رواية مطلوبه للانتقام الفصل الخامس 5 - بقلم هبه ابو الفتوح

 رواية مطلوبه للانتقام الفصل الخامس 5 - بقلم هبه ابو الفتوح


على ما تدل تلك الحياة غير أنها مجرد امتحان شامل على كافة الأصعدة، لتجد في النهاية الحصاد.
لم يُذكر من قبل أن الرزق في الأرض، ولكن قيل:
ـ {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ}
لا يوجد رزقٌ نسعى له طوال الحياة فالدنيا فانيةٌ بكل ما فيها، ولكن هناك جزءٌ صغيرٌ من رزقك تأخذه، وهو ما سُعي إليه،
"وأن ليس للإنسان إلا ما سعى".
في المساء، اجتمع جميع الرجال على طاولةٍ واحدة التفّت بخيرات الله وما طاب من الأطعمة.
كان المجلس قبل صلاة العشاء بقليل، والتي تمت الإذاعة عنها بمكبر الصوت الخاص بالمسجد عقب صلاة العصر. إثر ذلك، أتى عددٌ ليس بقليل من الرجال والنساء والأطفال لينعموا بهذا الحدث الجميل، وهو الشهود على عقود أحدهم.
كانت تلك الأجواء لا تقل بهجةً وسرورًا عن الأعراس والحفلات الضخمة، ولكن الفرق هنا أن السعادة نابعةٌ من القلب، لا تكبرٌ فيها ولا غرور، بل ردٌّ للجميل الذي كان على الأرجح قد أُعطيَ في أحد الأعراس لهم من قبل.
وُضع آخر طبقٍ من الحساء الساخن، وبجواره طبقٌ آخر من الأرز الأبيض وبعضٌ من صلصة الطماطم والخبز المقرمش والثوم وغيرها من المكونات، ليصبح في النهاية طبق فتة مصرية لذيذ.
ومن هذا الطبق الكثير على المائدة.
وقف العجوز وقال بترحيبٍ واسع:
ـ ألف هنا يا جماعة، لقمةٍ هنيّة تكفي مية، مدّوا إيديكم يا جماعة، إحنا أهل، يلا بسم الله.
بدأ الرجال في تناول الطعام، أما في الداخل فالتفت جميع النساء حول جود، التي ولأول مرة تشعر بالخجل الشديد من نظرات النساء إليها لم تستطع أن تُجيب على الكثير من الأسئلة الخاصة، مثل:
ماذا تدرسين؟ هل أنتِ متعلّمة؟ لماذا جئتِ إلى هنا؟
كيف تعرفتِ على ذلك الشاب الوسيم؟
يا فتاة، كيف يسألن سؤالًا مثل ذلك! من المفترض أنهنّ يعلمن أن بينهما صلة قرابة! هل إلى هذه الدرجة هو وسيم في أعين تلك الفتيات لدرجة أنهن نسين ذلك؟
كل ما كانت تفعله هو الابتسامة فقط، تلك الابتسامة التي كادت أن تُخلع معها صفوف أسنانها ووجنتاها من كثرة القُبُلات التي أخذتها من نساء القرية، فالمحبة عندهن لا تكتفي بقبلة أو اثنتين، لا، بل هناك العدل والنصف بينهما، ثمانٍ وثمانٍ بالتساوي!
ناهيكِ عن تلك الضمة التي تُعطى فقط للابن المفقود في الغربة منذ سنوات.
تعجبت كثيرًا من تلك الأجواء، ومن ذلك الحب الفائض، والطيبة، والبشاشة التي تظهر على وجوه تلك النساء.
فهنّ يتعاملن بالفطرة الطيبة، لا يوجد تجميل في الكلمات التي تخرج من ألسنتهن، بل ما يأتي في تفكيرهن يُلقى فورًا على الآخر.
لا تستطيع الإنكار أنها أحبت تلك الأجواء كثيرًا، حتى إنها في النهاية تخلّت عن كبريائها وذلك الغرور الذي بداخلها عندما نظرت حولها ولم تجد أحدًا من الرجال، وتحديدًا هو.
وأخيرًا، استطاعت أن تزيح عنها غطاء العجرفة، وتستمتع للحظاتٍ قليلة بشعور الراحة مع تلك السيدات.
