رواية مطلوبه للانتقام الفصل الرابع 4 - بقلم هبه ابو الفتوح
أومأت برأسها استجابة، ثم همّت أن تمسك بحقيبتها، لكنه أخذها منها وأشار إليها أن تتحرك أمامه.
وبالفعل بدأت تتحرك أمامه، بينما أخذ هو الحقائب؛ واحدة على كتفه وأخرى في يده.
حين وصلوا إلى بوابة الخروج من القطار، أوقفهم الكمسري وأخذ منهم البطاقات ليتأكد من هويتهم، ثم أعادها إليهم وأشار بالسماح لهم بالمرور.
وحين خرجوا، تحركوا خطوات قليلة بعيدًا عن القطار حتى وصلوا إلى المقاعد المخصصة للاستراحة على سكة القطار.
وضع الحقائب عليها وأشار إليها لتجلس، قائلًا وهو يغلق عينيه من شدة الشمس والتعرق:
ـ اقعدي هنا كده دقيقتين، هعمل مكالمة بسرعة أشوف الناس اللي العقيد قال عليهم.
لم تجيبه، فنظر إليها بعدم صبر وابتعد قليلًا، لكن نظراته كانت لا تزال موجهة نحوها.
أخذ الرقم الذي أعطاه العقيد إيّاه، وبدأ بانتظار الرد على الهاتف، فجاءه الجواب بعد ثوانٍ بسيطة، وكان صوت رجلٍ يقارب العقد السادس من عمره يقول:
ـ ألو، ألو، سامعني يا بوعمو؟
نظر إلى الهاتف وقطب حاجبيه، ثم أعاده مرة أخرى وقال:
ـ أيوه يا خال، سامعك أنا...
قبل أن يُكمل، أجابه الرجل قائلًا:
ـ ما تعرّفش عن نفسك يا باشا؟ أنا عارف إنك الظابط إياه اللي جاي في المهمة إياها، هيهئ هيهئ.
أغمض عيناه بتعب، ثم قال له بنفاد صبر هو الآخر:
ـ إنت فين دلوقتي يا حاج؟ أنا واقف عند المحطة اللي مبعوتة ليك.
أجابه الرجل وهو يرفع يديه ملوّحًا بهما في الهواء ويقول بصوت مرتفع:
ـ أنا وراك يا حبيبي، أهو، وشايفك من وقت ما نزلت من القطر!
التفت يمان خلفه ليجد الرجل يلوّح بيده، وخلفه رجل آخر ممسك بلافتة مكتوب عليها إحنا في انتظارك يا باشا، فصفع يمان رأسه بغباء من ذلك التصرف وأجابه بغضب:
ـ ولما إنت واقف ورايا من وقت ما نزلت وعارفني، ما جيتش ليه من بدري بدل ما أنا واقف في الحر كده؟
ـ يا باشا، ما أنا كنت مستني إنك ترنّ عليّ، أصل بصراحة الحتة هنا طراوة، وعندك حر، فقلت أستنى لما ترنّ عليّا، وما ينفعش أنده عليك وأقولك بصوت عالي كده يا حضرة الظابط، إحنا المخبرين اللي هتقعد عندنا، هيهئ هيهئ.
أردف ساخرًا:
ـ هيهئ هيهئ، ماشي يا خويا... هنعمِل إيه دلوقتي؟
ـ العمل عمل ربنا تعالى، بس نروح الدوار وبعد كده نشوف هنعمل إيه، أصل ما ليّش صالح في المهمات بتاعتكم دي يا حضرة الظابط.
ـ يا حاج، الله لا يسيئك بلاش حضرة الظابط دي، هتعمل لنا شبهة!
كاد أن يُكمل، ولكنه التفت مسرعًا عندما وجدها تصيح له وتشير إليه بنصف عين وهي تقول:
ـ مش هنتحرّك ولا إيه؟ أنا جِتِّيتي فرهَدِت من الحر!
