رواية علاقات سامة الفصل الثاني 2 - بقلم سلوى فاضل
الفصل الثاني
نهايات زمهرير شتاء ٢٠٠٣
تغادر مسرعة من أسوار جامعة حلوان غاضبة، حزينة، تصعد أول حافلة تقابلها، وخلفها صديقتها تحاول اللحاق بها تناديها، ولا إجابة، استقلت هي الأخرى أول ما قابلها ولحقتها إلي ساحة انتظار المترو بحثت عنها بناظريها حتى وجدتها، ثم أسرعت إليها.
- طيف، يا بنتي بنادي عليكِ من بدري مركبة عجل في رجلك.
تنَهَدت بملل واسترسلت:
- ماتزعليش بكرة تتصالحوا.
- سهى، أنتِ فاكره إني زعلانة عشان قال كدة.
-امال زعلانة ومشيتي مرة واحدة ليه؟!
سألتها بتعجب من حالها، وصل المترو فصعدتا ولم تنتبها بأي عربة هما.
- أنا عارفة إني غلط مِن الأول، اللي مزعلني إني كنت عايزة أعمل كده وأبعد وما قدرتش، خايفة، أصلا ما ينفعش وغلط العلاقة دي من البداية.
- يمكن عشان ظروفك قبلتي!
- مش مبرر صدقيني، أنا عارفة إني غلط ولازم اتحمل نتيجة غلطي.
-طيب، مش هتكملي المحاضرات النهاردة ليه؟
ابتسمت بحزن:
- نسيتِ إن أول ما الجدول نزل بابا قالي أحضر محاضرة واحدة بس، عشان في بينهم ساعتين فاضيين، فممكن أفسق فيهم!
وصل المترو إلى نهاية الخط الأول ثم بدل سيره للاتجاه العكسي؛ فعاد بهما إلى نفس المحطة.
- شوفتي أدينا ركبنا العربية المشتركة بالغلط، انزلي هنا وارجعي عشان تحضري المحاضرة التانية وكالعادة هاتيها بكرة أنقلها منك.
- وأنت مش هتزلي تركبي عربية السيدات.
-المترو فاضي، وكلها كام محطة وأنزل الحقي قبل ما يقفل.
استجابت سهى وعادت للجامعة، جلست طيف بأحد المقاعد، كانت المقاعد عريضة لفردين متقابلة يليهم كرسيان بنفس الوضع، بعد أن جلست مباشرةً أتي شاب، وجلس أمامها وتحدث مبتسما:
-أنا ممكن أبدل معه، ومش هفركش ما تخافيش، وهخرجك كمان، أنا حازم، أنتِ اسمك إيه؟
نظرت إليه بذهول، أدركت الآن إنها تحدثت بصوت عالٍ وسمعها مَن بالعربة صُدمت، ولكن عليها التصرف سريعًا، رفعت بصرها قليلا؛ فوجدت ضابط يجلس خلف الشاب، حاولت اصطناع الابتسامة.
- أفكر بس ممكن تخبط علي كتف اللي وراك.
فعل الشاب وهو ينظر إليها مبتسما، فقد حظي عليها بسهولة شديدة.
التف الضابط إليهما، وتحدث برسمية ظنَّها سيئة بالفعل.
- أفندم.
- مش الشرطة في خدمة الشعب.
رفع إحدى حاجبيه وصَمت فأكملت
- الشاب ده بيضايقني، وأنا الصراحة خايفة المترو فاضي تقريبًا.
ابتسم مجيبًا:
- مش كنت هتفكري.
أحمر وجهها خجلًا:
-احمم، قولت كده عشان يطمن وينادي عليك.
تحدث الشاب متحفزًا:
- ما تعمليش مؤدبة، أنا سامعك والباشا كمان وأنتِ بتكلمي صاحبتك.
أمعن الضابط بوجهها، بينما هي صدمت وانسابت بعض دمعاتها فأمسكتها سريعًا، كادت أن تشرح وتوضح، لكن الضابط أنهى الموقف، وجه حديثه للشاب معنف إياه.
-لما يكون في ظابط واقف معاك تسكت وتبطل تقل أدبك.
- أيه يا باشا! هي عجبتك ولا إيه؟!
- واضح إنك ناويها.
قبض على رسغه بإحكام، وسحبه باتجاه الباب، متحدثًا بغلظة:
- تعالى يا حلو نشوف مين عجب مين؟ انزلي معانا واركبي عربية السيدات.
أومأت موافقة واقتربت بصمت، وبالمحطة التالية هبطوا جميعًا، أشار الضابط لعسكري المحطة آمره:
- خد الأخ نشوف حكايته إيه؟
التف فوجدها محلها:
- ماركبتيش ليه؟
أجابت بخجل شديد من فعلها وما ترتب عليه:
- ممكن ما تأذيهوش، أنا غلطانة صوتي كان عالي، بس والله مش قصدي!
ابتسم لها بود وتحدث متسائلًا:
-يعني أنتِ عارفة إنك غلط، وإن اللي حصل مش مناسب مع حجابك!