وضعت هاتفها على أحد الكراسي، وقامت بطيّ الثوب الخاص بها، وجلست بجوار سيدةٍ كبيرة في السن.
بدأت الفتيات الصغيرات في وضع الطعام لهنّ، وفي النهاية التففن جميعًا حول طاولةٍ واحدة على الأرض، وبدأن في تناول الطعام وسط سعادةٍ لا تُنسى.
بعد قليل، أعلن مُكبّر الصوت عن أذان العشاء، ينادي الناس للصلاة.
نهض جميع الرجال واتجهوا إلى المسجد، أما هو فألقى نظرة خاطفة على المنزل، ثم إلى الرجال، وظل في حيرةٍ لبضع ثوانٍ حتى أخذه أحد الرجال من يده ومنعه من الاعتراض.
تحرك خلفه العجوز وربّت على كتفه باطمئنان، وفي النهاية خضع لهم.
بعد يومٍ طويلٍ أنهى بوضع رأس الجميع على الوسادة، عندما عاد يمان من المسجد وبعد الانتهاء من توديع جميع الرجال، اتجه مسرعًا إلى المنزل، ولكن عندما دخل لم يجدها.
نظر حوله بتفحّص، لكنها لم تكن هناك، فصاح بهم بقلقٍ بالغ:
ـ هي فين؟ مش المفروض تكون هنا مع آخر واحدة مشيت؟
أجابته العجوز بتعب:
ـ يا ابني، اهدى شوية، هي بخير، محدش غريب دخل، دول نسوان الحِتّة هنا، وعشان تريح نفسك هي تعبت ودخلت تنام.
ـ تعبت ودخلت تنام؟
قطّب حاجبيه بشك وأكمل:
ـ ماشي، ماشي، أنا عايز أشوفها.
في ذلك الوقت دخل العجوز وقال له بغضبٍ طفيف:
ـ تشوفها إزاي وهي نايمة؟ ما تقول كلام معقول يا ابني، عيب! وبعدين أم أحمد قالت لك إنها نامت، وقبل ما إنت تدخل بنص ساعة أنا دخلت واطمنت عليها، وكانت مبسوطة، وقالت إنها هتدخل تنام عشان اليوم كان صعب عليها.
قال بنبرة لا تسمح بالحديث بعدها:
ـ وعزة وجلالة الله لو مشوفتهاش دلوقتي لأكون قالبها عليها واطيها أنا مش رايح أعمل حاجه ولا إني خلصت ليها بنظرة وحشه أنا بس عايز اطمن عليها وبس من بعيد ومن غير ما تشوفني ولا حد يصحيها.
تبادلوا النظرات قليلًا، في النهاية أشار الرجل لابنته بأن تصطحبه لكي ينظر عليها ولكن قبل أن يتحركوا قال لها بتحذير:
ـ يشوف وشها بس وبسرعة ممكن يدخل عليها ولا يطول عن نظرة
نظر إليه بعدم مبالاة، ثم تحرّك خلف الفتاة.
بعد لحظات، وقفت أمامه قائلة بخوف:
ـ هتبص وتمشي على طول، بالله عليك، أبويا لو عرف إني خليتك تدخل عليها هيطين ليلتي.
أومأ برأسه ساخرًا، ثم أزاحها عن الطريق ودفع الباب بهدوء ودخل كانت الغرفة معتمة، هادئة، دافئة تحرّك بضع خطوات، ثم أغلق الباب خلفه توقف وأخذ نفسًا عميقًا من رائحتها التي تفوح في الغرفة، واتجه إلى الفراش، وضربات قلبه تتصارع كالطبول.
اقترب ببطء ونظر إلى وجهها، ولكن لم يكن واضحًا بسبب خصلات شعرها المبعثرة عليه.
تنهد ومدّ إصبعه ليزيحها، فتعجب من يده وهي ترتجف.
نظر إلى يده وأغمض عينَيه بغلبة، كيف أصبح لا يستطيع السيطرة على يده، ولا على قلبه الذي يعلن زفافًا بداخله؟
ابتسم بسخرية ومدّ إصبعه مرة أخرى إلى أنفها ليتأكد من نبضها وأنفاسها.
