رواية ثنايا الروح "الريح والغيامة" الفصل الثالث والخمسون 53 - بقلم رانيا الخولي
كان صباحاً مشمساً وهادئاً في بيت الجبل جلس جاسر ونغم وونس حول مائدة الإفطار في الشرفة يستمتعون بالهواء النقي وصوت العصافير
كان جاسر يرتشف من قهوته وهو يراجع بعض الأوراق الخاصة بالقضية بينما كانت ونس تقطع بعض الفاكهة ونغم تحدق في طبقها بشرود واضح.
لاحظ جاسر صمتها غير المعتاد كانت تقلب قطعة الجبن في طبقها دون أن تأكل وشفتيها مطبقتان بقلق، رفع عينيه عن الأوراق ونظر إليها بتركيز
_نغم حبيبتي إنتي كويسة؟
انتبهت نغم لسؤاله فجأة وكأنها كانت في عالم آخر رفعت رأسها بسرعة وابتسمت ابتسامة مرتبكة
_ها؟ آه آه كويسة يا حبيبي الحمد لله.
لكن عينيها سرعان ما تحولتا نحو ونس في نظرة صامتة تحمل سؤالاً واضحاً:
أقول له؟ كيف أبدأ؟
فهمت ونس نظرة الاستغاثة تلك، هزت رأسها بيأسٍ مصطنع وكأنها تقول منكِ لله هورطتيني
ثم نهضت بهدوء وهي تمسح يديها بمنديل
_أنا هقوم أشوف سامية عملت الشاي ولا لسه.
اتسعت عينا نغم بصدمة وهي تتابع حماتها بنظراتها وكأنها طفل صغير تركته أمه وحيداً في موقف صعب، همست بصوتٍ خافت لم يسمعه سوى جاسر
_بتخلعي ماشي يا حماتي.
ازداد قلق جاسر وهو يرى هذا الحوار الصامت وضع الاوراق جانباً تماماً وترك فنجان قهوته مد يده وأمسك بيدها ونبرته أصبحت أكثر جدية
_نغم فيه إيه بجد؟ قلقتيني.
أخذت نغم نفساً عميقاً وجمعت شجاعتها نظرت في عينيه بتردد وقالت بصوتٍ منخفض
_أنا أنا كنت عايزة أروح لـ زينة
عقد جاسر حاجبيه باستغراب
_زينة؟ ليه؟ إنتي تعبانة؟
هزت رأسها نافية بسرعة
_لأ الحمد لله، بس يعني عشان أطمن إن موضوع السجط اللي فات ده مش هيأثر على على حمل تاني في المستجبل.
تنهد جاسر تنهيدة طويلة تحمل تعباً وقلقاً عليها لقد مر وقت قصير على تلك الحادثة الأليمة وهو لا يريدها أن تفتح جروحاً لم تلتئم بعد أو أن تضع نفسها تحت ضغط نفسي جديد
_وبعدين يا نغم؟ أنا مش فاهم ليه الاستعجال ده؟ إحنا لسه يا حبيبتي بنعدي من اللي فات.
لمعت الدموع في عينيها وهي ترد بحماس وشوق
_عشان نفسي في طفل منك يا جاسر، نفسي في حتة منك ومني تكبر جدام عينينا أنا بحب الأطفال جوي ونفسي أكون أم
رق قلبه لكلماتها ورغبتها الصادقة، كان هو أيضاً يريد ذلك أكثر من أي شيء في العالم، لكنه كان يخشى عليها
_يا حبيبتي وأنا كمان نفسي بس اصبري شوية، خلي الأمور تهدى خالص وأنا أوعدك هوديكي بنفسي ونطمن.
أومأت برأسها موافقة لكنه لاحظ كيف انطفأت لمعة عينيها وكيف سحبت يدها ببطء وارتسم على وجهها حزن خفيف حاولت إخفاءه، لم يحتمل رؤيتها بهذا الشكل كيف يرفض لها طلباً وهي التي أعادت له الحياة؟
أغمض عينيه للحظة ثم فتحهما وقد اتخذ قراره
_خلاص خلاص متزعليش ...
قالها بابتسامة مستسلمة
_ماشي يا ستي جومي البسي هدومك عشان ألحج أرچع أراچع الجضية دي
في لحظة تبدل حالها تماماً لمعت عيناها بفرحة طفولية واتسعت ابتسامتها حتى كادت تصل إلى أذنيها لم تصدق أنه وافق قفزت من مكانها بسرعة وانحنت لتقبّله قبلة خاطفة على خده وقالت بصوتٍ يغمره الامتنان والسعادة
_حبيبي! أنت أحسن زوج في الدنيا كلها!
وانطلقت تجري إلى داخل المنزل لتغير ملابسها تاركة إياه يبتسم وهو يهز رأسه، سعادتها كانت أولويته دائماً وحتى لو كان قلقاً فإن رؤية هذه الفرحة على وجهها تستحق كل شيء.
ــــــــــــ
كانت عيادة الدكتورة زينة هادئة ومريحة تفوح منها رائحة معقمة لطيفة، ما إن دخل جاسر ونغم حتى استقبلتهما زينة بابتسامتها المعهودة وترحيبها الصاخب الذي يبعث على الألفة
_أهلاً أهلاً العيادة نورت بوچودكم مش معجول جاسر باشا بنفسه عندنا.
صافحها جاسر بابتسامة بينما احتضنت زينة نغم بحرارة.
جلس جاسر على أحد المقاعد وبدا عليه الانشغال وهو يلقي نظرة سريعة على ساعته
_أهلاً بيكي يا زينة معلش چينا من غير معاد بس المدام عندك هي اللي صممت.
نظرت زينة إلى نغم التي كانت تجلس على طرف مقعدها بتوتر ثم عادت بنظرها إلى جاسر
_خير؟ في حاچة يا نغم؟
تكلم جاسر نيابة عنها محاولاً إنهاء الأمر بسرعة
_نغم عايزة تطمن إن الإجهاض اللي اتعرضت له جبل اكده مسببش أي ضرر أو مشاكل يعني للمستقبل.
أدارت زينة عينيها نحو نغم ونظرت إليها بغيظٍ مصطنع
_ديما اكده؟ مش جادرة تصبري أبداً دايمًا مستعچلة على رزجك يا نغم.
ثم ابتسمت بحنان وأضافت
_ ولا يهمك يا حبيبتي نطمن ونعمل كل الفحوصات اللازمة.
بدأت زينة في إجراء الفحوصات الأولية وطلبت من الممرضة سحب عينة دم من نغم لعمل بعض التحاليل الهامة.
مر الوقت وجاسر يزداد تململاً، رن هاتفه عدة مرات وفي كل مرة كان يجيب بصوتٍ منخفض وقلق في المكالمة الأخيرة بدا الأمر ملحاً.
أنهى المكالمة وتوجه إلى زينة
_زينة أنا آسف جداً بس چالي تليفون مهم ولازم أمشي فوراً الموضوع يخص القضية
نظرت إليه زينة بتفهم
_خلاص يا جاسر روح مشوارك ومتجلجش نغم هتفضل معايا لحد ما نتيچة التحاليل تطلع وأنا هوصلها بنفسي لحد البيت متشلش هم.
تردد جاسر فلم يكن يريد ترك نغم وحدها، نظر إليها وسألها بعينيه فأومأت له برأسها موافقة وهي تبتسم لتطمئنه.
_متأكدة يا زينة؟ مش عايز أتعبك.
_عيب عليك يا جاسر دي أختي الصغيرة، يلا روح والحق شغلك.
قبّل جاسر رأس نغم وهمس لها
_كلميني أول ما تخلصي.
ثم غادر العيادة على عجل
بمجرد أن غادر جاسر ساد جو من الألفة بين نغم وزينة، وبعد فترة من الانتظار دخلت الممرضة وهي تحمل نتيجة تحليل الدم، أخذتها زينة وبدأت تقرأها بتركيز وتغيرت ملامح وجهها تدريجياً من الجدية إلى الدهشة ثم إلى ابتسامة واسعة جداً.
رفعت عينيها لتنظر إلى نغم التي كانت تراقبه بقلق شديد وقلبها يكاد يقفز من صدرها
_نغم شكلك مش بس مستعجلة ده إنتي سبقتي الأحداث كلها.
لم تفهم نغم مقصدها
_يعني إيه يا زينة؟ فيه حاچة وحشة؟
ضحكت زينة بصوتٍ عالٍ ونهضت من مكانها واقتربت من نغم واحتضنتها بقوة
_حاچة وحشة؟ دي أحلى حاچة في الدنيا مبروك يا حبيبتي التحليل بيجول إنك حامل.
تجمدت نغم في مكانها للحظة وكأنها لم تستوعب الكلمة
_إيه؟ حامل؟ كيف؟
قالت زينة وهي تضحك بسعادة
_زي الناس يا هانم مبروك يا ماما ألف ألف مبروك.
بدأت الدموع تتجمع في عيني نغم لكنها لم تكن دموع حزن هذه المرة بل دموع فرحة نقية، لم تشعر بها من قبل لم تكن الفرحة تسعها، لم تكن الأرض تسعها شعرت بأنها تطير وضعت يدها على بطنها بشكل لا إرادي وهمست
_حامل! أنا حامل؟!
هدأت زينة من حماسها قليلاً لتشرح لها الوضع
_بصي يا نغم الحمل لسه في أوله خالص عشان كده ظاهر في تحليل الدم بس، لسه مش ظاهر في السونار أنا عايزة منك راحة تامة الفترة دي وهتيجيلي كمان أسبوعين يكون الحمل كبر ووضح أكتر في الأشعة ونشوف النبض سوا.
أومأت نغم برأسها وهي لا تزال في حالة من الصدمة السعيدة ودموع الفرح تنهمر على خديها بلا توقف أخيراً حلمها الأكبر على وشك أن يتحقق
ـــــــ
توقفت سيارة زينة أمام بيت الجبل، ولم تكد السيارة تتوقف تماماً حتى فتحت نغم الباب وهي لا تزال تبتسم
ابتسامة عريضة تضيء وجهها بالكامل كانت في قمة سعادتها، تشعر وكأنها تمتلك العالم بين يديها.
نزلت زينة من السيارة معها وأمسكت بذراعها بحنان وهي توصلها إلى الباب
_نغم اسمعيني كويس الفترة الأولى دي أهم فترة مفيش مجهود، مفيش حركة زيادة، والأهم... مفيش أي توتر أو زعل اتفقنا؟
أومأت نغم برأسها بحماس وعيناها تلمعان ببريق الأمومة المنتظرة
_اتفقنا يا أحلى دكتورة في الدنيا.
احتضنتها نغم بقوة مرة أخرى
_شكراً يا زينة شكراً على كل حاجة، مش عارفة أقولك إيه.
ثم تراجعت خطوة وقالت برجاء _طب اتغدي معانا، أرجوكي لازم تحتفلي معايا.
ابتسمت زينة واعتذرت بلطف
_يا حبيبتي ألف هنا على قلبكم بس والله عندي عيادة بعد ساعة ولازم ألحق أرجع المرة الجاية أوعدك.
غمزت لها وأضافت
_المرة الجاية في احتفال أكبر.
ودعتها نغم وهي تلوح لها حتى اختفت سيارتها عند المنعطف
أخذت نفساً عميقاً ووضعت يدها على بطنها بحب، ثم فتحت باب البيت ودخلت وهي تكاد تجري من فرط حماسها.
وجدت ونس تجلس في غرفة المعيشة تقرأ القرآن ما إن رأتها، حتى تركت نغم كل شيء وركضت نحوها وارتمت في حضنها بقوة وعيناها مغمورتان بدموع الفرح.
تفاجأت ونس من هذا الاندفاع، لكنها احتضنتها بقلق وحب
_بسم الله الرحمن الرحيم! مالك يا بنتي؟ فيه إيه؟ خوفتيني.
ابتعدت نغم قليلاً ومسحت دموعها السعيدة بكفها، ونظرت في عيني حماتها وقالت بصوتٍ يرتجف من الفرح
_هتبجي جدة يما... أنا حامل!
