رواية نبع الغرام كاملة بقلم رحمة سيد عبر مدونة دليل الرويات
رواية نبع الغرام الفصل الرابع عشر 14
للحظات شعرت وكأن أحدهم وضع قنبلة موقوتة بين ضلوعها، ثم في حركة مباغتة إنفجرت ممزقة إياها لفُتات أنثى أُصيبت غدرًا في أكثر مواقعها ضعفًا؛ في قلبها !
فيما نظر “ظافر” نحو “منى” شزرًا بنظرات مغموسة بالغيظ والتوعد، فغمزت له بشقاوة بطرف عينها، نجحت أخيرًا ليلى في قطع الصمت الذي أطبق على جوفها يمنعها من إخراج حروفها، فخرج صوتها متحشرج رغمًا عنها:
-الكلام دا صح؟
حواطت الشفقة أطراف قلبه على حالتها ووجهها الذي شحب، فكاد ينفي بتلقائية، إلا أنه وبنظرة نحو “منى” التي شجعته بصمت على متابعة تمثيلها اللئيم، واستجابةً لقلبه التي يجهر مطالبًا بالاقتران علنًا ولكنها بعنادها تُصر على الانفصال، كان يؤكد برأسه قائلًا بصوت أجوف:
-ايوه، منى مرتي الاولى.
إن كان صمته منذ ثوانٍ مزقها، فتأكيده الآن أحرق الفُتات المتبقية منها لتشعر بنفسها بلا روح!
فيما أشار ظافر برأسه لمنى بجدية:
-سيبينا لوحدنا لو سمحتي يا منى.
توسعت حدقتا ليلى بذهول حقيقي حتى ترآت له سكينة الغدر المغروسة في عمقهما، لم ينفعل ويثور في وجه تلك الحرباءة لأنها أخبرتها، بل ظل هادئًا كما هو وكأن معرفتها من عدمها لا تهمه… بل وكأنها هي أصلًا لا تهمه !
خرجت منى بالفعل دون أن تنبس بالمزيد، فيما هتفت ليلى ببطء وكأنها تحاول الاستيعاب:
-يعني إيه؟
صمتت برهة ثم صرخت فجأة بألم وهي تشعر بجلدة الادراك تلسعها بشدة:
-أنت ازاي عملت كدا، ازاي !!
هز كتفاه معًا ببساطة قاتلة وهو يهتف:
-الشرع محلل ليا أربعة، إيه المشكلة ؟
فهدرت من بين أسنانها بحروف تفور من فرط الغضب كبركان في أوج غليانه:
-عندك حج، إيه المشكلة.. إيه المشكلة لما تتچوز واحدة واتنين وعشرة ما كدا كدا المغفلة نايمة في شهر العسل.
نفى بهدوء وثبات مغيظ:
-أنا ماخبيتش عنك حاچة، ولا كدبت.
صرخت فيه باهتياج حتى شعرت بتمزق أحبالها الصوتية:
-بس ماجولتليش، أنا من حجي أختار وأقرر.
ولكن رغم ذلك لم يغضب، إلتمس لها العذر في داخله، وأردف بنبرته الرجولية الرخيمة يواجهها:
-أنتي ماسألتيش لما اتچوزنا عشان أجولك، أنتي ناسية أحنا اتچوزنا ليه أصلًا ؟
تنفست بصوتٍ عالي وصمتت لثوانٍ قبل أن تخبره بلهجة حكت كبريائها المشروخ:
-لا مش ناسية، بس مش أنا اللي أبجى زوچة تانية، طلجني.
لم يهتز إنش من قسمات وجهه بل ظلت جامدة ضبابية وغير مقروءة، و بنظرة مُظلمة عميقة كان يتفوه:
-في قاموسي مفيش طلاج، أنتي بجيتي مرتي وهتفضلي مرتي لأخر يوم في عمري.
هزت رأسها تردف بتحدي وعزم والغل والغيرة يشتد فتكهما بقلبها:
-يبجى هخلعك.
إلتوت شفتاه بابتسامة صغيرة ساخرة قبل أن يقول بثقة كرهتها:
-الظاهر إنك ماتعرفينيش، لو تعرفي تخلعي ظافر العبادي اعمليها.