اقترب منها وقال وهو يحمل الحقائب ويتحرك للأمام:
ـ تعالي، تعالي... شكله هيبقى مرار طافحعلىّ دي مهمة، قدامي!
ـ إنت بتتكلم معايا كده ليه؟ إنت نسيت نفسك ولا إيه؟
وقف للحظة ثم أكمل قائلًا:
ـ أنا لا نسيت نفسي ولا هباب! بس الحر فَرهَد جِتِّيتي أنا كمان، اشمعنى إنتِ؟ اتفضلي يا حضرة المحامية الجنائية إلى الأمام... ولا تحبي أضرب لكِ تعظيم سلام؟
أعطته نظرة كبرياء، ثم تقدّمت للأمام ووضعت نظارتها الشمسية لتسبقه بخطواتها، أما هو فنظر إليها ثم أخذ شهيقًا عميقًا وتقدّم خلفها، ونظر إلى الحقائب التي بيده والتي كانت تُعيق حركته قليلًا، ثم نظر إلى ما تحمله هي من ذهب، وإلى حقيبتها الصغيرة التي تضعها على يدها وكأنها ذاهبة إلى اجتماع مجلس إدارة.
وصلوا إلى الرجل الذي كان ينتظرهم، فأول ما فعله يمان عندما نظر إلى ذلك الشاب الواقف خلف الرجل المسنّ، أنه ترك الحقائب من يده واقترب منه، وأخذ اللافتة التي كانت بيده بعُنف ومزّقها إربًا إربًا صغيرة.
تراجع الشاب قليلًا إلى الخلف برعب من هجومه العدواني، فهتفت هي قائلة:
ـ ارتحت دلوقتي يا حضرة الظابط؟
نظرت إليه بابتسامة ساخرة، ثم تبعَت الرجل الذي أخذ منهم الحقائب وتحركوا جميعًا.
لم يبقَ سواهم، فتحرك هو خلفهم في النهاية.
وبعد أن خرجوا من محطة القطار، أخبرهم الرجل أنه لا يمكنهم الذهاب بهذه الملابس إلى البلدة، وعندما اعترضت، أوضح لها أنهم سيأتون معه على أساس أنها ابنة أخيه، والآخر ابن أخته التي كانت تعيش في المدينة، ولهذا السبب لا يمكنهم المجيء بهذه الملابس.
نظرت إليه، وأخيرًا تحدث يمان قائلًا:
ـ طيب يا حاج، ما فيش مشكلة بس إحنا ما كناش عاملين حسابنا إننا نلبس، أو يعني نغير هدومنا، فهنعمل إيه دلوقتي؟ في محلات قريبة نشتري منها؟
قال الرجل بسعادة:
ـ ودي حاجة تفوتني برضه يا باشا! جايب لكم هدوم معايا وجديدة ما اتلبستش غير مرة واحدة بس، هيهئ هيهئ.
ثم نظر إلى ولده الذي كان معه، وأخذ منه الحقيبة التي كان يحملها وأعطاها ليمان وقال له:
ـ دي يا باشا الهدوم اللي هتلبسوها أنت والهانم في بيت صغير قريب من هنا، الباشا الكبير جهزه ليكم علشان تجهزوا هناك، وبعد ساعة إلا ربع كده في عربية هتيجي تاخدنا من هنا وتنقلنا على جرجا.
أخذ يمان الحقيبة من بين يديه وبدأ يتفحصها جيدًا، حينئذ نظر إلى جود وأعطاها الحقيبة بعد ما أخذ منها جلابية هو ومستزماتها، مدَّ يده إليها وقال:
ـ سليمة، أعتقد دي حاجاتك خديها، هستناكِ بس ما تتأخريش.
