رواية خطان لا يلتقيان الفصل الرابع عشر 14 - بقلم رغد ايمن
14- دروسٌ في العَقيدة!
"كُنّا خَطَّين لا يَلتقيان..
والتَقينا!"
- عُديّ الجَمّال.
_______________
انقضت باقي أيام الأسبوع، على ذات المِنوال..
"عُديّ" شارِدُ الذِّهن في كيفيّة تدبير المَبلغ.. و"ريتاچ" ووالدته اللتان تُحاولان إقناعه بمُساعدته ببعض المبلغ، ورفضه الشَّديد!
ولا ننسَ "يُوسُف" المُلتَصق به، مُبرراً ذلك، بأنه يُعوّض الأيام الفائتة!
حتىٰ أتىٰ يوم الجُمعة، اليومُ المُفضَّلُ لـ"يُوسُف".. خُصوصاً أن "عُديّ" أخبره بأنه سيشرحُ للأطفال اليوم، درساً في العقيدة..
استيقظ "عُديّ"، وهو يفردُ ذراعيه بقوّة، مُحاوِلاً التخفيف من تشنجات عضلاته، إثر نومه..
ثم ألقىٰ نظرةً بجانبه، حيثُ كان "يُوسُف" يتوسَّطُ السَّرير بينه وبين "ريتاچ".. قبل أن يضحك بخفوت، وهو ينظرُ لملامحهما الغافية، وهمس ويكأنه يُحادِثُ الصَّبيّ:
- محتاجين نشوفلك أوضة لوحدك، أنتَ كِبرت على الكلام ده.
أنهىٰ حديثه، وهو يطبعُ قُبلة على جبين كُلٍّ منهما بلُطف..
قبل أن يقوم من مرقده، ويبدأ الاستعداد لليوم..
_______________
بعد رُبع ساعة، خرج من الحَمّام وهو يُجفِّفُ شعره بالمنشفة.. ثوانٍ وألقاها على الأريكة..
ألقىٰ نظرةً خاطفةً على زوجته، وصديقه الصَّغير بحنانٍ وقلبٍ مليء بمشاعرٍ كان يفتقدها..
قبل أن يتّجه لخزانته، ويُخرجُ منها جلبابه الأبيض..
وما كادَ يضعُ الطاولة المُخصصة لكيّ الثياب، حتى استيقظت "ريتاچ" إثر ذلك..
وضعت كَفّها على فمها وهي تتثاءب، قبل أن تتحدث إليه بأثرِ نعاسٍ في صوتها:
- مصحّيتنيش أكويلك ليه؟
انتبه لها "عُديّ" من أفكاره، فوضع المكواة على الطاولة، ونظر لها بابتسامةٍ، قائلاً بهدوء:
- مش بحب دور سي السيّد وأمينة.. طالما أنا صاحي وقادِر، ليه أتأمّر عليكِ؟!
نَبضَ قلبها لحديثه الذي يقطُرُ مُراعاةً ولطفاً..
حقاً هي محظوظة به!
ابتلعت ريقها، وهي تنظرُ إليه يُكملُ ما بدأه دون ضوضاء.. وقالت بابتسامة مُتأثرة:
- الحمد لله إنك أنتَ.. والحمد لله إنك حنيّن ولطيف كدة!
لم ينظر لها، لأنه حتماً لو فَعَل سيذهبُ لاحتضانها على حديثها الذي جعلَ قلبه ينبض بتسارع..
ورُغم ذلك، أكمل على قَولها بابتسامة:
- والحمد لله على وجود والدتي، اللي عَلّمتني أنه طالما الشخص قادِر يعمل الحاجة، ميؤمرش غيره!
تعلّقت عسليتاها به، وقد أزهرت بداخلها مشاعر حُبٍّ وامتنانٍ لوالدته.. التي أكّدت أن شخصيّة الرَّجل، تبدأ من تربية والدته له!
أخذت تدعو الله لها، وأن يُبارك في عُمرها.. قبل أن تسمع صوتَ "عُديّ" يقول:
- "ريتا" معلّش لو مش هتعِبك، ممكن تقوليلي اللي هيلبسه "يُوسُف" وأكويهوله بالمرّة؟
تخلّت "ريتاچ" عن مغناطيسيّة السَّرير حتى تعود للنوم، وقامت مُتَّجهةً لجُزء الخزانة الذي وضعت به ثيابها مع ثياب ابنها.. ثم أخرجت منه جلباباً أبيض جديداً، اشترته له مؤخراً..
