رواية جعفر البلطجي الجزء (3) الفصل السابع و الاربعون 47 - بقلم بيسو وليد
فلا تخن عهدَ من أهدى لكَ نبضتهُ،
ولا تكن مثلَ من بالهجرِ أقساهُ،
فالعمرُ يمضي، وأيامُ الهوى حلمٌ،
والودُّ في لحظةٍ قد ضاع مسعاهُ،
فاختر لقلبكَ من بالحبِّ يغمرُهُ،
ولا تجرّبْ أسيرَ الهجرِ تلقاهُ.
_بشار بن برد.
_________________________
الإنسان خطـ ـاء بطبعه، ومُحبًا في أسلو’به، وحنونًا في تعامله، وهو’جائيًا في رد’ود أفعا’له وليس يتسم بالتعـ ـقل كما يُعرف غيره بهذه الصفات، ولَكِنّ إن أدرك خطـ ـأه كَفَّـ ـر عنهُ سريعًا دون أن يُفكر مرتين، يبدو كالطفل الصغير المشاكـ ـس الذي ير’فض دومًا كل شيءٍ وكلما سمحت لهُ فرصة المشا’غبة يفعل ما يحلو لهُ دون أن يُقفـ ـهُ أحدهم، وعندما يُخـ ـطئ ويشعر أنه قد أخطـ ـأ بشكلٍ كبيـ ـرٍ دوم أن يشعر يعتذ’ر في الحال ويطلب السما’ح والعفو عند المقد’رة، وهكذا كان هو الآن حينما أدرك أخطـ ـأه التي أقتر’فها في حـ ـق فتا’ةٍ مثلها ووَجَبَ عليهِ الاعتذار مِنها مهما كـ ـلفهُ الأمر..
<“كل بني آدم خطـ ـاء، حتى وإن كان كالملا’ك”>
كان يقف أمامها ينظر إليها بهدوءٍ وهو لا يعلم كيف يجب عليهِ أن يتحدث الآن فجميع الكلمات تهرُ’ب مِنهُ حينما يبدأ بالنطـ ـقِ بها، يعلم أنهَ مُخـ ـطئ وفي نفس الوقت كان الضحـ ـية مثلما كانوا جميعهم ضحا’يا تلك اللُعبة القذ’رة التي قد خُـ ـططت لأجلهم، شعر لمرتهِ الأولى بالتقر’ف الشـ ـديد مِن نفسه فلَم يُصوِّر لهُ عقـ ـله أن يُضع في مثل تلك الخا’نة التي تُنسـ ـب لمر’تكبي الجرا’ئم والقـ ـتلى، فيما كانت هي تنظر إليهِ والعبرات تلتـ ـمع في حدقتيها تحد’ق بهِ وذاكرتها تأخذها في رحلةٍ سريعة إلى ثنايا الماضي وكيف أنتهـ ـى بها الأمر حينها..
إن مرّ الزمان على البشـ ـر فلَن يجعل العقل ينسىٰ ما حد’ث حتى وإن مرّت عليهِ قرونٌ عِدة، منذ أن ها’جمها و’حيدة في منزلها وأبر’حها ضر’بًا وهي تحمـ ـل صغيرتها في أحشا’ئها، تعد’يه عليها بو’حشية وقسو’ة، حتى أنتـ ـهى بهم الأمر مر’تميًا خلف القـ ـضبان وهم في المشفى يُعا’نون ويتأ’لمون، في هذا الحا’دث خسـ ـرت صغيرها وتمت إصا’بة أخيها الكبير بقـ ـطعٍ في الر’باط الصـ ـليبي لر’كبتهِ وفُتِـ ـحَت رأ’سه ورفيق زوجها قد تم كسـ ـر ظهره كذلك..
تتذكر كل شيءٍ وكأنه حد’ث ليلة أمس، سقـ ـطت عبراتها على صفحة وجهها ولَم تستفيق إلا على صوته الذي كان كإنذ’ارٍ لها لِمَ ستوا’جهه الآن حينما نطـ ـق أسمها، ر’فعت بصرها وهي تر’ميه بنظراتها الباكية وحد’قتيها التي أكتـ ـستهما الحُمـ ـرة ترى نظرةٍ حز’ينة را’جية أن تنتظر وتستمع إلى ما سيُقال، عادت خطوة واحدة إلى الخلف وهي تنظر إليهِ بتر’قبٍ شـ ـديد وتحـ ـفزٍ لِمَ سيحد’ث بعد قليلٍ، أما عنهُ فقد عَلِمَ أنها لا تثـ ـقُ بهِ وقد قامت بتحـ ـفيز نفسها لِمَ سيفـ ـعله ولذلك قـ ـرر التحدث علّها تستمعُ إليهِ قائلًا:
_”بيلا” عشان خاطري أسمعيني، أنا مش جاي أأ’ذيكِ صدقيني أنا جاي لخير واللهِ أديني بس فرصة واحدة وأسمعي اللي عايز أقوله.
_وأنا مش عايزة أسمع مِنك حاجة، أنتَ بجـ ـح ومعندكش د’م، بعد كل اللي عملته دا ولسه ليك عيـ ـن تيجي تكلمني؟ طبيعي أنتَ؟.
هكذا ردت عليهِ تعـ ـنفه بحديثها وهي تنظر إليهِ وقد سقـ ـطت عبراتها على صفحة وجهها دون أن تشعر، فيما كان هو يعلم أن هذا سيكون ردها عليهِ بعد ما فعـ ـله معها فهذا أقل شيءٍ تفـ ـعله، وقبل أن يتحدث ويجاوبها سقـ ـطت عيناه على الصغيرة التي كانت تقف خلف والدتها تشاهدهما وتستمع إلى حديثهما سويًا، وحينما رآها تراجع عمَّ كان سيقوله حتى لا تستمع الصغيرة إلى هذا الحديث والذي لربما يؤ’ثر عليها فيما بعد..
ألتفتت “بيلا” خلفها حينما رأت بصره مصو’بًا إلى الد’اخل لترى صغيرتها تقف خلفها تشاهدهما، لا’نت معالم وجهها قليلًا ثم قالت بنبرةٍ حا’دة:
_إيه اللي موقفك هنا مش كدا عـ ـيب، أتفضلي على أوضتك يلا.
نظرت إليها الصغيرة قليلًا دون أن تتحدث أو تتحرك مِن مكانها، الجميع يظن أن الأطفال الصغار لا يشعرون ولا يفهمون ما يحد’ث وهذا كان أكبر خـ ـطأٍ ير’تكبه البشـ ـر فالصغار يشعرون ويعلمون جيدًا ما يحد’ث حولهم ويتأ’ثرون في طبيعة الحال بالبـ ـيئة المحيـ ـطةِ بهم، وكانت “ليان” كذلك، تلك الطفلة الصغيرة ذات الست سنوات الذكية التي تفهم مَن أمامها حينما تنظر إلى عينيه وهذا ما رأته في عينين والدتها كانت تنطـ ـق بالخو’ف والقلـ ـق والحز’ن الشـ ـديد، والند’م والحز’ن في عينين “حـليم”..
لَم تستمع إلى حديث والدتها وبدأت بالأقتراب مِن “حـليم” أسـ ـفل نظرات والدتها ونظراته، ولَكِنّ قامت “بيلا” بمـ ـنعها مِن الأقترابِ مِنهُ وهي تنظر إليها قائلة بنبرةٍ حا’دة:
_أنا قولت إيه هو مفيش سمع للكلام ليه؟.
حينها ر’فعت “ليان” رأسها تنظر إلى والدتها بهدوءٍ غير عادي دون أن تُجيبها فكيف لها فعـ ـل ذلك ووالدتها بهذه الحا’لة، أبعـ ـدت يد والدتها عنها وأكملت سيرها تجاه “حـليم” الذي كان ينظر لها فقط متعجبًا أفعا’ل هذه الصغيرة، وقفت أمامه وهي تنظر إليهِ بعينيها الخضـ ـراء الصا’فية ثم منـ ـحته بعد ثوانٍ بسمةٌ هادئة ولطيفة، أبتسم “حـليم” لها وقد جلس القر’فصاء أمامها وهو ينظر إليها يتـ ـمعن في النظر إلى معالم وجهها الجميلة ليتحدث بنبرةٍ هادئة قائلًا:
_شكلك عسول أوي على فكرة، أسمك إيه؟.
أبتسمت “ليان” بخجـ ـلٍ ثم جاوبته بنبرةٍ ر’قيقة قائلة:
_أسمي “ليان”.
_أسمك حلو أوي على فكرة ونادر، عسولة ما شاء الله عليكِ.
هكذا جاوبها “حـليم” مبتسم الوجه وبنبرةٍ هادئة ليأتي قولها حاضرًا وكأنها مستنـ ـسخةٌ مِن أبيها جعلت “بيلا” تشعر ببعض الخجـ ـل بسـ ـبب ردها حينما قالت:
_أنا عارفة إن أنا جميلة وأسمي حلو مش جديدة يعني.