ثم اقترب منها خطوتان حتى وقف أمامها مباشرةً، أنفاسه تصفع وجهها الذي احمر من فرط الانفعال والغضب، مال نحوها بوجهه ومن ثم همس بخشونة قُرب اذنها:
-من أول يوم شوفتك فيه في بيتنا جولتلك أنتي چيتي ليا برچليكي وملكيش مهرب او خلاص مني.
دفعته ليلى بعنف حتى ارتد عدة خطوات للخلف، ثم صدحت زمجرتها المجروحة وعينيها مُلبدة بالدموع كغيوم مُظلمة ولكنها تمنع تحريرها بجسارة:
-أنت ازاي كدا ؟ ازاي جادر توچع اللي جدامك بكل بساطة وهدوء وكأنك ماعملتش أي حاچة، ارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء !
عاد ظافر ليقترب منها مرة اخرى، ثم سألها بنبرة ذات مغزى، مُصممًا على الضغط على منبع ألمها ونقطة ضعفها لتخر مستسلمة معترفة بكل ما تأبى الاعتراف به :
-وچعتك ليه ؟ إني أكون متچوز او مش متچوز إيه اللي يوچعك في كدا ؟ مش أنتي أصلًا كارهاني وعايزانا نتطلج؟
لم تفكر وهي تنفي برأسها لتوئد ظنه:
-لا طبعًا أنا مش بكرهك.
قاوم ابتسامة مستذئبة صارعت عبوس شفتيه لتظهر، ثم سألها بخفوت ماكر:
-امال إيه؟ بتحبيني؟
بدت وكأنها تعود للخلف الخطوة التي إندفعت بها دون وعي، حيث استطردت بفظاظة وبنظراتٍ اهتز ثباتها وكاد ينال منها الارتباك:
-على أنت فكرة أنت خبيث، بتغير الموضوع ليه؟
ففسر لها بنفس الهدوء المدروس:
-عشان كل المواضيع دي متصلة ببعضها، چوازي من منى كان مچرد كتب كتاب، وأچلت الفرح عشانك، عشان حبي ليكي، عشان مش عارف أشيل حبك من جلبي، وكنت ناوي أتكلم مع منى ونخرچ بالمعروف زي ما دخلنا بالمعروف، لكن بما إنك مش طايجة تكوني مرتي ولا صابرة على الطلاج، فـ خلاص، من حجي أنا كمان أدي نفسي فرصة وأشوف حياتي يمكن هي تعرف تخليني أحبها.
أخذ شهيق بصوتٍ عالٍ ثم أضاف بصوت أجش:
-فـ ماتحسسينيش إني خاين وغدار وغدرت بيكي وأنتي أصلًا مش فارج معاكي.
نبشت مخالب مكره في جرحها الذي ينضح بغيرة ضارية، فصاحت فيه بشراسة وهي تضرب صدره بقبضتيها عدة مرات بجنون:
-أيوه أنت خاين وغدار، وطبعًا فارج معايا عشان أنا بحس مش زيك.
قبض على يديها لاصقًا إياها بصدره وهو يجذبها نحوه، متسائلًا بخشونة يشوبها شيء من اللهفة:
-فارج معاكي ليه؟ بتحسي بإيه يا شيكولاتة؟ جوليلي وريحيني من عذابي وأنا هجولك اللي هيريح جلبك.
حاولت دفعه بعيدًا عنها بلهجة فظة مغتاظة:
-اوعى سيبني، سيبني واشبع بيها.
ولكن على العكس أحاط خصرها وجذبها نحوه أكثر بقوة حتى إلتصقت به، واسترسل بنبرته الرجولية العميقة التي لاح فيها التعب:
-ياريتني عارف أسيبك، أنتي عاملة زي اللعنة اللي بتعذبني ومع ذلك مش عارف أبعد عنها.
سكن اهتياجها قليلًا، فتابـع ظافر بصلابة لا تقبل النقاش:
-ومش هاسيبك غير لما تجولي اللي أنا شايفه في عنيكي.
كثرة الضغط يولد الانفجار، وهذا بالضبط ما حدث الان، إنفجرت زجاجة الصمت داخلها وهدرت ليلى بأعصاب منفلتة:
-فارج معايا عشان أنا بحبك، خلاص ارتحت يا ظافر بيه؟
بلحظة كان شفتاه تقبض بلهفة وشغف على شفتيها التي أثلجت نيران روحه باعترافها الرائع، يتذوق حلاوة ذلك الاعتراف بينما يشعر بكل خلية منه تهلل فرحًا… نبع الشيكولاتة تحبه، تحبه وتغار عليه بجنون أيضًا !
