رواية مطلوبه للانتقام الفصل التاسع 9 - بقلم هبه ابو الفتوح
كانت شمس ما بعد الظهيرة تتسلّل بخفّة إلى الشارع المزدحم بالمارة، والهواء يحمل رائحة الزهور المنثورة من كل صوب.
وقفت الفتيات أمام محل الورود يتأملن الألوان المتناثرة على الرفوف، كلٌّ منهن تختار باقتها للحفل الكبير بعد يومين. ضحكاتهم الخفيفة امتزجت برائحة الورد والياسمين، غير أنّ تولين كانت صامتة، تحدّق في الزهور بحيرةٍ وشرودٍ غريب.
وقفت أمام باقاتٍ كثيرة، أناملها تعبث بإحدى الورود ثم تعود لتتردد، كأنّ قلبها لا يعرف ماذا يريد تمتمت لنفسها بنبرة خافتة:
ـ يعني هشتري ورد النهارده وأرميه بعد بكرة… مالهوش ذنب يدبل ويموت عشان يوم.
كانت ملامحها حزينة رغم كل البهجة من حولها، حتى أتى صوته من خلفها:
ـ عشان كده أنا ما خلتوش يدبل.
التفتت بدهشة، فوجدت يمان يقف خلفها ممسكًا بباقةٍ مختلفة عن كل ما رأت في المحل؛ وردٌ أحمر مصنوع بعناية من شرائط الستان، تلمع كأنها بتلات حقيقية، ملفوفة بورقٍ أسود فخمٍ يعانق اللون كسرٍّ غامض.
تقدّم نحوها ومدّ يده بالباقة قائلاً بابتسامةٍ هادئة:
ـ دي ليكِ. مخصوص.
حدّقت فيها بدهشة، ثم مدّت يديها ببطء لتأخذها رفعتها إلى أنفها، فوجدت رائحة الورد الحقيقي تعبق منها، فشهقت بخفة وقالت وهي مبتسمة بعينين دامعتين:
ـ دي ريحتها زي الحقيقي بالظبط! إزاي؟
ابتسم بثقة وقال:
ـ عرفت إنك بتحبي الورد جدًا… بس بتزعلي لما بيدبل بسببك.
فقلت أعمل لكِ وردة ما تموتش…
تفضل معاكِ على طول.
ظلت صامتة للحظات، تنظر إلى الباقة كأنها أغلى ما رأت يومًا، ثم رفعت عينيها إليه، و الامتنان والدهشة يتقاطعان فيهما، وقالت بصوتٍ مبحوح:
ـ أنا… مش عارفه أقولك إيه، بجد دي أحلى حاجه حد عملهالي في حياتي.
ظهر الخجلٌ على وجهها، وارتسمت ابتسامة ناعمة على شفتيها، كأنها في لحظةٍ صافية نسيت كل ما حولها.
اقتربت إحدى الفتيات بخفةٍ، التقطت الباقة من يديها بدهشة قائلة:
ـ يا لهوي! دي تحفة، دي أحلى من كل اللي في المحل!
وتجمّعت البقيّة حولها يُدلين بإعجابهن
شعرت تولين بشيءٍ غريب في صدرها، كأن حرارةً خفيفة اشتعلت بداخلها، فأخذت الباقة منهن بسرعة وقالت مبتسمة بخجلٍ مصطنع:
ـ خلاص خلاص كفاية، البوكيه ده بتاعي!
خرجت من المحل بخطواتٍ متسارعة، ووقفت أمام الباب تنتظرهن وهي تضم الباقة إلى صدرها كأنها تخشى أن تُنتزع منها.
لم تمضِ لحظات حتى سمعَت صوته من خلفها من جديد، بهدوئه المعتاد، يقول وهو يسند ظهره إلى سيارته وذراعيه مطويتان أمام صدره:
ـ يعني… عجبك البوكيه ولا لا؟
استدارت إليه، ترفرف ابتسامة خفيفة على شفتيها، وقالت وهي تحاول أن تُخفي ارتباكها:
ـ بصراحه؟ عجبني جدًا… وما كنتش متخيله إن في حد ممكن يعمل كده عشاني.
كل مرة كنت بمسك فيها ورد كنت بحس بالذنب إنه هيموت بسببي… بس المرة دي لأ، المرة دي فرحانة…
سكتت فجأة، وارتجف صوتها قليلًا، كأن الكلمات خنقتها قبل أن تكمل، ثم رفعت الباقة إلى صدرها وابتسمت بعينين تلمعان بالدموع.