أومأت بأسف فتابع:
-أوعدك هربيه وبس.
- لا، لا بلاش ضرب و...
- باااس! فهمتي أيه؟ هي فوضى! هما صوتين وخلاص، ويلا المترو جه، اركبي عربية السيدات عشان ما يضايقكيش حد تاني.
أجابت بابتسامة رقيقة، ثم صعدت وما زالت محتفظة بابتسامتها، تابعته حتى اختفى الغريب إنه فعل المثل.
اتجهت إلى بيتها، تشعر داخلها براحة وسعادة، يلاحقها طيفه، وما أن وصلت ودقت الجرس تبدل حالها؛ فاستقبلها والدها بوابل مُن السُّباب، ولم تكد ترمش عينها تستوعب ما يحدث حتى فوجئت به يجذبها من حجابها بعنف شديد، وما زال يلقى على مسامعها سيل من الشتائم على مسمع من كامل البناية، كما اعتاد دومًا، تحدثت مدافعة عنها نفسها متسائلة:
- آه يا بابا شعري، آه طيب عملت إيه؟ طيب حتى نقفل الباب، آااه.
- بقي أنتِ تستغفليني! فاكرة إني مش هاعرف، اديني عرفت وهربيكِ من أول وجديد.
دكها بالأرض وأصبحت تحت قدميه وما زال يمسك بحجابها الذي أزيل عن رأسها؛ فظهر شعرها بالكامل؛ جمعه بكف يده بإحكام وأخذ يجذبه يمينًا ويسارًا بعنف، يصْفعها براحة يده الأخرى على كل ما تطول يده
- مين ده اللي كاتب لك شعر في كشكول المحاضرات يا هانم، ياللي مالكيش ظابط ولا رابط.
- مفيش حد والله، مش بدي محاضراتي لزمايلي، طيب أشوفه عشان أعرف أرد، كفاية ضرب بالله عليك، كفاية.
نفض يده عنها، دفعها بقدمه، وتحدث بغَضَب جم:
- قدامي علي أوضتك، وإياكِ! شوفي، إياكِ تكذبي! هاعرف.
بالكاد نهضت وكامل جسدها يؤلمها بشدة، تحركت أمامه بهلع وذعر وجسد مرتعش، فلا مُنجد أو مغيث لها إن ثار وغَضَب.
بالغرفة وقفت أمامه كمتهمة بقفص الاتهام، وهو القاضي والخصمُ، قَذَف بوجهها إحدى الدفاتر الثَّقيلة؛ فارْتَطَم بوجهها، أصابها فشقَّ جزء صغير من وجنتها، تحدث غاضِبًا:
-افتحي يا هانم، آخر صفحة.
فعلت بيدٍ مرتعشة، ونظرت بداخله وردت بتلقائية صادقة:
-والله يا بابا دي سهى صاحبتي! ده خطها كان معها الكشكول، هي بتكتب شعر.
- تاني مرة لما تاخد حاجتك ما تكتبش حاجة، أو ما تاخدش منك من الأصل، قال يعني فالحة قوي، امتي يجي لك عريس وأخلص من همك، أول واحد يخبط هوافق وأخلص وأرتاح من همِّك أنتِ كمان، جاتك الأرف.
غادر الغرفة؛ فجلست علي فراشها بوهن، تبكي بصمت، تكتم أنفاسها؛ كي لا يسمعها؛ فتنال المزيد من اللطَمَات، همست مُناجية:
-سيبتيني ليه يا ماما؟ كنت خليكِ معانا، شوفتي بابا عمل فينا إيه؟ كل شوية يضـرَبني، ببقي مكسوفة لمَّا أقابل حد من الجيران صدفة، ومنال رماها وجوزها لأول واحد تقدم لها، وافق حتى من غير ما يسألها، خصوصًا لما عرف إنه هيسكن في بيت عيلة ومش عايز جهاز، أنا ماشوفتهاش من يوم الفرح مش راضي نروح، عارفة أنا بس اللي بسأل عليها وأكلمها، هو نسيها أصلًا، أنا خايفة قوي نفسي افرح، لأ نفسي أطمن بس، أو أروح لك.
انتفضت على صِـرَاخ والدها يتعجل الطعام:
- مش هنتغدي ولا إيه؟ هفضل منتظر الهانم كتير.
أجابت مسرعة تجفف عَبَرَاتها وتبدل ملابسها:
-حاضر، حاضر جاية أهو بغير بس.
وبسرعة شديدة بدلت ملابسها واتجهت للمطبخ؛ لتعد الغداء وتقوم بأمور المنزل قبل بدء مذاكرتها ومباشرة دروسها.
عاد سامح الموظف بأحد المصالح الحكومية، والعاشق للروتين ومعوقاته، من عمله الى بيته الواقع بإحدى المناطق الشعبية ذات الشوارع الضيقة بعض الشيء، شاهد ابنته شيماء ذات الإحدى عشر عامًا تلعب مع بعض الفتيات بمثل عمرها، ومعهن ولد صغير، محمود ذو السبعة أعوام، ابن أحد جيرانه القاطن بنفس البناية، يمسك بمرفقها، يحدثها ضاحكًا،
- مسكتك الدور عليكِ، أنتِ اللي فيها.