ابتعد أخيرًا بعد لحظات، ليغمغم من بين لهاثه بلهجة مثخنة بالعاطفة:
-ارتحت، ارتحت يا جلب وعمر ظافر.
جاهدت ليلى بوهن لتتملص من بين ذراعيه وهي تهز رأسها نافية باختناق:
-سيبني، أنا مستحيل أرضى بالوضع دا حتى لو هموت من غيرك.
تبًا… للحظات نسى فعليًا أمر تلك الزيجة الوهمية!
انتشى قلبه باعترافها الضمني أنها ستموت من دونه، وأفترت شفتاه عن ابتسامة صغيرة مستمتعة قبل أن يواصل ببراءة زائفة:
-وضع إيه معلش عشان نسيت؟
عنفته وهي تضربه في صدره بعنف وعينيها الناريتين تشتعل بغيظ وغيرة لاهبة:
-نسيت؟ نسيت العجربة اللي برا اللي أنت متچوزها.
فتأوه ضاحكًا قبل أن يقول من بين ضحكاته:
-خلاص افتكرت افتكرت، بس يا حبيبتي اللي انتي بتجوليه دا عيب وحرام.
عقدت ما بين حاجبيها بعدم فهم حقيقي:
-هو إيه دا ؟ أنت بتستعبط؟
فهز رأسه نافيًا بصدق ونبرة شقية:
-لا والله، بتكلم بجد، أصل اللي أنا أعرفه إن الواحد ماينفعش يتچوز أخته في الرضاعة، والعجربة اللي برا بنت خالتي وأختي في الرضاعة.
أجفلت ملامحها وتصنمت مكانها كتمثال من شمع لدقيقتين تقريبًا، ثم غمغمت بعينين متسعتين يحلق فيهما عدم الاستيعاب:
-أنت آآ….
ثم قطعت كلماتها قبل أن تسبه دون وعي، فتلاعب ظافر بحاجبيه وهو يتشدق:
-ذكي چدًا وبتموتي فيا، عارف.
وفجأة انفجرت ليلى في بكاءٍ عنيف كانت تكتمه حتى لا تهين وتذل كرامتها بالبكاء أمامه..
فكانت الصدمة من نصيب ظافر هذه المرة، وارتبك فعليًا مصدوم من بكائها المفاجئ، إلى أن أحاط وجهها بيديه معًا يسألها بحنان:
-طب عملت إيه أنا دلوجتي بتعيطي ليه؟
أبعد يداه عن وجهها وهي تردد من بين بكاءها بحنق:
-اوعى يدك كدا، أنت لعبت بيا وبأعصابي وكنت عمال تتسلى عليا أنت والسنيورة بنت خالتك.
فضرب رأسها بأصابعه برفق وراح يستطرد بغيظ:
-طب أعمل إيه في دماغك الناشفة دي هي السبب، حتى البت صعبت عليها من الغلب اللي بشوفه على يدك وقررت تساعدني من غير ما أطلب منها تعمل كدا.
رمقته شزرًا فأمسك يدها وتخلل أصابعها بأصابعها قائلًا برقة حانية:
-طب خلاص حجك عليا، مش هتيچي أعرفك عليها ولا إيه؟
ولكنها أبعدته وهي تتمتم بصوت أجش يلوح به الاستهجان:
-اوعى يدك ماتلمسنيش، جال يعني هتعرفني على الأميرة ديانا.
ضحك ظافر دون صوت ولم يعقب مراعيًا غضبها، فسارت ليلى أمامه متجهة للخارج، وما أن خرجت من مكتبه ورأت تلك الخبيثة المدعوة “منى” وتذكرت ما فعلته، غلت الدماء بعروقها ولم تشعر بنفسها سوى وهي تقترب منها وتضيف بنبرة ذات مغزى، وبابتسامة سمجة خالية من المرح:
-بعد كدا يا أخت چوزي يا حبيبتي ماتبجيش تهزري مع حد ماتعرفيهوش عشان ممكن يمسك الزهرية ويحدفك بيها يشوه وشك الچميل اللي أنتي فرحانة بيه دا.