قالت بصوتٍ خافتٍ مبحوحٍ بالعاطفة:
ـ شكراً يا يمان… شكراً إنك خلّيتني أحس إني لسه أستحق إن حد يفرّحني كده.
وقف هو يتأملها بصمتٍ عميق، وفي عينيه تلك النظرة التي تجمع بين الإعجاب والحنان والدهشة من بساطتها…
وها قد أتى اليوم الموعود…
تزين الحرم الجامعي بألوان البهجة والسرور، وارتدت الجدران ثوبًا جديدًا من الزينة والورود التي تناثرت على الممرات، بينما صدحت الموسيقى الهادئة في الأرجاء إيذانًا ببداية يومٍ لا يُنسى.
الفتيات تجهزن بكامل أناقتهن، والطلاب وقفوا متأهبين بقلوبٍ تخفق بالفخر، أما أولياء الأمور فقد بدت على وجوههم ملامح الفخر والعمر الذي مرّ بين تعبٍ وسهرٍ وانتظار، ليشهدوا اليوم ثمرة أعوامٍ طويلة من الجهد.
في قلب الساحة كان يمان يقف مرتديًا بدلته الأنيقة، عاقدًا ذراعيه، يراقب بعينٍ يقظة كل تفصيلة في المكان.
كانت التحضيرات تجري على قدمٍ وساق، والوقت يمرّ سريعًا، إلا أنّ تولين كانت تشعر بتوترٍ شديد يكاد يلتهمها من الداخل، فهي المكلّفة بتقديم حفل التخرّج، وكل الأنظار ستتجه نحوها بعد قليل.
لاحظ يمان ارتباكها وهي تراجع أوراقها مرارًا، تتنفس بقلق وتعض على شفتها كلما التفت أحدٌ نحوها، فاقترب منها بخطواتٍ ثابتة، وصوت هادئ كعادته:
ـ ما تخافيش يا تولين، كله هيبقى تمام، انتي متقلقيش، أنا معاكِ.
رفعت رأسها نحوه بابتسامةٍ خفيفة حاولت أن تخفي خلفها رجفة قلبها، وقالت وهي تزفر أنفاسها ببطء:
ـ أنا مش عارفه ليه قلبي بيدق كده… حاسه إن كل الدنيا بتتفرج عليا!
ضحك بخفةٍ وهو ينظر إليها نظرة دعمٍ صافية:
ـ طبيعي جدًا، ده يومك الكبير، بس صدقيني أول ما تبدأي الكلام، كل التوتر ده هيختفي.
لكن لم يكن التوتر وحده ما يملأ المكان، إذ تأخر عامل الورود المسؤول عن تزيين المنصة، وبدأ القلق يزداد مع اقتراب موعد دخول الطلاب.
رأت تولين وجوه المنظمين وقد ارتسم عليها الانزعاج، فوقفت مكانها عاجزة لا تعرف ماذا تفعل، إلا أنه تقدّم فورًا، أخرج هاتفه من جيبه واتصل بأحد معارفه قائلاً بنبرةٍ حازمة:
ـ أيوه يا خالد، محتاجك دلوقتي فورًا، الزينه لازم تخلص خلال نص ساعه، ابعت الفريق بتاعك على طول.
ثم التفت إليها وهو يبتسم مطمئنًا:
ـ خلاص، الموضوع تحت السيطرة، ما تقلقيش من حاجه.
تابع بنفسه تركيب الورود وتنسيق الألوان، حتى بدا المكان كلوحةٍ من الجمال والاتقان، وكلما نظرت إليه تولين شعرت بفخرٍ لم تعرفه من قبل، كانت تراه يتحدث مع كبار المسؤولين بثقةٍ واحترام، و يتبادل التحية مع بعض الضباط الذين حضروا الحفل.
وعندما علمت أنهم يعرفونه جيدًا، وأن بعضهم من أصدقائه القدامى، شعرت بفخرٍ أكبر، وكأنها هي صاحبة هذا الشأن.
كانت تراقبه بعينٍ مفعمة بالامتنان، وكل مرة يلتفت نحوها ويبتسم، كانت تشعر أن قلبها يرتاح أكثر.اقترب منها مجددًا، وأردف:
ـ شدّي حيلك يا تولين، خلاص فاضل دقايق ونبدأ، وعايزك تبقي قدّها زي ما أنتِ دايمًا.