أخرج آخر أنفاسه براحة، ثم نهض عندما وجد فاطمة ابنة العجوز تهتف له بأن يغادر قبل أن يأتي والدها.
نهض بغلبةٍ من حاله وغادر الغرفة، ثم ذهب إلى غرفته لم يستطع النوم طوال الليل، أُغلِقت أنوار المنزل جميعها معلنةً راحة الجميع بعد يومٍ شاق، لكن من يُغلق أنوار وكهرباء عقله الذي يعجّ بالمهام، وأكبر مهمةٍ هي التخلص من هذا الضعف الذي بدأ يولد بداخله؟
انبعث في الغرفة شعاعٌ من ضوء القمر مصطحبًا بنسيم الرياح الباردة التي تأتي من الأرض الزراعية المجاورة للمنزل.
نهض وهو يشعر براحةٍ كبيرةٍ في داخله، فمع كل تلك الضغوطات التي حوله، لم يشعر بالراحة منذ زمنٍ طويل.
هذه الأماكن تجبر الإنسان على أن يستكين، جرجا، سوهاج، أسوان، أسيوط وغيرها من المحافظات التي تمتلك طابعًا شرقيًا، يشعر فيها بأصل الحضارة المصرية.
وقف عند النافذة يتأمل حركة الأشجار وعلى ثغره ابتسامة هادئة، لكنها تلاشت فجأة عندما التقطت عيناه تلك التي كانت تأخذ خطواتها بترقّبٍ وخفةٍ شديدة. جحظت عيناه بدهشةٍ مما يراه!
كيف لها الآن أن تتسلل مثل اللصوص، ومنذ دقائق قليلة كانت غارقةً في غفوةٍ عميقة؟
بدأت تتلاشى من أمامه شيئًا فشيئًا، وكاد أن يغادر ليلحق بها، لكنه تراجع فجأة عندما أدرك ما سيفعله الآن.
إن خرج من الغرفة ومرّ عبر باب المنزل، فذلك العجوز النائم في الخارج سيلتقط صوته، وهذا الشاب الذي ينام بجواره سيستمع إلى أنين الباب الفاضح.
لعنها في داخله، ثم اتجه إلى حقيبته، أخذ سلاحه ووضعه في خصره، وفي الجهة المقابلة صاعقٌ صغير، وارتدى لثامَه.
عاد إلى النافذة مرةً أخرى وقفز منها، ولم يكن الأمر صعبًا، فبالكاد كانت النافذة تبتعد عن الأرض بمترين فقط.
أخذ يُسابق خطواته لكي يلحق بها في الطريق الذي ذهبت إليه، ولكنها كانت كالشبح...
تَبَخّرت، لم تكن موجودة إطلاقًا بدأ يركض مرةً أخرى ويبحث عنها بين الأشجار والأراضي الزراعية كالمجنون، وقف للحظات يلتقط أنفاسه ثم نظر حوله مرةً أخرى وهو يتصبب عرقًا، رفع رأسه وأخرج هاتفه في محاولةٍ منه أن يتتبع جهاز التتبع الذي وضعه في هاتفها، ولكن وجد الهاتف في المنزل، ليس معها.
التقطت أذناه صوتًا طفيفًا بالقرب منه، سرعان ما ركض خلفه على أملٍ منه أن يلقاها، ولكن عندما وصل إلى المكان لم يجد أحدًا.
بدأ يلهث من شدة الرعب ووضع يده على رأسه بألم، هل فشل؟ هل فشل في حمايتها؟ ولكن لماذا خرجت؟ وأين ذهبت؟ ولماذا لم تخبره؟ كيف سمح لقلبه أن يسيطر عليه ويغفو عن حمايتها للحظات؟
قرر أن يعود إلى المنزل مسرعًا ظنًّا منه أنها قد تكون عادت، أو ليتواصل مع العقيد ليبدأ البحث عنها.