تثبتت منى مكانها لثوانٍ مبهوتة أمام غضبها قبل أن تضحك معتذرة بصدق:
-معلش ماتزعليش أنا عارفة إننا زودنا العيار شوية.
غمغمت ليلى بصوت مكتوم وقد لان غضبها قليلًا:
-شوية؟ جولي شويتين تلاتة، بس هجول إيه يلا كله عند ربنا.
****
بعد أيام…
جلس “أيوب” أمام الشرفة يقبض على السيجارة بين أصابعه ويدخن بشراهة بينما عيناه شديدة الظلام تحوم فيها أشباح الماضي، مُسلطة على البناية أمامهم والتي يأتي منها صوت طفل يبكي بشدة ويصرخ متوسلًا وتعلو أصوات تألمه بينما ويبدو من الصوت أن والده يضربه، كان يحاول تمالك نفسه وطرد تلك الأشباح، ولكنه لم يفلح، يومض عقله بصور سوداء لنفسه حين كان طفلًا وكان في نفس الموقف باختلاف أنه كان يتعرض لهكذا موقف مرارًا بينما لا يعلم هذا الطفل مثله ام لا.
رمى السيجارة أرضًا ضاغطًا عليها بعنف، ثم هدر من بين أسنانه وقد فقد المتبقي من ذرات تحكمه بعد استمرار صراخ الطفل:
-لا كدا زودها جوي، والله ما هسيبه.
نهض وكاد يتحرك ينوي المغادرة ولكن وجد أمامه “غرام” التي كانت تراقب صراعه الداخلي عن كثب بقلبٍ يتلوى ألمًا على حاله ورغبةً في احتواءه، رغم أنها خلال الأيام السابقة كانت تجافيه، صحيح أنها لا تخاصمه تمامًا ولكن لا تتحدث معه إلا عند وجود سبب.
حاد عنها ينوي الخروج وهو يقول بصوت أجش:
-اوعي يا غرام، مش هسيبه يعمل فيه كدا وأفضل أتفرچ.
أمسكت ذراعاه معًا تربت عليهم برفق مرددة بجدية، تُمثل الوجه الآخر المتعقل منه، والذي خبى في هذه اللحظات:
-مش هينفع تروح تتشاكل معاه في الأول وفي الأخر دا أبنه وممكن المشكلة تكبر وفي الأخر الناس مش هيغلطوا حد غيرك وأبسط كلمة هتتجالك وأنت مالك؟
رشقت نظراته المستنكرة في وجهها، مستطردًا بعدم تصديق:
-أنتي عايزاني أفضل أتفرچ كدا وكأن دا الطبيعي؟
هزت رأسها نافية بهدوء:
-لا طبعًا محدش جال إن دا الطبيعي، بس والله ما هينفع تروح وأنت متعصب كدا، ممكن تحل الموضوع بطريجة تانية.
سألها لاويًا شفتاه ولم يستسيغ اقتراحها:
-طريجة إيه يا صاحبة العجل والحكمة؟
تنهدت غرام وهي تفكر، تود تعطيله عما ينوي ولكنها لا تدري كيف، جاءها الحل الالهي حين توقف صوت الطفل، فقالت بلهفة فرحة وهي تشير له:
-اهو سكت، شوفت؟ ممكن يكون عمل حاچة غلط وأبوه بيأدبه كلنا أهالينا كانوا كدا يا أيوب، مش شرط إنه عشان بيضربه يبجى هو أب جاسي ومابيحبهوش.
ودت لو تكمل “كوالدك” ولكن حمدت الله أنها كبحتها في اللحظة الأخيرة، فيما شعر أيوب بعلقم الذكريات يمرر حلقه، وتلفظ بنغمة تقرع وجعًا دفينًا:
-بتجولي كدا عشان ربنا كرمك بأب سليم نفسيًا وحنين، مش أب سادي بيتلككلك عشان يضربك ويعذبك وكأنه بيستمتع بألمك عمال على بطال.
