الفصل الأول

توقفت سيارة حديثة الطراز والمطلية باللون الوردي الصارخ بأن المالك ما هي إلا أنثى مدللة، ركنتها المالكة مباشرة أمام أحد المباني الفاخرة شاهقة العلو والمنتشرة في حي جاردن سيتي، ثم خرج منها شاب يشعر بالملل كما تشير عيناه العسلية المائلة للون الخضرة والناعسة.
حك الشاب الوسيم لحيته السوداء المزينة لوجه وتلقي رونقًا جذابًا يليق برجل في أواخر العشرينات من عمره، عكست ترجله من مقعد القيادة فتاة بشعرٍ أسود كثيف يحير ثُقل هيئته عين الرائي عندما يقارنه بمدى نحافتها التي تميل للضعف أكثر منها إلى الرقة، أغلقت السيارة بإحكام وتحركت كي تواجه الشاب مثبته عيونها السوداء الواسعة والتي يكاد يجزم أنها تزداد وسعًا مع كل لحظة توتر تمر بها.
لعق الشاب شفتيه وهو غارق في تفحص جاذبيتها الفريدة التي لا يستطيع تحديد سببها من الأساس، فهي ليست خارقة الجمال أو فاتنة الانوثة وتفاصيلها هادئو إلا أن هناك شيء داخل حدقتيها يجعله مهووسًا برغبته في الغرق بهما وكأنها تتوسل إليه لإنقاذها ولكنها أنهت حيرته بصوتها الرفيع المرتبك:

-زي ما اتفقنا إياك تعمل حاجة من دماغك وأي حركة أو رد فعل منك هيكون بإذني، مفهوم؟
أرتفع جانب ثغر "زيدان" في ابتسامه ساخرة بينما يميل برأسه ناحية اليمين يطالعها وهي تتحدث بتسلية كبيرة وكأنها قردً في حديقة الحيوان، فأغمضت جفونها في غيظ قبل أن تخبره في انزعاج:

-أنت فاهم أنا بقول أيه!

اتسعت ابتسامته على آخرها وكأنه سعيد بانه نجح في ازعاجها واتلاف أعصابها المحترقة إلا إنه فاجئها حين مد ذراعه حول كتفيها يقربها نحو جسده في سهولة مخبرًا إياها في نبرته الخشنة الرجولية أو ربما هي خشنة لأن المقيت لم يتحدث معها أو يفتح فمه بكلمة واحدة طوال الطريق، هزت رأسها كي تصب كامل انتباهها على كلماته:

-أنتي ليه محسساني أن عمر ما حد حضنك قبل كده.

جذت على أسنانها وهي ترمقه بنظرات محتقرة وداخلها يصرخ مجيبًا لأنه لم يسبق أن يضمها رجل من قبله قط، لكنها اكتفت بنزع ذراعه عنها محاولة إخفاء حمرة الخجل عن وجهها وتشتيته في نبرتها الغاضبة:

-أنت ازاي تتجرأ، احنا ما اتفقناش على كده!

لم يعيرها أي اهتمام بل أعاد ذراعه حولها وكأن شيء لم يكن ثم جرها معه نحو المبنى محذرًا:

-لا نهدى كده الله يكرمك، بلاش نفضح العلاقة القذرة دي من أولها.. ما تنسيش إني جوزك..
كادت تمطره بوابل من الشتائم بانه ليس زوجها بالفعل، لكن وصول صديقتها قطع توبيخها ما أن رصدتهما وتقدمت في فضول نحوهما مرحبة:

-ميرا واقفة ليه كده يلا بينا الشله كلها فوق....

قطعت حديثها وهي تنظر ل "زيدان" من أعلاه إلى أسفله مستفسرة:

-مش هتعرفينا ولا أيه؟

رسمت "ميرا" ابتسامه مهتزة فوق فمها قبل أن تجذب نفس عميق قائلة:

-أيوة طبعًا ليلو صاحبتي، زيدان جوزي!

نظرت لها الفتاة بأعين متسعة قبل أن تهتف في خضة:

-جوزك...no way مش مصدقه!

-أيوة احنا متجوزين عُرفي.

رفعت ميرا رأسها في عنجهية وفخر تحسد عليهما في حديث فاسد يتعجب له "زيدان" وكلتاهما يتحدثان عنه أمامه وعن الزواج العرفي وكأنهما يتحدثان عن حالة الطقس أو طبق اليوم!
اتسعت ابتسامه الفتاة وهي تتفحصه في وقاحة دون خجل قبل أن تحرك رأسها في قبول هامسة:

-اممم nice قطتنا كبرت وبقت naughty .

انتهت جملتها وهي تلتفت للتحرك مشيرة لهما لأتباعها وقد فعلا حتى وصلا شقة أخذ الدخان والموسيقى الصاخبة يتسابقان منها ما أن فُتح الباب، حافظ زيدان على تعابير وجهة الثابتة كي لا يظهر طبيعة مشاعرة المشمئزة من المشهد الدائر حوله من فتيات وشباب لا يتحاوزوا العشرين عامًا، يلهون ويتراقصون في مجون وكأنهم في إحدى دول أوروبا.
اشتدت أصابعه حول كتفها الرفيع يحاول كبح مشاعره الغاضبة عليها لتورطها مع هؤلاء ولكنه رفع أصابعه عنها في سرعة وكأنه يخشى كسر عظامها الرقيقة.
زاد غيظه وهو يتابع لمعة عيونها بالانتماء والمحبة وهي ترمي السلام هنا وهناك بين الشباب والشابات قبل أن تستقر على أريكة لشخصين مشيره له بعينيها كي يجاورها.
رسم ابتسامه هادئة على وجهة ثم جلس يصطنع التسلية وعدم المبالاة بما يدور حوله حتى تدخلت تلك المدعوة ليلو بانبهار مقزز وكأنها ربحت اليناصيب:

-أسمحولي افاجئكم واقولكم مين ده، ده زيدان ... يبقى جوز ميرا !

-نعم!

علا صوتً ذكوري واحد فوق الجلسة من بين شهقات الجميع الصادمة وتمتماتهم الغير مصدقة، فارتفع حاجب "زيدان" و انتبهت حواسه لهذا الشاب الجالس أمامه يطالعه في حقد جلي للجميع ما عدا الحمقاء المبتسمة في فخر بجواره.

-اهلا أنا زيدان جوز ميرا.

حرك الشاب رأسه وكأنه يستجمع أفكاره ويخرج من صدمته قبل ان يبادله التحية:

-اهلا، أنا رامي صاحب ميرا.