اتسعت عينا ونس بصدمة سعيدة للحظة لم تنطق ثم تهلل وجهها بفرحة صادقة ونقية نهضت وشدّت نغم إلى حضنها مرة أخرى، لكن هذه المرة بحرص أكبر.
_يا ألف نهار أبيض يا ألف نهار مبروك! اللهم لك الحمد، والشكر يا حبيبتي يا بنتي، ألف مبروك.
ظلت تربت على ظهرها بحنان ثم ابتعدت لترى وجهها المشرق
_الحمد لله ربنا جبر بخاطركم أومال فين جاسر؟ لازم أبارك له بنفسي زمانه طاير من الفرحة.
هزت نغم رأسها وهي تضحك
_هو لسه ميعرفش جاله تليفون مهم في العيادة واضطر يمشي جبل ما النتيچة تطلع.
رفعت نغم حقيبة يدها الصغيرة التي كانت تحملها، وفتحتها بحماس
_بس أنا هعرفه بطريجتي الخاصة.
نظرت ونس إليها بفضول
_إيه اللي معاكي ده؟
أخرجت نغم من الحقيبة علبة صغيرة وفتحتها لتكشف عما بداخلها.
كان زوجاً من الأحذية الصغيرة جداً من الصوف الأبيض الناعم بحجم يناسب طفلاً حديث الولادة.
_عديت أنا وزينة على محل أطفال واشتريته.
قالتها بفخر وسعادة
أمسكت ونس بالحذاء الصغير بين يديها وابتسامة حنونة وواسعة ارتسمت على وجهها، كانت تنظر إليه وكأنها ترى حفيدها المستقبلي ماثلاً أمامها.
_يا حبيبي... يا جلبي... الله يتمم لك على خير يا بنتي.
رفعت رأسها ونظرت إلى نغم بعينين تلمعان بالفرح
_فكره حلوة جوي اعمليله مفاچأة ميحلمش بيها يستاهل يفرح، ربنا يعوض صبره خير.
أومأت نغم بحماس وعقلها بدأ بالفعل يرسم سيناريو اللحظة التي ستقدم فيها هذه الهدية الصغيرة لجاسر، الهدية التي تحمل بداخلها أكبر خبر في حياتهما.
عاد جاسر إلى البيت في وقت متأخر من الليل.
كان يشعر بالإرهاق، ليس فقط من عناء العمل ومتابعة القضية المعقدة بل من ثقل القرارات التي اتخذها والتي ستغير حياة عائلته إلى الأبد كل ما كان يتمناه هو أن يجد السكينة في حضن نغم.
صعد درجات السلم بهدوء وفتح باب غرفة نومهما
تفاجئ حين وجد الغرفة غارقة في الظلام، على غير عادتها
عادة ما تتركه نغم مضاءً بضوء خافت حتى يعود، تسلل القلق إلى قلبه للحظة فنادى بصوتٍ خفيض
_نغم؟
لم يأتِ رد تحرك بخطوات حذرة نحو مفتاح النور بجانب الباب، وضغط عليه.
أضاءت الغرفة وفي اللحظة التي غمرها النور تجمد جاسر في مكانه عيناه تسمرتا على السرير في منتصف الوسادة الخاصة به، كانت تستقر علبة مخملية صغيرة زرقاء، مفتوحة بعناية.
عقد حاجبيه في حيرة وتقدم ببطء نحو السرير وكأنه يخشى أن يكون ما يراه مجرد سراب.
انحنى فوق العلبة ليرى ما بداخلها بوضوح كان زوجاً من الأحذية الصوفية البيضاء الصغيرة... لطفل حديث الولادة.
ظل يحدق به لثواني طويلة وعقله يحاول أن يجمع قطع اللغز
لم يفهم هل هي هدية رمزية؟ أمنية للمستقبل؟
كان قلبه يخفق بشدة لكنه لم يجرؤ على القفز إلى الاستنتاج الذي بدأ يتشكل في أعمق ركن من روحه.
وفجأة شعر بأنفاس دافئة بالقرب من عنقه، وصوت همس ناعم كالحرير داعب أذنه حاملاً معه كلمتين هزتا كيانه:
_مبروك... يا بابا.
استدار جاسر بسرعة البرق كانت نغم تقف خلفه مباشرة ترتدي ثوباً أبيض بسيطاً وعلى وجهها ابتسامة هي الأجمل على الإطلاق، وعيناها تلمعان بدموع الفرح المكتومة.
نظر إليها وهو لا يصدق كان الخوف من أن يكون هذا حلماً أو وهماً يصارع الأمل الجارف الذي انفجر في صدره.
أمسك بذراعيها، وعيناه تبحثان في عينيها عن الحقيقة عن تأكيد يريح قلبه المعلق.
_نغم...
قال بصوتٍ متحشرج
_أرجوكي... متلعبيش بيا ده... ده بجد؟
أومأت برأسها ببطء والدموع تنساب الآن على خديها وهي تبتسم.
_حجيجي يا جاسر... حجيجي أكتر من أي حاچة في الدنيا أنا حامل.
في تلك اللحظة تحرر كل التعب والإرهاق من جسد جاسر وحل محلهما شعور عارم بالفرح الخالص، فرح نقي وقوي كاد أن يطرحه أرضاً لم ينطق بكلمة، بل أطلق ضحكة عالية ومدهوشة ثم انحنى بسرعة وحملها بين ذراعيه ودار بها في منتصف الغرفة.
كانت ضحكاتهما تمتزج معاً ضحكات صافية وسعيدة تردد صداها في أرجاء البيت الهادئ.
كانت نغم تتشبث به وتضحك من قلبها وتشعر بأنها أسعد امرأة في الكون.
بعد أن دار بها عدة مرات أنزلها برفق على الأرض لكنه لم يبتعد ظل يحيطها بذراعيه، ووضع جبهته على جبهتها وأغمض عينيه وهو يحاول استيعاب حجم سعادته.
سألها بعتاب محبب
_ليه؟... ليه متصلتيش بيا أول ما عرفتي؟ كنت محتاچ أسمع الخبر ده أكتر من أي حاچة في الدنيا.
مررت يدها على شعره بحنان
_كنت عايزة أشوف الفرحة دي في عينيك بنفسي حبيت أعملهالك مفاجأة... عشان تكون لحظة بتاعتنا إحنا وبس.
نظر في عينيها المليئتين بالحب ثم انحنى وقبّلها قبلة طويلة وعميقة قبلة لم تكن كأي قبلة من قبل.
كانت تحمل شكراً وامتناناً ووعداً وفرحة لا يمكن للكلمات أن تصفها.
وضع يده برفق شديد على بطنها ونظر إليها بعينين مشبعة بالعشق
وهمس بصوتٍ يملؤه الرهبة والدهشة،
_اهنه....حتة مني ومنك بتكبر اهنه.
رفعت نغم وجهها إليه وقالت بحب _ابننا يا جاسر... أو بنتنا.
حملها بين ذراعيه لكن هذه المرة بهدوء وحرص شديدين ووضعها على السرير كأنها أثمن جوهرة في العالم استلقى بجانبها وضمها إلى صدره ودفن وجهه في عنقها وهو يهمس بكلمة واحدة تُلخص كل شيء
"بحبك."
❈-❈-❈
لم تعد الصباحات في بيت الجبل تبدأ بشروق الشمس أو صوت العصافير، بل كانت تبدأ بحركة نغم المفاجئة وهي تنهض من السرير وتضع يدها على فمها راكضة نحو الحمام.
في أحد هذه الصباحات استيقظ جاسر على الفور كعادته منذ بدأت أعراض الحمل تظهر عليها، قفز من السرير ليتبعها لكنها استوقفته بيدها عند باب الحمام.
_لأ يا جاسر... خليك، أنا كويسة.
قالتها بصوتٍ مكتوم ووجهها شاحب
كانت تكره أن يراها في هذه الحالة الضعيفة لكن جاسر لم يكن ليقبل هذا الرفض أبداً
دفع الباب برفق ودخل وراءها متجاهلاً احتجاجها الخافت.
قال بنبرة حازمة لا تقبل النقاش، لكنها مليئة بالحنان
_مفيش حاجة اسمها خليك.
انحنت نغم فوق حوض الحمام وبدأ الغثيان الصباحي المؤلم وعلى الفور، كان جاسر بجانبها لم يتردد لحظة بيدٍ جمع شعرها الطويل وأمسكه بعيداً عن وجهها وباليد الأخرى كان يسند جبهتها برفق ويفرك ظهرها بحركة دائرية هادئة.
همس بجانب أذنها
_طلّعي كل اللي تاعبك يا حبيبتي... أنا معاكي.
كان وجوده بحد ذاته مهدئاً صوته لمسته ودعمه الصامت جعلوا هذه اللحظات الصعبة أقل قسوة.
بعد أن انتهت وهدأت قليلاً كانت تشعر بالإنهاك
لم تكن لديها القوة حتى لرفع رأسها.
بكل هدوء فتح جاسر صنبور المياه وبلل منشفة صغيرة ومسح وجهها وشفتيها برفق شديد مزيلاً أي أثر للتعب ثم دون أن ينطق بكلمة، انحنى وحملها بين ذراعيه كأنها ريشة خفيفة.
همست بتعب
_جاسر... أقدر أمشي.
أسكتها وهو يسير بها نحو السرير.
_هششش مهمتك دلوقتي إنك ترتاحي وبس.
وضعها على السرير برفق وغطاها جيداً ثم جلس بجانبها يمرر يده على شعرها حتى غفت مرة أخرى وهي تشعر بأمان لا مثيل له.
مرت الشهور وبدأت بطن نغم تكبر وتستدير بشكل واضح خاصة بعد أن فاجأتهم الدكتورة زينة بخبر آخر:
لم يكن هناك طفل واحد، بل اثنان كانت نغم حاملاً في توأم.
الفرحة كانت لا توصف لكن معها زاد الثقل وزادت المتاعب أصبحت حركتها أبطأ وأكثر حذراً أبسط المهام كالانحناء لالتقاط شيء من الأرض أو حتى ارتداء حذائها أصبحت تحدياً كبيراً.
وهنا كان جاسر هو ظلها الذي لا يفارقها.
في إحدى الأمسيات كانت نغم تحاول ارتداء حذائها المنزلي للذهاب إلى الشرفة انحنت بصعوبة، وتأوهت بألم خفيف وهي تحاول الوصول إلى قدميها.
فجأة شعرت بيدين قويتين تمنعانها من الانحناء.
كان جاسر قد جلس على ركبتيه أمامها على الأرض
قال بابتسامة دافئة
_سيبي الموضوع ده عليا.
أمسك بقدمها برقة وألبسها الحذاء ثم فعل الشيء نفسه مع القدم الأخرى
رفعت نغم حاجبها بدهشة مصطنعة
_جاسر بيه بنفسه بيلبسني.
نظر إليها من مكانه وهو لا يزال جاثياً على ركبتيه، وابتسم
_جاسر بيه وكل ما يملك تحت أمرك إنتي واللي في بطنك.
لم يكن هذا الموقف الوحيد كان يصر على مساعدتها في النهوض من الأريكة واضعاً وسادة خلف ظهرها دائماً.
كان يستيقظ في منتصف الليل ليحضر لها كوب الماء الذي تطلبه أو قطعة الفاكهة التي تشتهيها فجأة
كان اهتمامه يتجلى في كل تفصيلة صغيرة، في نظرات الحب والقلق في عينيه كلما رآها تتألم، في لمساته الحنونة على بطنها، وفي كلماته التي كانت دائماً ما تجعلها تشعر بأنها ملكة متوجة على عرش قلبه. لقد حوّل فترة الحمل المليئة بالتعب إلى أجمل رحلة، رحلة يخوضانها معاً، يداً بيد، وقلباً بقلب.
❈-❈-❈
بعد مرور ثلاثة أشهر كانت حديقة قصر عائلة الرفاعي تعج بالحياة والألوان.