لأول مرة يبوح لها علنًا بما صُبغت به روحه المشوهة، فصمتت تترك له المساحة ليُفرغ ما بجبعته، وبالفعل استرسل وهو يرتمي بجسده على الأريكة بانهزام:
-مع أصغر وأجل غلطة كان بيضربني، ومش ضرب عادي، لا ضرب مؤلم چدًا يسيب أثر، حتى إني أحيانًا كنت بفكر إنه ممكن يكون مش أبويا زي ما بشوف في الأفلام، وفضلت اسأل أمي، بس للأسف اتأكدت إنه أبويا.
وراح يتذكر احدى لياليه القاسية على يد والده وهو يقص عليها…
حين كان في الثالثة عشر من عمره، عاد من المدرسة بعد شجاره مع أحد الفي الفصل، فاستدعى المسؤولين في المدرسة والده كاجراء روتيني للتنبيه على عنف كليهما واشتكت له أنه أحيانًا لا يقوم بعمل واجباته المدرسية، ولكن بالنسبة لوالده لم يكن كذلك، بل كان باب جديد فُتح أمامه ليزج “أيوب” في جحيم عقابه، خاصةً أن والد الطفل الذي تشاجر معه كان بينه وبين كامل عمل مشترك، وأكثر ما يمقته كامل أن يمس أحدهم عمله وأمواله حتى ولو بطريقة غير مباشرة.
دفع أيوب داخل غرفته بعنف، ثم تحرك يبحث عن العصا التي خصصها لضربه، وعاد له آمرًا بنبرة غليظة:
-افرد يدك.
تردد أيوب بخوف ولم يمد يده، فصاح فيه كامل بقوة:
-جولت افرد يدك حالًا يا بن الكلب.
لم يجد أيوب مفر من اطاعته، خاصةً وأن والدته ليست في المنزل لتحاول انقاذه إن تمادى حتى وإن فشلت معظم الاوقات، ففرد يده أمام والده، ليضربه بالعصا على ظاهر يده بعنف شديد، متعمدًا ضربه على ظاهر اليد وليس باطنها لتؤلمه أكثر، ظل يضربه مرة بعد الاخرى وهو يردد بقسوة:
-مش يدك دي اللي ضربت بيها الواد وچيبتلي الكلام وكنت هتبوظلي شغلي مع أبوه كمان؟ وماكنتش بتعمل بيها الواچب؟ أنا هخليك ماتعرفش تستخدمها تاني يا ****
ظل أيوب يبكي وهو يبعد يده عنه يشعر بألم ساحق كما لو أن عظام يده قد كُسرت، ثم تكوم أرضًا حين إنقض عليه كوحش لا ينتمي للبشر بأي شكل من الأشكال، يضربه بالعصا في أماكن متفرقة من جسده الصغير بعنف زائد عن الحد وكأنه عدوه وليس ابنه، بينما الآخر يصرخ متألمًا وهو يتوسله:
-خلاص والنبي، والله ما هضرب حد تاني خلاص ابوس ايدك.
ولكن كامل لم يتوقف، لم يتأثر بتوسله ولو ثانية وكأنه يحمل بين ضلوعه صخرة وليس قلب بشري، راح يزمجر فيه بشراسة:
-دلوجتي عمال تتذلل زي النسوان؟ وهناك عاملي سبع رجالة في بعض وبتضرب الواد؟
وواصل ضربه بتشفي، فصاح أيوب من بين شهقاته المختلطة بالألم الذي تصرخ به كل خلية من خلايا جسده:
-هو اللي ضربني الأول، والله العظيم هو اللي ضربني الاول، خلاص بالله عليك كفاية.
ولكنه ظل يردد على مسامعه دون توقف بقسوة مدوية
” أنت فاشل وصايع وبلطچي وملكش لازمة وهتفضل طول عمرك ملكش لازمة كدا ”
عاد من ذكرياته شاهقًا بعنف وأعصاب جسده تشتد ويستنفر، وكأن الألم يحيا من جديد في جسده تزامنًا مع عودة الذكريات، والدموع تسبح في عينيه كنهر جاري من الوجع… ثم صدح منه هسيس خافت:
-من ساعتها بجيت بخاف أضرب اللي يضربني عشان عارف هو هيعمل إيه، فالأسهل استحمل ضرب العيال، وهو كان مبسوط بكدا، أهم حاچة إن محدش يوچع دماغه بشكاوي، سابني في اليوم دا مربوط بحبل في يد الكرسي ويدي ماكنتش حاسس بيها، لحد ما أمي رچعت من برا بعد كام ساعة واخدتني للدكتور واكتشفت إن ايدي اتكسرت.