ضحكت بخجلٍ وقالت:
ـ طب ما تبطل تقول كلامك ده عشان بيخليني أتوتر أكتر!
ـ لا، ده بيخليكي تبتسمي… وده أحسن من التوتر ألف مرّة.
ضحكت من جديد، وهذه المرة كانت ضحكتها حقيقية، خفيفة من القلب، وكأنها أزاحت عن صدرها جبلاً من القلق.
وبعد لحظاتٍ، دوّى صوت المنظّم عبر مكبّر الصوت معلنًا:
ـ تمّ فتح الأبواب، نُرحّب الآن بدخول الطلاب أولاً، ومن بعدهم أولياء الأمور.
اصطفّ الجميع في أماكنهم كما تدربوا بالأمس، وبدأت الوجوه المشرقة تملأ الساحة، بينما كانت تولين تقف خلف المنصة، تحمل في قلبها مزيجًا من الفخر والخوف والسعادة ها قد بدأت تشعر بأنفاسها تتلاحق، وبرودة غريبة تسري في أطرافها، كأن الدم قد جمد في عروقها. كانت واقفة خلف الكواليس تنتظر لحظة صعودها إلى المنصّة، والرهبة تتملّكها رويدًا رويدًا، حتى كادت تبكي من شدّة الارتباك والخوف.
في تلك اللحظة، كان يمان يقف أسفل المنصّة يتابع بعينيه تفاصيل الحفل، يوزّع نظراته بين الطلاب والمقاعد والحضور، إلى أن لاحظ غيابها المفاجئ وتأخرها عن الموعد المحدد لصعودها. اتسعت عيناه بدهشة، فالتفت بخطوات سريعة نحوها، حتى وجدها واقفة وحدها خلف الستار، ترتجف، ودموعها على وشك الانهمار.
اقترب منها، وصوته محمّل بالحنان:
ـ تولين؟ مالك؟ في إيه يا بنتي؟
نظرت إليه بعينين تلمعان بخوفٍ وقالت:
ـ خايفة يا يمان... والله مش قادرة أطلع، حاسة إن رجليا مش شايلاني...
ابتسم رغم قلقه، ومدّ يده يمسح على كتفها برفق:
ـ ما تخافيش، كل اللي هنا بيحبوكي. العميد واثق فيكِ، وأنا كمان. وأنتِ قدّها يا تولين، فاهمة؟
ـ بس... لو نسيت الكلام؟ لو غلطت؟
ـ مش هيحصل أنا متأكد إنك هتبهريهم كلهم، زي ما بهرتيني أول يوم شُفتك فيه. صدقيني، أنا فخور بيكِ من قبل ما تطلعي.
كانت كلماته كفيلة بأن تبعث الدفء في أوصالها. تنفّست بعمق، استجمعت قوتها، رفعت رأسها، وابتسمت له بخجلٍ لطيف ثم قالت:
ـ أدعي لي بس.
أومأ وهو يبتسم:
ـ أنا بدعيلك من أول ما عرفتك.
ثم تقدّمت نحو المسرح، واعتلت المنصّة تحت أضواءٍ بيضاء زاهية. ارتجّ صوت الميكروفون حين أمسكت به، لكنها تماسكت سريعًا، وبدأت حديثها بترحيبٍ دافئ للحضور راحت تنادي أسماء أوائل الدفعة واحدًا تلو الآخر، بابتسامةٍ مليئة بالفخر، إلى أن انتهت.
اقترب منها العميد وهو يصفّق بحرارة، وعيناه تلمعان بالإعجاب، ثم سلّمها ظرفًا أنيقًا وقال مبتسمًا:
ـ الظرف ده فيه اسم الأوّل على المحافظة... اتفضّلي يا تولين، أعلنيه بنفسك.
أمسكت الظرف بيدٍ مرتجفة، وفتحت الغلاف ببطءٍ يملؤه الترقّب، وعيناها تبحثان عن اسمٍ ليس اسمها، بل عن لحظةٍ تنتمي إليها. بدأت تقرأ دون تركيز:
ـ الاسم الأول على المحافظة هو...
سكتت لحظة، ثم أكملت بذهولٍ واضح:
ـ تولين محمد عوض الله...
رفعت رأسها غير مصدّقة، وكرّرت الاسم أكثر من مرة، وسط صرخات وهتافات صديقاتها اللاتي التففن حولها بحماسٍ عارم. كان التصفيق يملأ القاعة بأكملها، لكن أكثر من صفق بحرارة وصدق، هو يمان، الذي وقف بين الحضور، وعيناه تلمعان بفخرٍ لم يعرف له مثيل.