اقتربت من مكان وقوف "عُديّ" وقالت:
- خلاص هكويه أنا، روح أنتَ شوف وراك ايه.
ابتسم بهدوء، قبل أن يُحاوِط كتفها بذراعه مُقرّباً إياها منه.. قَبَّل رأسها وهو يقول بمرح:
- سبيلي أنا المَكوَة، عشان عايزك تعمليلنا فِطار جميل زيك كدة، ماشي؟
نظرَ لعسليّتيها، فرآهما يستسلمان لقَوله.. فقَبَّل رأسها مُجدداً، وحَرَّرها لتذهب!
وقبل أن تخرج من الغرفة ناداها، وما إن التفتت له، حتىٰ قال بمرحٍ، وهو يغمزُ بعينه:
- متحطّيش عَسَل على الفِطار، كِفاية عيونك ووجودك معايا!
اتَّسعت عيناها من غزله، وشعرت ببدايات إغماء.. فانسحبت من أمامه وقد احتُبست الكلمات بحلقها، فضحك عليها بشدّة، وهو يستمتعُ بخجلها..
بعد عشر دقائق، كان أنهىٰ ما يفعله، فأعاد كُلّ شيء لموضعه..
اتجه للسرير لإيقاظ الصَبيّ، فوجده نائماً بطريقةٍ مُزرية!
فكّه مفتوحٌ، وشعره الفاتح الذي أخذَ في الاستطالة مُبعثر!
لم يستطع "عُديّ" تمالك ضحكاته، وهو يجلسُ بجانبه على السَّرير..
- "يُوسُف"، يلا يا جميل عشان نروح المَسجد.
قالها "عُديّ" بصوتٍ عالٍ بعض الشَيء.. فتمتم الصَّبيُّ بشيءٍ مُبهم، لم يسمعه الآخر جيّداً..
عقد حاجبَيه، وهو يضعُ كَفّه على وجنته، ويُكررُ ما قاله..
ثوانٍ، حتىٰ فتح الصبيُّ عينيه.. وثوانٍ أخرىٰ حتى اتّسعت ابتسامته لمرأىٰ من يُحِب!
تنهّد "عُديّ" براحةٍ، ما إن رأىٰ ابتسامة "يُوسُف"، فقد ظَنَّ أنه رأىٰ مُجدداً تلك الكوابيس بمنامه!
- صباح الخير، يا أجمل خير حصلّي في حياتي!
قالها "عُديّ" بابتسامةٍ واسعةٍ جميلة، فاستقام "يُوسُف" مُجيباً عليه بنفس لهجته:
- صباح الخير، يا أجمل وأحلىٰ أبّ وصاحِب وأخ، ربنا رزقني بيه!
رُغم بساطة الكلمات، إلا أنّها وَقعت في قَلب "عُديّ" مَوقِعاً عَذباً.. جعل سوداوتيه تدمع، وجَعل فؤاده ينبضُ بقوّة!
ولأن العِناقَ دائماً هو لُغةُ من لا لُغةَ له.. فقد سارَع "عُديّ" بجذب "يُوسُف" يحتضنه بقوّةٍ ولُطفٍ بذات الآن، يُحاوِل إخفاء دموعه عن الصَّغير..
قبل أن يأخذ نَفَساً، ويسأله بصوتٍ حاوَل أن يجعله عاديّاً:
- أنتَ كُنت متضايق وأنتَ نايم؟
ابتعد عنه الصَبيّ، وهو يعقدُ حاجبيه ويُجيبُ بعدم فهم:
- تقصد يعني جنبك أنتَ وماما؟ لأ خالص!
هزَّ "يُوسُف" رأسه بنهاية حديثه علامة النَّفي، فكتمَ "عُديّ" ضحكةً يائسةً كانت على وَشك الخُروج.. وهو يُصحِّحُ له:
- أقصد في الحِلم، كان فيه حاجة ضايقتك؟
هنا، وظهرت أمارَات الفَهم على وجه الصَبيّ، فأجابه بسُرعةٍ، وعيناه الزرقاوان تلمعان بسعادة:
- آه، لأ الحمد لله.. من ساعة ما بقيت بنام جنبك، ومش بحلم بأحلام وِحشة.