الشمس كانت دافئة وحنونة والضحكات كانت تتناثر في الهواء كأنها جزء من عبير الزهور.
كان الحاج وهدان يجلس في صدر المجلس الخارجي يراقب أحفاده وأبناءهم بعينين تلمعان بالرضا والسعادة.
بجانبه كان يجلس سالم ومالك بينما كانت روح ووعد ونغم يجلسن على مقربة يتبادلن أطراف الحديث وهن يراقبن أطفالهن.
كانت الأجواء مثالاً للسكينة الأسرية مالك كان يروي موقفاً طريفاً حدث معه في العمل، والجميع يضحكون من قلوبهم.
كانت روح تنظر إليه بحب عميق، ذلك الحب الذي نضج وتجذر، كانت طفلتهما تحبو بخطوات مترنحة على العشب الأخضر، تكتشف العالم بعينيها الواسعتين.
على بعد أمتار قليلة كان عدي الصغير ابن سند ووعد، طفل في مثل عمرها تقريباً فقط يكبرها بأربع شهور يراقبها بتركيز شديد، كأنه حارسها الشخصي الذي لا يغفل عنها لحظة.
فجأة، قطع هذا الهدوء صوت صراخ وبكاء حاد.
صرخة طفل صغير لكنها مليئة بالهلع.
انتفض الجميع واقفين وتوجهت أنظارهم فوراً نحو مصدر الصوت.
كان عدي الصغير، ابن سند، هو الذي يصرخ ويبكي بحرقة.
جرى سند ومالك والجميع خلفهما بقلق، ليجدوا مشهداً غريباً ومؤثراً.
كانت نور الصغيرة قد ابتعدت عنهم وهي تحبو بحماس نحو بركة مياه صغيرة في نهاية الحديقة، لم تكن تدرك الخطر بل كانت منجذبة للون الماء وحركة الطيور التي تنزل من السماء لترتوي منها، وخلفها مباشرة كان عدي الصغير ممسكاً بطرف فستانها بكل ما أوتي من قوة، يشدها بعيداً عن الماء وهو يصرخ ويبكي
لم يكن بكاء غيرة أو غضب، بل كان بكاء خوف حقيقي، خوف طفل صغير يحاول حماية أغلى ما لديه من خطر لا يفهمه تماماً لكنه يشعر به.
عندما رأى الجميع هذا المشهد، تبدد القلق وحل محله مزيج من الدهشة والحنان.
انفجروا جميعاً في ضحكات دافئة وصادقة.
تقدم مالك وحمل ابنته نور بين ذراعيه، وقبلها وهو يهدئها.
وفي نفس اللحظة حمل سند ابنه عدي الذي تشبث به وما زالت شهقات البكاء تهز جسده الصغير.
نظر مالك إلى سند بابتسامة واسعة وعينين تملؤهما المودة، وقال بصوتٍ عالي ليسمعه الجميع
_ خلاص يا چماعة أنا كدة اطمنت على بتي ليها ضهر وسند من دلوجت
ضحك سند وهو يمسح دموع ابنه ويربت على ظهره.
_ ضهر إيه بس؟ ده من أولها وبنتك مجنناه ومطلعة عينه أومال لما تكبر شوية هتعمل في الواد إيه؟
علت ضحكات العائلة مرة أخرى، وهي ترى بداية قصة حب بريئة تتشكل أمام أعينهم.
كان مشهداً أسرياً جميلاً لوحة دافئة تملؤها السعادة وتؤكد أن جذور الحب في هذه العائلة قوية، تمتد لتورثها الأجيال الجديدة، وتزهر في قلوب الصغار قبل الكبار.
بينما كانت الضحكات تملأ المكان اقتربت وعد من سند وأخذت منه عدي الصغير الذي كان لا يزال يشهق شهقات متقطعة.
ضمته إلى صدرها وقبلت رأسه الصغير.
_ خلاص يا جلبي خلاص يا بطل أنت أنقذت نور.
نظر الطفل إلى أمه بعينين دامعتين ثم نظر مرة أخرى نحو نور التي كانت بين ذراعي أبيها تنظر إليه بفضول ودهشة كأنها لا تفهم سبب كل هذه الجلبة.
اقتربت روح من مالك وهي تضحك بخفة ومررت يدها على شعر ابنتها.
_ شكلها هتتعبنا البنت دي من دلوجت.
أجابها مالك وهو يضمها إليه بذراع واحدة ويقبل رأس ابنته مرة أخرى
_ تتعبنا براحتها المهم إن ليها اللي يخاف عليها.
في تلك اللحظة تحدث الحاج وهدان بصوته العميق الذي يحمل حكمة السنين، وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة صافية.
_ الحب يا ولادي رزج وزي ما الأرض بتطرح زرع، الجلوب بتطرح حب والعيال دي طرح جلوبكم
شايفين الحب اللي بينكم بيطلع فيهم إزاي من جبل حتى ما يعرفوا يتكلموا.
عم الصمت للحظات والجميع يتأملون كلمات الجد العميقة.
كانت حقيقة واضحة كالشمس فالحب الذي جمع مالك وروح بعد كل الصعاب، والحب الذي انتصر لسند ووعد، والحب الذي شق طريقه بقوة بين جاسر ونغم، كل هذا الحب كان ينسج خيوطه الآن حول الجيل الجديد.
قالت وعد وهي تبتسم وتضع يدها على بطنها التي بدأت تظهر عليها علامات الحمل بوضوح
_ ربنا يخليهم لبعض ويحميهم شكل عدي هيتعب أوي مع بنات العيلة دي.
ضحك سند الذي كان يقف بجانبها ووضع يده فوق يدها.
_ خليه يتعب، الرجالة مبتتعلمش غير لما بتتعب.
عادت العائلة لتجلس مرة أخرى، لكن الأجواء كانت أكثر دفئاً وحباً.
وضع مالك ابنته نور على العشب مرة أخرى، فما كان من عدي الصغير إلا أن نزل من حضن أمه فوراً وجلس بجانبها يراقبها عن كثب كأنه أخذ على عاتقه مهمة حمايتها بشكل رسمي.
نظر الحاج وهدان إلى هذا المشهد، إلى أحفاده وأزواجهم وأبنائهم وشعر بسلام عميق يغمر روحه.
لقد كانت هذه هي الثروة الحقيقية وهذا هو الإرث الذي سيبقى.
عائلة متماسكة يجمعها الحب، وتتوارثه الأجيال.
❈-❈-❈
كانت شمس العصر الذهبية ترسم ظلالا طويلة على أرض الإسطبل الواسعة ووقفت نغم عند السياج الخشبي تضع يديها برفق على بطنها التي استدارت وكبرت في شهرها الأخير تحمل بثقل لذيذ وعدًا بحياة جديدة.
كانت عيناها معلقتين بالرجل الذي امتلك قلبها جاسر وهو يمتطي صهوة بركان.
كان الحصان الأسود كتلة من العضلات القوية اللامعة جوهرة سوداء تتحرك بقوة ورشاقة، وعلى جسده كانت الندوب القديمة لا تزال واضحة.
خطوط فضية تحكي قصة نجاة وألم تماما مثل راكبه، كان جاسر واحدًا مع حصانه، جسده يتحرك بتناغم تام مع كل حركة لبركان كأنهما مخلوق واحد بقلبين، كان يسيطر عليه ليس باللجام والقوة بل بلغة صامتة من الثقة والاحترام المتبادل.
بإشارة خفيفة من جاسر انطلق بركان في عدو سريع
ولفت الريح شعر جاسر الأسود، وكانت الشمس تبرز قوة ملامحه الرجولية الحادة.
كانت نغم تراقبه بحب يملأ قلبها ويفيض من عينيها لم تعد ترى فيه الرجل القاسي الذي اختطفها، بل رأت الرجل الذي حارب العالم من أجلها
الرجل الذي يحمل ندوبه بفخر والذي أصبح أمانها وملاذها.
وفجأة بإشارة أخرى من جاسر توقف بركان بشكل مفاجئ، ثم انتصب على قائمتيه الخلفيتين في استعراض مهيب للقوة والسيطرة، ارتفع جسد الحصان الضخم في الهواء وجاسر عليه ثابت كجبل يمسك باللجام بيد واحدة ووجهه يحمل تعابير الثقة المطلقة، تجمدت أنفاس نغم للحظة وهي ترى هذا المشهد الذي يجسد القوة الجامحة والجمال الخطير.
بعدها هبط الحصان بهدوء على الأرض ورتب جاسر على عنقه بفخر.
قفز من على صهوته برشاقة وترك اللجام لأحد الرجال ثم توجه مباشرة نحو نغم بخطوات واثقة وعيناه لم تفارقاها للحظة.
عندما وصل إليها لم يتحدث انحنى وقبلها قبلة رقيقة على خدها ثم انزلقت يده الكبيرة الدافئة لتستقر بحنان على بطنها المنتفخة، وشعر بحركة خفيفة تحت كفه فابتسم.
_ لسه تعبانة
سألها بصوت عميق وحنون صوته الذي أصبح موسيقاها المفضلة.
هزت رأسها وابتسمت له بحب.
_ لأ الوجع بيروح وييجي أنا دلوقتي أحسن بكتير خصوصا لما بشوفك إنت وبركان.
نظر في عينيها مباشرة نظرة اخترقت روحها.
_ خايفة؟
سألها وهو يعرف الإجابة.
تنهدت بخفة.
_ شوية، فكرة إنهم اتنين وإن الولادة قربت بتخوفني.
ضمها إليه برفق محيطا إياها بذراعيه القويتين جاعلًا إياها تشعر بأنها في أكثر مكان آمن في العالم.
_ طول ما أنا بتنفس مفيش حاجة تخوفك أنا معاكي يا نغم، ومش هسيبك لحظة واحدة هندخل المستشفى مع بعض وهكون جنبك، وأول عين هيشوفوها لما ييجوا الدنيا هتكون عين أبوهم، إنتي شايلة حتتين من قلبي تفتكري ممكن أسيبك.
أغمضت عينيها واستندت برأسها على صدره العريض تستمع لنبضات قلبه القوية والمنتظمة، شعرت بالسلام يغمرها وبكل مخاوفها تتلاشى بين ذراعيه، كانت تعرف أنها ليست فقط زوجته وحبيبته، بل كانت ملكة متوجة على عرش قلبه
قلب هذا الرجل القوي كان هو وطنها الأبدي.
كان الليل هادئًا وعميقًا وضوء القمر الفضي يتسلل من النافذة ليرسم ظلالا ناعمة داخل الغرفة.
كانت نغم نائمة في حضن جاسر رأسها على صدره ويده الكبيرة تحيط بها وببطنها بحماية تامة.
فجأة وبدون سابق إنذار انتفض جسدها كمن لدغته أفعى
فتحت عينيها على ألم حاد ومفترس ألم لم تشعر بمثله من قبل، كان موجة عاتية من الوجع تجتاح جسدها وتسرق أنفاسها.
أطلقت صرخة مكتومة وحاولت أن تتحرك لكن الألم شل حركتها، أمسكت بيد جاسر التي على بطنها وضغطت عليها بكل قوتها.
_ جاسر.... جاسر.... اصحى.
قام جاسر من نومه على الفور كجندي في معركة، قفز من السرير مخضوضا ورأى وجه نغم يتلوى من الألم وعيناها مغرورقتان بالدموع.
_ نغم مالك في إيه حبيبتي؟
قالت بصوت متقطع يخنقه الوجع
_نادي على أمي بسرعة، بسرعة يا جاسر.
لم يسأل لم يجادل ركض خارج الغرفة كالإعصار وهو يصرخ باسم أمه.
عاد في ثواني ومعه ونس التي دخلت الغرفة وهي تفتح عينيها بصعوبة ووجهها يملؤه القلق.
_ خير يا بنتي مالك؟
نظرت إليها نغم بعينين متوسلتين.
_مش قادرة المرة دي صعب أوي... صعب أوي
وضعت ونس يدها الخبيرة على بطن نغم ثم نظرت إلى ابنها بحسم.
_ دي ولادة يا جاسر لازم نوديها المستشفى حالا.