لم تهتم بحديثه، أخذت منه الحقيبة بإهمال وكادت أن تتحرك إلى الداخل، لكنها توقفت عندما توقفت حركته خلفها التفتت إليه وصاحت بغضب إثر درجة الحرارة المرتفعة وعدم تأقلمها على الجو حولها:
ـ في إيه؟! أنت رايح فين كده؟ لا تكون عاوز تدخل معايا كمان وأنا بلبس؟!
أغمض عيناه وبدأ بالعد بالسالب، ثم قال لها بابتسامة مُرغم عليها:
ـ لا والله، أنا بس كنت ماشي ورا حضرتك علشان أدخل أعاين البيت، ليكون فيه كاميرات مراقبة أو حد جوه، كله علشان سلامتك يا فندم.
لم تجبه، أتاحت له الطريق ليتحرك هو إلى الداخل وسارت هي خلفه.
وبعد نصف ساعة بأكملها من معاينة كل شبر في المنزل، قد انتهى.
تعجبت هي من دقته في التفتيش، وصل به الحال إلى أنه قام بفك جميع المصابيح في المنزل وتفحصها واحدًا تلو الآخر.
وعندما سألته لماذا يفعل ذلك، قال لها إن هناك نوعًا من الكاميرات يُزرع بين خلايا المصابيح ليضيء مثلهم. وأخيرًا قد انتهى، وأعطاها الأمر بأن تنتهي سريعًا.
دخلت الغرفة وأغلقت الباب خلفها وهي تنظر حولها بتوجس، لقد زرع الشك بداخلها في كل شيء حولها، ولكنها حاولت طرد تلك الأفكار والانتهاء من ارتداء ملابسها.
أما هو، بعد أن دخل غرفته وأغلقها، اتجه إلى المرحاض ليقضي حاجته، وبعد الانتهاء كاد أن يبدل ملابسه، ولكن شعر بحرارة الجو حوله فقرر أن يأخذ حمامًا سريعًا قبل أن يرتدي ملابسه.
بعد ما انتهت من ارتداء ملابسها، نظرت إلى ذاتها في المرآة وابتسمت على هيئتها الجديدة.
أخذت قلمًا كان في الحقيبة، وأخرجت هاتفها تبحث كيف تقوم برسم وشم الذقن لدى النساء، وبدأت بتنفيذ الخطوات التي في الفيديو أمامها.
وفي النهاية، وضعت القلم وأخذت الشال ووضعته بعشوائية على رأسها تأملت هيئتها الأخيرة بالعباءة السمراء وذلك الوشم الصغير وعينيها المكحلتين، وشعرت بالسعادة قليلًا.
أخذت هاتفها تلتقط بعض الصور قبل أن تغادر، لعلها تكون ذكرى لها في كل شبر من تلك الرحلة… رحلة، هكذا ما قالته وهي تنظر إلى هيئتها مرة أخرى، وإلى الهاتف الذي انتهت من التقاط بعض الصور به، ثم حدثت ذاتها بعدم فهم:
ـ أنتِ بتعملي إيه يا جود؟ هو أنتِ مفكرة نفسك في رحلة بجد؟ أستغفر الله العظيم يا رب.
تذكرت تلك الرسائل التي وصلت إلى الإيميل الخاص بها ليلة الأمس، فاتجهت إلى الفراش وأخرجت الحاسوب، وبدأت بمباشرة البحث عن عائلة النمر والتعمق في أصلهم.
بعد نصف ساعة كان يقف في الخارج ينتظر خروجها، هل النساء دائمًا يتأخرن عن المواعيد الهامة أم هي تحديدًا تتعمد إثارة غضبه؟ نظر إلى ساعة يده وأخذ نفسًا عميقًا قبل أن يتجه إلى الداخل، ولكن استوقفته بخروجها مع إحدى السيدات المقيمات في المنزل نظر إلى تلك الهيئة التي لأول مرة يراها عن قرب، أزاح عينيه عنها قليلًا وتحرك للأمام، بعدئذٍ أردف:
ـ اتفضلي، العربية مستنياكِ من بدري حضرتك.