تنهّد "عُديّ" براحةٍ كُبرىٰ، تملَّكت من جوارحه.. إلا أنَّه صَحّح له مُعتَقَده، وهو يُمسكُ بيده.. وفي طَريقهما للحَمّام، تحدّث "عُديّ" بنبرته التي تمتلئُ باللِّين:
- بس مش أنا اللي بمنع عَنّك الضُّرّ يا "يُوسُف"! ربنا ﷻ وَحده هو اللي بيحمينا من أي حاجات وِحشة..
وهو وَحده القادِر على رَفع الأذىٰ عننا!
عشان كدة يا "يُوسُف" خلّي عَندك اليَقين والإيمان ده، واتفرّج بقا على لُطف ربنا ﷻ بيك.
ظَلَّ "يُوسُف" يُنصِتُ للآخر باهتمامٍ شَديد، حتى وهما يقفان أمام باب الحَمّام المُغلق..
قبل أن يُنكِس رأسه ببعض الخجل، ويعتذرُ لـ"عُديّ"..
الذي أسرع يرفعُ وجه الصغير بإصبعه، وهو يقولُ بابتسامة:
- متعتذرش، أنتَ معملتش حاجة غلط.. أنا بس بعلّمك حاجة تفيدك دلوقتي، وفي كُلّ وقت.. وعشان لما تفتكرها، تفتكرني معاها بدعوة حلوة زي اسمك وملامحك كدة!
أنهىٰ حديثه بمرح، وهو يغمزُ له.. قبل أن يندفع للوراء بتلقائيّةٍ، إثر احتضان "يُوسُف" له بقوّةٍ وهو يهمسُ له:
- أنا بحبّك أوي يا بابا "عُديّ"!
بادَله "عُديّ" العِناق، وهو يُجيبه بصِدق وبعضِ التأثر:
- وبابا "عُديّ" بيحبّك أكتر، وهيفضل طول عُمره بيحبّك، فخور بيك.. وفرحان إنك في حياته!
_______________
سارَ "عُديّ" مع "يُوسُف" باتّجاه المَسجد.. وكُلٌّ مِنهما يُمسكُ بيد الآخر..
كان "عُديّ" يشعرُ براحةٍ وسُكونٍ.. خُصوصاً بعدما قَضىٰ ذلك الوقت اللطيف برِفقة عائلته الصَّغيرة.. بين شِجارٍ لطيف، أو سُخرية مُحبَّبةٍ.. أو حتىٰ نِّقاشات مُمتعة!
ما إن وَصلا لباب المَّسجد، حتى خَلع حذاءه وانتظر "يُوسُف" حتّىٰ يفعل المِثل..
ثم سارا معاً، إلى أن توقفا عند الصفوف الأولىٰ، وهمس "عُديّ" للصَبيّ بابتسامة:
- صلاة تَحيّة المَسجد الأول، زي ما اتعوّدنا.
أومأ "يُوسُف" برأسه علامة "أن ذلك شيءٌ مَعروف"، قبل أن يقفَ باستواءٍ ويبدأ في الصَّلاة..
_______________
(لِمَن لا يَعلم، صَلاة تحيّة المُسجد عبارةٌ عن ركعتين "مِثل صلاة الفجر مثلاً، ولكن باختلاف النِّيّة طبعاً"..
تُصلّىٰ عِند دُخول الشَّخص للمَسجد -ما لَم تُقام الصَّلاة المكتوبة"..
وهي للنِّساء والرِّجال على حَدٍ سَواء)
_______________
بعد انتهاء الصَّلاة، جَلَس "عُديّ" يستندُ بظهره على العامود.. يُمِعنُ ذهنه لآخر مَرّةٍ في أمر تدبير النُّقود، قبل أن يتَّخذ قراره..
قبل أن تسكن أفكاره السَّلبيّة تلقائياً، ويبتسم باتّساعٍ وفَخر وهو ينظرُ لـ"يُوسُف"، الذي كان قد أخبره أنه سيذهبُ لجَلب الصِّبيَة للدرس!
جلسوا حَوله، بَعدما سلَّموا عليه بحَماسٍ وسَعادةٍ، أنه سيعودُ لإعطائهم تلك الدُّروس الصَّغيرة بعد صَّلاة الجُمعة..
وبعد اعتذاره منهم لتَغيُّبه كُلَّ تلك المُدَّة، وأنه قد تَعرَّض لبضعة ظُروف..