أتسـ ـعت بسمة “حـليم” الذي بدأ يند’مج معها في الحديث ولذلك قال:
_بس أكيد لاز’م تكوني مِن جو’اكِ حلوة عشان لمَ حد يقولك أنتِ حلوة يبقى قصده على جمالك الدا’خلي لأن اللي بيشوف بيشوف مِن منظو’رين الأول إن أنتِ بنو’تة حلوة مِن بره شكلك جميل وتسريحة شعرك حلوة إنما في اللي بيشوفك مِن جو’ه يعني لو أنا حلو مِن بره فمِن جو’ه هكون و’حش بتمنىٰ الشـ ـر لغيري وبحب نفسي وبس ومبحبش حد يكون أحسن مِني ودا فحد ذاته منظو’ر و’حش لأن اللي حواليكِ هيهر’بوا وهيخا’فوا يتعاملوا معاكِ وهيقولوا أقاويل كتير أوي، إنما بقى لو أنتِ حلوة مِن جو’ه وبتحبي الخير لغيرك وبتحبي تشوفي غيرك أحسن مِنك وبتتمني السعادة لغيرك وأنسا’نة مش متصنـ ـعة فكل الناس هتحبك وهتحب تتعامل معاكِ ومهيصدقوا ينتهـ ـزوا الفرصة إنهم يقربوا مِنك حتى لمَ تكبري وتبقي عروسة زي القمر هيجيلك عريس مش حابب شكلك الخا’رجي أكتر ما هو حابب شكلك الد’اخلي عشان هيكون شايف فيكِ حاجة مش موجودة عند غيرك غير قلـ ـيل أوي، فعشان كدا لمَ حد يقولك أنتِ حلوة أوي لازم تفرّ’قي بين الجمال الدا’خلي والخا’رجي … أتفقنا يا عسولة؟.
وحينما أنهـ ـى حديثه متسائلًا أعطته الجواب بإماءة صغيرة مِن رأسها تؤكد على حديثه ليبتسم هو ثم يقوم بمحاوطة وجهها الصغير بكفيه يُلثم جبينها بِقْبّلة حنونة قائلًا بنبرةٍ هادئة مبتسم الوجه:
_ربنا يحميكِ ويحفظك مِن كل شـ ـر، مبسوط إني أتعرفت عليكِ يا “ليان”.
أبتسمت لهُ “ليان” بسمةٌ هادئة لينهض “حـليم” وهو ينظر إلى إبنة عمته التي كانت تنظر إليهِ نظرةٍ ذات معنى دون أن تتحدث ليبتسم بسمةٌ خـ ـفيفة إليها دون أن يتحدث وقد قـ ـرر الر’حيل بعد أن شعر بعد’م تقبُـ ـلها إليهِ عائدًا مِن حيثُ أتى مُحـ ـملًا باليأ’س والخيـ ـبة وقلـ ـة الحـ ـيلة، أما عن “بيلا” فقد كانت تقف مكانها وهي تنظر إليهِ دون أن تتحدث وتتسأل عن سـ ـبب مجيئه إليها بعد هذه السنوات ولِمَ تذكرها الآن وجاء بعد أن تناست الأمر، حر’بٌ طا’حنة نَشَـ ـبَت بين عقـ ـلها وقلبها فبد’اخلها قد حـ ـيا مِن جديد جزءٍ صغيرٍ يُطالبها بالتحركِ وفعـ ـل اللاز’م حتى وإن لَم تقتـ ـنع بهذا الحديث فيكفي أنها أعطته فرصتهُ وسمعته لعل مجيئهُ يُخبـ ـئ خلفه خبا’يا كثيرة أخرىٰ لا تعلم عنها شيئًا..
ولذلك وبعد صر’اعٍ طا’حنٍ بين كلا الطر’فين أتخذت قـ ـرارها النها’ئي حينما أوقفته بنداءها لهُ حينما قالت:
_أستنى يا “حـليم”.
توقف “حـليم” حينما أستمع إلى نداءها مكانه ثم ألتفت إليها بهدوءٍ وهو ينظر لها ليراها تنظر إليهِ بهدوءٍ ولذلك عاد الأمل بداخلهِ يحيـ ـا مرةٍ أخرىٰ، تحدثت بنبرةٍ هادئة وقالت:
_تعالى.
الكلمة التي تمنىٰ سماعها منذ زمنٍ لَم تبخـ ـل عليهِ أن تجعله يسمعها مِنها، أعطته الأمل في إعادة ما تم هد’مه منذ زمنٍ وقد رأى شعا’ع النو’ر يُضـ ـيء مرةٍ أخرىٰ بتمهـ ـلٍ حتى يز’داد تو’هجه في النها’ية ويجعله يحـ ـيا مِن جديد، ولج إلى الداخل بخطى هادئة وهو يشعر بقشـ ـعريرة تسري في أنحاء جسـ ـده حينما أستشعر د’فئ المنزل الذي حُرِ’مَ مِنهُ منذ سنواتٍ وبدون سا’بق إنذ’ار، شعر بالد’فئ والحُب يمـ ـلأ المنزل والرا’حة تسـ ـكنه، ولجت هي إلى الداخل تُشير إليهِ بالتحرك ليلحـ ـق هو بها بعدها بثوانٍ معدودة وهو يُرتب الأحا’ديث في عقـ ـله مثلما فعـ ـل مع عمته..
جلس على المقعد وهو ينظر حوله بهدوءٍ ليأتي قول “بيلا” الهادئ حينما قالت:
_ثوانِ هعمل مكالمة سريعة ورجعالك.
نظر إليها بهدوءٍ ثم أبتسم بسمةٌ خـ ـفيفة لها وحرك رأسه متفهمًا لتتركه هي وتولج إلى الداخل بخطى هادئة تاركةً إياه يجلس و’حيدًا ينظر حوله متفـ ـحصًا المكان بعينيه حتى سقـ ـط بصره على هذا البر’واز الصغير الموضوع على سطـ ـح الطاولة الصغيرة المتواجدة في إحدى أركان المنزل، ركز معها قليلًا ليراها صورة تعود إلى “يـوسف” الذي كان يحـ ـمّل صغيرته “ليان” على ذراعه والأثنين يضحكان وهما ينظران إلى الكاميرا وكأن السعادة أرتسمت في هذه الصورة..
صورة ملـ ـيئة بالحيا’ة والحُب والحنان، رأى في عينيه لمـ ـعة الحُب والسعادة، رأى “يـوسف” يضحك بتلك الطريقة التي رآها في منظوره أقـ ـصى مراحل السعادة والفرح وكأنه أمـ ـتلك شيئًا ثميـ ـنًا بعد معا’فرة دا’مت طويلًا حتى نا’لها في نها’ية الطريق، أبتسم “حـليم” وقد رأى صورةٌ أخرىٰ بجوارها بها كذلك “يـوسف” و “بيلا” و “ليان” و “لين”، د’قق النظر إلى “لين” فهذه أول مرة يراها بها فمنذ قليلٍ رأى “ليان” أما عن هذه الصغيرة فلا يعلم عنها شيئًا..
صدقًا كان أحمـ ـق كبير حينما سـ ـلَّم نفسه وحيا’ته بأكملها إلى أبيه الذي قد د’مرها أشـ ـد تد’ميرٍ وبدون مرا’عاةٍ مِنهُ أنه و’لده الصغير الذي برغم صغر سنه في طفولته لَم يرى الحنان مِنهُ قط كل ما كان يراه القسو’ة والشـ ـدة وجمو’د المشاعر حتى حينما تمت إصا’بته في حا’دثٍ أ’ليم وكانت حا’لته خطيـ ـرة لَم يرى دمعةٌ واحدة في مُقلتيه وكأنه ليس بأ’بنه وأ’بنًا لشخصٍ آخر، الآن هو يد’فع ثمـ ـن أفعا’له وأفعا’ل أبيه وجميع مَن قاموا بإيذ’اءه..
دقائق قلـ ـيلة وعادت إليهِ “بيلا” تُقدم لهُ كرم الضيافة ثم جلست أمامه على المقعد تنظر إليهِ بهدوءٍ شـ ـديد، وهو كان في مو’اجهتها ينظر لها وشـ ـريط ذكرياته معها يَمُر أمام عينيهِ حتى اللحظة الأ’خيرة التي فيها تسـ ـبب في مقـ ـتل جـ ـنينها وإصا’بة شقيقها وصديق زوجها بإصا’باتٍ با’لغة، حاول تناسي كل هذا وقد أخذ نفـ ـسًا عمـ ـيقًا ثم زفـ ـره بتروٍ وقال بنبرةٍ هادئة:
_جيت أخـ ـلص ضمـ ـيري وأر’ضي نفسي عشان مبقتش حِـ ـمل اللي أنا فيه دا كتير، تـ ـعبت خلاص ومبقتش قا’در أستحـ ـمل أكتر مِن كدا، جيت أصلـ ـح غـ ـلطات الماضي عشان كل واحد يعرف الحـ ـقيقة وإيه اللي بيحصـ ـل، عمتي سمعتني وعفـ ـت عنّي، جه دورك يا “بيلا” تسمعيني أنتِ كمان والقـ ـرار في الأخير قـ ـرارك مش هز’عل مِنك مهما كان.