على الفور بدأت عجلة التفكير تدور في عقل "زيدان" وهو يشتم رائحة الغيرة المقطرة من حروفه ولكنه تجاهله وجلس بأريحية يتابع نظرات الفتيات إليه.
ابتسم لنفسه في غرور فهو شاب يملك وسامة مصرية أصيلة وله عيون ناعسة قادرة على سرقة قلوب الفتيات وفي الواقع فمعظم فتيات الجيل الجديد فارغات في التأسيس الأبوي أو التربوي بمعنى صحيح وغارقن في العلاقات الجانبية بشكل لا يتركه يبذل الكثير من الجهد من أجل إيقاعهن في شباكه.
رمق البلهاء المبتسمة بجواره والتي تحاول إلصاق كتفها به وكأنها بذلك تصك ملكيتها عليه، ولولا أنه يشعر بدمائه تغلي داخله لخرجت منه ضحكات عالية على سخافتها.... أيفترض أن يكون هذا التصرف وقحً من نوع ما؟ ... حرك رأسه في تعجب من سذاجتها ودون تفكير رفع ذراعه يحيطها به من جديد متجاهلًا تصلبها واتساع عينيها وهو يقربها منه قبل ان يميل على أذنها هامسًا:

-اضحكي كأني بقولك حاجة، المفروض المتجوزين بس هما اللي يقولوها.

احمرت وجنتها في خجل رغمًا عنها فارتفع حاجبة وهو يهمس:

-الابتسامة؟

اهتزت شفتيها في شبة ابتسامه وانخفضت عينيها تشعر بخجل شديد من هذا الاقتراب الحميمي أمام الجميع.
حمقاء غريبة الأطوار تكاد تفقده ما تبقى من صوابه بتصرفاتها المتناقضة وتجعل مهمته في تحليل تصرفاتها وفهم مداخل شخصيتها مهمة شبة مستحيلة، رفعت عيناها المرتبكة نحوه ترمقه في توسل كي يرحمها من اقترابه ولكنه وجد نفسه يفعل العكس بإحكامه لذراعه حولها بينما يعدل جلسته مستندًا بظهره للخلف ضامً لها جواره وكأنها زوجته بالفعل.
حسنًا ... هي وضعت البداية وما هو إلا الناهي في تلك الحكاية!...
فكر في خبث وهو يسترجع بداية الجنون في حكايتهم.

***
-أنت طلعت دماغ يا زيدوو المنشور قلب الدنيا ولف الفيس بوك كله!

قال "محمد" صديقة بينما تابع صديقهم الثالث "كيرو" في مرح:

-اومال أيه دماغ بصحيح، إلا قولي يا زيدوو عملتها ازاي دي!

ضحك "زيدان" على حماسه أصدقائه وكأنه مخترع الذرة وليس منشور على موقع للتواصل الاجتماعي ... لكنه ابتسم في غرور سعيدًا أن المنشور لاقى اعجاب مئات الآلاف بشكل خرافي أنبهر به أصدقائه المخابيل.

-الحقوا ده في جريدة إلكترونية كاتبة عننا ... قام شاب أسمه زيدان بتنزيل منشور يجمع صور له ولعدة من أصدقائه وقد ارفق ممازحًا على صورة صديقة الاول الحقي واحجزي عرض لفترة محدودة باد بوي أوي .. وسيم .. عربية،
أما عن الصديق الثاني فأكمل ممازحًا جنتلمان .. معسول الكلام...هينفعك أوي في الفسح مع صحابك الكابلز ... أما عن صورته فكتب بكل غرور....

قاطع زيدان "محمد" في ملل وانزعاج :

-ما خلاص يا ابني ما أنا اللي ناشر البوست وحافظه.

-ماشي يا سيدي زعق براحتك، بردو هسامحك.

ضحك الأصدقاء ليشاكسه "كيرو" بقوله:

-طبعا لازم تسامحه بعد كمية البنات اللي دخلت تشتري خدماتكم فعلًا!،
احنا اتسيطنا أوي يا زيدوو يا عم اعمامنا كلنا!

حرك زيدان رأسه لليمين واليسار في يأس ثم أخبرهم:

-لا نركز مع بعض كده عشان ربنا يكرمها معانا ويكملها على الخير البوست نزل كدعاية وشوو قبل ما نفتح الكافية بتاعنا احنا التلاته،
وياريت مننساش ان البيه متجوز والتاني خاطب وشكرًا.

نظر الثنائي لبعضهم البعض نظرات ذات مغزى قبل أن يرمقوا زيدان في حنق يترجمه محمد بقوله المنزعج:

-فاهمين، عايز تقولنا نلم الدور وما نلفش على كل البنات دي، عايزنا نرفص النعمة يا جاحد!

علت ضحكات "زيدان" وقرر تجاهلهم وهو يمسك هاتفه يتنقل بين اشعاراته الكثيرة ولكن إشعار واحد فقط نجح في جذب انتباهه أكثر مما ينبغي، اتبع فضوله وفتح الرسالة المرسلة من فتاة اسمها "ميرا".
والذي حارب لكي يبعد عيناه الشاردة في تفاصيل ملامحها الظاهرة من صورتها المصغرة أعلى غرفة الدردشة بأعجوبة وداخلة شعور بانه يعرفها، ثم انتقل يقرأ ما ارسلته في ذهول، حرك رأسه في صدمه يحاول استعادة انتباهه المشتت وأعاد قراءة كلماتها المريبة:

-محتاجاك تمثل انك متجوزني عرفي لمدة ست شهور وهديك مبلغ كبير جدا فوق ما تتخيل.

مالت شفتاه للأسفل في اشمئزاز متمتمًا:

-أيه الطلب الحقير ده، يعني مش أمثل إني متجوزها لا أمثل إني متجوزها عرفي، أكيد ده تهريج مش بجد.