بدأ حديثه بنبرته الهادئة، مُتسائلاً بابتسامة:
- مين عارف ايه هي أركان الإيمان؟ حد يقولهالي؟
كان الصمتُ، هو المُجيب الوحيد عليه.. حيثُ نظروا له جميعهم نظراتٍ مُحرَجة..
باستثناء "يُوسُف" الذي كان يعلمُ مُسبقاً من إخبار "عُديّ" له.. إلا أنه صَمتَ بُناءً على رغبة "عُديّ" حتى يَدَع فُرصةً لغيره..
- أن تُؤمِنَ بالله، ومَلائكته، وكُتُبه، ورُسُله.. وباليومِ الآخِر، وبالقَدَرِ خَيرِه وشَرّه.
أكمل "عُديّ" حديثه، بذات النَّبرة الهادئة المُتمَهّلة، حتى يَدَعهم يستوعبون ما قَاله.. ثوانٍ، وأكمل مُجدَّداً:
- كُلّ مرّة بإذن الله، هنتكلم عن رُكن منهم.. يعني ايه بقا أن تؤمن بالله؟
يعني نؤمن إن ربنا ﷻ القادِر على كُلّ شيء.. هو الذي يرزقنا، وهو الذي يَسقينا، وهو الذي يرفعُ عَنَّا الضَرر، وهكذا.. وده اسمه (توحيد ربوبيّة).
كمان العبادات، زي الصلاة والصِّيام والأذكار.. بنعملهم لـ"مـيـن"؟! لربنا وحده ﷻ.. وده اسمه (توحيد ألوهيّة).
وآخر نقطة في "توحيد الله ﷻ"، هو (توحيد الأسماء والصِّفات).. يعني أن الله وحده الذي يُسمّىٰ/ يُوصَف بالأسماء التي قالها ﷻ عن نفسه، أو قالها النبيّ ﷺ لينا.. والأهم "من غير ما نزوّد عليها، أو ننقّص منها.. أو نفهم المَعنىٰ بمزاجنا".
كان يعلمُ أن حديثه لن يثبت بأذهانهم الصَّغيرة بشكلٍ كافٍ.. وأنّه رُبَّما يشعرُ أحدهم بالضِّيق لذلك.. ولم يَشأ أن يحدث ذلك، فأعادَ حديثه بنبراتٍ بطيئة وهادئةٍ أكثر، وهو يُعطي لهم أمثلةً حتى يستقرَّ ما قاله بأذهانهم!
وبعدما أنهىٰ حديثه، وابتلع ريقه يُبللُ حلقه الذي جَفَّ من الحديث.. قال لهم مُطمئناً بابتسامة ومرح:
- ومتقلقوش، كُلّ مرّة بإذن الله هعيد اللي قُولناه تاني، أهم حاجة محدش يغيب!
ابتسموا له، وشَكروه.. قبل أن يقترب منه أحدهم بنظراتٍ حزينة، ويتحدّثُ معه بشيءٍ بصوتٍ خافت..
دقائقُ، وتنهَّد "عُديّ".. قبل أن يُخبره أنه سيحلُّ الأمر.. ثم يقولُ بلُطف:
- قبل ما تِمشوا، افتكرت حديث للنبي ﷺ.. بيقول: "لا يَحلُّ لمُسلمٍ، أن يُروِّع مُسلِمَاً".. حديث جميل، وبيوضّح قد ايه احنا كـ مُسلمين لازم نراعي مشاعر بعض، وحتى في الهِزار.. نتجنَّب تماماً إننا نخبّي من صاحبنا حاجة ليه، أو نُخضُّه فجأة بداعِي إننا بنهزر معاه!
صمتَ لثوانٍ، ينظرُ بطرفِ عينه لنظراتِ النَّدم ترتسمُ على وجه أحدهم..
قبل أن يُكمل بابتسامة:
- سُبُل الهِزار كتيرة أوي، بلاش يكون مِنها "إخافة مُسلم، أو تَرويعه".. اتفقنا يا أبطال!
هزّوا جميعاً رؤوسهم علامة الموافقة، قبل أن يستأذنوا مِنه للعودة لمنازلهم..
وعلى باب المَسجد، حيثُ وقفَ "عُديّ" بجانب "يُوسُف" بعدما ارتَدوا أحذيتهم..