أخذت نظرة سريعة على جلبابه الصعيدي وتحركت بخطواتها السريعة كي لا تتخذ أوامر أخرى منه، ولكن ذلك العجوز الذي كان برفقتهم أوقفها وقال لها بحذر ولكن بنبرة تحمل تهديدًا:
ـ اسمعي يا بنتي، هنا ما يجوز إن الحرمة تمشي قدام الراجل مهما كان هو مين، خليكي وراه.
رمقته بتعجب وأجابته:
ـ يعني إيه أمشي وراه؟ هو احنا في عصر الاستعباد ولا إيه؟
ـ بلاش جدال يا بنتي، اسمعي الكلام أنتِ هنا مش في المدينة، أنتِ في الصعيد الجواني، يعني الحركة هنا ورا الراجل وبس.
كادت أن تتحدث، ولكن تحرك يمان بعد ما أعطاها نظرة انتصار، قام بفرد شاله بحركة دورانية سريعة على يده وتحرك بشموخ أمامها.
صعدوا إلى السيارة جميعًا، وكانت عبارة عن حافلة نقل محلية للقرية جلس يامن بجوار الرجال في الأمام، وهي بجوار النساء في الخلف. كانت تفكر كيف ستسير الأمور هنا، فهي لا تجيد تقاليد الصعيد، وتعلم جيدًا كيف هي حقوق المرأة ورأيها هناك.
ولكن السؤال الأهم الآن: ما المدة المحددة للبقاء هنا؟ وهل سيكون الوصول إليهم صعبًا أم سهلًا؟
أخذتها الأفكار حتى توقفت السيارة أمام أحد المنازل التي كانت متوسطة الحال، ليست فارهة وليست فقيرة يبدو أنهم أسرة متوسطة المعيشة، مكوّنة من أبٍ وأمٍ وفتاةٍ صغيرة وأخرى في نهاية العقد الرابع، وذلك الشاب الذي التقوا به في محطة القطار.
بدأت في تلقّي التحيات من العائلة، ثم السلامات من بعض الجيران، حتى وصلوا إلى بوابة المنزل، حينئذٍ صاح العجوز قائلًا بفخر:
ـ مشكورين يا جماعة، ولاد إخواتي اللي كانوا في البندر هيرتاحوا دلوقتي، وبالليل هنتكلم في تفاصيل الفرح، متحرمنش منكم.
أشار لهم بالتحرك إلى الداخل، ولكن وقف أمام يمان وجود اللذان توقّفا عن الحركة وبدآ ينظران إليه بتعجب. ضغط على أسنانه وقال لهم بتحذير:
ـ ادخلوا يا عيال، ادخلوا بس، وهحكي لكم كل حاجة والله.
هتف يمان بتذمّر:
ـ فرح إيه يا راجل؟ قصدك إيه؟ إيه الكلام اللي بتقوله ده؟
تحولت نظرات الرجل إلى الغضب، وهتف بكلمة واحدة ثم تركهم ودلف إلى الداخل:
ـ هعذرك عشان ما تعرفنيش، كلمة واحدة مش هكررها ادخلوا ونتكلم جوه.
نظرت جود إلى يمان بتساؤل، وبادلها هو النظرات، ولكن في النهاية استقرّا على التحرك خلفه.
كان المنزل من الداخل على تشطيب نوعًا ما عصري، ولكن هذا لم يأخذ انتباه جود إلا تلك الكلمتين اللتين هتف بهما منذ قليل.
تحرّك يامن إلى أحد الكراسي الموجودة وجلس عليها، ثم نظر إليه منتظرًا توضيحه، أردف العجوز بعد طول انتظار:
ـ زي ما فهمتكم، المحامية هتكون بنت أخويا، وأنت هتكون ابن أختي. وأنا مفهمهم إنكم كنتوا عايشين في البندر، يعني في المدينة، ودلوقتي هم كلهم عارفين إنكم هتنزلوا وتقعدوا هنا.