تأ’هبت حوا’سها بالكامل وقد بدأت تستمع إليهِ وهو يتحدث معها ويُخبرها عمَّ حد’ث معهُ وما أوصله إلى أن يكون مر’يضًا نفـ ـسيًا تم وضعه في مـ ـصحةٍ نفـ ـسية لتد’ميره أكثر بدلًا مِن معا’لجته بفعـ ـل أبيه الذي كان لا يمـ ـلُك قلبًا أو مشاعر أبوية كانت لتغـ ـفر لهُ أفعا’له أمام و’لده الصغير الذي حتى هذه اللحظة قد أزد’اد كر’هه إليهِ وأقسم على عد’م مسا’محته مهما كانت العوا’قب و’خيمة فقد طفـ ـح بهِ الكيـ ـل وما رآه وعا’ناه في معتـ ـقله ذاك ليس هيـ ـنًا البتة، وطوال الوقت كانت الطر’ف المستمع المصد’وم لا تصدق ما تسمعه وما يقوله هو فكيف لهُ أن يكذُ’ب عليها وعيناه تنطـ ـق بالصد’ق وإرتعا’ش جسـ ـده يؤكد صحة حديثه..
بالطبع كانت صد’مة بالنسبةِ إليها فلَم تكُن تتخـ ـيَّل أن خالها بهذا الكم مِن الشـ ـر والحـ ـقد فقد كانت دومًا ترى طيبته … طيبته الزا’ئفة فما جعلها تُصدق حديثه الآن معاملته لزوجها حينما ذهبا إلى الصعيد وكيف قام بإها’نته وطر’ده مِن منزلهِ وتبجـ ـحه بهِ أمام الجميع وإلقا’ء الكلمات القا’سية والسبا’ب البذ’يئ عليهِ وكأنه ليس ببشـ ـريٍ مثله يشعر ويتأ’ثر ويتأ’لم حتى وإن كان كالجبا’ل في صلا’بتها، وبعد نصف ساعة دا’مت في التحدث أنهـ ـى حديثه وهو ينظر إليها بعينين دامعتين القهـ ـر باديًا على تقا’سيم وجهه والحز’نُ الشـ ـديد يحتضن عينيه فما رآه كان كابو’سًا بشـ ـعًا لا يتمناه المرء لعد’وه مهما حد’ث..
حاولت أستيعا’ب ما قاله وهي تشعر وكأن أحدهم قد قام بضر’ب رأ’سها بعـ ـصاه حد’يدية قو’ية أطا’حت بها بعـ ـيدًا، نظرت إليهِ “بيلا” بحز’نٍ شـ ـديد وتأ’ثرٍ لتراه بدأ بالبكاء بعد أن فشـ ـل في كتما’ن هذا أكثر مِن اللاز’م وقد وضع كفيه على وجهه حتى لا تراه هي بعد أن أكتـ ـست عيناه ووجهه بالحُمـ ـرة فما تراه أمامها الآن هو القهـ ـر الشـ ـديد على عمرٍ ضا’ع هـ ـبأً، ألتمـ ـعت عينيها بالعبرات وهي تشاهده لتأخذ محر’مة تَمُـ ـدّ يدها بها إليهِ قائلة:
_”حـليم”.
ر’فع رأسه وأبعـ ـد كفيه عن وجهه ينظر إليها ليراها تَمُـ ـدّ يدها بالمحر’مة إليهِ دون أن تتحدث فيكفي أن عينيها الآن تقول كل شيءٍ، أخذها مِنها وبدأ يُز’يل عبراته عن صفحة وجهه جيدًا محاولًا تما’لُك نفسه رغم أنه فشـ ـل في ذلك بعدها وعادت عبراته تتسا’قط على صفحة وجهه مِن جديد، لا تعلم كيف تقوم بموا’ساته ولَكِنّ لعل كلماتها تكون لها تأ’ثيرها الخاص عليهِ في تهـ ـدأته قليلًا، ولذلك قالت بنبرةٍ هادئة حز’ينة:
_مصدقاك يا “حـليم”، مصدقاك وعارفة إنك صا’دق فكل كلمة بتقولها، ياما عرفت عنه كتير وأتخد’عت فيه … بس هي دي الدُنيا وهما دول البشـ ـر، قد ما بينو’لك إنهم بيحبوك وبيخا’فوا عليك وأنتَ بالنسبة ليهم محو’ر الكو’ن كله برضوا أول طـ ـعنة بتكون مِنهم ويمكن دي أكتر طـ ـعنة بتو’جع عشان بتيجي مِن الحبايب، مش هييجي حاجة جنب بابا يا “حـليم”، إحنا بس ضحا’يا لعبة قذ’رة مش أكتر ود’فعنا التـ ـمن حياتنا وسعادتنا، متديش الز’عل حجـ ـم أكبر مِن حجـ ـمه ومتخا’فش لسه العُمر قدامك هتلاقي اللي تحبك وتعوضك عن كل حاجة و’حشة عديت بيها، قدامك فرصة لسه يا “حـليم” إنك تعيـ ـش أستغـ ـلها قبل ما ترو’ح مِنك عشان مش هتجيلك تاني مهما عملت … ولو عليا أنا مسا’محاك أنتَ فالآ’خر ضحـ ـية مقد’رش ألو’م عليك.
نظر إليها وهو لا يُصدق ما تقوله إبنة عمته وما تسمعه أذنيه، إنه بالتأكيد يحلُم وسيستيقظ ويرى أنهُ كان حُلمًا تمنىٰ حدو’ثه على أرض الوا’قع، شعر بمشاعر كثيرة متضا’ربة الفرح والحز’ن، القهـ ـر وخـ ـيبة الأمل، ولَكِنّ بسمتها محـ ـت كل هذا في لمـ ـح البصر حينما نظرت خلفه بعينين ملتـ ـمعتين ليشعر هو في هذه اللحظة بأحدٍ خلفه يحتضنه محاوطًا كتفيه بذراعيه يدعمه ويؤا’زره، وقد جاء صوت هذا الشخص حينما قال بنبرةٍ هادئة:
_محدش فينا شا’يل مِنك ولو كان في حاجة مِن ناحيتي ليك فأتشا’لت خلاص يا “حـليم”، أنا كُنْت يومًا ما مكانك وحا’سس بو’جعك وقهـ ـرتك وعارف لمَ تكون عا’جز عن الكلام ومش عارف تخرَّ’ج مشاعرك زي ما أنتَ حا’سسها، دا ماضي وأنتـ ـهى قدامك فرصة زي ما “بيلا” قالتلك أستغـ ـلها صح وأبدأ أقف على ر’جليك تاني وأبنـ ـي كيانك وأعمل اللي فمصـ ـلحتك، وأدعي ربنا يجيبلك حـ ـقك قريب مِنُه وصدقني هتر’تاح لمَ حـ ـقك يرجعلك فيوم مِن الأيام.
هكذا أنهـ ـى “يـوسف” حديثه بعد أن ولج مؤ’خرًا وأستمع إلى حديث “حـليم” بالكامل ورأى ضُعـ ـفه لأول مرة وقـ ـلة حيـ ـلته وتيـ ـهه البائن على تقا’سيم وجهه ونظراته، شعر بالشـ ـفقة تجاهه ولأنه عا’نىٰ قد’يمًا مثله فهو يعلم تمامًا هذا الشعور المقـ ـيت الذي يشعر بهِ “حـليم” الآن، أبتعـ ـد عنهُ “يـوسف” وهو ينظر إليهِ ليلتفت “حـليم” بر’أسه وهو ينظر إليهِ لا يُصدق ما يراه وتسمعه أذنيه فبالتأكيد هو حقًا يحلُم..
نهض بهدوءٍ مِن مجلسهِ وهو ينظر لهُ بعد’م تصديق ليبتسم الآخر لهُ بسمةٌ هادئة وهو يعلم أنه في صد’مةٍ مِن أمره ولذلك وضع كفه على كتفه يُشـ ـدد مِن أز’ره قائلًا بنبرةٍ هادئة:
_عيـ ـش يا “حـليم” متفضلش حا’بس نفسك فالدايرة دي لحد ما عُمرك يضـ ـيع، كمل وشوف حياتك وأنا عن نفسي سا’محتك كلنا ضحا’يا وأنتَ كُنْت واحد مِننا مينفعش نلو’م عليك كفاية اللي عيـ ـشته ودا فالآخر نصيـ ـب وربنا عوضنا الحمد لله، أنسىٰ وكمل حياتك زي ما كلنا نسينا وعدينا وكملنا حياتنا كدا أو كدا حـ ـقنا راجع فنعيـ ـش حياتنا لحد ما ربنا يرجعلنا حـ ـقنا وأنتَ عا’فر فشغلك وهتكون حاجة كبيـ ـرة أنا وا’ثق مِن اللي بقوله دا، أنتَ قد كل حاجة يا “حـليم” بس عايز اللي يشجعك.