قال "عُديّ" للصغير بمرح وهو يضحك:
- فاكر أوّل مرة قابلتك؟ كُنّا بنجري بعد الصلاة عشان مامتك متضايقش!
دلوقتي أنا ممكن آخدك نلفّ لحد بليل، ولا هتقدر تعملّنا حاجة!
بادله الصَبيُّ الضحك، وهو يستمتعُ بنون الجمع، التي أضافها "عُديّ" بآخر حديثه..
صِدقاً، هو سعيدٌ جِدّاً!
_______________
بعد وُصولهما للمنزل، أخبر "عُديّ" الصغير أن يذهب ليُبدَّل ملابسه بأخرىٰ تصلحُ لزيارةٍ ما..
ثم تَركه، وذهب تجاه والدته التي كانت تجلسُ بغُرفة المَّعيشة، تقرأ في المُصحف الكبير..
- أجمل أُمّ في الدُّنيا، وحشاني والله!
قالها "عُديّ" بنبرةٍ مَرحة، لم تَخلُ من أدبٍ رُغم ذلك..
فنظر له والدته بحنقٍ مُصطنع، وهي تُجيبه:
- طبيعي هَوحَشك، ما هو من لقىٰ أحبابه، نسي أصحابه!
قهقه "عُديّ" بسعادة، ليسَ سُخريةً من والدته.. ولكن استمتاعاً لرؤية غيرتها عليه من زوجته وصديقه الصَّغير!
اقترب أكثر، مُحتضناً إياها من الجانِب، مُقَبِّلاً رأسها.. وهو يقولُ بابتسامةٍ وبعض المَرح:
- عيب عليكِ، وهو أنا ليا حبيبة غيرك؟! أنتِ حبيبتي، وهُما حبايبي من بعدك!
لم تستطع والدته تمالك ابتسامتها الواسعة، فابتسم هو على ابتسامتها..
قبل أن يلتفت بعينيه في الأرجاء، مُتسائلاً:
- امّال فين "ريتاچ" وطنط "مروة"؟!
وضعت والدته نظارة القراءة على عينيها مرةً أخرىٰ، بعدما خلعتها حين كانت تُحادِثه، وأجابته بهدوء:
- "مروة" بتحب تنام بعد ما تصلّي الظهر، و"ريتاچ" واقفة بتعمل الغدا.
أومأ برأسه بتفهّم، قبل أن يبتلع ريقه ويُخبرها ببعض التردد:
- أنا هروح النهاردة لعمّي، هشوف لو يعرف يدبّرلي حتى جزء من المبلغ.. مَكِداش، يبقى هبيع حتة الأرض اللي سايبها بابا الله يرحمه.
تمتمت الأم بالرحمة عليه، قبل أن تتنهّد وتُجيبه بقلّة حيلة:
- يا ابني ما أنا قُلتلك هبيع الدَّهب بتاعي، و"ريتاچ" و"مروة" مكانش عندهم مانع يبيعوا هُما كمان دهبهم، بل بالعكس هُما اللي قالولك وأنتَ عارف.. ليه بس مُصرّ على رأيك؟!
اغتصب "عُديّ" ابتسامةً، وأجابها قبل أن يقوم:
- رأيي إني مدخّلش سِتّات بيتي، اللي المفروض أمانة في رقبتي، ربنا ﷻ هيسألني عليها.. بأي مشاكل خارجية، وخصوصاً مادّية.. أستأذنك أنا بقا يا ماما.
أنهىٰ حديثه بأدبٍ، قبل أن يُقبّل رأسها ويطلب منها أن تدعو له..
وبالأحرىٰ هي لم تُكَذِّب خَبَراً، فَلِمَن ستدعو إن لم يكن له؟!
_______________
قُرب آذان المَغرب، حيثُ أنهىٰ "عُديّ" حديثه مع عَمّه، واستقرَّ الرأي على البَحثِ عن مُشتَرٍ لقِطعة الأرض..
كان "عُديّ" يُراقبُ "يُوسُف" حيثُ جلبه لحديقة للأطفال..
ينظرُ إليه حيثُ يلعبُ مع باقي الأطفال، بابتسامةٍ سَعيدةٍ، وقَلبٍ يضخُّ بَدَل الدِّماء، مشاعر لطيفةً تسري بين عروقه!