أنهى همساته وهو يتجه مباشرة لفتح الصفحة الشخصية الخاصة بها وتلقائيًا تحرك أصبعه لفتح وتكبير صورتها الشخصية، تنقل بنظراته المتفحصة كأي رجل في العالم فوق جسدها النحيف المخفي تحت ثوب مخملي فضفاض بلون السكر ورقيق للغاية يستقر نهايته أسفل ركبتيها مباشرة ويبدو ملمسه مريحًا للجسد والعين على حد سواء.
وما ان انتقل نحو وجهها الرفيع ذو الذقن المدبب نوعًا ما، حتى تعلقت عيناه بعدستيها السوداء الواسعة، وقد أسرته الألفة فيها ونظرتها المبهمة المحملة بالعديد من المشاعر فبالرغم من وجود ابتسامة خفيفة مزينة لثغرها الصغير إلا أنها تخفي في عيناها خوفً أو ضعفً دفين أنطلق كالسهم مهاجمًا صدره مثيرًا مشاعر غريبة عنه تدفعه دفعًا لحمايتها.
ضاقت عيناه وهو يحاول تبين ملامحها أكثر والتحقق منها بينما يؤكد له عقله رؤيتها من قبل ومعرفته بها بشكل أو بأخر، عض على شفتيه يحاول عصر أفكاره ليتذكر أين رءاها من قبل ولكن دون جدوي.
اتجه لقراءة بياناتها المتاحة والتقليب بين ألبومات الصور الخاصة به في عزم شديد لمعرفته هويتها حتى انفرج فاهه مصدومًا وهو يتعرف على صورة والدتها !
إنها العمة "أماني" الحفيدة الكبرى للشقيق الأكبر لجده رحمة الله، حمد الله في سرة انه لم يغرق في معضلة ارتباطها الأسرى به فهي قريبته من بعيد ووالده أخبرهم بمناداتها "عمتي" في كل لقاءاتهم العائلية القليلة..
من سيخدع؟ فتلك اللقاءات تقتصر على حالات الوفاة وحفلات الزفاف فقط.
حرك رأسه في ذهول وهو يتذكر أخر لقاء منذ ثلاث أعوام تقريبًا كان يوم وفاة أحد أقاربهم، يومها رأي تلك ال "ميرا" ولكن شتان بين هيئتها في تلك الصورة وهيئتها يومها فقد كانت صغيرة بالكاد تتعدى السادسة عشر عامًا وشديدة النحافة تختبئ أسفل قبعتها.
كانت منزوية في أحد المقاعد كعادتها كلما تصادف ولمحها في أي تجمع عائلي وكأنها تحاول عزل نفسها عن نظرات الشفقة والتنمر من حولها.
تذكر يومها كيف ثار غضبه عندما نعتتها إحدى الفتيات بعود الكبريت وكيف ظهرت الربكة على محياها وهي تفتعل انشغالها بهاتفها وعدم سماعها لهم بل إنها تمادت بأن وضعت سماعات الأذن لتختفي أكثر وأكثر في ذاتها بعيدًا عن الجميع.
كما تذكر كيف كاد يقتلع لسان ابن خالته عندما تحدث معها ولم يجد منها ما يجاري حديثه فرماها بوصفً بشعًا كبشاعة قلبه ولولا تدخل والده على الفور وإنهائه للأمر قبل أن ينتبه الأخرون لكسر صفي أسنانه بقبضته.
لطالما كانت الصغيرة تناشد بقعة داخلة وكأنها تطلب منه الحماية والأمان بسوداويتها الواسعة وكأنها تائهة بين بقاع العالم وتنتظر أن يرشدها هو.
ارتسمت ابتسامه طفيفة على فمه وهو يتذكر التقاطه لعيناها الواسعة والتي كانت أكثر وسعًا آنذاك نتيجة لنحافتها المفرطة، كيف لم يتعرف عليها بل كيف لم يميز مشاعره الدفاعية الوليدة داخله كلما رءاها وتلك الرغبة في الاحتواء التي تقدر هي وحدها على إشعالها في صدره.
اختفت ابتسامته وحنينه للماضي وسرعان ما تبدلت وملء العبوس الفراغ في منتصف جبينه وهو يتذكر محتوى رسالتها!

-لا هي أكيد عارفة إني قريبها وبتهزر معايا، مفهاش كلام تاني.

تمتم للهواء من حوله فأخرجه صوت "كيرو" الذي يلصق وجهه في هاتف زيدان متطفلًا:

-هي مين دي يا نمس؟

أغلق "زيدان" هاتفه على الفور وهو يدفع صديقه موبخًا:

-يا انسان يا بارد خليك في حالك.
وقف مغادرًا إلى أحد الغرف ووجد نفسه يراسلها مجيبًا:

"عرفي مرة واحدة، طيب اخدعيني الأول."

أتاه ردها الجاف المتجاهل لمزحته سريعًا وكأنها تنتظر إجابته على أحر من الجمر:

"ولمدة ست شهور لو أنت مهتم، قابلني بكره في ".." الساعة أربعة العصر."

لعق شفتيه وهو يفكر في حيره وارتباك لماذا لا تبادله المزاح أو تخبره بأنها تعلم هويته، قرر مسايرتها فالأمر به خدعة لا محال ف "ميرا" وذلك الطلب المشؤوم لا يجتمعان سويًا في جملة واحدة، عض شفته وهو يحرك أصابعه فوق الهاتف مرسلًا:

"اتفقنا."

أغلق الهاتف وعقله منشغل بما سيحدث في الغد من ألاعيب.

***

رمى أحد الأشخاص بجسده إلى جواره مخرجًا إياه من ذكرياته، فنظر "زيدان" إلى الفتاة الجالسة جواره مبتسمه بشكل واسع قبل أن تمد كفها نحوه قائلة:

-هاي، أنا ليلو تاني نورت شيلتنا.

رفع يده عن كتف "ميرا" ليلتقط كف "ليلو" غريبة الأطوار قائلًا في نبرة مفعمة بالمغازلة:

-زيدان، ومنورة بيكي صدقيني.

-ميرا عايزك.

التفت "زيدان" نحو "رامي" الذي مد كفه يلتقط كف "ميرا" الصغير بينما يحدق في عينيه متحديًا في وقاحة منتشلًا إياها من جواره ثم اتجه معها إلى داخل الشرفة، تجمد "زيدان" في مكانه لحظات ثقيلة قبل أن تغلي الدماء في رأسه يحاول القيام برد فعل سريع فهو لن يترك قريبته هائمة بين الفاسدين أمام ناظرة.
وقف متجاهلًا "ليلو" التي كانت منغمسة في حديث معه وانطلق خلفهما يرافقهما في الشرفة، التقط وجوده "رامي" اولًا وكاد يجزم أنه رأى الحقد يتناثر من مقلتيه، هذا الفتى لديه مشاعر نحو الحمقاء.

-صدقني زيدان حد كويس.

التقت أُذُنه إجابتها التي لابد أنها إجابة على شكوك "المدلل" في شخصه النبيل .. فكر ساخرًا ثم ابتسم في غرور يرميه بنفس نظراته المتحدية قبل أن يمسك بأصابع "ميرا" متجاهلًا الارتعاش الطفيف التي تمالك أطرافها، ثم قال في نبرة هادئة:

-ميرا، يلا بينا.

نظرت له "ميرا" متعجبة اقتراحه ولوهلة شعر برغبه في صفعها، اذا هي لا تحضر فقط وسط هؤلاء الحمقى بل تسهر لأوقات غير مفترض أن يسمح بها لفتاة وبالتأكيد ليس فتاة في مثل سنها، اخرجه من سياق أفكاره صوت "رامي" المنزعج:

-الساعة لسه عشرة، ميرا متعودة تسهر معانا ووالدتها عارفة.

رماه "زيدان" بنفس ابتسامته المستفزة وهو يخبره بنبرة ماكرة:

-ومن قالك إنها هتروح بيتها، ولا أية يا روحي؟

كاد يبتسم حين رمقته في حدة على تدليله لها فقد علقت أكثر من مرة مؤكدة كرهها لهذه الكلمة.

-أه .. أيوه .. فعلًا، معلش يا رامي مضطره امشي.

وجهت حديثها لرامي بصوتها السعيد أكثر من اللازم قبل أن يجرها "زيدان" خلفه للرحيل، فمالت عليه في طريقهم للخارج هامسه:

-أنت بتعمل أيه بالظبط؟

-هاخدك وأروح عشان عندي شغل الصبح.