قال جاسر بقلق وهو يحاول تهدئة نفسه
_ يمكن زي كل مرة ألم عادي ويروح.
صرخت فيه نغم بكل ما تبقى لها من قوة صرخة مزجت الألم بالغضب.
_ لأ مش زي كل مرة المرة دي حقيقي حقيقي يا جاسر.
كانت صرختها كافية لتخرس كل شكوكه
نظر إلى والدته بقلق وقال
_أمي لبسيها لحد ما اجهز العربية وآجي أخدها
نظرت إليه وهو يرتدي بيچامة قطنية
_هتروح المستشفى كدة.
انتبه لملابسه
ثم اسرع إلى الخزانة ليخرج ملابس له ودلف بها المرحاض.
بعد دقيقة واحدة صعد جاسر مسرعاً وفي لحظة حملها بين ذراعيه بقوة وحنان ونزل بها الدرج كالمجنون، بينما كانت ونس تجمع بعض الأغراض وتلحق بهما.
في المستشفى كانت كل لحظة تمر كأنها دهر، كانت آلام نغم تتصاعد وتيرتها وقوتها، وجاسر بجانبها لم يترك يدها لحظة واحدة.
كان وجهه شاحبا وقلبه يعتصر مع كل صرخة تطلقها، لكنه ظل صامدا وقويا من أجلها.
كانت تتألم لألمها روحه كانت تتألم معها لكنه كان داعمها الأول.
كان صخرتها التي تستند إليها في هذه العاصفة الهوجاء.
_ مش جادرة يا جاسر هموت مش هجدر أكمل.
قالتها بيأس وهي تتصبب عرقا.
أمسك وجهها بين يديه وجعلها تنظر إليه مباشرة.
_ بصيلي يا نغم بصي في عيني إنتي أجوى من كده بكتير ، إنتي مراتي وأم ولادي إنتي اللي شايلة حتتين من روحي جواكي، حياة ولادنا دلوجت بين إيديكي إنتي، إنتي اللي هتجيبيهم للدنيا دي أنا جنبك أهو مش هسيبك.
كانت كلماته كالمياه الباردة على جمر ملتهب، كانت تمنحها القوة لتستمر.
كلما شعرت بالاستسلام كان يشد على يدها ويقويها بكلامه.
_ يلا يا حبيبتي عشان خاطرهم، عشان خاطرنا إنتي جدها أنا خابر إنك جدها.
كان صوته قويا وحنونا في آن واحد، صوته الذي كان مرساة نجاتها.
كان يمسح العرق عن جبينها يهمس في أذنها بكلمات الحب والتشجيع، يتنفس معها حين تطلب منها الممرضة ذلك.
وبعد ساعات طويلة بدت كأنها عمر كامل ومع صرخة أخيرة مدوية خرج أول التوأم إلى الحياة.
صرخة صغيرة لكنها كانت أقوى من كل ضجيج العالم.
رمش جاسر بعينيه وهو يرى ابنه لأول مرة لكنه لم يترك يد نغم.
شعر برهبة لم يشعر بمثلها من قلبه
رهبة اهتز لها قلبه نظر إلى نغم التي مازالت تتألم وقال بحنو
_اتحملي عشان خاطري.
استمدت نغم قوة جديدة من رؤية طفلها، ومن كلمات جاسر، وبعد دقائق قليلة لحق به أخوه معلنا وصوله بصيحة أخرى هزت أركان الغرفة.
انتهى كل شيء انتهى الألم وحل محله شعور عارم بالحب والإرهاق والسلام
نظر جاسر إلى نغم التي كانت بالكاد تفتح عينيها وقبل جبينها المبلل بالعرق قبلة طويلة تحمل كل الامتنان والحب في العالم.
_ بحبك يا نغم بحبك يا أم ولادي.
ابتسمت ابتسامة باهتة لكنها كانت أجمل ابتسامة رآها في حياته ثم أغمضت عينيها وغطت في نوم عميق
بينما هو ظل بجانبها يمسك يدها ويراقب طفليه اللذين غيرا عالمه إلى الأبد.
❈-❈-❈
كان أكمل مستلقياً على السرير يتصفح هاتفه بملل في هدوء الليل العميق
خرجت صبر من الحمام بخطوات بطيئة كأنها تسير على زجاج مهشم
كان الخوف والتردد واضحين في كل حركة من حركاتها وفي نظرات عينيها القلقة.
اقتربت وجلست على حافة السرير بعيداً عنه.
ترك أكمل الهاتف من يده فوراً وشعر بتوترها.
ابتسم ابتسامة خفيفة وشاور لها بيده أن تأتي لترتمي في حضنه كعادتها.
_ تعالي.
لكنها لم تتحرك ظلت مكانها وأنزلت رأسها وعيناها مثبتتان على يديها اللتين كانت تخفيهما.
زاد خوفها بشكل واضح مما أثار استغرابه وقلقه.
_ صبر مالك في إيه؟
لم تجب فقط هزت رأسها بالنفي.
_ طب إيه اللي مخبياه في إيدك ده وريني.
ضغطت صبر على الشيء الذي في يدها أكثر وقالت بصوت مهزوز
_ مفيش حاجة.
لكن إصرارها هذا زاد من شكه اقترب منها ومد يده بهدوء.
_ صبر قولتلك وريني.
بعد لحظة من التردد فتحت يدها المرتعشة ببطء كان هناك جهاز بلاستيكي صغير أبيض وفي نافذته الصغيرة خطان أحمران واضحان.
أخذه أكمل من يدها وقلبه في كفه لم يفهم ما هذا
نظر إليه ثم نظر إليها.
_ إيه ده؟
ازدردت صبر ريقها بصعوبة وقالت بخوف وتردد
_ ده اختبار.
عقد حاجبيه بعدم فهم.
_ اختبار إيه؟
أخذت نفساً عميقاً كأنها تستعد للقفز من مكان شاهق.
_ اختبار حمل أنا... أنا حامل.
سقطت الكلمة في الغرفة كحجر ثقيل في بئر صامت لم يصدق ما سمعه، اتسعت عيناه وتغيرت ملامحه لكن ليس للفرح بل للقلق والانزعاج.
_ حامل إزاي؟ إنتي مش عاملة حسابك لحاجة زي دي؟
قالت بسرعة وهي تدافع عن نفسها والدموع تتجمع في عينيها
_ معرفش والله معرفش حصل إزاي، أنا منتظمة على البرشام كل يوم ومبفوتش يوم واحد.
رأى أكمل دموعها ورعبها فتغيرت ملامحه.
في الحقيقة كان فرحاً، فرحاً جداً لكن الخوف كان أكبر.
الخوف عليها مما حدث لها في الحمل الأول.
ذكرى مرضها وخطر الموت الذي كانت فيه لا تزال كالجرح المفتوح في ذاكرته.
تنهد بعمق وسحبها برفق إلى حضنه هذه المرة.
_ أنا مش زعلان عشان الحمل، أنا فرحان بس... خايف
خايف عليكي يا صبر.
شعرت بالأمان في حضنه وتشبثت به.
_ المرة دي مختلفة يا أكمل صدقني
أنا هحافظ على نفسي كويس ومش هعمل أي مجهود وإنت هتكون معايا وجنبي صح؟
قال وهو يشدد من احتضانها ويمسح على شعرها
_ طبعاً هكون جنبك بس أنا خايف عليكي.
رفعت رأسها ونظرت في عينيه مباشرة بابتسامة صغيرة متفائلة.
_ خليها على ربنا، وبكرة الصبح نروح للدكتور يطمنا ونمشي على كلامه بالحرف وادينا كلنا بقينا في بيت واحد وقاسم اغلب الوقت مع ماما يعني مفيش حمل عليا.
أومأ برأسه وقبل جبينها قبلة طويلة كان الخوف لا يزال موجوداً لكن الأمل بدأ يتسلل إلى قلبه ببطء.
❈-❈-❈
فتحت نغم عينيها ببطء شديد شعرت بثقل في جفونها وكأنها كانت نائمة لدهر كامل.
كان أول ما استقبلها هو رائحة المستشفى المميزة
حركت رأسها بصعوبة لتستكشف المكان، فوجدت نفسها في غرفة خاصة هادئة والضوء الخافت يتسلل من بين ستائر النافذة.
نظرت حولها بتعب، فوقع نظرها على الأريكة المجاورة لسريرها.
كان هناك جاسر نائما بملابسه لم يغيرها.
كان جسده منحنيا بزاوية غير مريحة على الكنبة الصغيرة، وكان شعره مبعثر في تعبير عن إرهاق عميق.
كانت يده ممسكة بطرف الغطاء الذي يغطيها كأنه حتى في نومه يرفض أن يتركها.
شعرت بفيض من الحنان يغمر قلبها وهي تراه بهذه الحالة.
مدت يدها المرتعشة ولمست ذراعه برفق.
_ جاسر
انتفض جسده وفتح عينيه على الفور
للحظة بدا تائها ثم رآها مستيقظة تنظر إليه.
في تلك الثانية تغيرت ملامحه بالكامل تبدد الإرهاق وحل محله مزيج من الفرحة واللهفة والراحة التي لا توصف.
نهض بسرعة وجلس على حافة السرير بجانبها وأمسك يدها بكلتا يديه يحاول نفض النعاس من عينيه
_ نغم حمدلله على السلامة يا روح قلبي حمدلله على السلامة.
كان صوته متقطعا ومبحوحا من قلة النوم والقلق تنهد بتعب
_ خوفتيني عليكي أوي يا نغم كنت هموت من الخوف.
ابتسمت له ابتسامة باهتة.
_ أنا كويسة الحمد لله، كانت لحظة صعبة بس .
حاولت التحرك لكنها تأوهت بألم
منعها جاسر
_خليكي مرتاحة متتحركيش.
_ الولاد فين؟
_ كويسين وزي الفل حطوهم
في الحضانة تحت الملاحظة بس صحتهم زي الحديد متخافيش.
قالها بسرعة ليطمئنها ثم عاد ليمسك وجهها بين يديه ويتأملها كأنه يراها لأول مرة.
_ المهم إنتي إنتي كويسة حاسة بحاجة وجعاكي أنادي الدكتور
هزت رأسها بالنفي وهمست
_ أنا كويسة طول ما أنت جنبي.
انحنى وقبل جبينها قبلة طويلة وعميقة تحمل كل ما في قلبه من حب وخوف وشكر.
_ أنا جنبك ومش هسيبك أبدا، إنتي أحلى وأغلى هدية ربنا بعتهالي
إنتي وولادنا غيرتوا دنيتي كلها.
ظل بجانبها يهتم بها بأدق التفاصيل
عدل لها الوسادة وغطاها جيداً ثم أحضر لها كوبا من الماء وساعدها على الشرب برفق شديد.
كان اهتمامه يفوق الوصف كأنه يتعامل مع أثمن جوهرة في الكون.
بعد فترة من الصمت المريح قالت بصوت ضعيف
_ شوفتهم
ابتسم جاسر بحب.
_ شوفتهم ومليت عيني منهم واحد نسخة منك والتاني واخد مني شوية.
_ طب هنسميهم إيه
سألت وهي تنظر إليه بترقب
أمسك يدها مرة أخرى.
_ أنا كنت بفكر في أسماء بس قولت لازم نختارها سوا، دي أول حاجة نعملها.
_ قول اللي في بالك.
_ الولد اللي شبهك كنت عايز أسميه "يامن" اليمن والبركة
و"تميم" كامل الخلق
عشان يبقى حظهم في الدنيا زي اسمهم
لمعت عينا نغم بالدموع وهي تسمع اختياراته المليئة بالحب والوفاء.
_ خلاص نسميهم يامن وتميم
ابتسم جاسر براحة وسعادة.
_ يبقى اتفقنا تميم ويامن التهامي.
ضم يدها إلى صدره وشعر بأن قلبه سيتوقف من فرط السعادة.
لقد أعطاه الله كل شيء، أعطاه حبيبته التي أصبحت زوجته، وأعطاه طفلين سيحملان اسمه ويملآن حياته.