طيب جايين منين؟ كانوا قاعدين فين؟ كانوا عند مين؟ عايشين مع بعض ولا لأ؟
كل دي أسئلة هتشوّه سمعتي في البلد، فعشان أنهي الجدال ده كله قلتلهم إنكم نازلين البلد علشان تتجوزوا، والفرح هيتم خلال أسبوع أو أقل كمان لحين إنتهاء الزيارة بتاعتكم هنا.
نهضت جود باعتراض وصاحت به:
ـ يعني إيه؟ يعني فرح وناس! هو إحنا هنشيل كلام الناس ليه؟ هنشيل هم الناس ليه؟ ما تولع الناس كلها! حضرتك إحنا مش في عصر الجاهلية، كل واحد حر. أنا نازلة هنا علشان شغل، وكان ممكن ننزل في أي فندق، ولكن إنت عارف السبب اللي خلانا نيجي هنا لازمتها إيه الحوارات دي كلها؟
أكمل حديثها يمان وقال بهدوءٍ عكس غضبها:
ـ نفهم بس، هل اللواء على علم باللي إنت بتقوله ده دلوقتي؟ يعني هو عارف إنك هتعمل كده؟
ـ أيوه يا ابني، هو أنا هجيب حاجة من عندي؟ اللواء عارف بكل حاجة، وبعدين إحنا مش هنجوّزكم حقيقي، ده بس يعني سبب لظهوركم قدام الناس عشان ما ندخلش في سين وجيم، بحيث اللي يسألكم هنا في البلد تقولوا إنكم مخطوبين.
وبرضه عشان تقدروا تتحركوا براحتكم، وإن شاء الله مهمتكم دي تخلص قبل الفرح وتختفوا من هنا.
جلست جود تُناظر الوجوه جميعًا، وأكثرهم يمان، والذي وجدت على ملامح وجهه الارتياح، حتى للحظة ظنّت أنه يعلم أن هذا سوف يحدث ما هذا الارتياح الذي على معالم وجهه، والبرودة في حديثه؟
ـ مستحيل إن اسمي يرتبط بالبني آدم ده، يعني مافيش أي خطة تانية غير موضوع الجواز؟
تحولت ملامح وجهه للغضب، وفي خطوة سريعة وقف أمامها وقال لها بنبرة خافتة، ولكن تحمل الكثير من الضغط الداخلي:
ـ قصدِك إيه في كلامك ده؟ أوعي تكوني مفكرة نفسك حاجة، وأوعي تنسي السبب اللي إحنا هنا علشانه، وباستأذنك دلوقتي باحترام، ما تتجوّزش بكلامك معايا، عشان أنا برضه أقدر أفكرك أنا أكون مين.
لم تهتز من نبرته، ولكن شعرت باهتزاز كبريائها أمامه، وأنه يُشعرها باحتياجها إليه، وهي لا تحتاجه هو فُرض عليها مثلما فُرضت عليها الكثير من الأشياء التي لا تريدها، وبناءً على ذلك الضغط قالت له:
ـ ودي حقيقة، أتمنى كل واحد يلزم حدوده داخل المهمة دي، ولو كنت بتموت قدامي مش هتفرق معايا، عشان كل واحد يلزم حدوده.
تدخّل العجوز إبراهيم وأزاحهم بعيدًا عن بعض قليلًا، وقال:
ـ صلّوا على النبي يا شباب، موت إيه دلوقتي؟ وإيه اللي بتتكلموا فيه ده؟ اللي بتعملوه مش أكتر من شغل عيال، ده مش شغل ناس عاقلة، ولا شغل ظابط، ولا شغل محامية! كل واحد بيتفاخر بمهنته، ولكن لو فضلتوا على الحال ده، هتنسوا إنكم جايين ليه بعد إذنكم، كل واحد يروح الأوضة بتاعته ويرتاح، علشان بالليل السهرة هتكون طويلة، واللي حصل دلوقتي مش هيتكرر مرة تانية.