-أفندم!

نظرت له وكأنه مجنون ولكنها صمتت مبتلعة اعتراضاتها حتى خرجا من الشقة ومن المبنى كليًا ووصلا إلى داخل السيارة، وقتها التفتت نحوه هاتفه من بين أسنانها في لهجة مستنكرة:

-ممكن أفهم أنت ازاي تتصرف من دماغك.
مط ذراعيه قبل أن يعدل مقعد السيارة للخلف بشكل أكثر أريحية مجيبًا في تهكم:

-في العادة الناس بتتصرف من دماغها، لكن لو أنتي غير مقدرش أجادلك.

ارتفع ثغرها في شبه ابتسامه مستهجنه تنظر له بعدم تصديق قبل أن تردف:

-اه انت رايق وبتستظرف وأنا محروق دمي،
أنت كان المفروض تقضي وقت جنبي من سكات وتسمع كلامي وبس مش تتصرف من دماغك!

-طيب وأنا عندي شغل الصبح وما ينفعش أسهر أكتر من كده.

عقدت ذراعها أمام صدرها ثم رددت في حدة تتناقض مع حجمها الضئيل:

-محدش طلب منك تسهر، بعد كده لو مشغول، امشي لوحدك ما تجرنيش وراك أنا ملحقتش أقعد معاهم!

دوت ضحكته المكان ما أن أنهت تذمرها وكاد يقسم وهو يراقبها تقبض أصابعها أنها تحارب كي لا تصفعه على وجهه ولن ينكر أن داخلة جزء صغير تمنى لو تفعلها كي يرد لها الصفعة صفعتين علها تنعش خلايا عقلها المحتضرة، ثم قال ساخرًا يحاول إخفاء نواياه الغامضة خلفها:

-حلو وبما أن وقت اللعب انتهى وشوفت أصحابك اللُذاذ طحن، تقدري تسمعي شروطي في اللعبة.

ارتفع حاجبها الأيسر وهي ترمقه بريبه متسائلة:

-شروط أيه، احنا ما اتفقناش على كده.

-ما احنا بنتفق يا روحي.

-ما تقوليش يا روحي!

-اسمعي ما تقاطعنيش!

هتف في حدة أكثر من اللازم لكنها كانت كافية لصدمها وغلق فمها فأستكمل مؤكدًا جديته:

-ممنوع منعًا بتاتًا تيجي هنا أو تتلمي مع أصحابك دول وأنا مش موجود معاكي.

رفع أصابعه في الهواء يوقف فمها المنفرج بالتأكيد للاعتراض ثم استطرد:

-ممنوع تقفي مع أي راجل غيري أو أنك تسمحي لحد يمسك إيدك أو يحط أيده على أي مكان في جسمك طول ما انا في الصورة.

-لا أنت اتجننت رسمي، فوق شوية أنت مش جوزي بحق وحقيقي.

-واحد صدقيني واحد، طالما أنتي أرتبطي بيا قدامهم يبقى الموضوع مفيش نقاش فيه.

-وأنا مش موافقة على التهريج ده.

حرك رأسه في تروي قبل أن يخبرها في غرور وحزم :

-تمام يبقى الاتفاق ملغي.

-أفندم يعني أيه ملغي، بعد ما شافوك واتعرفوا عليك عايزهم يقولوا اني كنت بسرح بيهم أظهرك مرة في حياتي وبعدين تختفي.

صرخت في حدة لا تصدق وقاحته لكنه أصر على موقفه مجيبًا في لامبالاة ونبرة باردة جعلت رأسها على حافة الانفجار:

-والله هو ده اللي عندي.

-ومقولتش ليه من الأول.

سألته في حقد وهي تطالعه بعيونها الواسعة المشعة بغضبها عليه فأكتفى بتحريك كتفه مردفًا:

-المفروض دي بديهيات مش محتاج أقولها.

ساد الصمت بينهما قليلًا وهو ينظر خارج النافذة يعلم في قلبه انها ستخضع له وحاول كبح ابتسامه حين سمع زئيرها الخافت قبل أن تخبره:

-ماشي يا زيدان أي شروط تانية؟

لمعت عيناه وهو يرمقها بنظراته الوقحة من أعلاها لأسفلها:

-الطاعة يا روحي.

نوفيلا نوتفكيشن الفصل الثاني

تجاهلت "ميرا" رنين الهاتف حين سطع اسم "زيدان" فوق سطح هاتفها الملقى بإهمال على المقعد جوارها، فابتسمت وكأنها تشفي غليلها بتجاهله متمته:

-أنا هوريك الطاعة يا "روحي".

مطت حروف دلاله الشهير لها والذي يستفز حواسها، زفرت حانقة عندما عاد الرنين من جديد لكنها همت ترفعه بأصابع مرتعشة ما أن قرأت اسم والدها.
اختفى المرح من على محياها ولبرهه كادت تنهار طقوس استعداداتها النفسية التي تستغرق من يومها ساعات طويلة حتى تكسر قوقعتها وتتمكن من مواجهة العالم الخارجي.
كادت تستلم لمشاعرها الحقيقة التي حرصت على دفنها عميقًا وتنهمر في البكاء حسرة على غياب هذا الوالد من حياتها، كان يتملكها رغبة كبيرة في الانتقام منه وعقابه على إهماله لها شهرً كاملًا دون أن يجري اتصالًا واحدًا يطمئن فيه على أحوال فتاته.
لكنها كالعادة وجدت نفسها تنساق وراء رغبة الطفلة الصغيرة المفتقدة لصوت والدها، فتنهدت في استسلام متأكدة أنه سيختلق أي سبب لانتقادها إلا أنها أجابته على أي حال:

-أيوة يا بابا.

-اسمها أيوة؟ هو ده الاحترام اللي امك بتعلمه ليكي عشان تتعاملي بيه معايا،
المفروض أني بتعب وأبعتلك آلالافات كل شهر تعيشك ملكة، عشان في الآخر تتكلمي معايا بالطريقة دي؟

-أسفة مكنتش أقصد، حضرتك فهمتني غلط.

رددت سريعًا في لهجة غلب عليها الحيرة والارتباك لا تصدق سرعة التقاطه للنقد وكأنه يتصل فقط لتوبيخها، قطع "شريف" أفكارها بصوته الغليظ:

-خلاص مش عايز اتكلم في الموضوع ده، على العموم أنا حبيت أقولك أن مصروفك اتحول على حسابك، وأن مصاريف الجامعة وصلتلهم،
وحبيت كمان أطمن عليكي بس واضح أنك كويسة.

انقطعت كلماتها المتلهفة ورغبتها في تبرير الموقف بصوت "جلال" مساعد والدها الشخصي الذي صدح بجواره يعلن وصول أحد السفراء ثم اتبعه صوت والدها المنشغل:

-مضطر أقفل حاليًا، وبطلي تقابلي شوية الفاشلين اللي ملموه عليهم، مش كل مكالمة هكرر تحذيري ليكي.