التفت فجأةً وهو يسرع، ولكن توقف وهو يشهق بصدمه ووضع يديه على صدره عندما وجدها أمامه وهتف بارتجاف:
ـ بسم الله الرحمن الرحيم، وجعلنا من بين أيديهم سدًّا ومن خلفهم سدًّا فأغشيناهم فهم لا يبصرون... أنتِ! أنتِ كنتِ فين؟! ازاي تخرجي من البيت وما تعرفينيش؟! أنتِ عارفة في الكام دقيقة اللي اختفيتِ فيهم عن عيني حرفيًا أنا كنت هموت! مش منبّه عليكِ ما تخرجيش في أي مكان من غير ما تعرفيني؟!
عقدت يداها على صدرها ورمقته بعدم اهتمام، وقالت له:
ـ انت مش مسؤول عني علشان تأمرني أروح فين وأجي منين، أنا أخرج وقت ما أكون عايزة.
لحظ طريقة تحدثها معه، فأجابها بغضب:
ـ بعد إذنك، لما تتكلمي معايا تتكلمي باحترام وبطريقة أفضل من كده أنا مكلّف إني أحميكي، ووجودي معاكِ في الشغل مش خدمة ليكِ، المفروض يكون في تقدير أكتر من كده! من بداية المهمة وأنا مستحمل إهانتك فيّ، وإنتِ ما تعرفيش أنا مين!
أنا... أنا مش أي حد، إنتِ فاكرة نفسك مين؟! لو كنتِ جود المصري، فأنا يمان الكيلاني! فوقي كده، وإنتِ بتتكلمي معايا. أنا بحترمك علشان إنتِ أنسة، لكن لو هنيجي للشغل، فإنتِ زيك زَيّي!
شعرت بارتجافٍ خفيف بسبب نبرة اندفاعه وغضبه، وأغضبها في الوقت ذاته شعور الخوف الذي تسلل إليها، فقالت بدون إدراك:
ـ وأنا مش عايزاك تحميني! أنا هامضي إقرار على نفسي، لو حصل لي حاجة محدش مسؤول ولو شفتك بتموت قدامي، عمري ما هقرب لك! عشان شكلك برضه نسيت إنت مين وأنا مين.
وعامةً، أنا كنت باخد تقارير من شخص شغال معايا، وما كنتش عايزة أقلق حد، عشان أنا مش واثقة في الناس دول.
بدأ يهدأ قليلًا وتراجع ليعود مرةً أخرى إلى المنزل متحاشيًا النظر إليها، وقال بسخريةٍ مريرة:
ـ تمام، اتفضّلي. ويفضّل نرجع للبيت دلوقتي... عشان لو مُت، ألاقي حد ينقذني. عشان كده فقدت الأمل في إنسانيّتك.
بعد مرور يومين، لم يحدث لهما شيء جديد، غير أن التعامل بين جود ويمان أصبح طفيفًا عند اللزوم فقط.
ما زال حديث جود الأخير يدور في عقله، يشعر أن جزءًا من كبرياء رجولته انجرح على سوط لسانها السليط.
كانت جود تقف أمام المنزل تشعر بحرارة الجو تخترق جسدها، فوضعت يديها فوق عينيها لتحجب أشعة الشمس، ثم هتفت بصوت مرتفع وهي تنادي عليه:
ـ يلا بقى، مكنش كيلو طماطم اللي بتشتريه من ساعة!
كان يبتعد عنها ببضع أمتار، بالكاد سمع صوتها، فرفع صوته مجيبًا بنبرة فيها مزيج من الجدية والسخرية:
ـ الحجة قالت لي أجيب الطماطمية طماطمية، وما يكونش فيها عنقود أصفر، والعنقود بتاعها يكون أخضر، وتكون كبيرة وحمراء، وما يكونش فيها أي خروم، وتكون ناشفة عشان تتعامل في السّلطة!
استمعت إليه وهي تنظر نحوه بتعجب، ثم تمتمت لنفسها بضيق:
ـ طماطم وسلطة ناشفة وحمراء... لا حول ولا قوّة إلا بالله لحظة كده لا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم قالت بصوت مسموع:
ـ أنا هروح أجيب الطعمية والفول من المطعم اللي على أول الشارع، على ما إنت تخلّص الطماطميات بتاعتك.