نظر إليها مرة أخرى وهي تغمض عينيها بتعب وسلام، وأقسم في قلبه أنه سيفني عمره كله ليحافظ على هذه السعادة وعلى هذه الملكة التي توجت حياته.
ضم يدها إلى صدره وشعر بأن قلبه سيتوقف من فرط السعادة.
لقد أعطاه الله كل شيء، أعطاه حبيبته التي أصبحت زوجته، وأعطاه طفلين سيحملان اسمه ويملآن حياته.
نظر إليها مرة أخرى وهي تغمض عينيها بتعب وسلام، وأقسم في قلبه أنه سيفني عمره كله ليحافظ على هذه السعادة وعلى هذه الملكة التي توجت حياته.
ثنايا الروح
رانيا الخولي
الخاتمة 2
...............
في منزل الرفاعي
كانت أصوات الضحكات والموسيقى تتعالى من الحديقة الخلفية لقصر الرفاعي، حيث قررت العائلة إقامة حفل شواء كبير للاحتفال.
كان جاسر يقف أمام الشواية الضخمة وقد شمر عن ساعديه القويين، يتولى مهمة الشواء بجدية تامة كأنه في مهمة عسكرية.
بجانبه كان مالك يساعده ويمرر له الأطباق، وكانا يتبادلان حديثاً هادئاً وضحكات متقطعة، في مشهد لم يكن أحد ليتخيله قبل سنوات.
على طاولة كبيرة قريبة كانت النساء قد شكلن خليتهن الخاصة.
نغم كانت تقطع السلطة بينما كانت روح تحضر بعض المقبلات، ووعد كانت تضع اللمسات الأخيرة على طاولة الطعام.
كانت صبر تراقبهن بابتسامة هادئة وهي تهدهد طفلتها الصغيرة التي غفت بين ذراعيها.
اما الجيل الجديد فكان قد استولى على الحديقة بالكامل.
يامن وتميم توأم جاسر، كانا يقودان فريقاً في مباراة كرة قدم حماسية ضد عدي ابن سند وقاسم ابن أكمل الذي كان يدافع عن مرماه ببراعة وشجاعة.
كانت نور ورحيق ابنة أكمل تقفان بجوار صبر تداعبان تلك الصغيرة سيلا
وفجأة، انطلقت كرة القدم بقوة نحو طاولة النساء صرخت روح بمرح وهي تتفادى الكرة التي استقرت في طبق السلطة.
ركض يامن الصغير نحو الطاولة وهو يلهث ووجهه يعتذر براءة.
_ أنا آسف يا خالتو روح، بس خالو سند السبب.
نهض سند من كرسيه متظاهراً بالغضب.
_ أنا السبب يا ولد؟ ليه عملت ايه؟
رد يامن بقوة مع الحفاظ على آداب الحديث.
_شطلك الكورة وانت كنت بتبص على خالتو وعد وبتغمزلها.
ضحك الجميع مما أخجل سند ووعد
_وانا مالي بتشوط الكرة ليا، انا كنت بلعب معاكم.
فنظر إلى جاسر وقال بغيظ
_ما تشوف صرفة في ابنك ده، الواد لماح بشكل غريب.
نظر جاسر إلى ابنه وأشار له بالتقدم
طاوعه يامن وتقدم بخطوات واثقة، ووقف أمام أبيه رافعاً رأسه لا تبدو عليه أي علامات خوف بل نظرة احترام وانتظار.
لم يوبخه جاسر ولم يرفع صوته بل انحنى قليلاً ليصبح في مستوى نظر ابنه، ووضع يده الكبيرة على كتفه الصغير.
نظر في عينيه مباشرة وبدأ حديثه بصوت هادئ وعميق، صوت لا يسمعه سواهما تقريباً.
_ أنت شوفت خالك سند بيبص لخالتك وعد؟
أومأ يامن برأسه بجدية.
_ أيوه يا بابا.
سأل جاسر بهدوء.
_يعني خالك سند بيحب خالتك وعد؟
أجاب الطفل بثقة.
_ أيوه طبعاً.
_ طيب يا بطل لما الراجل يبص لمراته اللي بيحبها، دي حاجة بينهم هما الاتنين بس
حاجة خاصة وجميلة، زي الأسرار الحلوة وإحنا كرجالة من أصولنا إننا نحفظ السر، ومنكشفش ستر حد حتى لو كان في الهزار
عينك شافت حاجة يبقى تخليها في قلبك متطلعهاش على لسانك قدام الناس كلها فهمتني؟
كان يامن يستمع بتركيز شديد كأنه يتشرب كل كلمة، لم يشعر بالإهانة أو بأن أباه يوبخه، بل شعر بأنه يعطيه درساً مهماً سراً من أسرار الرجال.
هز رأسه الصغير بقوة.
_ فهمت يا بابا أنا آسف.
ربت جاسر على كتفه بفخر.
_ مش عايزك تتأسف عايزك تتعلم أنت عينك لماحة وبتشوف اللي غيرك مش بيشوفه، ودي حاجة هتميزك لما تكبر
بس القوة الحقيقية مش في اللي بتشوفه، القوة في اللي بتعرف إمتى تتكلم عنه، وإمتى تسكت وتحفظه لنفسك.
ثم وقف جاسر بكامل قامته، ونظر إلى سند الذي كان يراقب الموقف بفضول، وقال بصوتٍ عالي ومرح، ليغير الأجواء تماماً
_ خلاص يا سند الواد اعترف بغلطه بس برضه، خلي بالك بعد كده عيون الصقور الصغيرة دي مبتسيبش حاجة.
ضحك الجميع مرة أخرى، وقد أُعجبوا بطريقة جاسر الحكيمة في التعامل مع الموقف.
لقد علم ابنه درساً في الأدب وحفظ الخصوصية، دون أن يحرجه أو يقلل من شأنه أمام العائلة، بل على العكس منحه شعوراً بالمسؤولية والثقة.
عاد يامن إلى الملعب لكن هذه المرة كانت خطواته أكثر نضجاً، وعيناه تحملان بريقاً جديداً، بريق طفل تعلم للتو درساً لن ينساه أبداً من الرجل الذي هو مثله الأعلى في هذا العالم.
كانت نغم تراقبه من بعيد، وقلبها يفيض فخراً وحباً.
رأت كيف تعامل مع ابنهما كيف علّمه درساً في الرجولة والأصول بحكمة وهدوء، دون أن يجرح كبرياء طفل أو يحرجه أمام الجميع.
هذا هو جاسر الذي عشقته، ليس فقط بقوته وهيبته بل بحكمته التي تظهر في أدق المواقف.
تركت ما في يدها واقتربت منه بخطوات هادئة، كأنها فراشة تنجذب إلى النور وقفت بجانبه تماماً، وشعرت بدفء الشواية يمتزج بدفء وجوده.
_ شكل اللحمة استوت هات عنك كفاية عليك.
قالتها بصوتٍ ناعم، وكانت حجة واهية لتكون بقربه.
لم يلتفت إليها جسده بالكامل، بل أدار رأسه فقط لكن نظرته كانت كافية لتخترقها.
ذلك الشموخ وتلك القوة التي كانت واضحة للجميع قبل لحظات، بدأت تذوب وتلين تحت تأثير نظرتها وحدها ابتسم ابتسامة خفيفة، ابتسامة لا يراها سواها.
_ تعبك راحة يا عمري.
تعلقت عيناها بعينيه وقالت بصدق يملأ صوتها
_ أنا فخورة بيك أوي يا جاسر، فخورة بالطريقة اللي بتربي بيها ولادنا.
اقترب منها خطوة حتى كاد كتفه يلامس كتفها، وانخفض صوته ليصبح همساً حنوناً لا يسمعه غيرها وسط ضجيج الحفل.
_ وأنا كل اللي بعمله عشان أبقى الراجل اللي يستاهل فخرك ده.
عشان لما يبصوا في عينيكي، يشوفوا نظرة الرضا دي.
شعرت بخجل لذيذ يلون وجنتيها. مدت يدها لتأخذ منه ملقط الشواء، فتلامست أصابعهما للحظة وسرت في جسدها قشعريرة دافئة ومألوفة.
_ أنت أحسن أب في الدنيا.
أمسك يدها برفق ومنعها من أخذ الملقط.
_ خليكي مرتاحة، النهاردة يومك ويوم الولاد.
أنا اللي هخدمكم كلكم.
نظرت إلى يده الكبيرة التي تمسك بيدها، ثم رفعت نظرها إليه مرة أخرى، وقد تاهت في عمق عينيه.
_ وجودك جنبي بالدنيا كلها.
لم يستطع المقاومة أكثر ترك الملقط جانباً وبحركة سريعة لم يتوقعها أحد، استدار وأحاط خصرها بذراعه، وسحبها خلف الشواية، في زاوية خفية عن أعين الجميع ونظر في عينيها التي تسحره
_ بتعملي فيا إيه بنظراتك دي؟ بتخليني أنسى الناس والدنيا كلها.
ضحكت بخفة وهي تضع يديها على صدره العريض.
_ أنا معملتش حاجة.
نظر في عينيها مباشرة، وبنبرة تحمل مكراً محبباً قال وهو يبتسم
_ عموماً، حسابنا مش هنا أنا لسه مستني المكافأة بتاعتي اللي اتفقنا عليها بالليل، بعد ما الصقور الصغيرة دي تنام.
اتسعت عيناها بخجل لذيذ وهي تفهم ما يرمي إليه، وضربته بخفة على صدره.
_ جاسر!
ضحك ضحكة رجولية عميقة، ثم قبلها قبلة سريعة على خدها وتركها قبل أن يلاحظهما أحد، وعاد إلى الشواية وكأن شيئاً لم يكن تاركاً إياها بقلبٍ يخفق بشدة، ووجهٍ متورد ووعدٍ بليلة لا تشبه إلا حكاياتهم الخاصة.
❈-❈-❈
كانت روح تضحك مع نغم ووعد، لكن عينيها لم تفارق مالك أبداً.
كانت تراقبه وهو يتحدث مع جاسر
فجأة، نهض مالك وحمل طبق التقديم الكبير الذي امتلأ تقريباً، وقال بصوتٍ عالي
_ أنا هدخل الطبق ده المطبخ عشان ميبردش وأجيب غيره.
تقدمت منه روح لتأخذه
_هاته انا هدخله.
غمز لها بعينيه بطريقة فهمتها روح على الفور، الإشارة الخفية في عينيه
انتظرت لحظات قليلة حتى اختفى داخل القصر ثم اعتذرت من نغم ووعد بهدوء، وتحججت بأنها ستجلب بعض المناديل ولحقت به.
ما إن خطت بقدميها داخل المطبخ الهادئ، حتى شعرت بالباب يغلق خلفها بهدوء وقبل أن تستدير كانت ذراعا مالك القويتان تحيطان بخصرها من الخلف، وسحبها برفق حتى التصق ظهرها بصدره العريض.
أغمضت عينيها واستنشقت عطره المميز الذي تعشقه، ومالت برأسها للخلف لتستند على كتفه.
_ كنت عارفة إنك عملتها حجة.
همست بصوتٍ ناعم.
دفن مالك وجهه في عنقها وقبلها قبلة رقيقة جعلت قشعريرة لذيذة تسري في جسدها.
_ ومكنتش أقدر أستنى أكتر من كده.
همس في أذنها بصوتٍ عميق وحنون. _ بقالي ساعة شايفك بتضحكي من بعيد، وحاسس إني عايز أخطفك من وسط الناس كلها وأخلي الضحكة دي ليا لوحدي.
استدارت بين ذراعيه لتواجهه، ولفت يديها حول رقبته.
نظرت في عينيه التي كانت تلمع بحب عميق، حب ناضج وهادئ كشخصيته تماماً.
_ وأنا كل ضحكة بتطلع مني بتكون بسببك ولِيك يا مالك.
مرر إبهامه برقة على خدها متتبعاً خط فكها.
_ تعرفي إني كل يوم بصحى فيه وألاقيكي جنبي، بحمد ربنا ألف مرة إنه عوضني بيكي.