نظر إليهِ “حـليم” قليلًا بعد أن تأ’ثر بحديثه ولا’مس قلبه لتلـ ـتمع مُقلتيه بالعبرات ثم عانقه مشـ ـددًا مِن عناقه إليهِ دون أن يتحدث ليبتسم في المقابل “يـوسف” ويقوم بمعانقته كذلك مربتًا على ظهره برفقٍ دون أن يتحدث فوَجَبَ عليهِ الآن مسا’ندته والوقوف بجواره حتى يعود مِن جديد الوقوف على قد’ميه وبنا’ء نفسه حتى لا يحتاج إلى أحدٍ في المستقبل فكل ما يحتاج إليهِ هو د’فعةٌ صغيرة وهذا ما سيفـ ـعله “يـوسف” معهُ حتى يطـ ـمئن عليهِ.
_______________________
<“كُشِـ ـفَت الحقا’ئق المد’فونة سـ ـرًا،
وأصبح اللعبُ أمام مرئ الجميع.”>
على مدار أربعة سنوات كانت تعيـ ـش معهُ تحـ ـت سـ ـقفٍ واحدٍ تجاوره وتشاركه كل شيء في حياته سواء كانت الخاصة أو العملية وحينها لَم تكن ترى سوىٰ الجانب اللطيف مِنهُ لَم ترى جانبه السـ ـيء ولَم تكن تعلم أن بداخلهِ هذا الكم مِن الشـ ـر والحـ ـقد والغـ ـل مد’فونين بداخلهِ لَم يحين موعد خروجه بعد، ولَكِنّ يقـ ـع الإنسان بسـ ـبب فـ ـعلٍ صغير لَم ينـ ـتبه لهُ أطا’ح بهِ إلى الهلا’ك الممـ ـيت..
منذ وقتٍ ليس بقصيرٍ تشعر أنه يقوم بتخـ ـبئة شيءٍ ما يخـ ـشىٰ أن تعلمه هي، بدأ قـ ـلبها يُخبرها أن الأمر ليس جيدًا ولذلك كطبيعة أي امرأة تبدأ في مر’اقبة زوجها سـ ـرًا حتى تتأكد إن كان شعورها ذاك صحيحًا أم خا’طئًا، وقد بدأت فعـ ـل ذلك وخرجت خلفه مِن المنزل تتابعه وتسير بخطى هادئة خلفه تراه ذاهبًا إلى إحدى الأماكن المقطو’عة خا’رج الحارة وقد بدأ قلبها يُنذ’رها أن الأمر ليس هيـ ـنًا البتة وأنه يُخـ ـطط لفعـ ـل شيءٍ ما..
فيما ولج هو إلى هذا المخز’ن المتواجد في إحدى الطرقات المقطو’عة وأغـ ـلق الباب خلفه لا ينـ ـتبه لتلك التي تقف بعـ ـيدًا خلف إحدى الجدران ترا’قب تحركاته وهي تتسأل لِمَ يأتي إلى هذا المكان وما الشيء الذي يد’فعه إلى ذلك؟ أسئلة عديدة لا تجد إجابة لها وتـ ـثق أنها ستجدها في الداخل، ولذلك أكملت سيرها بخطى هادئة وهي تضع الو’شاح حول جسـ ـدها تقوم بتخـ ـبئة بطنها المنتـ ـفخة وقلبها ينبـ ـض بعـ ـنفٍ داخل قفـ ـصها الصد’ري خو’فًا مِمَّ ستراه بالداخل..
ولجت مِن الباب الخلـ ـفي للمخز’ن وهي تنظر حولها بخو’فٍ ترى الظلا’م يُسـ ـيطر على المكان ألا مِن بعض المصابيح التي كانت إضاءتها ضئـ ـيلة تُنير إليها الطريق، أغـ ـلقت الباب خلفها وسارت بخطى هادئة وبطـ ـيئة تتر’قب الأجواء خشـ ـيةً مِن أن يراها “فـتوح” وحينها بالتأكيد سيقـ ـتلها لا شـ ـك في ذلك فهي تعلم أنه متهو’ر لا يفقه لشيءٍ، جاءها أصوات رجو’لية تتحدث بالقرب مِنها ولذلك سارت نحو مصدر الصوت حتى رأته يقف مع مجموع مِن الرجا’ل المسلـ ـحين يتحدثون مع بعضهم البعض..
أختـ ـبأت خلف الجدار وهي تضع يدها على قـ ـلبها تستمع إلى حديثهم الدائر بينهم لتبدأ أذنيها بتـ ـلقي المصا’ئب والكوا’رث التي كانت مخـ ـفية عنها وهي كالبلهاء كانت تصدق كل كلمة يقولها إليها لأنها فقط تُحبه وتعلم أنه لا يكذُ’ب عليها ولَكِنّ هذه اللحظة التي تستمع فيها إلى أحاديثهم التي كشـ ـفت إليها حـ ـقيقته السو’دا’ء، جاء صوته يصدح في أركان المخز’ن وهو يقول بنبرةٍ صا’رمة مليـ ـئة بالشـ ـر والحـ ـقد:
_أسم “يـوسف المحمدي” دا عايزُه يتمـ ـحي مِن على و’ش الأرض تمامًا، مش عايز يكون لِيه وجو’د فالحياة أنا مش جايب أي رجا’لة وخلاص، أنا جايب مسـ ـلحين يعني مِن طـ ـلقة واحدة تجيب أجـ ـله ومش عايز حد يلـ ـمح واحد فيكم عايز كل حاجة تتم بسرعة زي الصا’روخ لا مِن شا’ف ولا مِن در’ي.
جحـ ـظت عينيها على وسعـ ـهما وهي تستمع إلى حديث زوجها الذي بداخلهِ كمٍ مِن الشـ ـر والحـ ـقد الد’فين الذي يخـ ـبئه أسفـ ـل قنا’ع الحبيب الذي يقوم برسمه أمامها، شعرت بالصد’مة الشـ ـديدة وكأن أحدهم أسقـ ـط عصـ ـاه حد’يدية على رأسها أطا’ح بها بعـ ـيدًا، قبـ ـضت على ثيابها بقو’ةٍ وهي تشعر أنها حقًا لا تقد’ر على سماع أكثر مِن ذلك فزوجها يُخـ ـطط في منتصف الليل على قتـ ـل نفـ ـسٌ بر’يئةٌ بدون وجه حـ ـق، شعرت أنه قد تم خد’اعها بكل سهولةٍ وكأنها كانت أسفـ ـل تأ’ثير إحدى المخد’رات..
_هيصلي الفجر حاضر مع صحابه بعد ساعتين، أسمع خبـ ـره فساعتها ومش عايز ولا غـ ـلطة صغيرة.
هكذا أنهـ ـى حديثه بنبرةٍ جا’مدة مَن يراه يقول أنه لا يمـ ـلُك المشاعر كبقية البشـ ـر، خُدِ’عَت بهِ بلى شـ ـك واستطاع هو حينها أن يخد’عها بوجهه الزا’ئف بدون أي مجهو’داتٍ مِنهُ وهي كالحمـ ـقاء قامت بتصديقه بدون أي شـ ـكٍ، أستندت بظهرها على الجدار خلفها وهي تشعر بالصد’مةِ الشـ ـديدة حينما عَلِمَت حـ ـقيقته، ألتـ ـمعت العبرات دا’خل مُقلتيها ووضعت كفها على مو’ضع قلبها الذي ألا’مها..
عادت إلى منزلها سريعًا وكلماته تر’ن في أذنيها كالطبو’ل بدون توقف فالليلة سيقوم بقـ ـتل نفـ ـسٍ بر’يئةٍ بغير حـ ـقٍ دون أن يعلم أحدهم مَن القا’تل ولِمَ فـ ـعل هذا، ولجت إلى شقتها بخطى هادئة شاردة الذهن وكلماته تر’ن في أذنيها وعبراتها تسـ ـقط على صفحة وجهها، أغـ ـلقت الباب خلفها بهدوءٍ ثم طا’فت بعينيها في أرجاء المنزل تتفحـ ـصه بعـ ـقلٍ شارد، أزا’لت عبراتها بكفها عن صفحة وجهها وحاولت تهـ ـدأة نفسها بشتىٰ الطرق لأنها تعلم أنه سيأتي في أيا لحظة..
وبعد مرور القليل مِن الوقت..
ولج “فـتوح” إلى شقته بهدوءٍ مغـ ـلقًا الباب خلفه ينظر إلى أرجاء شقته يرى الهدوء يسو’د المكان، وضع مفتاح شقته على الطاولة ثم أتجه إلى غرفته بهدوءٍ ليتوقف فجأ’ةً حينما رأى “نـورهان” تقف أمامه تمنـ ـع عنهُ إكمال سيره قا’طعةً نطا’ق سيره يراها تنظر إليهِ ببعض النظرات المشـ ـمئزة والبغـ ـيضة لأول مرة يراها تر’مقه بهذه النظرات وكأي واحدٍ حينما يرى زوجته بهذه الحا’لة يظن أنها هرمو’نات الحـ ـمل هي مَن تفعل ذلك لا يعلم أنها قد كشـ ـفت حـ ـقيقته للتو..
نظر إليها قليلًا ثم لا’نت معالم وجهه قليلًا ليسألها بنبرةٍ هادئة مبتسم الوجه:
_إيه يا حبيبتي أنتِ لسه منمتيش؟ أنا أفتكرت إني هرجع ألاقيكِ نايمة وقربتي تصحي كمان، على العموم مفيش مشـ ـكلة أنا هروح أنام عشان هصحى بدري أوي عشان عندي شغل مهـ ـم، عن إذنك.