ارتسم على وجهها بسمة سعادة من الاستمتاع باللهو، تحولت إلى ذُعْر جلي حين سمعت صوت والدها الغَاضِب يناديها، أدركت بفطرتها الطفولية ما سيفعل بها بالأعلى، سرعان ما تحول فكرها إلى يقين عندما اقترب منها وجذبها من رسغها بعُنْفٍ، ضغط عليه بقوة، تحرك يسوقها خلفه مسرعًا.
سألته بفزع:
- أنا عملت إيه يا بابا؟! والله قولت لماما قبل ما أنزل! حتى اسألها.
- اخرسي خالص، مش عايز اسمع صوت لحد ما أطلع.
استمعت أختها نادية من شباك غرفتها -المطل على تلك الجهة- لكلمات والدها الصَّـارِخة بالأسفل فأسرعت إلى والدتها واخبرتها، ردت بضيق متأففة:
- يووه، مش وقته خالص، عملت إيه أختك؟ ربنا يستر! أبوكِ لما بيعمل كده مش بيرتاح غير لما يعجنها ضَـرْب.
استمعوا لصوت شيماء الباكي:
-خلاص يا بابا، مش هعمل كدة تاني! خلاص والله!
دفعها أمامه بغَضَبٍ جم؛ فتدخلت زوجته متسائلة.
- في إيه؟ البت عملت ايه بس؟ فهمني.
-في إنك مش واخدة بالك من عيالك يا هانم، دول بنات لازم تفتحي عينك عليهم كويس، مش تسبيها تلعب في الشارع ومع أولاد كمان.
-مش أول مرة تلعب في الشارع، وأنت عارف، هيلعبوا فين يعني؟! في النادي! وبعدين ولاد أيه! دول كلهم بنات، مفيش غير محمود، وعنده سبع سنين.
- اتريقي يا هانم، ده اللي شاطرة فيه، لكن تهتمي بالبنات لأ، بناتك دول هيطلعوا بايظين وأنت السبب.
-وعلى إيه؟ بناتك عندك ربيهم، لحد ما واحدة منهم تمُـوت في ايدك، يا رب ترتاح وقتها!
أجج حديثها غَـضَبه، وسينصب بالكامل في هذه الطفلة المُرتَـعدة مِن شدة الفَزَعِ، وبالفعل ما انهت والدتها جملتها، حتَّى وجدت شيماء نفسها طائرة من قوة دفع والدها، لداخل غرفته، دفعها جهة الفراش، ثم مد يده أعلى خزانة ملابسه أخذ عصا خرزان اشتراها خصيصًا لتأديب ابنتيه، بدأت شيماء تترجاه خوفا مما ستتذوق بعد ثوانٍ وجيزة، التف إليها غَاضَبًا، نهرها وكأنَّه يريدها أن تتقبل العَـذَاب بصمتٍ، أومأت بذُعْرِ، بدأت حفلة التَّعْذِيب، عَصا تلو الأخرى، علي كفيها تارة وإن تأخرت في فتح باطن يدها انهال علي قدمها أو كتفها، صَرَخَاتِها دوت بالمكان، سُمع صداها بساحة الشارع، وما زال مستمرًا، لم يكتفِ.
تأففت والدتها من داخل المطبخ، بعد مدة نالت فيها ابنتها الكثير حتى تورم كفَّيها، وكل مكان حطت به تلك العصا اللعينة، وتوالت صَـرَخَـات شيماء الراجية والمُتَألِّمة، ويبدو أنَّها ترضي والدها، بل بدا مستمتعًا.
وقفت نادية -الأخت الكبرى- تتابع عن بُعد- خَائِفة حد الهلع، شحب وجهها لمجرد الاستماع لصوت اصطدام العصا بجسد أختها، تتمني لو تستطيع الفرار من هذا المنزل المرعب لهما.
طال الوقت وبدأت الأم في الاعتراض من مكانها، داخل المطبخ:
-كفاية، كفاية حرام عليك! كل يوم الجيران سامعين صوتنا، كفاية، البنت هتمُـوت في يدك.
نظرت نادية إليها دون فهم، لماذا لا تذهب إليه وتحول بينهما؟ لمَ لا تعترض بجدية دون ادعاء؟ إن أرادت أن يكف؛ فلتتحرك لتوقفه، استمر سامح حتى أخرج شحنة غَضَبه منها! أو مِن يومه المُرهِق! أو ربما من مديره الذي زَجَرَه بالصباح لتأخره عن موعد العمل! هو نفسه لا يعلم، ربما يحب الحالة نفسها! بالنهاية شيماء هي من تحملت اليوم، ألقى العصا على الفراش متحدثًا:
-على الله تتكرر تاني! ولا أشوفك بتلعبي مع أي ولد سواء أصغر أو أكبر منك فاهمة!
أومأت بذُعْـر وأَلَـم:
- حاضر.
عنفها صارخًا:
- امشي، ساعدي أمك في تحضير الأكل.