ورُبَّما بين حينٍ وآخر، يرفعُ هاتفه مُلتقطاً له صورةً لطيفةً للذِكرىٰ!
دقائق، ونادىٰ "عُديّ" على الصَبيّ، حتى يذهبا للاستعداد لصلاة المَغرب..
وفي الطَّريق، حيثُ كان "يُوسُف" يحكي له عن أقرانه الذي تعرَّف عليهم.. اهتزّ هاتف "عُديّ" بجيبه..
أخرجه، وما يزالُ ينظرُ للصغير بابتسامةٍ واسعة.. حتى وقعت عيناه على الرَّقم المُتَّصل، فامتعض وجهه بشِدّة..
- ها يا شيخنا، هترجّعلي بضاعتي امته؟!
قالها "شهاب" بتهكّمٍ واضح، معناه بوضوح سُخريته من مقدرة "عُديّ" على تدبير ذلك المَبلغ في تِلك الأيام المَعدودات..
إلا أنَّ "عُديّ" كعادته، كَسَر سُخريته وهو يقول ببرودٍ وابتسامةٍ خبيثة:
- تِحبّ أنتَ نتقابل تاخد فلوسك امته؟
كانت مُفاجأةً قويّة بحقّ وضَربةً قاصِمةً لغرور وسُخرية الآخر.. حتىٰ أنه لم يستطع سِوىٰ قَول:
- على مَعادنا يوم الاتنين عادي.
كادَ "عُديّ" يُطلِقُ ضِحكةً مُجلجلةً على اضطراب الآخر.. إلا أنه اكتفىٰ بإمساك زِمام الأمور وهو يُنهي المُكالمة بـ"بإذن الله!"..
قبل أن ينظر لـ"يُوسُف"، قائلاً بحماسٍ شديدٍ كأنه بنفس عُمُر الصَبيّ:
- واد يا أبو عيون زرقا أنتَ، هنصلي المَغرب ونروح الهايبر.. بُص، لو عايز تشتري الهايبر كُلّه، أنا تحت أمرك.. وهنعمل سَهرة جميلة زي مَلامحك واسمك كمان بإذن الله!
شَعر الصَبيُّ بالتفاجئ، رُغم انتقال الحماس له من صديقه الأكبر..
لَم يعلم ما السبب الذي جعل "عُديّ" فجأةً يتحمّس ويبتهجُ وجهه، بعدما كان مُتجهّم الوَجه..
غير أنه قَطعاً، سعيدٌ لأن مِزاجَ والِده الاجتماعيّ، قد تَحسَّن عمّا كان مُنذُ ثوانٍ!
_______________
كانَ "عُديّ" يستعجلُ يوم الاثنين بالمَجيء.. لَيسَ حُباً في اللِقاء، بل ليُلقي ذلك الجاثومُ الذي يجثمُ على سَعادتهم وراحة بالهم، المُسمّىٰ بـ"شهاب"!
استأذن "عُديّ" من مُديره قبلها أنه سيتأخرُ قليلاً لذهابه لعمل شيء مُهم.. ثم أمسكَ حقيبة النُّقود واستقلَّ سيارة أُجرة، مُتَّجهاً للمكان الذي اتفق مع "شهاب" فيه أن يَلتقيا..
كان لِقاؤهما مزيجاً بين البرود، والتوتر.. عدم التَّصديق، وعَدم الاكتراث..
وبالطَّبع واضحٌ جِداً أنّ "شِهاب" هو الذي حازَ على آخر اثنتين..
يشعرُ بالتَّوتّر أن رُبَّما يُخبّئُ له "عُديّ" غدراً ما.. وعَدم التَّصديق أنه أحضر له المال بكُلّ سُهولةٍ وبَساطة!
- اتفضَّل اللي يخُصَّك.. نتمنىٰ بقا تسيب اللي يخصُّني في حالهم!
بدأ بها "عُديّ" حديثه بهدوء أمَيل للبرود، وهو يضعُ الحقيبة بجانب قَدم "شهاب"!
وويكأن الآخر يرىٰ نُقوداً لأول مَرّة، فقد سارَع يضعُ الحقيبة على الطَّاوِلة، ويفتحها وهو يرىٰ النُقود المُتراصَّة فيها.. ويبدو أنه نَسي أين هو، ونَسي توتّره!