أنهـ ـى حديثه مبتسم الوجه ثم تحرك متجاوزًا إياها ليوقفه صوتها الهادئ حينما قالت:
_أستنى.
توقف خلفها موليًا ظهره إياها والبر’ود يسو’د معالم وجهه ليسمعها تقول بنبرةٍ هادئة تسأله:
_كُنْت فين فالتوقيت دا؟.
توَّ’قع هذا السؤال مِنها ولذلك كان على أتم الإستعداد للإجابة عليها ولذلك أيضا جاوبها بنبرةٍ با’ردة وهو يقول:
_فالمكتب، عندي شغل، طلبية إزا’ز طا’لعة والدفتر مليا’ن أرقام وحسابات بتتصـ ـفى ومشغو’ل.
عَلِمَت أنه سيكذُ’ب عليها ويو’همها بأشياءٍ ليست حـ ـقيقية ولذلك شعرت حينها بالإشمـ ـئزاز مِنهُ وبدأت تشعر بالند’م على ما أقتر’فتهُ في حـ ـق نفسها ولَكِنّ لن ينفعها الند’م بعد فوا’ت الأ’وان، تحدثت بنبرةٍ هادئة وهي تُلـ ـقي قنـ ـبلتها في وجهه قائلة:
_دفتر؟ غريبة؟ ويا ترى الدفتر دا بيصـ ـفي حيا’ة بني آدم؟.
بدأ يشعر بالقلـ ـق والتو’تر مِن حديثها فهذا لا يعنى إلا شيئًا واحدًا فحسب وقد سَمِعَها تُكمل حديثها قائلة:
_الدفتر نفسه اللي مليا’ن خلا’فات، جه ميعاد تصفـ ـيته مش كدا؟.
هُنا وكان حديثها كالإنذ’ار بالنسبةِ إليهِ ولذلك جحـ ـظت عينيه والخو’ف يحتضن قلبه ليلتفت إليها كي يو’اجهها في نفس ذات اللحظة التي ألتفتت هي الأخرىٰ بها تنظر إليهِ تو’اجهه بالحـ ـقيقة التي عَلِمَتها مؤ’خرًا، كلاهما ينظران إلى بعضهما البعض والأعين تنطـ ـق بالأحاديث الصامتة، تحدثت بنبرةٍ هادئة وهي تنظر إليهِ بعينين ملتمـ ـعتين قائلة:
_فاكرني مش هعرف الحـ ـقيقة مش كدا؟ الحـ ـقيقة اللي خـ ـبيتها عليا طول السنين دي، الحـ ـقيقة اللي حضرتك خـ ـبيتها عنّي كل السنين دي، الصعيد اللي لمَ راحها كان هيمو’ت هناك بدون سـ ـبب واضح، إيه اللي يخليك مُلز’م تد’مر حيا’ة بني آدم وتقـ ـضي على حياتك معاه جاوبني، جاوبني وصارحني بالحـ ـقيقة اللي مخـ ـبيها عنّي.
كان ينظر إليها وهو في صد’مةٍ مِن أمره كل ما يفعله هو النظر إليها فحسب بعد أن قامت بكـ ـشفه أمام نفسه، أما عنها فقد كانت تر’ميه بنظرات الإتها’م والعبرات تلتـ ـمع دا’خل مُقلتيها قائلة:
_تعمل فنفسك كدا ليه يا “فـتوح”، تد’مرنا كلنا ليه، بس تعرف كل الوسا’يل اللطيفة متنفعش معاك، وعشان كدا أنا هستخدم معاك الو’سيلة اللي تناسبك أكتر فالحالة دي، عشان أنا عندي الدنيا دي كلها فطر’ف وحيا’ة البني آدم لوحدها فطر’ف تاني، كل حاجة تهو’ن إلا حيا’ة البني آدم، وعشان كدا لازم تعرف إني كشـ ـفتك ولو متراجعتش عن اللي بتسـ ـعىٰ عشانه أنا هروح لحد بيت “يـوسف” بنفسه وهقوله على كل حاجة أنتَ بتخـ ـططلها.
وهُنا بالفعل كان بمثابة زر الإنذ’ار بالنسبةِ إليهِ، طالعها بعينين مجحـ ـظتين وهُنا وفي هذه اللحظة ظهر حـ ـقده وغـ ـله على تقا’سيم وجهه وهو يُطا’لعها بنطراته التي كانت كما السها’م الحا’دة يأ’كلها بنظراته وهي فقط تنظر إليهِ دون أن تتحدث وتحاول كبـ ـح عبراتها بدا’خل مُقلتيها، تحدثت مِن جديد بعد أن أظهرت وجهه الحـ ـقيقي قائلة:
_إيه اللي حصل يا “فـتوح”، مش مصدق صح؟ حـ ـقك كُنْت فاكر إني هـ ـبلة وبصد’ق أي حاجة بتقولها مظبوط أنا فعلًا كُنْت كدا لحد ما عرفت النهاردة الحـ ـقيقة كاملة، ليه تعمل كدا يا “فـتوح” ليه؟ ليه متعـ ـيش حيا’تك وتنساه وتشـ ـيل العد’اوة دي خالص، ليه يا “فـتوح”.
لَم يستطع لجـ ـم إنفعا’لاته لير’فع كفه عا’ليًا أستعدادًا لصـ ـفعها ولَكِنّ كالعادة لَم يستطع فعـ ـلها فقط كان تهـ ـديدًا صر’يحًا مِنهُ يدُل على أنه يمكنه فعل ذلك إن تطلب مِنهُ الأمر فهذا ليس جديدًا عليهِ إن كان يحاول إيذناء الغريب فهل سيكون حنونًا على القريب؟ أما عنها فكأنها مغنا’طيسًا لتلقي الصد’ما’ت فحسب فكل ما يفـ ـعله جديدًا عليها وتراه لمرتها الأولى فالواقف أمامها ليس “فـتوح” حبيبها الذي تعرفه بل هو شخصٌ آخر..
نظر إليها بحـ ـقدٍ لمرته الأولى وقد تحدث بنبرةٍ مشـ ـبعة بالحقـ ـد الد’فين قائلًا:
_حذ’اري يا “نـورهان” عقـ ـلك يقـ ـل بيكِ وتعملي حركة متعجبنيش يمين بالله عندي أستعداد أند’مك ومش صعـ ـبة عليا ومتفتكريش عشان أنتِ مراتي فليكِ معاملة خاصة لا خالص زيك زي الغريب عندي أنا عندي البني أدمين كلهم واحد لا عندي حبيب ولا قريب ولا حتى عزيز، أنا عا’يشها بكيفي بر’ضي نفسي وبس يعني مبهـ ـتمش بأي حد غير نفسي حتى أنتِ … عا’يش طول السنين دي فجـ ـحيم معاه وصر’اع على مين فينا يكون كبيـ ـر الحارة دي وعلى طول فخنا’ق ونز’اع مش جديدة على الاتنين ويكون فعلمك هو عارف كويس أوي إني بحاول أقتـ ـله مِن زمان يعني مش جديد … الصرا’ع دا د’ام لمدة طو’يلة أوي يعني مش جديد على أي حد فينا فمتـ ـكلفيش نفسك وتتعـ ـبي نفسك على الفا’ضي.
ألتمـ ـعت العبرات الكثـ ـيفة داخل مُقلتيها وهي تنظر إليهِ لتقول بنبرةٍ هادئة تسأله:
_ليه كدا؟ ليه كل الشـ ـر دا؟ كل دا عشان مين فيكم يكون كبيـ ـر الحارة؟ مش سـ ـبب مقنـ ـع يا “فـتوح” الموضوع أكبـ ـر مِن كدا بكتير وأنتَ مخـ ـبي الحـ ـقيقة عليا، بس خليك عارف يا “فـتوح” كويس أوي إن ربنا كبيـ ـر وشايف كل حاجة ولو حاولت تغد’ر فلو ربنا مأر’ادش صدقني مش هيجر’اله حاجة.
ضحك “فـتوح” على حديثها بتهكـ ـمٍ واضح ونظر إليها سا’خرًا وقال:
_لا يا “نـورهان”، هه، ربنا عشان عادل عارف إنه جاي عليا وشايف إني مظلو’م، متحلميش إنه مظلو’م، متحلميش، وبعدين شايفك زعلا’نة عليه أوي ليه دا حـ ـيا الله واحد كان ابن شو’ارع في يوم مِن الأيام يعني ميستا’هلش الشـ ـفقة والدموع دي كلها هي مو’تة ولا أكتر.
سقـ ـطت عبراتها على صفحة وجهها وهي تنظر إليهِ لتر’فع كفها تز’يلها بهدوءٍ وهي تقول بعد أن أخذت قـ ـرارها دون عودة فيه:
_دا رأيك أنتَ، وميفر’قش معايا قد ما هتفر’ق معايا حيا’ة بني آدم كل ذ’نبه إنه عا’يش وسط و’حوش عقو’لها مر’يضة، وعشان كدا أنا خدت القـ ـرار يا “فـتوح”، إن ما تراجعت عن اللي فد’ماغك، أنا هنفـ ـذ اللي فد’ماغي.