خرجت مهرولة تبـكي وتنتَـحِب، وهو خلفها حدَّج أختها:
- يا ترى الهانم التانية خلصت مذاكرة! ولا ضيعت اليوم.
- لا والله يا بابا ذاكرت، وما قومتش غير لما ماما طلبت حاجات أعملها، وهكمل بعد ما انضف المطبخ بعد الغدا.
- هنشوف، واللي مش هتسمع الكلام هي حرة، "العصا لمن عصى".
ردت الأم غَاضِبة:
- وأنت وراك حاجة غير كده، وتدي أوامر، وبس كده.
- وأنتِ عايزاني أعمل إيه؟! انضف لك المطبخ! ما أنا طالع عيني في الشغل، وبديكِ مصروف البيت كل أول شهر.
- مصروف! آه اللي بيخلص من يوم عشرة وبنقضي الشهر خناق.
-شكلك كده، طالبة معاكِ خناق، أنا هنام لحد الغدا ما يجهز، وبعدين لو عايزة نكمل خناق عادي، أصل الجيران ما سمعوش كويس، فلازم نسمعهم على حق ربنا.
تركهم ودخل الغرفة ينعم بالنوم والراحة، تاركًا وراءه ابنتان ترتَعِـدان خوفًا، وزوجة ناقمة، بينما هو مرتاح البال بعد ان استطاع اخراج غَضَبه بإحداهن.
بداخل غرفة الفتيات، جلست شيماء تبكي بانْـهيار تنظر لكفيها المُحْـتَرِقان والمُتَوَرِمَان، أنَّبتها اختها الكُبرى نادية:
- قولت لك ما تنزليش، قولتي لي ماما موافقة؛ فبابا مش هيزعق، إيه رأيك بقى؟!
- المرة اللى فاتت ضَـربني عشان ما استأذنتش، كنت فاكرة إني كدة مش هنضرب.
- اديكِ شوفتي النتيجة، اسمعي كلامي بعد كده (أكبر منك بيوم يعرف عنك بسنة)، وبعدين مش وراكِ مذاكرة، هتخلصيها امتى؟
- إيدي واجعاني قوي.
- بطلي عياط وقومي حطي ايدك تحت الميه الباردة، شوية وترتاحي.
استمعتا لصوت والدتهما بالخارج تصيح عليهما.
-هنفضل نزغي ومش هتساعدوني، ولا لازم أمسك عصاية أنا كمان! والله اصحيه وأنتم عارفين، هيدور فيكم ضَـرب وجربتم قبل كدة.
انتَـفَضَتا واسرعتا تنفذان كل يطلب منهما، حاولت شيماء تجاهل ألَـم يدها وجسدها حتى وضعوا الطعام على المنضدة، وبقيت مهمة إيقاظ الأب، مهمة كرهتاها لما ينالهم مِن تحقير.
اجتمعوا على الغداء، الذي لم يخلوا من الكلمات المؤلِمَة وبعض التنمر والسخرية على أي من الفتاتين؛ لذا فكلتاهما تكره وقت تجمعهم، تنتهيا سريعًا، ثم تتحجَّجا بعمل لتبتعد؛ فيبقي الوالدان فقط، كل منهما يلقي الآخر بوابل مِن الاتهامات أو من النظرات النَّـارية، لأسباب تافهة.
بعد أن انتهيتا مِن تنظيف المطبخ وغسل الأطباق وإزالة مكان الطعام وترتيب كل ما هو غير منظم بالمنزل تبدئا في استذكار دروسهما، وبالطبع بعد أن انتهيا والديها من الطعام انتقلا لمشاهدة التلفاز، وانتظرا ان تعد أحد الفتيات الشاي، وتقدمه لهما دون تأخير بالأكيد، وإلا سمعا ما يؤذي.
واخيرا انتهيا من أعمال المنزل، بدأتا المذاكرة حتى انتهى اليوم، وبالصباح ذهبتا للمدرسة حيث الحرية والكرامة، وهناك تشتهر شيماء بروحها المرحة، محبوبة بين زميلاتها ومدرسيها بالرغم من ضعف مستواها التعليمي، أما نادية والتي تكبر اختها بأربعة أعوام، يُعرف عنها الجدية والتفوق، استطاعت جذب انتباه مدرسيها وكذلك حبهم بتفوقها الدراسي، لم ترَ أمامها سوى مستقبلها؛ لتستطيع التحرر من تحكم والدها والاستقلال بنفسها بأسرع وقت.
بمنطقة راقية، بالتحديد داخل فيلا متوسطة الحجم، يقف فتى بالرابعة عشر من عمره داخل ممر الغرف بالدور العلوي، ينظر لغرفة والديه المُغلقة ويستمع لكلمات والدته الصَّـارِخة:
- ما تتكلمش على أنك حمل وديع أنت عارف بالظبط إيه اللي مضايقني، وكل يوم والتاني نفس المشكلة.