إنتي جيتي ومليتي كل الفراغ اللي في حياتي خليتي للدنيا طعم ولون.
اهتزت نظراتها من فرط السعادة.
_ وإنت الأمان والسند اللي كنت بتمناه طول عمري.
وجودك جنبي بيخليني أحس إني أقدر أواجه أي حاجة في الدنيا.
لم يعد يحتمل أكثر انحنى ببطء وقبّلها لم تكن قبلة عاصفة أو جائعة، بل كانت قبلة عميقة وحنونة، تحمل كل مشاعر الامتنان والشوق والسلام التي يشعر بها معها.
كانت قبلة تحكي قصة حبهما، قصة بدأت بالتردد والخوف وانتهت باليقين المطلق بأنهما خلقا ليكونا معاً.
ابتعد عنها قليلاً وظل جبينه ملتصقاً بجبينها، وأنفاسهما تختلط.
_ بحبك يا روح.
ردت عليه بنفس الهمس الحالم
_ وبحبك يا قلب وروح الروح.
في تلك اللحظة، في هدوء المطبخ البعيد عن صخب الحفل، كانا يعيشان في عالمهما الخاص، فقاعة من الحب النقي الذي لا يحتاج إلى كلمات كثيرة ليعبر عن نفسه، مكتفياً بنظرة عين، ولمسة يد، وقبلة تحمل كل معاني الوطن.
كانت صبر تجلس بهدوء تراقب هذا التجمع العائلي الدافئ وقلبها يمتلئ بشعور جديد لم تعرفه من قبل.
لقد قضت سنواتها في وحدة وخوف، أما الآن فهي اخواتها.
روح ونغم ووعد يتحدثن معها كأنها كانت دائماً جزءاً منهن، يسألنها عن طفلتها ويضحكن معها.
لأول مرة شعرت بأنها تنتمي لمكان ما، بأنها ليست دخيلة أو غريبة بل واحدة منهم.
بعد انتهاء الأكل وبدء الجميع في الاسترخاء، اقترب منها أكمل الذي كان يراقبها من بعيد يرى في عينيها تلك السعادة الهادئة التي لم يرها فيها من قبل.
انحنى وهمس في أذنها بصوتٍ حنون
_ يلا بينا عشان ترتاحي الجو برد على سيلا.
تغيرت ملامحها قليلاً وظهر على وجهها ظل من الحزن نظرت إليه برجاء.
_ خلينا شوية كمان يا أكمل أنا... أنا حابة القعدة هنا.
نظر أكمل في عينيها وفهم على الفور فهم أنها لا تريد أن تترك هذا الشعور بالدفء والأمان.
لم يغضب أو يصر بل ابتسم ابتسامة مطمئنة، وأمسك يدها برفق بين يديه
_ وأنا كمان حابب أشوفك مبسوطة وسطهم.
صمت للحظة ثم أكمل بنبرة تحمل وعداً صادقاً
_ أوعدك دي مش هتكون آخر مرة كل فترة هجيبك ونيجي نقضي اليوم كله معاهم، لحد ما تزهقي منهم بنفسك.
ابتسمت ابتسامة حقيقية وشعرت بالامتنان لكلماته.
لكنه اقترب أكثر وانخفض صوته ليصبح همساً عميقاً ومغرياً لا يسمعه سواها.
_ بس دلوقتي عايز أروح.
نظرت إليه باستفهام، فأكمل بنفس النبرة التي جعلت قلبها يخفق بشدة
_ وحشتيني اليوم كله وإنتي بعيدة عني وسط الناس، وأنا قاعد بعد الدقايق عشان أخطفك ونرجع بيتنا
عايز أعوضك بطريقتي الخاصة عن كل دقيقة شايفك فيها قدامي ومش قادر أقولك بحبك، شوفي بقى تمن ساعات بكام دقيقة وبكام كلمة بحبك.
كانت كلماته كفيلة بأن تشعل النار في وجنتيها وتجعل أنفاسها تتسارع لم تكن مجرد كلمات، بل كانت اعترافاً صريحاً بحبه العميق، ورغبته في أن يكون هو عالمها وأمانها.
رأت به العاشق الذي يغار عليها من نسمة الهواء، والذي يريد أن يمتلك كل لحظة من حياتها.
لم تعد قادرة على المقاومة أومأت برأسها بصمت موافقة على طلبه الذي لم يكن طلباً، بل كان دعوة لعالمه الخاص.
نهض أكمل وساعدها على النهوض، ثم ودّعا العائلة بحجة إرهاق صبر وحاجتها للراحة.
نادى على قاسم وليان الذين أصروا على البقاء فأخبره جاسر بأنه سيقوم بتوصيلهم في طريقه.
وفي طريقهم للخروج أحاط خصرها بذراعه بقوة تملكية، كأنه يعلن للجميع أنها ملكه وحده وبينما كانا يسيران نحو السيارة تحت ضوء القمر، كانت صبر تعرف يقيناً أنها لم تعد سجينة خوفها، بل أصبحت متيمة بحب هذا الرجل الذي انتشلها من بؤسها، ثم أعاد بناءها من جديد على قواعد من العشق والاهتمام.
❈-❈-❈
وقف الحاج وهدان وسالم الأب يراقبان المشهد من بعيد، وعلى وجهيهما ابتسامة رضا عميقة.
قال سالم لوالده
_ شوفت يا بوي؟ كأن ربنا بيعوضنا عن كل السنين الصعبة اللي فاتت.
رد الحاج وهدان بصوتٍ هادئ يملؤه اليقين
_ دي مش سعادة صدفة يا سالم دي سعادة مبنية على اختيارات صح، على قلوب سامحت وعلى حب كان أقوى من أي تار وأي كره.
دي جنة الدنيا اللي كل واحد فيهم زرعها بإيده.
في تلك اللحظة أمسك جاسر بقطعة لحم مشوية وقدمها لنغم التي اقتربت منه.
أكلت منها بابتسامة ثم نظرت إلى عائلتها الممتدة إلى هذا المزيج الرائع من الضحكات والأصوات والحركة.
لم تكن مجرد عائلة مجتمعة، بل كانت سيمفونية متناغمة، كل فرد فيها يعزف لحنه الخاص لكنهم جميعاً يشكلون معزوفة واحدة رائعة عنوانها "الحب".
لم تكن هناك حاجة لكلمات كبيرة أو خطب مؤثرة كانت هذه اللحظة العفوية المليئة بالحياة، هي النهاية السعيدة التي استحقوها جميعاً، بداية لحكايات أخرى لا تنتهي من الدفء والضحك والسند.
❈-❈-❈
كان الهدوء يلف أرجاء بيت أكمل في قلب الصعيد.
انتهت صبر من إطعام ابنتها سيلا ووضعتها في سريرها لتغفو.
كان البيت يبدو فارغاً بدون أكمل وابنهما قاسم اللذين ذهبا معاً إلى المسجد لأداء صلاة العشاء ورحيق التي نامت مبكرا ثم أخبرها بأنه سيمر على أكمل كي يأخذ ليان التي تعلقت بنور بشكل عجيب.
وهو مشهد أصبح يملأ قلبها بالسكينة كل يوم.
فجأة قُطع هذا الهدوء بصوت طرقات على الباب الخارجي.
طرقة مترددة وخفيفة عقدت حاجبيها باستغراب فأكمل معه مفتاحه ومن النادر أن يزورهم أحد في هذا الوقت
لفت حجابها حول رأسها جيداً وتوجهت نحو الباب.
فتحت الباب بحذر لتتجمد الدماء في عروقها.
لم يكن هناك أي احتمال في العالم قد هيأها لهذا الوجه كان والدها.
تسمرت مكانها وعاد بها الزمن سنوات إلى الوراء.
رأت في وجهه كل لحظة قسوة، كل كلمة جارحة كل ليلة قضتها في خوف ورعب.
شعرت بأنفاسها تنسحب من رئتيها وتشبثت بمقبض الباب كأنه طوق نجاتها الوحيد.
لكن الغريب أن نظراته كانت مختلفة تماماً.
لم تكن فيها تلك القسوة الباردة أو الغضب المعتاد كانت عيناه منكسرتين، تحملان تعباً وحزناً لم ترهما فيه من قبل.
_ ازيك يا صبر.
قالها بصوتٍ أجش ومبحوح، صوت رجل هزمه الزمن.
لم تستطع الرد كانت الكلمات عالقة في حنجرتها، والخوف لا يزال يسيطر على أطرافها.
تنهد والدها تنهيدة طويلة وكأنه يخرج معها سنوات من الندم.
_ أنا عارف إنك بتكرهيني وليكي كل الحق.
أنا عاذرك بس أنا اتغيرت يا بنتي الدنيا لفت ودارت عشان تأدبني.
صمت للحظة يجمع شتات نفسه.
_ مرات أبوكي... سرقتني خدت كل اللي ورايا واللي قدامي، وهربت رفعت عليا قضية خلع وسمعت إنها اتجوزت واحد تاني.
حتى إخواتك خدتهم معاها، وقالت في المحكمة إنها خايفة أعمل فيهم زي ما عملت فيكي.
سقطت الكلمات على قلب صبر كالصخر.
_ يمكن كل ده حصل عشان أفوق عشان أعرف غلطتي وأرجع لربنا
أنا النهاردة لما شوفت جوزك وابنك في الجامع، شوفت في عينيه السعادة والرضا.
عرفت إن ربنا كرمك عشان قلبك أبيض خدتها فرصة وجيت عشان أقولك سامحيني، وأعترفلك بغلطي قبل ما أقابل وجه كريم.
بدأ قلب صبر يلين رغم كل شيء هذا الرجل الواقف أمامها لم يعد ذلك الجلاد القاسي، بل رجل عجوز وحيد ومكسور قبل أن تجد الكلمات المناسبة لترد، انطلق صوت حاد وقوي من خلفها.
_ أنت إيه اللي جابك هنا؟
كان أكمل قد عاد ووقف كالصقر يحمي عشه
وابنه قاسم يقف بجانبه ممسكاً بيده لا يفهم ماذا يحدث.
كانت نظرات أكمل نارية جاهزة للانقضاض.
قبل أن يتطور الموقف، وضعت صبر يدها على صدر أكمل لتوقفه.
_ استنى يا أكمل هو كان جاي يقول كلمتين وهيمشي.
فهم أكمل من نظرة عينيها أنها لا تريد المزيد من المشاكل.
تراجع خطوة للخلف لكن عينيه ظلتا مثبتتين على والدها بحذر.
انحنى والدها بصعوبة وقبّل رأس حفيده قاسم الذي كان ينظر إليه باستغراب كانت قبلة تحمل كل الشوق والحرمان في العالم.
ثم استقام ونظر إلى صبر نظرة أخيرة مليئة بالأسف، واستدار ومشى بخطوات ثقيلة، واختفى في ظلام الليل.
ما إن اختفى حتى استدارت صبر وارتمت في حضن أكمل، وانفجرت في بكاءٍ مرير.
بكاء على طفولتها الضائعة وعلى قسوة أبيها وعلى ضعفه وانكساره الآن.
ضمها أكمل إليه بقوة وتركها تفرغ كل ما في قلبها.
_ هششش... اهدي يا حبيبتي خلاص كل حاجة عدت.
قالت بصوتٍ مخنوق بالدموع وهي تتشبث به
_ صعبان عليا أوي يا أكمل.
مسح على شعرها بحنان وهمس بصوتٍ دافئ
_ أنا عارف يا قلب أكمل عارف إن قلبك أبيض ومبيعرفش يشيل طلعي كل اللي جواكي أنا جنبك ومعاكي، وعمري ما هسيبك.
ظل يضمها ويهدهدها حتى هدأت شهقاتها تدريجياً وشعرت بالأمان يغمرها مرة أخرى في حضن الرجل الذي أصبح هو عائلتها ووطنها وملاذها الوحيد.
❈-❈-❈
كانت نغم تجلس على حافة الكرسي في عيادة الدكتورة زينة، تفرك يديها بتوتر واضح.