ارتعشت شفتاها السفلى غير قادرة على التنفس ما ان أغلق المكالمة، هربت دموعها الحارة لدقيقة مرت عليها طويلًا قبل أن تمرر أصابعها بعنف فوق وجهها تجففها.
تكره ضعفها وعدم قدرتها على مواجهة أبيها بمشاعرها وهو بؤرة علتها، فبرغم أنها على الطريق الذي رسمته لنفسها من أجل التمرد والتحول من خامة مثيرة للشفقة والتنمر إلى أخرى عبارة عن كتلة من الثقة قادرة على سرقة الانتباه والاهتمام ممْن ترغب في اهتمامهم .... إلا إنها تفشل في عبور هذا الجسر مع أهم شخص هي متعطشة لاهتمامه.
شعرت بدمائها تغلي لأنها متأكدة ان ما دفعه لمحادثها هو رغبته في تحذيرها من أجل عن اصدقائها، سببًا أخر لتمردها وتعلقها بهم فكرت في سخرية فكلما تمردت نجحت في جذب انتباهه المسروق عنها.
حركت رأسها تشعر بالخيبة لا تصدق أن له عين للمطالبة بابتعادها عنهم، بعد أن وجدت نفسها بينهم وشعرت أخيرًا أنها إنسانة طبيعية، بعدما عانت لأعوام كثيرة وتخبطت وحدها بين اضطراباتها النفسية والجسدية وانطواءها عن العالم الخارجي، بعد صراع مضني مع الرهبة والخجل من البشر وصراعً أشرس ضد نحافتها المفرطة والتي كانت عامل اساسي في وضع هذا الحاجز الوهمي بينها وبين التعاملات الانسانية بشكل أصبح شبة مرضي.
وفوق هذا وهذا كان عليها تحمل فراق والديها اللذان لم يتواصلا مع بعضهما البعض لأكثر من تسعة أعوام، من يصدق أن شخصان تزوجا ولديهم أبنه من تلك الزيجة قادران على بغض أحدهم الأخر بهذه الطريقة لدرجة عدم قدرتهم على التواصل الصوتي!
وفي النهاية كانت هي ضحية تلك الفجوة العميقة بينهما، والآن يريد أن يتذكر أنه والدها كي يتمعن في إفساد فرصتها لاستعادة الذات، بإبعادها عمن أصبحوا محور حياتها ولم يبخلوا عليها بالاهتمام والانتباه لما يقرب العام، هؤلاء من كانوا حافزًا لها كي تتسلخ من قشرتها القديمة.

-هينفعني أصل هو وقتها.

تمتمت مغتاظة من عجرفته، رافضة الخضوع لأنها فقط من ستتضرر، فقد ذاقت وحدها مرارة محاولاتها الفاشلة في لملمه شتات النفس المبعثرة دون اللجوء لطبيب نفسي لأنها لا تحتاج سببً جديدً للتنمر، هي قوية قادرة على مواجهة الحياة، بللت شفتيها تسترجع عصارة الفيديوهات والقراءات السرية التي وصلت لها عن طريق الأنترنت وساعدتها في الوصول إلى ضالتها المنشودة وساعدتها في المرور من تلك المرحلة.
فهي الآن قادرة على الادعاء بأنها شخصًا أخر، أكثر ثقة، قادرًا على لفت انتباه من حولها في طريقة تغذي طاقتها الإيجابية.
أخرست بشكل كلي ذلك الصوت القلق والخافت داخلها بأنها تغرق في دائرة أوسع مما كانت عليه وقت اضطراباتها، حركت رأسها لتوازي حركة سبابتها المشيرة بالنفي للهواء أمامها، فهي ليست مريضة وترفض التفكير بكونها مريضة بأي مرض سواء نفسيًا أو جسديًا.
لا ... هي مجرد فتاة متعطشة لاهتمام أبوين غارقيين في الأنانية ورغباتهم الشخصية معتقدين ان كل الأمور تحل بالأموال، هي متعطشة للحياة وتجربة كل ما ضاع منها، كما إنها اكتسبت ما يقارب من العشرون كيلو جرامات فوق وزنها الضئيل،
فعن اي مرض تتحدثين!
أنتِ محاربة نجحت في إيجاد الذات .. نعم هذا هو الأمر تمامًا.
هكذا رددت داخل عقلها أكثر من مرة منهيه اضطرابها اللحظي بهزة مؤكده من رأسها فأن كانت مريضة إذا كل الممثلون مرضى!
جذبت أنفاسً عميقة متتالية وهي تتمتم لنفسها بكلمات تغيبها عن تخبطها الغير محسوب، ومرت دقائق عليها قبل أن تستعيد شتات نفسها ناظرة إلى المرآة أمامها تعاين احمرار عيناها المنتفخة ووجها، فتحت حقيبتها على عجلة في غضب لأنها لم تنتبه لبكائها المستقر، أخرجت مناديلها الورقية تجفف بقايا دموعها وحمدت الله على استخدامها مساحيق التجميل المضادة للماء فقد حسبت حساب قضاء اليوم على حمام السباحة مع رامي وريناد.
مررت نظرها على وجهها مرة أخيرة ثم أومأت رأسها راضية عن الشكل النهائي لها، ترجلت من سيارتها توصدها وتوصد معها ما حدث للتو.
وفي لحظة أسرع من طرفة العين كانت منتقله إلى عالمها الخاص بشكل درامي وكأن شيء لم يكن، عدلت حقيبتها الحمراء المتماشية مع لون ثوبها البسيط السماوي وأزراره الحمراء، ابتسمت لنفسها في ثقة فرغم توترها من تلك التجربة الجديدة التي على وشك السير فيها والتي سينتج عنها ظهور معظم جسدها النحيف للجميع عندما ترتدي ثوب السباحة الجديد المكون من قطعة واحدة، والتي كانت حريصة على توفيق لونه مع لون أزرا ثوبها الحمراء كنوع من الأناقة.
عدلت صدر الثوب كي لا تظهر بذلة السباحة منه وقد اقترحت عليها "ريناد" ذلك أثناء رحلة تسوقهما سويًا، ابتسمت سعيدة انها وجدت شخص يهتم بها فعليًا متذكرة كيف نصحتها بضرورة التأقلم وإثبات تواجدها داخل دائرتهم لأنها أصبحت امرأة ناضجة وعليها خلع بقايا الطفلة الخجلة بداخلها فهي على مشارف عامها العشرين ولا تزال بلا تجارب في الحياة خاصة العاطفية منها!

-أنا حلوة ونضجت.