- كويس أنك عارفة إننا كل يوم في نفس المشكلة، واللي بتتهربي من مسئوليتك عنها وترميها عليَّا، بس لا يا هانم، أنا بقي هقولها بصراحة المرة دي، أنتِ ما عندكيش ثقة في نفسك، أنا دكتور تجميل شاطر، تعاملي مع سيدات أمر طبيعي، ولو ما كانوش جمال أبقى فاشل؛ لأنهم كلهم تعاملوا معايَّا وأنا برزت جمالهم وبروزته كمان، وشغلى ده هو اللي سكنا في الڤيلا دي، ومعيشنا كده، وهو اللي بيسفرك في كل بلد شوية، مش هقولك ثقي فيَّا.
نظر لها باستخفاف وابتسم بتهكم، ثُمَّ استرسل:
ـ لأ ثقي في نفسك شوية! أو اهتمي بابنك اللي بقي طولك بدل ما أنتِ ناسياه كده.
- ما أنتَ كمان مُهْمِل في حق الولد، مش لوحدي يعني! أما الثقة فأنا واثقة في نفسي كويس قوي، بس أنتَ اللي عينك زايغة، كذا مرة ادخل عليك غرفة الكشف تكون بتغازل واحدة، ده مرة كنت ... كنت بتقلعها هدومها.
ببجاحة مطلقة تحدث:
- اسمها بساعدها عشان الكشف، الممرضة كانت غايبة، كانت عايزة تعمل تكبير ثدْيِّ تفتكري أكشف إزاي؟! وأنت اقتحمتِ العيادة ومنها لغرفة الكشف، وأحسن لك ما تفكرنيش لأنك أحرجتني مع المريضة.
- مريضة!! هي مريضة فعلا، مريضة في عقلها ورغبتها الحَيَوَانيَّة.
احترَقت أعصابها؛ فاحتقن وجهها بالدماء وهدرت بكلماتها التي لم تسعفها:
- أنت ناسي كنتم إزاي! أنتم .. كنتم...
-كملى، سكتي ليه؟ مفيش حاجة تقوليها، أنا كنت في كامل لبسي واللي شوفتيه كان كشف، لكن أنت اللي مريـضة بعقلك، وأنا تحملت منك كتير بس فاض بيَّا فخلي بالك.
تحولت نبرتها من غاضبة متحفزة إلى نبرةِ يملأها الرجاء:
- لو شايف إني محتاجة أعمل تجميل عشان تشوفني حلوة زيهم اعملي، لكن بلاش.. بلاش تخوني كدة، أنا تعبت نظرتك لهم غير نظرتك ليا لمعان عينك معَهم غير، ساعات بحس إني مش عاجباك وإنك متضايق مني.
- أنا ماليش في كلام الأغاني ده ولو عايزة تعملي تجميل تمام بس تدفعي زيك زي أي مريضة business is business
أجابته باندهاش وتعجب:
- أدفع! أنا مراتك يعني أخد منك وبعدين أدفع لك تاني؟!
-تاخدي مني ليه؟ فقيرة! ما أنت معاكِ فلوسك، ميراثك من والدك أو خدي من والدتك، أنا ما قولتش عايزك تتجملي ولا حاجة أنتِ اللي مش واثقة في نفسك.
- ماهر أنت بتتكلم جد؟!
- من امتى الشغل فيه هزار؟! أكيد جد.
لم تكن الدهشة مرسومة على وجهها فقط بل على وجه ابنهم أيضًا، الذي استمع لحوارهما بحسرة، يُلقون بالتهم كل على الآخر دون أدنى اهتمام به، سيرته عابرة، لم يهتما به يومًا، يشعر باليُتم وكلاهما على قيد الحياة، مرت به فترة لا يعلم طالت أم قصرت وهو على صدمته، وبالنهاية عاد لغرفته مهزومًا يجر أذيال الخيبة، ككل مرة يتشاجرا بها ويسمعهما دوره دومًا في حديثهما ثانوي، لا يزيد عن جملة أو إثنين لكل منهما، مجرَّد مادة للمُعَايرة، بالداخل أخذ هاتفه الجوال الذي لا يملكه الكثيرين فهو باهظ الثمن حتى الخط بمبلغ وقدره؛ فوالداه يجلبان له أشياء عدة، الثمين منهما والبسيط، ظنًا منهما أن تلك الأشياء تغنيه عنهما، عن وجودهما جواره، أو ترضيه؛ لغيابهما المستمر أو لمشاكلهما التي لا تنتهي، اتصل بجده الذي أجاب بمودّة وحب.
-ازيك يا رامي؟ يا حبيب جدو، عامل إيه؟
أجاب بتنْهِيده حارقه ثم تحدث:
- الحمد لله يا جدو وحشتني قوي، هتيجي امتى؟٧
- هما اتخانقوا تاني؟ مش عارف اقول لك إيه؟ سيبك منهم وركز في مذاكرتك، عايزك أحسن دكتور في الدنيا، بتخصص مفيدة مش يجيب فلوس وخلاص.
- ما بقتش عايز أكون دكتور يا جدي الأول كنت عايز اكون زي بابا يمكن ياخد باله مني، لكن دلوقتي مش فارق معايا.