أنهـ ـت حديثها ومعهُ أنهـ ـت جميع الأقاويل التي يمكن أن تُقا’ل بعد ذلك وهي تنظر إليهِ بأشمـ ـئزازٍ وتقر’ف بعد أن عَلِمَت حـ ـقيقته القذ’رة تلك فيما كان هو ينظر إليها بحـ ـقدٍ بعد أن شعر أنها بدأت تُشكل خـ ـطرًا كبيرًا عليهِ حينما تم كشـ ـفه أمامها، تركته بعد زفـ ـرت بعمـ ـقٍ وولجت إلى غرفتهِ، ألتفت إليها ينظر إلى أ’ثرها وهو يُفكر ماذا عليهِ أن يفعل بعد أن تم كشـ ـفه أمامها.
_________________________
<“آلا’م الجسـ ـد يُمكن أن تد’اوي،
وآلا’م القلب لا يُمكن أن تد’اوي.”>
يجلس كعادتهِ في غرفتهِ مهمو’مًا والثقـ ـل يعتـ ـلي قلبه الذي كان ينبـ ـض بضـ ـعفٍ بعد أن أطا’ح بهِ إلى سابع قا’ع، أخذ هاتفه يعبـ ـث بهِ ليولج إلى التطبيق الشهير “فيسبوك” يقوم بنشر منشورٌ جديد لهُ على صفحته الخاصة الملـ ـيئة بأصدقائه الكثر وأفراد عائلته، أقتبسها مِن مقولة الرا’حل “محمود درويش”.
_”أخبرها أنكَ تُحبها، لربما كانت تنتظرك.”
-محمود درويش.
قام بنشرها وعاد عقله يُذكره بها مِن جديد بطلتها الحسنة ومعالم وجهها الجميلة التي حُـ ـفِرَت داخل ثنا’يا عقله، تذكر آخر مقابلة جمعتهما سويًا وتذكر عبراتها التي كانت تتسا’قط على صفحة وجهها ترجوه أن ينتظرها ويسمع ما ستقوله وكان هو ير’فض سماع شيءٍ فقد عَلِمَ نها’ية الأمر فلِمَ يتحدث بهِ وهو منتـ ـهي في الأساس؟.
وصله إشعاراتٍ عديدة وراء بعضها البعض ليقوم هو برؤيتها يرى العديد مِن التفاعلات مِنها الحز’ينة ومِنها الداعمة ومِنها المُحبة، وقد ورده العديد مِن التعليقات مِن أصدقائه الذين مازحوه كالمعتادة بتعليقاتهم المختلفة.
_يا عمّ قولها قبل ما تطـ ـير وترجع تعيط وتشتـ ـكيلي.
_أسمع كلام عمّك “محمود درويش” الر’اجل دا فهمان وكلامه صح.
_أنا وأنتَ فالهو’ى سوى يا حبيب أخوك تعالى نروح الساحل يا عمّ.
_أنا مش عارف حُب إيه وقر’ف إيه تعالى ياض نروح الساحل وفكك مِن جَو التلز’يق دا خدنا إيه غير الهـ ـم ما أنتَ عا’يشها طول عُمرك سنجل هتز’نق على الشوية اللي هتعيـ ـشهم دول يعني.
وعند هذا التعليق أبتسم حينما رآه مِن صديقه الذي دومًا يكر’ه هذه العلا’قات ليتفاعل معهُ بالرمز الضاحك ويقوم بالرد عليهِ قائلًا:
_حبيبي واللهِ مش عايز أتقـ ـل عليك لو على حسابك معنديش مشـ ـكلة هجيب شنطة هدومي وأجيلك.
ورده إشعارًا مِن ابن عمه “يـوسف” الذي تفاعل معهُ بالرمز الداعم وقد كتب لهُ تعليقًا يقول فيهِ:
_طب ما تشـ ـد حيـ ـلك ولا مش قا’در أجي أشـ ـدهولك أنا؟.
رغم حز’نه ولَكِنّ أتسـ ـعت بسمته حتى تحوَّ’لت إلى ضحكاتٍ خـ ـفيفة وقد تفاعل معهُ بالرمز الضاحك وأجابه قائلًا:
_مبقتش حِمّـ ـل الشـ ـد يا خويا لو هتعرف تسـ ـد تعالى.
وفي وسط هذا الز’حام عادت صورتها تجول أمام عينيه وكأنها أقسمت على أن لا تتركه مهما كان الأمر، صدح رنين هاتفه يعلـ ـو يعلنه عن أتصالٍ هاتفي مِن ابن عمه ليزفـ ـر بعمـ ـقٍ قبل أن يُجيبه ثم رد عليهِ بنبرةٍ هادئة قائلًا:
_بتستظـ ـرف عليا يا “چـو”؟ بتكسـ ـفني قدام صحابي يا وا’طي؟ لا برستيجي برضوا يا عمّ أنتَ ابن عمّي وكل حاجة وعلى عـ ـيني ورا’سي بس ولو … على العموم أنا فالبيت قاعد مبعملش حاجة منزلتش الشغل النهاردة حا’سس إني مليش نفس، لا تعالى أنتَ أجي أنا ليه إن شاء الله تكونش خدت على مرواحي ومجيتي؟ خلاص خلاص خلاص مِن غير قـ ـلة أد’بك هاجي يا باي عليك يا أخي، حاضر خلاص بقى، سلام.
أنهـ ـى حديثه معهُ ثم أغـ ـلق المكالمة وهو شارد الذهن يُفكر في حديث ابن عمه وما الذي يريده مِنهُ حينما يذهب هُناك، ولَكِنّ على أيا حال قـ ـرر أن يذهب بنفسه ويرى ما الذي يريده ولذلك نهض بعد أن أغـ ـلق هاتفه كي يُبدل ثيابه ويذهب لهُ جا’هلًا الأمر ولَكِنّ حينما تذكر أنه مِن الممكن أن يراها د’ق قلبه بسرعةٍ فا’ئقة فحينما تذكر أنه سيتقابل معها وهي في حُكم الخطـ ـيبة لر’جلٍ آخر جعلته يشعر بالأ’لم في قلبه..
ولَكِنّ برغم كل ذلك قـ ـرر أن يتجا’هل هذا الأمر ويتجا’هلها كليًا إن رآها فلا عادت إليهِ ولا عاد هُناك شيئًا ير’بطهما ببعضهما البعض منذ ما يقارب الأسبوعين فبالتأكيد تم الموافقة على كل شيءٍ وما ينقصـ ـهم إتمام الخطبة هذا ما أقنـ ـع نفسه بهِ، لَن ينفـ ـعه شيء فسيظل الحال كما هو عليهِ دون أن يُقدم على خطوة جديدة تُغيـ ـر مِن حاله.
________________________
<“وكما لقبته مِن قبل حينما رأيته،
أسـ ـد المعا’رك وملك الغا’بة لا يخا’ف.”>
منذ أن ألتقت بهِ في مرحلة المرا’هقة كانت مشاعرها تُصَّـ ـب نحوه، لَم تنجذ’ب لأي واحدٍ سواه وكأن قلبها أقنـ ـعها بأنه هو الحبيب الذي كان منتظرًا أن يلـ ـتقي بهِ، منذ أن أنقـ ـذها مِن الشبا’ب المتسو’لين الذي حاولوا أخذ’ها بالقو’ة كما يفعلوا غيرهم ووقف هو حينها كالحـ ـصن المَنِـ ـيع يفر’ض سطو’ته وحما’يته الكاملة لها وهي بحياتها لَم ترى غيره، أفعا’له أجبـ ـرتها أن تُحبه وتُسَّـ ـلِم لهُ قلبها دون أيا تردد وكان هو متحمـ ـلًا هذا القـ ـرار حينما حافظ عليهِ وضمه إلى داخل صد’ره يجاور قلبه الد’افئ حتى مرّت السنوات وأصبح لديه العمل والمال والمنزل وكل ما كان ينقـ ـصه نصـ ـفه الآخر وشريك حياته ورو’حٍ أخرىٰ حنو’نة تعانق رو’حه المسكـ ـينة..
منذ هذا اليوم وحتى هذا اليوم كان كل يومٍ يُثبـ ـت لها مقد’ار حُبه الذي كان يزيد كل يومٍ عن اليوم الآخر وغير’ته التي تزد’اد كل يومًا كذلك فقد ظنت أن كل ذلك سوف يذهب هـ ـبأً مع مرور الأيام ولَكِنّ كان في قاموسه لا شيء يستحـ ـيل وقد حافظ على قلـ ـبها ورو’حها لَم يُحاول جر’حها يومًا حتى لو كان عن طريق الخـ ـطأ فكيف لهُ وأن يكون سـ ـببًا في جر’ح “فَاطِمَته”؟.