تمتمت تحفز نفسها على الإقدام مسترجعه رد فعل "ريناد" المنبهرة حين رأتها بثوب السباحة ومديحها لها بانها تشبه إحدى عارضات الأزياء ولكن بالطبع دون السيقان الطويلة.
ابتسمت ابتسامه بلهاء فهي قصيرة بالفعل وتعتبر أقصر أصدقائها، كما انها أقصر من "زيدان" بطوله الكبير الفارع مقارنة بها، فهي بالكاد تصل لحافة كتفه حتى عندما ارتدت الكعب العالي يوم لقائهم في الأسبوع الماضي، شعرت بقشعريرة تسري في جسدها وهي تتذكر عيناه الناعسة في نعومه رغم حده ملامحه لكنها تفضل ارجاعها إلى ذلك النسيم الطفيف الذي يداعب طرف ثوبها المستقر أسفل ركبتيها كما تفضل معظم أثوابها.
وقفت لحظة كالبلهاء متسائلة لما بحق السماء تفكر في ذلك الوغد المتكبر؟
حركت رأسها مرات متتالية كي تستعيد انتباهها للحاضر رافضة التفكير في ذلك المجنون الذي بات يحاصرها منذ دخل حياتها ويحادثها عشرات المرات يوميًا وكل هذا في أسبوع واحد ومبرره الوحيد هو التعرف عليها لاستكمال كذبتهم الخاصة.

-شكلك هتكون أخطر كدبة وقعت فيها.

غمغمت مخاوفها للهواء ثم التفتت حولها في خجل خشية أن يسمعها أحد ويظنها مجنونه تتحدث مع نفسها.
دلفت "ميرا" داخل أحد أشهر الأندية في القاهرة والتي تمتلك عضوية دائمة به، مكان لطيف تستمتع بوقتها كثيرًا بين جدرانه فرغم أنه ليس النادي الوحيد الذي لديها عضوية به، لكنه الوحيد الذي نادرًا ما يرتاده رجال السياسة والسلك الدبلوماسي أمثال والدها ووالد صديقها رامي وحال معظم أباء أصدقائها.
جلست على أحد الطاولات الفارغة أمام بركة السباحة بعد أن جالت بعينيها باحثة عن رفاقها ولم تجدهم، رفعت هاتفها لمحادثتهم فصدح اسم "زيدان" من جديد، زفرت في حنق وهي تنهي الرنين الاستفزازي، وكادت تجذب شعرها في جنون حين أتاها صوت اشعار جديد تعلم هوية مرسلها، تنهدت وهي تقرأ كلماته:

-مش بتردي ليه، أنتي فين؟
حركت أصابعها فوق الشاشة مقررة الإجابة والانتهاء من فضوله:

-في المحاضرة مش عارفة أرد.

بللت شفتيها وهي تعيد قراءة كذبتها الصغيرة ولكنها لن تسمح لشخص لا تعرفه بالسيطرة عليها والتحكم بها، وضعت الهاتف من يدها حينما لم يصلها رسالة منه راضية بأنه ابتعد عنها اخيرًا.

****

وقف "زيدان" يتابع تلك الجالسة أمامه دون أن تنتبه لوجوده، لكنه أبعد نظره عنها لحظة والتفت للرجل اللطيف غليظ الفهم والذي أضاع من عمره ساعتين، شرح فيهما تفاصيل العقود بين النادي وشركة الخطوط الهاتفية التي يعملها بها كمندوب بشكل مؤقت حتى يفتتح مطعمه الخاص.
أعاد نظرة نحوها من جديد وارتفع حاجبه عندما لاحظ الفاتها كثيرًا حولها وكأنها تنتظر شخصًا ما، ضاقت عيناه في شك ثم رفع هاتفه يحادثها، وقبض فكيه بقوة عندما أنهت المكالمة دون إجابه وسرعان ما اتبعتها برسالة:

-في المحاضرة مش عارفة أرد.

خرجت منه ضحكة صغيرة غاضبة خالية من المرح ولكنه قرر تركها وشأنها للآن فقد رأت منه ما يكفي طوال الأسبوع الماضي، حافظ على ابتسامته الماكرة أثناء تحركه للمغادرة.
اه لو تعلم ما اوقعت نفسها به حين طلبت منه المساعدة... ابتسم لنفسه متمتمًا في سره ... هي طلبت المساعدة والمساعدة بالتأكيد سيمنحها على طريقته الخاصة!
عاد للواقع عندما لمح "رامي" يدلف من باب النادي وشعر بالدماء تغلي في عروقه،
المخادعة الصغيرة تتحايل على شروطه إذًا!
توقف "رامي" بمنتصف الطريق بينما يخبط كفه فوق رأسه وكأنه نسى غرضًا ما واستدار متجهًا للخارج، بالتأكيد نحو سيارته فكر "زيدان" وهو يعود أدراجه للداخل مقررًا إنهاء تلك المهزلة.
ضري الأرض في خطوات كبيرة ثابتة يحاول من خلالها إفراغ شحنة كبيرة من الغضب الذي يتملكه، وفي لحظات قليلة كان يقف أمامها، تابع صدمتها حين اتسعت عيناها وكادت تخرج من مقلتيهما لرؤيته، كان ليبتسم على رد فعلها بكن النار المشتعلة في صدره تعوقه.

-زيدان، أنت بتعمل أيه هنا؟

-المفروض ده سؤالي، مش كنتي في محاضرة تقريبًا.

جاء رده سريعًا محمل بالسخط مع صوته الرخيم، فتلعثمت مبررة وهي تفرك خصلاتها السوداء خلف أذنها:

-أه محاضرة .. ما هي خلصت... وأنا جيت أخد قهوة من هنا.

حك ذقنه في خيبة أمل على محاولتها الفاشلة في المماطلة، واستمرارها في اختلاق الكذب لكنه يمد كفه نحوها قائلًا في نبرة جادة لا تقبل النقاش:

-قومي معايا من سكات، قبل ما يجي لأن ساعتها رد فعلي مش هيعجبك.

راقب طرف أسنانها تتعلق بشفاها في حيرة وتوتر يتناقض مع حمرة الغضب المغطية وجهها ولكنها كانت ذكية بما يكفي لان تذهب معه دون مقاومة.
جذبت "ميرا" حقيبتها ساخطة عليه لكنها تركته يضم كفها الصغير بين أصابعه الخشنة دون مقاومة مقررة تأجيل ما تشعر به من غضب للوقت المناسب ، ارتبكت وهدأت حركة خطواتها حينما اقتربت من المخرج وتقابلت عيناها مع عيون رامي المتسائلة والتي تظهر صدمته جلية بسبب وجود "زيدان" فقد كان حريصًا على إخبارها برغبتهم في الاجتماع معها دونه لأمرًا هام.
كادت تبكي من شدة الإحراج حين تحرك زيدان في خطواته الواسعة مجبرًا إياها على استكمال الحركة شبة الركض خلفه دون أن يقف مجرد لحظة واحدة اعتبارا لوجود "رامي"، رغم أنها علي يقين من تواصل أعين الأثنان في تحدى ذكوري بحت وكأنه يصك ملكيته عليها بدون أي حق!

-عربيتي اهيه.

هتفت عندما دفعها نحو سيارته ولكنه تجاهلها وهو يجبرها على الجلوس بالمقعد قبل الابتعاد والتوجه لتولي عجلة القيادة.