التفتت لتغادر، لكنها ما لبثت أن توقفت عندما وجدته خلفها مباشرة. نظرت له بحدة وهتفت بضيق:
ـ إنت بتلحق تيجي إزاي؟! وبعدين فين الطماطم اللي كنت بتناقيها؟
أجابها بكل هدوء وبنبرة تحمل شيئًا من المزاح الخفي:
ـ أم أحمد قالت لي روح يا ابني، ما تخلّيش عروستك تمشي لوحدها، وقالت كمان إنها هتجيب الطماطم وتوديها البيت.
تعالي بقى، نروح أنا وإنت نجيب الفطار.
لم تُجِبه، لكنها تحرّكت في صمت، فاتّبعها، عاقدًا يديه خلف ظهره كعادته ظلّا يسيران في هدوء، ولم يُلقِ أحدُهما على الآخر حديثًا، حتى انتابها الفضول من نظرات الفتيات الموجَّهة إليها.
أغمضت عينيها نصف غَمضة بسبب أشعّة الشمس، ثم ألقت نظرة خاطفة نحوه وقالت محاولة أن تغيّر مجرى الحديث:
ـ إيه يا أستاذ حضرة الظابط، يعني شوية كده كلها كم يوم والمفروض إننا هنتجوّز، بس بعينك هنكون خلّصنا كل حاجة وقتها بإذن الله… المهم يعني، إنت مالكش أهل يسألوا عليك؟ زوجة؟ عِيل؟ أي حاجة كده؟
كان ينظر أمامه دون أن يلتفت إليها، يستمع إلى حديثها باللامبالاة، ثم أجاب بثبات:
ـ مقطوع من شجرة… بعيدة عنك.
شعرت أنه لا يرغب في الحديث، ففضّلت الصمت.
وحين وصلا أمام المطعم، أخبرته بأنها ستذهب إلى طابور السيّدات وتنتظره هناك، لكنه رفض مؤكدًا أنه لن يتركها بمفردها وسط تلك الزحمة بادرت بالاعتراض مرة أخرى، قائلة إنها ستكون بخير، وهو يمكنه مراقبتها من بعيد، لكنه أجاب بصرامة:
ـ مش هتروحي أي مكان من غيري.
تدخلت سيدة من الواقفات في الطابور وقد نفد صبرها، قائلة بنبرة ضيق واضحة:
ـ معلش يا حبيبي، إنت وهي، ممكن بس تحلّوا مشاكلكم على جنب؟! عايزين نفطر، ورانا مشاغل متعطلة، وانتو واقفين في نص الطابور مش سايبين حد يجيب لقمة! هي ناقصة مرار طافحها الصبح؟!
ـ هو حضرتك بتتكلمي كده ليه معانا؟! ما الطابور قدامك أهو، وبعدين إنتِ واقفة في الأول مش في الآخر، عيب أسلوبك ده.
أنزلت السيدة الطفل الذي كانت تحمله، والتفتت إليها وكأنها تُعلن أنها أصبحت متفرغة لها، وقالت بسخرية حادّة:
ـ مالُه أسلوبي يا حبيبتي؟ مش عاجبك في إيه؟ ولا تكونيش مبسوطة بجمالك ده؟ ولا الحيطة اللي واقف جنبك دي نفّخ يا عسل؟! نفّخ ولا محصّل ولا موصّل في سوق الرجالة بنكلة!
تراجع يمان بضع خطوات، وقال وهو يُدخل جود خلف ظهره ليحميها:
ـ تعالي يلا نمشي دلوقتي، مش مهم فطار.
لكنها أزاحت يده عنها بغضب، والتفتت إلى السيدة وهي تُشير بإبهامها نحوها وكأنها تتحدث مع مجرم خلف الزنزانة، وقد طبع عليها طابعها الأصلي وقالت بنبرة حادة:
ـ اسمعي، لما تتكلمي معايا تتكلمي باحترام! أنا ما وجّهتلكيش أي إساءة، ولا هو وجّهلك إساءة! وبعدين ليه إنتِ الوحيدة اللي بتتكلمي من بين كل الناس دي؟ ما كل واحد بياخد أكله وبيمشي! ده حتى اللي كانوا واقفين ورانا خدوا الأكل ومشيوا! ليه إنتِ الوحيدة اللي عاملة حوار؟ فوقي كده، واعرفي إنتِ بتتكلمي مين! أنا جود الــ…
ضغط يمان على يدها بسرعة قبل أن تهتف بكنيتها، وبرقت عيناها نحوه علامة على استيائها، لكنه أشار لها أن تصمت.