كانت لحظةً خُلدت في ذاكرتهما معًا لحظةٌ اختلط فيها النجاح بالعاطفة، والفخر بالدهشة، والحب بالصمت العميق الذي لم يحتج إلى كلمات.
كانت القاعة قد ضجّت بالتصفيق حين تقدّمت مساعدة العميد بخطواتٍ هادئة نحو المنصّة، تحمل بين يديها الجائزة الذهبية المخصّصة للطالبة الأولى على المحافظة سلّمتها إلى العميد الذي التفت مبتسمًا نحو تولين، وقال بفخرٍ أبويٍّ واضح:
ـ تولين محمد عوض الله، ألف مبروك يا بنتي... تستحقيها عن جدارة.
اقتربت تولين بخطواتٍ مترددة، قلبها ما زال يخفق بعنف، ومدّت يدها لتستلم الجائزة، لكن فجأة توقّفت في منتصف الطريق، كأن خاطرًا داهمها من العدم. رفعت رأسها وقالت:
ـ لحظة واحدة يا دكتور... أنا مش هقدر أستلم الجايزة دلوقتي.
ساد الصمت القاعة، وتجمّدت الأعين عليها في ذهولٍ وتساؤل. حتى العميد نفسه عقد حاجبيه متعجبًا:
ـ ليه يا بنتي؟ في حاجة حصلت؟
ابتسمت تولين بخجلٍ لطيف وقالت وهي تلتفت نحو يمان بين الصفوف:
ـ أنا مش هينفع أتصوّر في لحظة زي دي... من غير ما يكون معايا البوكيه.
نظر إليها يمان بدهشة، ثم ضحك بخفة وهو يهمس:
ـ بس البوكيه في العربية يا تولين، ما خدتوش معاكِ.
أومأت بسرعة وقالت وهي تتحرك من مكانها:
ـ خلاص، أنا هروح أجيبه بسرعة وهاجي.
ـ طب خدي بالك، ولا أقولك خليكِ هنا وأنا أروح أجيبه.
هزّت رأسها بإصرار طفوليٍّ جميل:
ـ لا لا، خليك إنت... أنا هجيب كمان الحاجات التانية اللي جايباها ليكم... عندي مفاجأة صغيرة ليكم كلكم، فاستنوني!
ضحكت البنات من بين الصفوف بينما نظر لها العميد وقال مبتسمًا:
ـ طيب يا بنتي بسرعة، الناس مستنياك.
انطلقت تولين نحو الخارج بخفةٍ مفعمة بالفرح، كانت تركض بخطواتٍ متسارعة، وملامحها تفيض بالسعادة كطفلةٍ تحتفل بنجاحها الأول. خرجت إلى ساحة الجامعة الواسعة، والهواء الصباحي يداعب شعرها. عبرت الطريق بلهفة حتى وصلت إلى السيارة، فتحت الباب الخلفي، وأخرجت حقيبةً صغيرة مليئة بصناديق هدايا صغيرة مغلّفة بأشرطةٍ وردية. وضعتهم جميعًا في يدٍ، ثم أمسكت بالبوكيه في الأخرى، وشمّت الورود بعمقٍ كأنها تحتفظ برائحتها داخل قلبها.
وفي تلك اللحظة، كان يمان قد خرج من القاعة، ووقف على الرصيف المقابل ينتظرها بابتسامةٍ دافئة. وضع يده في جيبه يتحسّس الخاتم الفضي الذي كان قد اشتراه لها على سبيل المفاجأة، يقلبه بين أصابعه بينما ينظر إليها بحنانٍ يغمره كله.
رفع صوته قليلًا وقال وهو يلوّح لها:
ـ يلا يا تولين! متتأخريش... الكل مستنيك!
التفتت نحوه، ابتسمت من قلبها، ثم رفعت البوكيه عاليًا كأنها تُريه ما بيدها:
ـ جايه أهو، ثانية واحدة!
ثم بدأت تجري بخطواتٍ سريعة نحو الطريق.
كانت عيناها مثبتتين عليه... لم ترَ سوى ابتسامته... لم تنتبه للسيارة المسرعة القادمة من اليسار.
صوت الفرامل شقّ السماء، تلاه صوت ارتطامٍ عنيفٍ حبس أنفاس الجميع.