- لا يا حبيبي كده جدو يزعل، أنا عايزك تهتم بمستقبلك، وتبنيه صح، عايزك دكتور ناجح مش عشان أبوك، لا عشان أنا عارف اهتمامك وحبك للطب عايزك تكون اللي أنت حابه؛ عشان تتفوق فيه وتكون شاطر ومميز ويكون تخصص نافع للناس مش اعتراض على خلقة ربنا والستات كلها تبقي شبه بعض من كتر النفخ والشد، عارف لما أبوك اختار التخصص ده افتكرته هيهتم بضحايا الحوادث والعيوب الخلقية اللي عمليات التجميل أساسًا عشانهم أو بعمليات السمنة المفرطة وغيرها من العمليات المفيدة، لكن لقيته جري ورا المادة، حاولت كتير أفهمه إن الفلوس مهمة بس مش الأساس، لكن لا حياة لمن تنادي ولا أهتم بكلامي.
- جدو هو أنا ممكن أجي اقعد معاك شوية؟ حقيقي محتاجك معايا.
- إنت عارف أبوك مش راضي عشان أمك بتركز معاه في كل خطوة وبتبقي فاضية له، لكن وجودك مَعها يشغلها عنه شوية، أصبر يا حبيبي وأنا أحاول اقنعه يسيبك تقعد عندي، المهم ركز في مذاكرتك ومستقبلك يا حبيبي، اوعدني.
- حاضر يا جدو أوعدك بكل طاقتي أركز في مذاكرتي واحط كل همي فيها.
أنهيا المكالمة والحزن رفيقهما، الجد يملأه الحزن على زهرة لم تتفتح بعد وتحيطها العواصف تكاد تقتلعها أو تقطع اوراقها، والحفيد يجد الخذلان والاهمال فقط من والداه مع الكثير من النقود.
بمنطقة متوسطة الحال يجلس شاب بالخامسة عشر من عمره، فوق فراشه بغرفته المشتركة مع أخيه الأصغر هاني -غير الشقيق- ذو الإحدى عشر عامًا، لا يشعر كلاهما بالآخر، ولا يجمعهما رابط الإخوة، أراح ظهره على الوِسادات خلفه ابتسم بسخرية، يتذكر مُشادة حدثت بين والديه بالماضي، كان عمره آنذاك سبعة أعوام فقط، يتذكر تفاصيل ما حدث وكأنه يشاهد أحد الأفلام السينمائية، رسخ المشهد بذاكرته وحُفر، سُجلت الكلمات والصَّرَخَات كما تسجل الأغاني على شرائط الكاسيت، يومها تعالا صوت شِجَار حَاد بين أبويه أمام شقة الأب، تحاول والدته استعادته، التف حولهما سكان البناية جميعًا، يحاولون جاهدين تهدئة الأوضاع بينهما دون جدوى، وهو يقف بينهما كل منهما يمسك بأحد ذراعيه يجذبونه، كل منهما يشد ذراعه إليه وكأنَّه دُمية، تألَّم من ذراعيه وجسده، كما أُنهك قلبه الصغير من الاشتياق لدفء الأسرة، الذي طالما سمع عنه ولم يجده أو يشعر به يومًا، يصْرُخ بينهما ولا يسمعاه، يصْرُخ ، يبْكي ويتألَّم، يحاول المحيطين بهم تخليصه من قبضتيهما دون فائدة، لا تزيد محاولاتهم سوى وجع أكبر، صَرَخَت والدته منددة:
- سيبه حرام عليك الولد في حضانتي وأنت أخده تجَبُّر وافترى.
- لو تعرفي تاخديه بالبوليس خُديه، لكن دلوقت على جُثِّـتي، وامشي من هنا بدل ما أعمل فيكِ محضر.
- إيه الجبروت ده؟! كل أما اجي اخده، الاقيك عارف ومستعد بتخبيه، وما اعرفش مكانه، بالوسايط والمعارف بيجاملوك، روح يا شيخ منك لله!
- مش اتجوزتي وخلفتي، يعني مش عايزاه، مش كل كام شهر تيجي تعملي دوشة وتلمي الناس، هيصدقوا كده إنك مغلوب على أمرك، بمزاجك رمتيه، بس مش بمزاجك تاخديه.
- ما أنت كمان تجوزت وقبلي وخلفت بدل العيل اتنين، ما تفتكرش إنك أحسن مني ولا إنك خايف عليه، أنت عايز تـذِلِّـني، سيب الولد بقي دراعه هيتْخِلع في إيدك.
- آه اتجوزت، واحدة عارفة قيمتي وقيمة البيت، وتحت طوعي مش زيك، ومفيش عيل وسيبي دراعه، وربنا لو حصل له حاجة هاعمل لك محضر في القسم، اللي كله معارفي وأنت متأكدة من ده؛ فارجعي لبيتك وما تجيش هنا تاني، مع السلامة.
تحدث أحد الجيران مُشفق على الطفل:
- يا جماعة مش كده سيبوا الولد هتِخْلَعوا دراعه، كل واحد فيكم مش شايف غير مشكلته مع الثاني، وهو اللي تعبان، ارحموا ضعفه، مش كده!