بينما كان "عُديّ" يُناظِره باشمئزازٍ واحتقار، قبل أن يتحدَّث إليه بنبرةٍ حاوَل جعلها عاديّةً، رُغم شعوره بالغيرة:
- بالنسبة لـ"يُوسُف"، أنتَ -للأسف- هتفضل والده.. وأنا بحاول أعلّمه دينه أكتر، فا أكيد مش هعلّمه كُلّ حاجة، وأسيب بِرّ الوالدين اللي -وبكرر أنه للأسف-، مَلزوم يتّبعه معاك.. لِذا، شوف يومين في الأسبوع نتقابل فيهم، وتقعد مع ابّنَك شوية.
يعلمُ الله وحده كَمَّ الضِّيق والغيرة، اللذان شعرَ بِهما "عُديّ"، وهو يقولُ حديثه ذاك..
غير أنَّ ذاك الحقير يظلُّ والده للأسف!
وعلى غَير ما توقَّعه "عُديّ"، نَظَر له "شهاب" لثوانٍ، قبل أن يُومئ برأسه علامة الموافقة.. فأومأ "عُديّ" في المُقابل، قبل أن يقوم من مجلسه..
تذكَّر شيئاً، فرفع إصبع السَّبابة بوجه الآخر، قائلاً بتحذيرٍ لم يُخفِه:
- وحِسَّك عينك تقوله أو تزرع في دِماغه أي مَرض من اللي في دماغك.. لأنه حتىٰ لو كُنتَ أنتَ والده اللي خَلّفُه، بس أنا هفضل والده اللي احتواه ورَبّاه وعَلَّمه وصاحبه.. فرق شاسع زي ما أنتَ شايف!
أنهىٰ "عُديّ" حديثه، وهو يضع يده لجانبه، ويرحَلَ من المَكانِ تماماً، مُتَّجهاً صَوب مدرسته..
_______________
خَرج "عُديّ" من المَدرسة بعد انتهاء اليوم الدراسيّ..
كانَ يشعرُ أنه خفيفٌ كطَيرٍ حُرّ، غيرُ مُكبَّلٍ بأصفادِ القَلق والتفكير!
قَرَّر أنه يجبُ أن يشتري هديّةً لكُلّ فردٍ من عائلته الصَّغيرة..
لَيس لسببٍ، إلا تعبيراً عن حُبِّه لهم!
_______________
بعد ثلاث ساعات.. كان "عُديّ" جالساً مع زوجته في غرفته، بمُفردهما..
ينظرُ لها بابتسامةٍ واسِعةٍ شَغوف، بينما هي تقرأ ما كَتَبه لها بعينين تَلمعان بتأثر:
"لَيست مُذكّراتٍ، فإنّي لا أُحسِنُ كِتابَتها..
ولَيست خواطِر، فإنّي لا أُجيدُ صِياغتها..
وبالتأكيد لَيست شِعراً، فإني لا أعرفُ نَظم قوافِيه!
سَمِّها ما شئتِ، فإن أحببتِ، فسَمِّها فوَضىٰ كِتابيّة..
كأيّ رِحلةٍ تبدأ، بدأت رِحلتنا..
وكأيّ سَفينةٍ تُبحِرُ، أبحَرت مَركِبنا!
كُنتُ في نَظَركِ كمياهٍ هادئةٍ، وكنتِ تُمثّلين رياحاً عاتية!
وللنَّاظِر من بَعيدٍ، سيرىٰ أنّ تِلكَ الرِّياح ستؤثِّرُ بالسَّلب على المّياه، فتحوّلها لإعصارٍ مُدَمِّر!
أمّا بالنسبة لي، فقد كانت رياحكِ السببَ الرئيسيّ لأشرعَ بتسيير مَركَبِنا..
والسبب الأهمّ لجَعلي أشعرُ أنّني مياهٌ ذاتَ جَدوىٰ!
قرأتُ ذاتَ مَرّةٍ لكاتِبٍ يقول:
«كُنّا كخطّين، وبَعضُ الخُطوطِ يستحيلُ التقاؤها!»
لم أعلَم تَكذيباً لمَقولته، أكثَر صِدقاً مِنّا..
فقد كُنّا خطَّين لا يلتَقيان..
والتَقينا!"
عُديّ الجَمّال،
لِمَن سرقَت بعسليّتيها، قَلبي!
- يتبع الفصل التالي اضغط على (خطان لا يلتقيان) اسم الرواية