عادت إلى منزلها مرةٍ أخرىٰ بعد أن أخذت طفليها إلى المدرسة ثم ذهبت إلى منزل العائلة حيثُ لَم تسـ ـلم كالمعتاد مِن أقاويلهم السا’مة التي تطـ ـعن رو’حها النقـ ـية دون حـ ـقٍ فبرغم تبجـ ـحها ولسانها السـ ـليط لا تستطيع الوقوف أمام هؤلاء المتبجـ ـحين، أغـ ـلقت الباب خلفها شاردة الذهن والعبرات تـ ـلتمع في مُقلتيها، خرج “لؤي” على صوت إنغلا’ق الباب مِن المطبخ ليراها بهذه الحا’لة، عقد ما بين حاجبيه متعجبًا ثم أقترب مِنها بخطى هادئة حتى وقف أمامها مباشرةً يتفحـ ـص معالم وجهها بد’قةٍ بعينيه الرما’دية ليقول بنبرةٍ متسائلة:
_في إيه راجعة مش على بعضـ ـك ليه؟ حد أتعر’ضلك؟.
أنهـ ـى حديثه وهو يسألها إن كان “فـتوح” حاول مضا’يقتها هو أو رجا’له لتنـ ـفي هي حديثه بإماءة صغيرة مِنها وهي مازالت كما هي ليأتي قوله حاضرًا حينما تر’قب ردها على سؤاله الآخر:
_حد مِن العيلة ضا’يقك؟.
حينها حركت رأسها تؤكد على حديثه والعبرات تتسا’قط على صفحة وجهها بعد أن فَشِـ ـلَت في تما’لُك نفسها أكثر مِن ذلك وقد أر’تمت داخل أحضانه تبكي وكأنها تشـ ـكو إليهِ بأنهم قاموا بمضا’يقتها مِن جديد في عد’م تواجده معها، أما عنهُ فقد قام بمعانقتها محاوطًا إياها بذراعيه إلى د’فئ أحضانه ممسّدًا على ظهرها برفقٍ قائلًا:
_أهدي يا “فاطمة”، أهدي يا حبيبتي وأحكيلي إيه اللي حصـ ـل.
سقـ ـطت عبراتها أكثر على صفحة وجهها وشـ ـددت مِن عناقها إليهِ تزامنًا مع قولها الباكِ المختـ ـنق:
_مش عايزين يسيبوني فحالي يا “لؤي” مصمـ ـمين يعملوا معايا مشا’كل ويطلعوني الو’حشة، كل شوية يفكروني باللي نفسي أنساه ومبقد’رش بسـ ـببهم، بيجر’حوني يا “لؤي” وبيد’وسوا على قلبي وأنا مبعرفش أقف قدامهم لوحدي رغم إني بجـ ـحة بس مبعرفش أقف قدامهم كلهم كل واحد فيهم بيسخـ ـن التاني عليا كل ما بروح هناك لازم أرجع مكسـ ـورة الخاطر … يا ريتني ما سمعت كلامك وقولتلهم أنا عارفة إنهم مش هيسيبـ ـوني فحالي.
مسّد على ظهرها برفقٍ وربت بكفه الآخر على كتفها بحنوٍ بعد أن شـ ـدد مِن عناقه إليها قائلًا بنبرةٍ هادئة متو’عدة:
_حـ ـقك عليا أنا خاطرك ودموعك على را’سي مقد’رش أشوفك زعلا’نة يا “فاطمة” ولا حد جا’رحك بكلمة صغيرة، أنا غـ ـلطت فعلًا لمَ قـ ـررت إني أقولهم دول متز’عليش مِني يعني عيلة بنـ ـت **** مبيرا’عوش مشاعر حد وعايزين اللي يديهم على د’ماغهم، وغلا’وتك عندي لأروحلهم مخصوص أمسـ ـح بكرا’مة أبوهم كلهم الأر’ض وأنا أهو لو حد فيهم أتجـ ـرأ يفتـ ـح بو’قه معاكِ تاني، متز’عليش يا “فاطمتي” دموعك غا’لية على قلبي واللهِ.
أنهـ ـى حديثه وهو يُز’يل عبراتها بكفيه عن صفحة وجهها بحنوٍ ثم لثم جبينها بِقْبّلة هادئة ثم نظر إلى عينيها الباكيتين وقال بنبرةٍ هادئة وحنونة:
_وعد يا غا’لية لأكون ما’سح بيهم الأ’رض كله عندي يهو’ن إلا ز’علك ودموعك يا حبيبة قلبي، محدش يقدر يكسـ ـر بخاطرك مهما حصـ ـل وأنا عا’يش، يتحر’قوا كلهم بجا’ز محدش عندي أهـ ـم مِنك يا “فاطمتي”.
نظرت إليهِ “فاطمة” بعينين باكيتين ترى طيبة قـ ـلبه وحنانه الذي لا ينتـ ـهي فحينما يقوم أحدهم بإيذ’اء مشاعرها يهجـ ـم هو عليهِ كالأسـ ـد الجا’ئع يأخذ حـ ـق ذو’يه فعند “فَاطِمَته” وسلا’مٍ على الجميع فهذه حبيبة القلب كيف لهُ أن يتركها هكذا دون أن يأخذ حـ ـقها مِن مَن تجـ ـرأ على أذ’يتها ولو كانت بكلمة صغيرة..
قام بنز’ع حجاب رأسها الأسو’د لتظهر خصلاتها السو’دا’ء اللا’معة التي تعقـ ـدها بر’بطة شعرها ليقوم كذلك بفـ ـك تلك الر’بطة عن خصلاتها لتنسد’ل خصلاتها الممو’جة خـ ـلف ظهرها بحـ ـرية كما يُحب هو أن يراها دومًا، تسـ ـللت أنامله بين خصلاتها يُحـ ـررها مِن تشا’بكهن وقد نظر إلى عينيها وقال بنبرةٍ هادئة مبتسم الوجه:
_تعرفي يا “فاطمة”، أنا كل يوم بقول أنتِ خسا’رة فأ’هلك أقسم بالله شوية العـ ـرر دول ميستا’هلوش إن البـ ـت الحلوة دي تكون وسطهم، دي تلز’مني أنا أنا أولىٰ بيها مش كدا؟.
أنهـ ـى حديثه ممازحًا إياها لتبتسم هي بسمةٌ خـ ـفيفة وهي تنظر إليهِ دون أن تتحدث ولَكِنّ أكدت على حديثه بإماءة صغيرة مِن رأسها لتتسـ ـع بسمتهُ على ثغره ويقوم بمعانقتها مِن جديد قائلًا:
_كلهم بأما’نة يعني حرا’بيق وأولهم مرات أبوكِ دي اللي شايفة نفسها بنـ ـت العشرين وهي كل ما تقوم أصلًا ضهـ ـرها بيطقـ ـطق.
ضحكت “فاطمة” رغـ ـمًا عنها على حديثه الذي كان موَّ’جهًا إلى زوجة أبيها التي تكر’هها ليُكمل هو حديثه حينما قال سا’خرًا:
_ولا ابن عمتك الشـ ـمام دا اللي شايفلي نفسه سلمان خان وهو بكبيـ ـره شبه د’يل البر’ص بأما’نة يعني وكدا أنا بكرمه بصراحة.
إزدادت ضحكاتها عن زي قبل لتسـ ـتمع بقية حديثه حينما أكمل وقال:
_ولا بنـ ـت عمتك التانية اللي شبه خِلـ ـة السنان دي اللي كانت فكراني رايح أتقدملها بدالك، دا مِن عدم سـ ـلكانها للبني أدمين اللي حواليها وشها أسو’د إيه يا بـ ـت الحقـ ـد دا.
_دي بقى اللي ز’علتني هي ومرات أبويا يا “لؤي”، جر’حوني أوي بكلامهم بجد أنا ماشية وقلبي وا’جعني أوي.
ردت عليهِ “فاطمة” بنبرةٍ باكية وهي مازالت كما هي لَم تبتعـ ـد عنهُ ليأتي الرد مِنهُ حاضرًا حينما وضع كفه على مو’ضع قلبها ممسّدًا عليهِ برفقٍ قائلًا:
_سلا’مة قلبك يا رو’ح قلبي، يمين بالله لو كُنْت معاكِ ما كانت واحدة فيهم قدرت تفتـ ـح بوقها معاكِ بس عشان خاطر دموعك دي ولأجل عيونك الحلوين دول أنا هروحلهم مخصوص إن ما ند’متهم على كلامهم دا مبقاش أنا، بس كلامي مش هيبقى مع الحر’يم أنا كلامي هيكون مع الرجا’لة اللي معرفوش يحكـ ـموا حر’يمهم، هروح أهـ ـزقهم وأرجعلك وليكِ عليا هعملك أحلى طبق فول بالز’يت الحا’ر بُصي هتاكلي صو’ابعك وراه مِن الحلاوة.
أبتسمت “فاطمة” وقد أبتعـ ـدت عن أحضانه وهي تنظر إليهِ مبتسمة الوجه لترى لمـ ـعة عينيه الرما’دية الصا’فية تنظر إليها تنتظر جوابها، أز’الت هي عبراتها عن صفحة وجهها بكفيها ثم قالت بنبرةٍ هادئة باكية وهي تنظر لهُ:
_أنا بحبك أوي يا “لؤي”، أنا فعلًا مليش غيرك.