أجاب الأب بتعجرف:
- ابني وأنا حُر فيه، يا ريت محدش يتدخل، اللي شايف نفسه حمامة سلام يتفضل من هنا، مش عايز تدخلات من حد.
عاد حسن إلى حاضره وازدادت بسمته الساخرة حدة، تذكر إنهما حينها أرخيا يداه لثوانٍ زهيدة وما لبثا أن تضاعفت قوة تجاذبهما، بحدة ماثلت تراشق كلماتهما الصَّـارِخة، استمر الحال لفترة طويلة وبالنهاية تفوق والده كعادته من خلال المعارف وبجبروته، وعادت والدته تجر أذيال خيبتها للمرة التي لا تعلم عددها.
عاد يغوص بتلك الذكرى المريرة، فيومها بعد أن رحلت والدته، نَهره والده وأمره بالدخول لغرفته، التي يتشاركها مع أخيه سامر، الذي يصغره بأربعة أعوام، دخل الصغير حسن وهو يبـكي وينتَـحِب، يتمني أن ينعم بضمة حنونة من والديه، أو إحداهما، لا ضربات وصفعات زوجة أبيه، يتمنى أن يستمع لكلمة طيبة تصحبها بسمة بشوشة مطمئنة، لا كلمات مسمومة و صِـرَاخات تزلزل كيانه وتُؤْلم روحه كجسده الواهن الصغير، زاد عـذَابه حينها دخول زوجة والده خلفه، تلقي سمومها تبخها بقلبه الصغير، تحدثه بفحيح خافت، كي لا تقع كلماتها على مسامع والده.
- لو فاكر أنها عايزاك، تبقي عبيط دي حركات عشان تكسب تعاطف الناس، ويفتكروا أنها مغلوب على أمرها، أمك رمتك وشافت حياتها، بس أبوك هو اللي متمسك بِك، مش عارفة ليه؟! لو على الولد، الحمد لله ابني سامر حسه في الدنيا، هو ده ابنه الحقيقي، لكن أنتَ ولا لك لازمة، امتي تغور من حياتنا يا أخي؟ يا رب تمرض وتموت؛ عشان نرتاح من همَّك وقرفك.
تركته مذبوح، طفل بعمر الزهور يسقى العلقم، لا يشعر به والديه، بل لا يعلم أو يشعر بمعاناته سوى الله، يشتكي إليه ضعفه، وقلة حيلته. أفاق من ذِكراه المشؤومة كغيرها من الذكريات المتشابهة إلا حفنة صغيرة يتخللها بعض السَّعادة والفرح، طفت ضحكة مُتهكمة صغيرة، بالكاد ارتسمت على جانب فمه، عندما رأى زوج والدته يدلف للغرفة دون استئذان كعادته، يحتضن ويقبل ابنه الغافي، يتعمد اشعال حسرة حسن ولوعته، يظهر حبه لابنه بمبالغ ،ليثير غيرة حسن ويزيد احساسه بالفقد، يكرهه يجده دخيل على حياتهم، بغض عودته إليهم، لم يفصح عن شعوره بكلماته، التي تحمل معنًا مغاير لأحرفها، تبطن بجوفها مُعَايَرة وسُمُوم، رغم صغر سن حسن، إلَّا أنَّه يدرك مراده، يعي المعني المرسل إليه، أمَّا والدته فدائما ما تأخذ كلمات زوجها بنية صافية أو هكذا تبدو، لكنه لم يثُر أو يشتكي، اعتاد الصمت، وعندما كَبُر بات يقابل ما يزعجه من كلمات ببسمة باردة يخفي خلفها جراحه المتزايدة والمُلتَهِبة.
مر مساء عاصف وانتهى وحلَّ صباح جديد لا يحمل من الأمل الكثير؛ فالجميع موقن من استمرار حاله على ما هو عليه، البعض يرجو الله أن يُحدث أمرًا، ذهب الجميع إلى أعمالهم ومدارسهم وكذا جامعاتهم، وبكلية التجارة جامعة حلوان بأحدي مدرجات الفرقة الرابعة تجلس طيف بجانب صديقتها سهى تجمعان أدواتهما بعد انتهاء المحاضرة الأولى تحدثت سهى وهي تطالع طيف، حزينة من أجلها
- أدي المحاضرة خلصت تعالي نبعد عن الزحمة ونتكلم وتحكي لي اللي حصل من بعد ما سيبتك.
طالعتها طيف بأعين ذابلة، أومأت لها موافقة وتحركتا نحو المبني الإداري للكلية وبعد بضعة خطوات بداخله وقفت طيف تتلفت يمينًا ويسارًا وسط تعجب صديقتها التي سألتها بدورها:
- مالك يا بنتي؟! فيه إيه؟
- مش عارفة حاسة.. حاسة.. ولا حاجة، تعالى نقعد على السلم هناك ونتكلم.