-ممكن أفهم اللي أنت ليه مُصر تدمر حياتي؟

هتفت ما أن تحرك بالسيارة ولكنه اكتفي بأن وضع أصبعه فوق فمه في هدوء وكأنه لم يفقدها ماء الوجه للتو أمام أصدقاءها!

-أنت إنسان مستفز بلوة وبليت نفسي بيها!

-حلو لو تحبي ممكن أرجع حالًا وأقول لحبايبك الكلمتين دول.

وضعت كفيها فوق وجهها في الوقت المناسب كي تخفي دموع الغضب التي تفر من عيونها رغمًا عنها، لا تصدق ما يفعله هذا المخلوق بها وبجدرانها المشيدة حول نفسها وكأنه ينبش لإخراج شخصها الحقيقي!
نظرت بعيدًا عنه تخفي وجهها الباكي مقررة الصمت وتجاهله على أمل أن ينتهي هذا الكابوس قريبًا.

*****

شعرت ببعض الخوف عندما جرها خلفه أمام أحد المولات ومنها إلى مبنى بوابته مغطاه بأقمشة يبدو وكأنه تحت الإصلاح فتساءلت في ريبة:

-أيه المكان ده؟

-ما تخافيش مش هقتلك.

-ظريف جدًا، ممكن أفهم أيه المكان ده وبنعمل أيه هنا؟

قالت مدعية الهدوء بينما قلبها ينتفض من شدة التوتر والخوف فالحقيقة انها لا تعلم عن "زيدان" الكثير سوى إنه من مشاهير التواصل الاجتماعي نسبيًا، فربما هو قاتل متسلسل أو مغتصب دنيء يختبئ أسفل وسامته وعيونه الناعسة!
شهقت خارجة من عبث أفكارها حين اغلق الباب خلفهما والتفتت تواجهه وجهًا لوجه وكأنها تخشى أن توليه ظهرها بينما تتحرك للخلف متسائلة:

-أنت بتقفل الباب ليه؟

-وهسيبه مفتوح ليه؟

سألها في ملل وكأنها حمقاء فتشدقت معلله:

-عشان ما يصحش!

-لكن يصح أنك تكذبي على جوزك؟

سألها وهو يتقدم منها في خطوات بسيطة لكنها ارعبتها فهتف في إصرار:

-أنت مش جوزي!

-مش هتفرق وأنا حذرتك أن طول ما اسمك مربوط باسمي يبقى ممنوع تقابلي راجل غريب من غيري حصل ولا لا؟

-أنت عارف أن رامي مش راجل غ ...

-أنا عارف أنه مش راجل المهم أنتي تعرفي.

قاطع باقي جملتها في سماجة ملصقًا ابتسامته الصفراء فوق فمه فتأففت حانقة على تصرفه الطفولي وودت لو تمحي تلك النظرة المنتصرة فأردفت مستهجنة فعلته:

-أنت بتلاعبني بالكلام ليه؟

-عايزة ألعبك ازاي وألاعبك؟

همس وهو يمرر نظراته الوقحة فوق تقاسيم وجهها، فجذت على اسنانها تخبره:

-يا سيدي لا تلاعبني ولا ألاعبك!

استكمل في نبرته المشاكسة وهو يقترب منها متعمدًا إثارة خجلها بنظراته الجريئة:

-لا احنا نلعب.

-زيدان اتلم.

رفعت سبابتها في تحذير أثناء هروبها للخلف بعيدًا عنه وكأنها تخشى قربه بالفعل، تلك الفتاة تثير جنونه بالتأكيد فهي تتنقل من الفتاة الوقحة عديمة الأخلاق والتي يرغب في صفع بعض الأخلاق داخلها إلى فتاة أخرى خجلة تخفي من القيم القليل بين سواد حدقيتها وكأنها ترغب في إخفاؤها عن أعين الجميع، خرج عن مسار خيالاته وهو يراقبها تبتعد عنه بذعر فهمس ممازحًا:

-يا ستي أقعدي هو في حد هيبصلك بشنطة الخضار اللي أنتي مسكاها دي!

-شنطة خضار!
دي شانيل مخصصه للبحر وحمامات السباحة.

-انشانتيه مدام شانيل، فرصة سعيدة.

دوت ضحكته الساخرة المكان ما ان انهى جملته ورأى كيف رفعت حقيبتها وكأنها ستقذفها في وجهه لكن وقوع أنبوب واقي الشمس أنقذه منها ، نظرت له "ميرا" في حقد ومالت تلتقطها إلا ان ابتسامته اختفت عندما صفعة أخر فسألها في لهجة حادة:

-أنتي كنتي نازلة حمام السباحة بأيه؟

-ب swimsuit طبعا!

جاءت إجابتها سريعة وهي تنظر له وكأنه غبي، فرد مسرعًا يكاد يبكي من الورطة الذي اوقع نفسه فيها:

-اللهم صلي على الحبيب النبي، قوليلي أن شنطة الخضار دي فيها مايوه شرعي!

-يعني أيه مايوه شرعي؟

-اصلًا ... أفتحي الشنطة يا ميرا واشجيني بالمايوه اللي كنتي نازلة بيه!

-لا طبعا، دي خصوصيات.

-خصوصيات؟
ده نص الشعب المصري كان هيشوفه النهارده.

عقدت ذراعيها في خجل بسبب صحة كلماته لكنها أردفت غير متخليه عن عنادها:

-ما تتعبش نفسك هو مش في الشنطة.

قضب "زيدان" حاجبيه في بلاهة يحاول تحليل كلماتها ثم اتسعت عيناه في إدراك وهو يطالع الطرف الأحمر المطل من صدر ثوبها السماوي في تمرد وتلقائيًا غامت عيناه سوادًا في مشاعر مختلطة خاصة عندما رفعت أصابع يدها الصغيرة تغطي صدرها عن عيناه وكأنها تستمع لمخيلاته الوقحة، ثم سمعها توبخه في لهجة مهتزة:

-بلاش قلة أدب، أنا همشي!

تركها تتحرك لتتجاوزه لكنه قبض على معصها مقربًا لها نحوه هامسًا بنبرة خشنة تحمل خطورة مشاعره المختلطة بين الغضب والإثارة:

-وريني !

-أأ...أفندم؟

ردت "ميرا" في تلعثم وقد جف حلقها من النظرات الخطرة التي يُصُوبها نحوها أو ربما الخطر يكْمُن في تلك العيون الناعسة!
تأوهت في هلع حين جذب جسدها الرفيع نحوه حتى كادت تلتصق به تمامًا، ثم قال:

-ما تخلنيش أشوفه بنفسي.