بجانبها كان جاسر يجلس بهدوء وثقة، يمسك يدها بين يديه يضغط عليها برفق بين الحين والآخر كأنه يمدها بالقوة.
خرجت زينة من غرفة الفحص وعلى وجهها ابتسامة واسعة نظرت إليهما وقالت بمرح
_ مبروك يا جماعة التاريخ يعيد نفسه.
عقدت نغم حاجبيها بعدم فهم بينما ابتسم جاسر كأنه توقع الخبر.
_ يعني إيه يا زينة؟
_ يعني مبروك حامل.
وللمرة التانية ما شاء الله توأم.
شعرت نغم بأن الأرض تدور بها واتسعت عيناها بصدمة حقيقية ووضعت يدها على فمها.
_ تاني؟!
خرجت الكلمة منها كأنها صرخة مكتومة.
_ توأم تاني؟ يا خبر أبيض!
انفجر جاسر في ضحكة قوية وصادقة ثم سحبها إليه واحتضنها بقوة وهو لا يزال يضحك.
_ مالك يا حبيبتي؟ محسساني إنك تعبتي في تربية تميم ويامن
دا إنتي كنتي بتشرفي علينا من بعيد بس، وأنا وأمي وسامية اللي كنا شايلين الليلة كلها.
نكزته نغم في جانبه بغيظ وهي تخرج من حضنه.
_ أنا اللي كنت بشرف؟ طب ومين اللي كان بيسهر الليالي لما كانوا بيعيطوا سوا؟ ومين اللي كان بيغيرلهم وياكلهم بالليل؟
رفع جاسر يديه في استسلام مصطنع وهو يبتسم كي لا يخوض معها جدال لن يعود منه منتصرًا
_ خلاص خلاص حقك عليا
إنتي اللي عملتي كل حاجة بس قوليلي، مش فرحانة؟ البيت هيتملى علينا عزوة ورجالة.
نظرت إليه ورأت الفرحة الصادقة تلمع في عينيه، فابتسمت رغماً عنها.
_ فرحانة طبعاً بس... أربعة! هعمل فيهم إيه دول؟
ضحكت زينة وقالت
_ ربنا يباركلك فيهم ويقويكي، جاسر باشا لازم يجيبلك جيش يساعدك.
في طريق العودة بالسيارة، وبعد أن خفتت نشوة المفاجأة الأولى، حل الصمت.
كان جاسر يقود بهدوء لكنه كان يختلس النظر كل بضع ثوانى إلى نغم التي كانت تنظر من النافذة شاردة، وملامحها تحمل ظلاً خفيفاً من القلق.
مد يده الكبيرة وأمسك يدها التي كانت تستقر على ساقها.
لم تلتفت إليه لكنها شدت على يده.
_ بتفكري في إيه؟
سألها بصوتٍ هادئ وعميق.
تنهدت بخفة.
_ خايفة يا جاسر.
_ من إيه؟
_ من كل حاجة من الحمل تاني، وتعب الولادة والمسؤولية.
تميم ويامن لسه صغيرين برضه ومحتاجين اهتمام، هييجوا اتنين كمان هقدر إزاي أقسم نفسي وقلبي واهتمامي على أربعة؟ خايفة أقصر مع حد فيهم.
أدار السيارة وأوقفها على جانب الطريق الهادئ ثم أدار جسده بالكامل ليواجهها، وأمسك وجهها بكلتا يديه، جاعلاً إياها تنظر في عينيه مباشرة.
_ بصيلي هنا يا نغم، أول مرة لما كنتي حامل في تميم ويامن، كنتي لوحدك؟
هزت رأسها بالنفي.
_ وأنا مكنتش جنبك خطوة بخطوة ولا سبتك لحظة أنا وأمي؟
هزت براسها أيضاً بالنفي.
_ يبقى إيه اللي اتغير المرة دي؟ أنا لسه جنبك وهفضل جنبك، وخوفي عليكي المرة دي أكبر من المرة اللي فاتت.
مش هسيبك لحظة واحدة، من أول يوم لحد ما يقوموا بالسلامة ويجروا على رجليهم.
وبعدين إنتي نسيتي حاجة مهمة.
عقدت حاجبيها باستفهام.
ابتسم بمكر.
_ إنتي بقى معاكي اتنين رجالة في البيت.
تميم ويامن كبروا وبقوا يفهموا دول هيبقوا دراعك اليمين، هيساعدوكي ويشيلوا معاكي.
هنبقى جيش كامل في وش الاتنين الجداد دول.
ضحكت رغماً عنها من طريقة كلامه، وشعرت بأن جبل القلق الذي كان على صدرها بدأ ينهار.
_ يعني أنت مش خايف؟
_ أنا بخاف من حاجة واحدة بس في الدنيا دي كلها يا نغم.
بخاف عليكي إنتي أي حاجة تانية، طول ما إنتي بخير وفي حضني مقدور عليها.
إحنا مع بعض ودي الكلمة اللي بتهد أي خوف.
انحنى وقبلها قبلة عميقة ومطمئنة، قبلة أزالت آخر ذرة من القلق في قلبها.
حين ابتعد كانت عيناها تلمعان بالحب والامتنان لقد كان هذا هو جاسر، صخرتها التي تتكئ عليها، وحصنها الذي يحميها من كل مخاوف العالم حتى تلك التي تسكن داخلها.
❈-❈-❈
كان الليل قد انتصف، وسكنت كل الأصوات في منزل الجبل إلا من همس الريح الخفيف.
أغلق جاسر باب غرفة التوأم الجديدين دانة وديما بهدوء تام بعد أن اطمأن أنهما غرقا في النوم، تماماً مثل أخويهما تميم ويامن في الغرفة المجاورة.
عندما دخل غرفتهما، وجد نغم واقفة في الشرفة، ترتدي ثوباً خفيفاً، وشعرها الطويل يداعبه نسيم الليل.
كانت تنظر إلى القمر المكتمل الذي يلقي بضوئه الفضي على الحدائق الشاسعة.
اقترب منها بهدوء ولف ذراعيه القويتين حول خصرها من الخلف، مستنداً بذقنه على كتفها.
لم تفزع بل مالت برأسها للخلف لتلامس وجهه كأنها كانت تشعر بوجوده قبل أن يصل.
_ سهرانة ليه يا ملكة قلبي؟
همس بصوته العميق الذي كان دائماً يذيبها.
تنهدت براحة وهي تغمض عينيها مستمتعة بقربه الذي أصبح إدمانها.
_ بفكر.
_ في إيه؟
_ فينا بفكر في أول مرة شوفتك فيها، كنت مرعوبة منك وببص لحالنا دلوقتي... أربع أولاد وبيت وحب.
ساعات بحس إني بحلم، وخايفة أصحى.
أدارها برفق بين ذراعيه لتواجهه وأمسك وجهها بين كفيه الكبيرتين، وعيناه تتأملانها بعشق لم يخفت بريقه يوماً.
_ ده مش حلم يا نغم دي حقيقتنا اللي بنيناها سوا.
أنا اللي كنت عايش في كابوس وصحيت منه على صوتك إنتي.
كنت راجل عايش عشان التار قلب قاسي زي الصخر، جيتي إنتي بلمسة واحدة وفتتّي الصخر ده وزرعتي مكانه ورد.
مرر إبهامه على شفتيها برقة.
_ كل يوم بصحى فيه وألاقيكي نايمة جنبي، بحس إني ملكت الدنيا وما فيها صوتك ضحكتك حتى عصبيتك وغيرتك... كل تفصيلة فيكي هي اللي بتخليني أتنفس.
تجمعت الدموع في عينيها ليس حزناً، بل من فرط السعادة التي تملأ قلبها.
_ وإنت يا جاسر... إنت الأمان اللي كنت فاكراه مستحيل كنت دايماً بحس إني ضعيفة، بس وجودك جنبي بيخليني أحس إني أقوى واحدة في الدنيا حبك هو الحصن بتاعي.
انحنى ببطء وقبّلها.
لم تكن قبلة عادية، بل كانت رحلة عبر الزمن.
كانت تحمل ذكرى الخوف الأول، وشراسة البدايات وحلاوة الاستسلام وعمق الحب الذي تجذر وتفرع ليصبح شجرة ضخمة تظلل حياتهما.
كانت قبلة تحمل كل معاني "الوطن"، فكل منهما وجد في الآخر وطنه وملاذه الأبدي.
حين ابتعد، ظل جبينه ملتصقاً بجبينها، وأنفاسهما واحدة.
_ فاكرة لما قولتلك زمان إنك ملكي؟
همس وهو ينظر في عمق عينيها.
أومأت برأسها، وقلبها يخفق بشدة.
_ أنا اللي طلعت ملكك يا نغم قلبي، روحي اسمي، حياتي كلها... ملكك إنتي لوحدك.
لم تعد هناك حاجة للكلمات.
في صمت الليل وتحت ضوء القمر، احتضنا بعضهما البعض قلبان وجدا نصفهما الآخر في خضم عاصفة، ليكتشفا أن الحب لم يكن مجرد نهاية سعيدة لقصتهما، بل كان هو البداية الحقيقية لكل شيء جميل في حياتهما، ولكل الأيام القادمة التي سيعيشانها معاً، إلى الأبد.
❈-❈-❈
كانت روح تقف أمام المرآة، تضع لمساتها الأخيرة وهي تشعر بمزيج من الحيرة والترقب.
ارتدت فستاناً بسيطاً وأنيقاً بناءً على طلب مالك لكنها لم تكن تفهم سر هذه الرحلة المفاجئة.
_ طيب جولي رايحين فين؟
سألته للمرة الخامسة وهو يرتدي ساعته بهدوء.
_ مشوار مهم.
_ مهم لدرچة إنك مش عايز تجولي عليه؟ وكمان واخدين نور معانا! لو مشوار شغل كنت سبناها مع ماما أو مرات عمي.
اقترب منها ووضع يديه على كتفيها ونظر إلى انعكاسها في المرآة بابتسامة غامضة.
_ النهاردة بالذات لازم نور تكون معانا يالا بينا عشان منتأخرش.
استسلمت لحيرتها وحملت ابنتها التي كانت ترتدي ملابس جميلة كأنها ذاهبة إلى مناسبة سعيدة.
استقلوا السيارة وطوال الطريق حاول مالك أن يتحدث في أمور عادية، لكن روح كانت تشعر بأن هناك شيئاً أعمق خلف هذا الهدوء.
سارت السيارة في طرقات تعرفها، حتى انحرفت نحو طريق مألوف جعل قلبها ينقبض طريق المقابر.
"هنزور بابا..." قالت لنفسها وشعرت بوخزة من العتاب لماذا لم يخبرها؟ كانت تود أن تستعد نفسياً لهذه الزيارة.
توقفت السيارة وساد صمت مهيب نزل مالك ودار حول السيارة ثم فتح لها الباب وبحركة حنونة أخذ منها الصغيرة نور وضمها إلى صدره.
_ انزلي يا حبيبتي.
نزلت روح بخطوات بطيئة والهواء البارد يلفح وجهها سارا جنباً إلى جنب بين القبور الصامتة، وروح تتساءل لماذا أصر على إحضار ابنتهما إلى هذا المكان.
توقفا أخيراً لكن ليس فقط أمام قبر والدها بل أمام القبر المجاور له... قبر عدي.
نظرت روح إلى شاهد القبر الذي يحمل اسمه ثم رفعت عينيها إلى مالك بنظرة عتاب صامتة وموجوعة.
لقد فهمت الآن لقد أحضرها إلى هنا لتواجه الماضي الذي حاولت دفنه.
تحدث مالك بصوتٍ هادئ وحكيم كأنه يقرأ أفكارها.
_ جبل ما تجولي أي حاچة اسمعيني أنا خابر إن الموضوع صعب وخابر إن چرحك منه كان غويط بس هو دلوجت في مكان تاني يا روح... في دار الحج ومبجاش فاضل بينا وبينه غير الدعاء والسماح.
نظر إلى ابنته النائمة على صدره ثم نظر إليها.