بينما غرام غار قلبها في ألم مماثل ضاري، لا تستوعب كيف يفعل أب هكذا بابنه، وليس في موقف واحد بل طوال حياته !
اقتربت منه أكثر حتى صارت شبه ملتصقة به، ثم سألته بتردد تخشى أن تثير غضبه وهو في هذه الحالة، خرج صوتها مبحوح مختنق بالدموع:
-ممكن أخدك في حضني؟
لم ينطق أيوب بل دفن رأسه في صدرها وأحاطها بذراعيه، مغمضًا عيناه لتنساب دموعه المحبوسة دون شعور منه لأول مرة بعد وفاة والدته، بينما غرام تُقبل رأسه عدة مرات دون توقف وهي تردد بصوت يتدفق حنانًا تحاول ازالة ما وشمه والده في جدرانه الداخلية:
-أنت أحسن وأحن راچل شوفته في حياتي، هفضل كل يوم أحمد ربنا إنه رزجني بيك عشان تبجى سندي وضهري.
مرت دقائق وهدأ أيوب شيئًا فشيء وسط أحضان غرام التي أفرزت كل الطاقة السلبية والحقد الذي كان يموج بجسده ولطفت جروحه التي تقرحت بحنانها، ثم سمعها تقول بهدوء شارد:
-أنا هاخد برشام منع الحمل، لحد ما أنت بنفسك تطلب مني أبطله.
رفع أيوب رأسه نحوها وقد توهجت سوادوتاه، كل مرة تبهره أكثر من التي تسبقها؛ بحنانها وعطاءها غير المحدود، أمسك يدها طابعًا على باطنها قبلة عميقة حملت امتنانه وعشقه.
فيما قالت هي بشغف وحب بينما تداعب خصلات شعره:
-أنت كفاية عليا، أنت أبني وأبويا وأخويا وچوزي وكل عيلتي، ومتأكدة إنك هتكون أحسن وأحن أب في الدنيا، إذا كنت ماسكتش عن ضرب وأذى الغريب، فما بالك بإبنك بجا ؟
نهض أيوب ثم قرب رأسها منه ليلتقط شفتاها بين شفتيه بنهم وعشق ملأ قلبه وروحه لها حد التخمة، ممتنًا لكل ما تفعله وتقدمه له، فقط في عينيها حبيبتيه يرى أنه آخر.. أنه ليش مشوه النفس، بل مكتمل من كافة النواحي، وكأنها ترى فيه كل ما هو جميل فقط وتعكسه عليه.
قطع قبلته أخيرًا، هامسًا بصوت خشن مبحوح:
-أنا بعشجك، بعشجك يا زينة البنات.
كان أيوب قد خرج من المتجر الخاص به ليقوم بشيءٍ ما، تاركًا فيه الصبي الذي يعمل معه، ولكن حين عاد للمتجر أحس أنه فارغ، تجهمت ملامح وجهه بسخط وتوعد لذلك الصبي المهمل بالعقاب، وما أن دخل حتى رأى عمله الاسود في الدنيا “كامل” وهو في الركن الذي يخصه كصاحب المتجر والذي فيه مكتبه والأموال، ويفتح احد الادراج التي بها الأموال ويأخذ منها واضعًا إياها في جيب جلبابه بسرعة..
صاح فيه أيوب بعدم تصديق وغضب كاسح جرفه فجأة:
-أنت بتعمل إيه هنا يا حرامي؟
تجمد كامل مكانه لبرهة يفكر سريعًا دون أن يستدير نحوه، ونظر للعصا أمامه التي أخذها معه كاحتياط، ثم أمسك بتلك العصا ببطء حتى لا يشعر به أيوب، وبحركة مباغتة غير متوقعة استدار وضرب بها أيوب على رأسه بعنف جعل أيوب يتأوه بألم شديد قبل أن يسقط أرضًا فاقد الوعي وقد بدأت رأسه تنزف من شدة الضربة، وكأن كامل “والده” يحاول قتله حتى لا يقف أمام جشعه !!!!!!
****
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية نبع الغرام ) اسم الرواية