سقطت تولين أرضًا، جسدها الصغير يرتجف للحظاتٍ قبل أن يسكن. البوكيه تناثر على الإسفلت، والورود تلطّخت بحمرةٍ لم تكن منها. صناديق الهدايا الصغيرة تفرّقت حولها، تتدحرج على الطريق كأنها تبكيها.
أما يمان، فقد تجمّد مكانه، الخاتم ما زال في يده، يلتصق بجلده كجمرةٍ لا تُطفأ عيناه لا تريان شيئًا سوى وجهها الصغير الغارق في السكون.
الناس هرعوا نحوها، صرخاتٌ هنا وهناك، خطواتٌ مضطربة، وازدحامٌ يفصل بينه وبينها، لكنه لم يتحرك.
ظلّ واقفًا، نظره متثبت عليها، ونظرها المتجمد عليه... كأن العالم كله توقف عند تلك النظرة الأخيرة.
كانت الأصوات تتناهى إلى سمعه كهمسٍ بعيد، كأنها آتية من عالمٍ آخر... عالمٍ غريبٍ يشبه الحلم أحسّ بوخزٍ في رأسه، وبثقلٍ يجثم على صدره يمنعه من التقاط أنفاسه بانتظام. حاول أن يفتح عينيه، فغمره الضوء كطعنةٍ بيضاء أفقدته التوازن للحظة. أغمضهما ثانيةً، ثم عاد وفتحهما ببطء، متحسسًا ملامح المكان من حوله.
جدران بيضاء... أجهزة طبية تُصدر أصواتًا متقطعة... وأنفاسه المتعبة تتردد في أذنه.
حاول أن يحرك يده اليمنى، فوجد أنبوبًا طبيًا يخرج من معصمه، وأصابعه الباردة ترتجف بخفة.
همس بصوتٍ مبحوحٍ بالكاد يُسمع:
ـ أنا... فين؟
جاءه صوتٌ مألوف:
ـ الحمد لله... فُقت أخيرًا يا يمان.
التفت ببطء ناحية الصوت، ليجد جود جالسًا بجواره، حاول يمان أن يتحدث، لكن الكلمات خرجت متقطعة:
ـ إيه... اللي حصل؟
اقتربت جود منه وقالت:
ـ خدت طلقة مكاني يا مجنون... أسبوع كامل وانت بين الحياة والموت، الأطباء كانوا بيقولوا إن حالتك ميؤوس منها.
أطرق يمان رأسه للحظة، شعر بوخزٍ غريبٍ في صدغيه، كأن الذكريات تتدافع في رأسه بعنف. صورٌ متلاحقة تمر أمام عينيه تولين... الحفلة... البوكيه الأحمر... الطريق... الضوء... الدم...
شهق فجأة، كأن أحدًا طعنه في صدره، ثم رفع يده المرتجفة إلى رأسه وقال بأنفاسٍ متقطعة:
ـ كل اللي أنا شُفته... كان حقيقي؟ ولا...؟
صمت جود قليلًا، ثم قال بهدوء:
ـ كنّا فاكرينك فقدت الوعي من كتر النزيف، بس يبدو إن دماغك كانت عايشة جوه نفسها... الأطباء قالوا إنك كنت في غيبوبة، والمخ كان بيحاول يخلق واقع تاني.
ارتجفت أنفاس يمان، ونظر إلى السقف بعينين غارقتين في الذهول، وتمتم بصوتٍ خافتٍ كمن يحدث نفسه:
ــ تولين... كانت هناك... كنت بشوفها، وبكلمها، وبضحك معاها... كل ده كان جوا دماغي؟
لم يُجبه أحد، واكتفى جود بوضع يده على كتفه، بينما كان هو غارقًا في صراعه الداخلي، يحاول أن يميز بين ما هو حلم وما هو واقع.
كل شيء بدا غامضًا... متداخلًا... كأن ذاكرته انحبست داخل صندوقٍ أسود لم يُفتح بعد، صندوقٍ يحتفظ بكل ما عاشه من مشاعر، من حبٍ، من فزعٍ، من فقدٍ لا يُحتمل.
أغمض عينيه للحظة، وابتسم ابتسامةً باهتة، وقال بصوتٍ مبحوح:
ـ حتى لو كان حلم... فهي كانت حقيقية جوايا.
•تابع الفصل التالي "رواية مطلوبه للانتقام" اضغط على اسم الرواية