أتسـ ـعت بسمتهُ وقد أقترب مِنها الخطى الفا’صلة بينهما ليقوم بمحاوطتها بذراعيه قائلًا:
_واللهِ يا ملكة أنا بحبك أكتر مِن أي حاجة فالدُنيا ويعـ ـز عليا أشوفك زعلا’نة بالشكل دا حتى لو أنا السـ ـبب، وحوا’ر إنك ملكيش غيري دا فأنتِ صح ١٠٠% مش عشان حاجة واللهِ بس عيلة الحرا’بيق دي أنتِ خسا’رة فيهم، ركزي معايا أنا أحسن أنا غـ ـلبان أوي وعايز حنان.
ضحكت هي على حديثه وأسلوبه في التحدث معها لتنظر إليهِ بوجهٍ ضاحكٍ وقد أجابتهُ قائلة بسخرية:
_غـ ـلبان أوي يا حبيبي أنا أشهـ ـد على الكلام دا فعلًا.
_تحبي أوريكِ إني فعلًا غـ ـلبان؟.
هكذا رد عليها “لؤي” يسألها ولَم ينتظر بعدها الإجابة فقد بدأ يقوم بد’غدغتها دون توقف وعن ضحكاتها فقد رنت عا’ليًا تشـ ـق سكون المنزل تُغد’ق أذنيه برنتهما العا’لية التي يُحب سماعها دومًا فمهما حد’ث هو لا يستطيع رؤية “فاطمة” بهذه الحا’لة الحز’ينة فقد أعتاد على رؤيتها تضحك وتصر’خ عا’ليًا، أعتاد على جـ ـنونها وبغـ ـض هدوءها فضحكتها تعني الحياة وهدوءها بالنسبةِ إليهِ كان كما المحكـ ـوم عليهِ بالإعد’ام شـ ـنقًا، وهكذا كان هو.
________________________
<“وبعد أن طا’ل الغيا’ب والغُربة،
عاد الحبيب اليوم وكأنه كالغريب.”>
بعد أن تم التواصل مع العديد مِن الرجا’ل ذو النفو’ذ الكبـ ـرى لتسو’ية الأمور وإخرا’ج هذا البـ ـريء مِن مُعتـ ـقله بعد أن تلقـ ـى التعذ’يب القا’سي الذي كاد أن يؤدي بهِ إلى المو’ت، كل هذا كان لأجل تد’ينه وألتز’امه بتعا’ليم وتقا’ليد وشـ ـريعة د’ينه؟ كل ما رآه فقط لأن الجميع رآوه في صورة _الأرها’بي_ وليس شيـ ـخًا وإمام مسجد وشا’بٌ بدلًا أن يتم تعذ’يبه وضر’به كما الجاسو’س الذي حاول دخو’ل البلا’د كان مِن المفترض أن تفتـ ـخر كل أُمٍّ بهِ وتتمنىٰ أن يكون و’لدها مثله، ولَكِنّ كان الو’اقع مُـ ـرًا وبشـ ـدة وقد د’فع ثمـ ـن ذلك بأشـ ـد قسو’ة..
تلك الصورة الكا’ذبة التي يقومون الناس بإقنا’ع أنفسـ ـهم بها بأن هذه اللحـ ـية لا يفعلها سوى _الإرها’بيين_ تناسوا أن اللحـ ـية هي جزءٌ مِن الر’جُل فليس مِن المشتـ ـرط أن يكون إرها’بيًا كونه بهذه الهـ ـيئة فهو لَم يُخا’لف شـ ـريعة ربه ويسير مستقـ ـيمًا ويُحاول تو’عية الشبا’ب والأطفال الصغار بعد أنتشـ ـرت الألفا’ظ البذ’يئة بين جميع الفئات العمرية حتى الأطفال الصغار وكأنها علـ ـكة في الفـ ـم، أصبحنا في زمنٍ الحر’ام فيه حلاً’ل حقًا ومثل هذا الشا’ب يد’فع ثمـ ـن أخـ ـطأٍ لَم يكتر’فها مِن الأساس حتى تتم معا’قبته عليها..
ولَكِنّ كانت إرادة المولى عز وجل فو’ق كل شيءٍ، صفت سيارة سو’د’اء با’هظة الثمـ ـن أسفـ ـل بِنْايته وقد كان سائقها “حُـذيفة” الذي وعد وأو’فى بوعده إليهِ، نظر إليهِ بهدوءٍ ليراه مغمض العينين والتعـ ـب الشـ ـديد با’ئنًا على تقا’سيم وجهه وجسـ ـده، مَدّ كفه يحتضن كفه المـ ـليء بالجر’وح ليراه يُفر’ق بين جـ ـفنيه بهدوءٍ والنعاس يُسيـ ـطر على جـ ـفنيه بشكلٍ واضحٍ، جاء صوت “حُـذيفة” يقول بنبرةٍ هادئة:
_حمدلله على السلامة يا “رمـزي”، وصلنا.
نظر “رمـزي” حوله ينظر إلى حارته الحبيبة التي تغـ ـيَّب عنها لمدةٍ طويلة يتفـ ـحص أرجاءها خلـ ـف ز’جاج السيارة الأسو’د ليأتي قول “حُـذيفة” الهادئ:
_تعالى هطـ ـلعك فوق أنتَ تـ ـعبان ومش هتقد’ر.
وقبل أن يتحرك ويترك السيارة منـ ـعه كف “رمـزي” الذي قبـ ـض على كفه برفقٍ، نظر لهُ بهدوءٍ ليراه ينظر إليهِ قليلًا قبل أن يقول بنبرةٍ هادئة متـ ـعبة:
_شكرًا يا “حُـذيفة”، شكرًا على كل حاجة بجد، شكرًا على وقفتك معايا ومسا’ندتك ليا وعد’م تخليك عنّي، بجد شكرًا مِن قلبي.
أبتسم “حُـذيفة” لهُ في المقابل وقال بنبرةٍ هادئة:
_متشكرنيش على حاجة يا “رمـزي” دي أقل حاجة بتعملها الصحاب لبعضها، أهـ ـم حاجة إنك خرجت الحمد لله ورجعت لأهلك ومراتك وولادك، مستنيينك ترجع جه دورك تفا’جئهم برجوعك … يلا يا “رمـزي”.
أنهـ ـى حديثه وقد ترجل مِن سيارته بعد أن نز’ع حز’ام الأما’ن ثم توَّجه إلى باب مقعده يفتـ ـحه وقد بدأ يُسا’نده بحذ’رٍ وقد كان هذا المسـ ـكين يتأ’لم لا يستطيع تحـ ـمُّل آلا’م جسـ ـده الد’امي وثيابه المتسـ ـخة والمـ ـلطخة بد’ماءه، أخذه “حُـذيفة” وصعد برفقتهِ إلى الطا’بق المنشو’د بهدوءٍ وحذ’ر شـ ـديد وقد كان حز’ينًا على ما وصل إليهِ “رمـزي” فلَم يكُن في منظوره سوى ضحـ ـية..
وبعد مرور دقائق كانت صعـ ـبة للغاية على “رمـزي” الذي يُصا’رع آلا’م جسـ ـده الدا’مي وصلا أخيرًا إلى الطا’بق المنشو’د وقد ضغـ ـط “حُـذيفة” على زر الجرس الذي صدح عا’ليًا في الداخل يُعلن ساكنيه عن وصول زائرٍ إليهم، ثوانٍ وجاء صوتها مِن الداخل تُخبره أن ينتظر قليلًا، نظر “حُـذيفة” إلى “رمـزي” وقد ربت على ظهره برفقٍ ثم نظر إلى الباب الذي ثوانٍ معدودة وفُتِـ ـحَ مِن قِبَل “تـسنيم” التي ما إن رأته أمامها أصا’بتها الصد’مة الشـ ـديدة..
جحـ ـظت عينيها بعد’م أستيعا’ب وهي تنظر إليهِ لا تُصدق أنه عاد إليها أخيرًا ويقف أمامها، وبالنسبةِ إليهِ حينما رآها وكأنه وجد ضا’لته في الصحراء الو’اسعة بعد بحثٍ أستمر طويلًا، شعر بالر’احة حينما رآها أمامه وكذلك قد شعر بآلا’م جسـ ـده تشـ ـن عليهِ حر’بًا لا بأس بها، ألتمـ ـعت مُقلتيها بالعبرات الكثـ ـيفة وهي لا تُصدق نفسها تشعر وكأنها تحلُم وستستيقظ في أيا لحظة، كان “حُـذيفة” ينظر إلى كليهما وهو يعلم مشاعر كلا الطر’فين جيدًا فهذا أصـ ـعب شعورٍ يُمكن للمرءِ أن يعيـ ـشه، سقـ ـطت عبراتها بغز’ارةٍ على صفحة وجهها وهي لا تصدق أنها عاد إليها لتنطـ ـق أسمه بشو’قٍ بلـ ـغ أشـ ـده تضع كفها على مو’ضع قلبها الذي كان ينبـ ـض بعنـ ـفٍ داخل قفـ ـصها الصد’ري:
_”رمـزي” حبيبي.
_”ما أشـ ـد أ’لمًا مِن ظن السو’ء،
أن تتهـ ـم نفـ ـسًا بغير حـ ـقٍ.”>
______________________________
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية جعفر البلطجي ) اسم الرواية