_ بحلم بيه كتير، كل مرة بيچيلي في الحلم بحس إنه تعبان ومش مرتاح وفي كل مرة بحس إنه بيطلب منك تسامحيه، المسامحة مش عشانه هو وبس، المسامحة عشانك إنتي عشان جلبك ده ينضف من أي وچع جديم، وعشان تجدري تكملي حياتك صافية.
أغمضت روح عينيها بقوة كأنها تحاول أن تمنع طوفان الذكريات لكنه جاء بلا استئذان
تذكرت يوم زفافهما وبروده القاتل تذكرت كلماته الجارحة وهو يعترف بحبه لنغم.
تذكرت الليالي التي قضتها تبكي وحدها في غرفتها، تشعر بأنها منبوذة وغير مرغوب فيها، كان من الصعب أن تسامح كان الجرح أعمق من ذلك.
لكن... وسط كل هذا الألم، تسلل صوت آخر إلى عقلها صوت الحقيقة التي كانت تتجاهلها تذكرت أنه لم يختر ذلك، لقد أُجبر على هذا الزواج منها تذكرت أنه كان مخلصاً لحبه لنغم، وهذا في حد ذاته ليس خطيئة الحب لا يأتي بإرادتنا.
فتحت عينيها ونظرت إلى مالك، الرجل الذي أحبها لسنوات في صمت هي نفسها جربت الحب وتعرف جيداً أن من يحب لا يرى في الدنيا غير حبيبه
ذنب عدي الوحيد أنه أحب، تماماً مثلها لقد كان ضحية مثلما كانت هي ضحية.
تنهدت تنهيدة طويلة وعميقة كأنها تطلق سراح كل الألم الذي كانت تحبسه.
تقدمت خطوة نحو القبر ومالك يراقبها بقلبٍ قلق نظرت إلى شاهد القبر وبدأت تتحدث بصوتٍ خفيض، كأنها تكلمه هو مباشرة.
_ انجرحت منك أوي يا عدي عشان كسرتني وجرحتني كنت بحس إني قليلة، وإني معيوبة عشان رفضتني.
صمتت للحظة، ودمعة وحيدة هربت من عينها ومسحتها بسرعة.
_ بس النهاردة... أنا فهمت فهمت إنك كنت بتحب، واللي بيحب مبيشوفش غير اللي بيحبه أنت محبتنيش، وده مكنش بإيدك زي ما أنا حبيت مالك ومكنش بإيدي أنت كنت ضحية زيي بالظبط.
نظرت إلى السماء، ثم عادت بنظرها إلى القبر.
_ يمكن لو كنت عرفت الحجيجة دي من زمان، مكنتش زعلت منك يمكن كنت جدرت أشوفك ابن عمي وبس.
أخذت نفساً عميقاً، وقالت الكلمة التي جاءت من أجلها الكلمة التي حررتها هي قبل أن تحرره هو.
_ عشان اكده... أنا مسامحاك مسامحاك على كل وجع سببتهولي روح للي خلقك بجلب مرتاح الله يرحمك يا ابن عمي.
في تلك اللحظة شعرت بثقل هائل يُرفع عن صدرها شعرت بالسلام يغمر روحها لأول مرة منذ سنوات.
سلام لم تشعر به من قبل كانت كلماتها الأخيرة "الله يرحمك يا ابن عمي" بمثابة إغلاق نهائي لجرح قديم اقترب منها مالك ووضع يده الحرة على كتفها وضمها إليه، شاعراً بالراحة التي غمرتها والتي انعكست عليه بدوره.
لكن بينما كان يقف هناك يواسيها ويشعر بانتصاره الهادئ غاص عقله للحظات في الماضي عاد إلى الوراء إلى يوم آخر حاسم يوم كان عليه أن يقاتل هو الآخر مع الأشباح والذكريات ليفوز بحبه.
فلاش باك...
لاحظ مالك أن والده لم يكن سعيداً بزواجه من روح وذلك كان واضحا عليه
لذا عندما وجده يجلس وحيداً في الحديقة أخذها فرصة وتقدم منه ليجلس معها وتحدث بتهذيب
_يابا ممكن اتحدت معاك في كلمتين؟
تطلع إليه سالم بعتاب محب
_وانت من ميتى بتستئذن في الكلام معاي يا مالك؟
تحدث مالك بهدوء وثبات رغم العاصفة التي كانت تدور في قلبه.
_ من وجت ما لاحظت عليك انك مش مبسوط لچوازتي من روح.
ساد صمت ثقيل وكأن سالم يحاول استيعاب حديثه
هو حقيقة لم يفرح لتلك الزيجة ليس عيب في روح فهي وأختها الأحب إلى قلبه لكنه ان يأخذ مكان أخيه بتلك السرعة.
لم يجب على الفور بل أخذ نفساً عميقاً وأخرجه ببطء، كأنه يحاول شراء بعض الوقت ثم تحدث بحيرة
_لانه صعب يا مالك.
جاءت الكلمة كضربة موجعة
_ ليه صعب يا بوي؟ انا اتچوزتها بعد العدة ما خلصت والبنت لسة صغيرة ومينفعش تفضل أرملة طول عمرها.
نظر إليه سالم مباشرة نظرة تحمل ألماً وحكمة.
_ الصعب مش في العدة ولا في السن يا ابني الصعب فيك إنت... وفيها هي الصعب إنك هتكون مكان أخوك اللي مات
لاح الحزن بعينيه وتحدث بألم كان يجاهد لاخفاءه
_ كلنا خابرين إن روح كانت بتحب عدي وعارفين إنها متجوزتهوش غير عشان حبته كيف هتجدر تعيش معاها وإنت خابر إن جلبها كان لغيرك؟ كيف هتجدر تجرب منها، وكل ما تبصلها هتفتكر أخوك؟ هتفتكر إنها كانت مراته؟ هتفضل طول عمرك عايش في ظل أخوك يا مالك والجوازة دي مش هتكون سعيدة لا ليك ولا ليها.
كانت كلمات سالم منطقية وقاسية كالسياط لأنه لم يعرف شيء، ولم يعرف ان روح هي حبييته منذ الصغر لقد بنى سالم جداراً من المستحيل جداراً اسمه "عدي"
أدرك مالك في تلك اللحظة أنه لا يملك سوى حقيقة واحدة، حقيقة قاسية ومؤلمة لكنها المطرقة الوحيدة القادرة على تحطيم هذا الجدار.
أغمض عينيه للحظة كأنه يستجمع كل قوته ثم فتحهما وقال بصوتٍ أجش صوت رجل يوشك أن يفشي سراً ثقيلاً.
_ أنا آسف يا بوي... آسف على اللي هجوله وغصب عني إني أطلع سر اخوي بس لازم تعرف.
تطلع إليه سالم ونظر إليه بقلق فتابع مالك بثقل
_ عدي... الله يرحمه... ملمسش روح.
اتسعت عينا سالم بصدمة لا توصف
_ إنت... إنت بتجول إيه؟ يعني ايه ا ملمسهاش؟
تنهد مالك وتحدث بتعب
_ بجول الحجيجة يابا روح لسة بنت عدي رفضها يوم چوازهم وچرحها، لانه كان بيحب نغم محبهاش هي
وجدي هو اللي كان رافض چوازه من نغم
فضل يحب نغم لآخر يوم في عمره، وروح كانت مچرد واجب بيأديه جدام جدي.
كانت الصدمة قد ألجمت لسان سالم لم يكن يتخيل أن ابنه المتوفى قد فعل ذلك.
أكمل مالك بصوتٍ يملؤه الأسف على أخيه، والتصميم على مستقبله.
_ أنا لما جربت منها امبارح... اكتشفت الحجيجة دي عشان اكده بجولك، أنا مش هكون مكان أخويا لأني هدخل حياة روح وهي لسة صفحة بيضا محدش لمسها جبلي ظل أخويا مش موچود في حياتنا، لأن أخويا نفسه مرسمش الظل ده أصلاً أنا مش هاخد مرات أخويا... أنا هتجوز البنت اللي بحبها من وهي طفلة، واللي القدر كتب إنها تكون ليا أنا وبس.
لم يستطيع سالم استيعاب كل ذلك وهو يمرر يده على وجهه بصدمة وألم ألم على روح التي تحملت كل هذا الجرح وحدها، وألم على ابنه الذي مات وهو يحمل هذا السر.
نظر مالك إلى أبيه بأسف.
_ سامحني يا بوي مكنتش عايز أجرحه بعد موته، ولا كنت عايز أفتح جرح قديم بس إنت حكمت على جوازي بالفشل في اول يوم له وكان لازم أجولك الحجيجة اللي هتخليه ينجح.
باك
عاد مالك إلى الحاضر إلى جانب قبر أخيه وروحه تقف بجانبه لا تعرف شيئاً عن المعركة التي خاضها من أجلها.
نظر إلى وجهها الصافي الذي غسلته دموع التسامح، وشعر بأنه مدين لأخيه بطريقة غريبة لقد كان سر عدي المؤلم هو نفسه مفتاح مالك للسعادة.
ضمها إليه بقوة أكبر وهو يهمس لنفسه
"الله يرحمك يا أخوي سامحني أنا كمان."
لقد أخذ منه زوجته في الحياة، ثم أخذ منه سره بعد مماته ليبني به حياته، كان ديناً ثقيلاً لكنه كان على استعداد لحمله طوال عمره، مقابل أن تظل هذه المرأة بجانبه.
اقترب منها مالك ووضع يده الحرة على كتفها، وضمها إليه نظرت إليه بامتنان، وابتسمت ابتسامة صافية خالية من أي حزن لقد أغلق لها اليوم آخر صفحة مؤلمة في كتاب ماضيها، وفتح أمامها صفحات بيضاء نقية، لتكتب فيها مستقبلاً جديداً معه ومع ابنتهما... نور.
تمت بحمد الله..
اقتباس صغير من الجزء الثاني
خرجت من صخب المطار إلى ليل القاهرة الذي لا ينام ووقفت بجسد منهك تسحب خلفها حقيبة سفر تبدو أثقل من وزنها الفعلي كأنها تحمل بداخلها حكايات عالم بأكمله.
كانت ملامحها الأوروبية الصارخة تجعلها كائنًا غريبًا في هذا المكان، شقرة شعرها متوهج تحت أضواء المطار الخافتة، وعيناها الزرقاوان تائهتان في زحام الوجوه والأصوات.
ازدردت ريقها بصعوبة وشعرت بجفاف حلقها رغم رطوبة الهواء
كل شيء حولها كان غريبًا صاخبًا وحيًا بطريقة لم تعهدها
لم تكن هذه مصر التي رسمتها في خيالها بل كانت كيانًا عملاقًا يتنفس أمامها يثير في نفسها رهبة بقدر ما يثير فضولها.
صوتٌ خافت كصدى من الماضي همس في أذنها:
"لا مكان لكِ هنا... عودي قبل أن يبتلعكِ هذا العالم"
كان هذا صوت الخوف صوت الحذر الذي تعلمته بالطريقة الصعبة لكن صوتًا آخر أعمق وأكثر إصرارًا كان ينبع من قرار اتخذته قبل أن تطأ قدماها أرض الطائرة.
صوت يذكرها بالثمن الذي دُفع لوجودها هنا.
لقد ضحى هو بكل شيء من أجلها دفع حياته ثمنًا لتكون هي حرة بعيدة عن تلك "البؤرة" التي كادت أن تلهتمها والآن العودة ليست خيارًا والأمان الوحيد يكمن في المضي قدمًا نحو المجهول، نحو هذا البلد الذي لم تعرفه إلا اسمًا، والذي يحمل مفتاح نجاتها... أو ربما هلاكها.
نجع التهامية....
ياترى مين البنت دي.
يتبع الفصل كاملا اضغط هنا ملحوظه اكتب في جوجل "رواية ثنايا الروح" الريح والغيامة "دليل الروايات" لكي تظهر لك كاملة
•تابع الفصل التالي "رواية ثنايا الروح" الريح والغيامة" اضغط على اسم الرواية