طالعته بعيونها السوداء المتسعة في ذعر غير قادرة على تحريك لسانها لتوسل الرحمة منه، لكنه لم يعطيها فرصة للتفكير ومد ذراعه يقبض على خصلات شعرها المرتمية حتى أسفل ظهرها بإهمال ثم جذبه حتى مالت رأسها عنوة للخلف هامسًا في قسوة:

-انا ما يفرقش معايا مين أبوكي أو أمك،
يمين بالله لو اتكررت تاني وفكرتي حتى تلبسي حاجة كده تاني، تصرفي ساعتها مش هتتخيليه في أسوأ كوابيسك، أنتي سمعاني؟

حركت رأسها في سرعة أو حاولت تحريكها بالقدر الذي تسمح به قبضته القوية على خصلاتها، ولم تشعر أنها تبكي حتى مرر أنامله الأخرى فوق وجهها ماسحًا عبراتها بملامح متحجرة لا تصرح عن محتواها.

-هتكسري كلمتي من تاني؟

-لا.

خرجت نبرتها خافتة متقطعة فترك خصلاتها وابتعد للخلف خطوتين، راضيًا بينما يتابع محاولاتها في السيطرة على عبراتها فأخبرها بنبرة هادئة:

-أنتي زعلانه من الشخص الغلط، أنا عايز مصلحتك.

كادت تصرخ في وجهه بانه لا يعرف عنها شيء كي يتصنع كل هذا الاهتمام بشأنها لكنها ظلت صامتة تعدل خصلاتها للخلف تارة وتفرك الألم الخفيف في فروة رأسها تارة أخرى لا تصدق إنه عنفها بتلك الطريقة فهي لا تذكر أخر مرة عنفها والديها سوى بالتعنيف اللفظي.
شعر "زيدان" بالخجل والندم للحظات من فعلته ويكره إنه كلما نظر إلي عيونها السوداء كالبئر رأى ضعف ولمح حقيقة تحاول اخفاءها.
مرر كفيه على جانبي رأسه مستجمعًا ذاته فكلما أقترب خطوة من هدفه تراجع عنه في الخطوة التالية عشرات الخطوات، فقد كان يخطط للاقتراب منها وفهم دواخلها وتحليل دوافعها كي يستطيع مساعدتها ويساعد ضميره اللعين سبب مصائبه في الارتياح.
فهذا التناقض الجذري في شخصها يجعله يشك في وجود خطب ما بها وبرفاقها، فشتان بين تصرفاتها مفردها وجنونها معهم، لدرجة أنه أصبح لديه هاجس بأن أحد هؤلاء الحمقى يضغط عليها ويجبرها على التواجد معهم ممسكًا أمرًا خطيرًا ضدها، وربما هنا تكمن مهمته لأشعارها بالقدر الكافي من الثقة التي تجعلها تعترف له بما يؤكد تلك الهواجس.
راقبها ترتب تحرك أصابعها في توتر بين ترتيب خصلاتها في صمت وبين تمريرها فوق ثوبها قليلًا فأقترب على بعد خطوتين منها ثم مد أصابعه يربت في خفه فوق خصلاتها هامسًا:

-أنا أسف، مكنتش أقصد صدقيني.

كان يعلم من نظرتها وحركه رأسها السريعة بالموافقة بانها تجاريه للانتهاء من الموقف حنى تتمكن من الفرار لكنه قرر المماطلة وهو يدور مشيرًا للمكان في محاولة ساذجة لتغيير محور الحديث:

-ما قولتليش أيه رأيك في المكان؟

نظرت للمكان حولها قبل ان تجيبه في نبرة خافتة بينما تسترق نظرات نحو البوابة وكأنها تتمنى الهروب:

-الdecoration جميل وغريب شوية.

-المطعم italian food المفروض يكون مختلف.

-هو ده مكانك؟

سألت أول ما جال في عقلها تحاول الحصول على معلومات أكثر عن حياته كي تتمكن من إيجاد بعض الهدوء النفسي وتسيطر على توترها:

- مكاني أنا وأصحابي أنتي عارفاهم اللي كانوا في المنشور إياه كمان الافتتاح قرب.

أخبرها وهو يدور حول المكان يتفحص بعض الرسومات التي لازالت قيد الإنشاء والتفت يطالعها عندما سألت مستفسرة:

-أنت مش قولت إنك شغال مندوب في شركة اتصالات.

-أيوة ده مشروع خاص، ولا هو عشان مندوب مينفعش يبقى عندي حاجة خاص بيا؟

لا يدري لما شعر بالغيظ من سؤالها وكأنها تراه أقل منها لكنه مرر كلماتها وقرر المضي في مخططه الذي يتابع في خرقه مع كل منحنى معها، فوجد نفسه يخبرها في اعتيادية:

-أنا عارف انك مخضوضة مني وحقك أنا ذات نفسي بتخض من أفعالي شوية،
بس لازم تفهمي إني راجل أكبر منك ب سنين مش مجرد شاب في سنك تقدري تتعاملي مع قراراته وكلامه باستهتار.

صمت ثم اتجه يمسك أصابعها عادة خاطئة أصبح لا يسيطر عليها قبل أن يجذبها للجلوس مستكملًا في رضا عندما شعر بانتباه كل حواسها إليه:

-وفاهم ان الموضوع بالنسبة ليكي لعبة، ومش هجادلك لكن لازم كل واحد منا يحترم شخصية التاني ورغباته.

حركت رأسها دون أن تنطق حرف وارتعشت رموشها في ارتباك عندما قرفص أمامها ممسكًا بكفها الصغير ورفضت عيناها التنحي عن لقاء عيناه الناعسة التي تشع بالسيطرة وتأسرها بالإكراه وكأنه يجبر عدستيها على عصيان أمرها بالتمرد فتظل متعلقة به دون أن تجد القدرة على كسر تعويذته عليها!

-وعشان نحترم بعض والاتفاق ده يمر بسلام لازم نقرب من بعض ونفهم بعض أكتر،
ولو فكرتي في كلامي هتلاقيه في صالحك وهنقدر نقنع أصحابك بحكاية الجواز ده بشكل أسهل.

دار بؤبؤي عيناها داخل مقلتيها في تفكير جدي وكاد ينفجر ضاحكًا لولا تعلق عيناه بحركة شفتيها التي تبللها بطرف لسانها، أجفل عيناه مرتين وفي لحظة علت دقات قلبه داخل صدره معبرًا عن مشاعر غريبة نحوها والتي تتفاقم مع كل ثانية تمر بينهما.
سعل في خفة وهو يستقيم مبتعدًا عنها وابتسم عندما صدح صوتها الرقيق:

-أنا موافقة بس بشرط، زي ما انا هسمع كلامك في حاجات أنت كمان لازم تسمع كلامي في حاجات تانية.

ارتفع حاجبة الأيسر في إعجاب فللحظة ظن أنه كسر تمردها وامتلك دواخلها، تنهد مقررًا مجاراتها ومنحها بعض السيطرة بما يكفي لإنجاح خطته فردد:

-هدنة؟

مد كفه أمامه منتظر كفها وكبت ابتسامه ساخرة حين لاحظ ارتباكها اللحظي قبل أن تقترب منه وتصافحه متمته:

-هدنة.
google-playkhamsatmostaqltradent