تحركتا وما زالت طيف تلتفت حولها بين الحين والأخر حتى جلستا أعلى درجات السلم وكان بالقرب من موضعهما باب لإحدى المكاتب الإدارية بالمبني. قصَّت طيف ما حدث بالمترو ثم ثُمَّ بالبيت؛ فتحدثت سهى متعجبة:
- أنت لكِ الجنة يا بنتي، باباكِ غريب جدًا! أنا أول مرة أشوف كدة، تصرفاته غريبة قوي!
- الأصعب إنه قال أول حد يتقدم لي هيوافق عليه.
- أكيد بيقول كدة وخلاص.
ارتسمت بسمة استنكار صغيرة على جانب شفاهها وتحدثت بنبرة حزينة منكسرة:
- كان نفسي أقول لك أكيد تهديد، لكن الحقيقة لما قال نفس الجملة لمنال فعلًا وافق من غير نقاش على أول حد تقدم لها، وتمم الجواز في ظرف ثلاث شهور، ومن يومها ما روحناش لها، حتى جوزها مش بيرضى يجيبها تزورنا.
- مش عارفة أقول لك إيه!!! ربنا يصبرك، إن شاء الله هيجي يوم وترتاحي.
نظرت لها طيف نظرة تحمل الكثير من المعاني والمشاعر المختلطة وأجابت متسائلة
-تفتكري؟
-أكيد، إن شاء الله!
بالرغم من إنها أجابتها بالتأكيد إلا إنها بتلك اللحظة غير أكيدة، فالحياة التي تسمع عنها من صديقتها لم تكن تعلم بوجودها بأرض الواقع ظنَّت بالسَّابق كونها قصص وحكايات من نسيج الكُتَّاب فقط، لكنها الآن أصبحت تراها واقعًا مريرًا تعيشه صديقتها.
داخل حجرة المكتب المجاور لهما يجلس شاب يبدو أنَّه اقترب من نهايات العقد الثالث من العمر (اواخر العشرينات) ملامحه هادئة يتمتع بقدر جيد من الوسامة، طويل القامة، ذو شعر أسود متوسط النعومة وشعيرات متوسطة الطول، ابتسم بهدوء مماثل له، اصغى لما روته طيف وقد ساعد هدوء المكان وقلة الحركة على الاستماع بوضوح، وكالعادة لم تنتبه أي منهما لذلك.
نظرت طيف إلى ساعة يدها وتحدثت
-تأخرنا على المحاضرة.
- طاب يلا وخدي كشكول المحاضرات بتاعي انا كتبت المحاضرة إمبارح اللي ما حضرتيهاش وهاتيه بكرة معاكِ.
تحركتا للأسفل باتجاه المُدرج، بينما خرج الموظف ينظر في أثرهما وعلى وجهه بسمة مبهمة تحمل معانٍ عدة.
مر اليوم تقليدي لكلتيهما، محاضرات يتخللها الحكايات إلى أن انتهى اليوم، ذهبتا إلى محطة المترو، وهناك التفت طيف حولها كما فعلت بالجامعة فأثارت انتباه سهى التي لم تكتفِ بتعقيب بسيط كالمرة السابقة، أما طيف فذهبت لعالم آخر؛ جالت بناظريها المكان حتى رأت الضَّابط الذي ساعدها، حدثها بمقلتيه لتتحرك قليلًا تجاه عربة السيدات؛ فابتسمت شاكرة، أخذت يد صديقتها وتحركت بهدوء وعينها ثابته عليه، وما لبثت أن أتي القطار بالجهة الأخرى؛ فحجب عنها رؤياه، كل ذلك تم خلال ثوانٍ بسيطة؛ للحظة ظنَّت أنه خُيل لها ليس أكثر، فبعد أن مر القطار لم تجده فشردت للحظة، ولم تنتبه لحديث سهى التي احتدت عليها زاجرة:
-لا ما هو مش كده؟
-في إيه؟ بتقولي حاجة؟
-لا كده كتير، كتير قوي، أنا قولت حاجات مش حاجة، يا تفهميني في إيه؟ يا إما والله أزعل منك بجد!
تنهدت بإرهاق:
- مش أنا حكيت لك على اللي حصل امبارح في المترو بعد ما نزلتي.
-أه، وده علاقته إيه بحالتك دي؟
-بصي من غير ما تتريقي، أنا كنت حاسة أنه هنا، موجود يعني، بعدها شوفته على الرصيف التاني، متهيأ لي شوفته، أو ممكن مش هو.
- أنتِ اللي بيحصل لك من باباكي أثر عليكِ جامد، إيه اللي هيجيبه الكلية عندنا، ولو شوفتيه في المترو من شوية صدفة أو تهيأت زي ما بتقولي.
رمقتها طيف بشرود وتيه، وصل القطار فانتظرتا حتى استقر ودلفتا إلى عربة السيدات، مر باقي الوقت بين شرود طيف وبين محاولتها الخروج من حالتها عن بالحديث مع صديقتها، حتى وصلت إلى بيتها ومقر عَذَابها وإهَانَـتها.
•تابع الفصل التالي "رواية علاقات سامة" اضغط على اسم الرواية