وفي الجهة المقابلة، لم تتحمل السيدة ما اعتبرته إهانة من جود، وكادت تردّ عليها، لكنّ رجلًا كان يقف في الصف الآخر تدخّل قائلاً بنبرة حازمة:
ـ استهدي بالله يا ستّ، منك ليها هو إحنا مش هنعرف نجيب اللقمة ولا إيه؟ يلا يا عم، هات قفص العيش خلينا نمشي! نسوان آخر هم، كل واحدة واقفة من صباحية ربنا عشان تاخد فطار، ومش عارفين يعملوا في البيت لقمة!
التفتت تلك السيدة التي كانت تتشاجر مع جود منذ ثوانٍ وقالت للرجل بنبرة تحمل السخرية والاستهزاء، وأشارت بيديها بتأكيدٍ مبالغ فيه:
ـ ليه يا أخويا يا سيّد الرجالة؟ ما إحنا بنشتري فطار عشان ناكل لقمة! وأنت واقف ليه من صباحية ربنا زينا عشان تشتري عيش، ولا هي نانسي عجرم اللي عندك في البيت؟! على إيديها ورجليها نقشة الحنّة وما بتعرفش تخبز؟! رجالة آخر زمن والله!
التفت إليها الرجل بعصبية وردّ عليها بإساءة مماثلة، فتدخلت سيدة أخرى تدافع عن الأولى، لكن لسوء الحظ كان يقف زوج تلك السيدة في الجهة المقابلة، فسمع الحديث وردّ عليها بغضب شديد لتدخّلها في ما لا يعنيها، وبدأت الأصوات تعلو تدريجيًا.
اقتربت جود من السيدة المدافعة وهمست في أذنها بصوت خافت يحمل شيئًا من التمرد:
ـ هم الرجالة كده كلهم، عايزين يكونوا مسيطرين وإنتي تبقي تحت أمرهم أوعي تسكتي، ردي وخدي حقك!
أنهت جود جملتها الأخيرة، وكأنها أشعلت فتيل النار في برميل البنزين، فما إن سمعت المرأة كلماتها حتى التفتت بعصبية وردّت على الرجل بحدة، لتشتعل الشرارة بين الصفّين.
تعالت الأصوات، وبدأت السيدات في الجدال والصراخ، ثم ما لبث الأمر أن تحوّل إلى مشاجرة كاملة، الأيدي ترتفع، والعيش يتناثر في الهواء، وعلب الفول تتدحرج على الأرض، وصوت أحد الرجال يهتف من بعيد:
ـ يا جماعة استهدوا بالله ده فطار مش معركة بدر!
اندفع رجل ليفصل بين امرأتين تشابكتا في أطراف الطرح، لكن ما لبث أن تلقّى دفعة قوية من إحداهن جعلته يترنّح إلى الخلف، ليصطدم بآخر كان يصرخ غاضبًا على زوجته.
أصبحت الساحة فوضى كاملة، صياح الرجال والنساء يتداخل، والباعة يحاولون تهدئة الموقف دون جدوى.
في وسط هذا المشهد، كان يمان ممسكًا بذراع جود بقوة وهو يقول بنفاد صبر:
ـ إنتِ بتولعي الدنيا ليه؟ يلا بينا قبل ما نتحبس!
ضحكت جود، رغم الفوضى، وقالت وهي تركض معه وسط الزحام:
ـ ما هو أنا كنت بس بدافع عن حقي يا حضرة الظابط
سحبها من يدها وبدأا يركضان بين الناس، يتفاديان أكياس الفول المتطايرة وصوت الشتائم الذي يملأ المكان، حتى ابتعدا عن المطعم تمامًا.
توقفا في أحد الأزقة الضيقة، يتنفّسان بصعوبة من كثرة الركض، ثم نظر أحدهما للآخر، وانفجرا في ضحكٍ لا إراديّ. 

•تابع الفصل التالي "رواية مطلوبه للانتقام" اضغط على اسم الرواية

تعليقات