أنا بتعامل معاكم باحترام لأنكم في سن أولادي، ولكن قسمًا عظمًا، أي تطاول هيحصل بعد كده، هتصرف بمعرفتي، ومعايا كامل الصلاحيات للتصرف لو في حاجة ما عجبتنيش. يلا، كل واحد يشوف طريقه وكمان نسيت، هتعيشوا تحت سقف واحد، ولاد خال ولاد عم، بالأول وفي الآخر من عيلة واحدة، يعني الاحترام هيكون متبادل.
نظر إلى جود أولًا، وقال لها بتحذير:
ـ يعني اللي عملتيه من شوية وتطاولك عليه، آخر مرة هيحصل. وإنك تكبّري كل شوية في كل كلمة هتتقال، آخر مرة برضه هيحصل هنا اللي هنقوله تمشي عليه، وكلمة الراجل في الأول وفي الآخر هي اللي هتمشي. وإنتِ زيك زي أي حرمة في البيت ده، تطبخي وتكنسي وتمسحي، ولكن مش هتكوني بنفس المعاملة، لأنك في الأول وفي الآخر ضيفة لكن الفترة اللي هتقعديها هنا، هتكوني زيك زي أهل البيت، اللي هيعملوه هتعمليه.
واعتقد عشان نسهل على نفسنا، هتحتاجي إنك تخرجي من البيت، وعشان تخرجي لازم يبقى ليكِ معارف، فهتروحي كل يوم مع الحجة السوق وتعملي ما بدا لكِ، ولكن الخروج برّه لحد الساعة الصبح بعد الظهرية، ما فيش خروج من البيت.
أنهى حديثه مع جود، ثم التفت إلى يمان وقال له:
ـ وأنت هتخرج معايا، تتكلم مع الرجالة، تنزل تشوف الأراضي الزراعية وهكذا و...
كاد أن يُكمل، ولكن قاطعه بلهفة:
ـ بس أنا مش هينفع أسيبها لوحدها، أنا المفروض أكون معاها زي ظلّها، افرض حد عرف مكانها أو اتعرّضت لخطر، أعمل إيه عش...
ـ ما فيش خطر ولا حاجة، أنت هنا في قلب الصعيد، مش في المدينة، يعني ما فيش ولا غريب بيدخل البلد هنا غير لما نكون عارفين أصله وفصله أنت هنا في منبع الرجالة، يعني تمشي في البلد وأنت حاطط في بطنك بطيخ صيفي، إن مش هيحصلها حاجة. وبعدين، هي مش هتخرج بره البيت غير مع الحريم، وممكن في ساعة الصبحية تبقى تروح معاهم في الوقت اللي هي هتخرج فيه بره البيت، لكن باقي الوقت ما ينفعش إنك تفضل قاعد معاها.
خطف نظرة سريعة لها لكي يرى ردّ فعلها على حديثه، ولكن لم يجدها مهتمة، وأثار ذلك استفزازه، فقال له بابتسامة:
ـ وماله يا حاج، تقعد في البيت زيها زي الحريم، تطبخ وتكنس، وأي معلومات هتحتاجها من برّه، تعرفني وأنا اللي هبدأ فيه التحقيقات.
في ذلك الوقت، التفتت إليه بأعين جاحظة، فبادلها ابتسامة منتصرة مرة أخرى، وكادت أن تعترض، ولكن أشار لها العجوز إبراهيم بإصبعه، وقال لهم وهو يأمرهم بالتفرّق:
ـ يلا، انتهى الحديث لحد هنا، اتكلوا على الله.
قام بإعطاء أمرٍ لزوجته وابنتها الكبيرة أن يأخذوها إلى غرفتهم، وأخذ ابنه الآخر يمان. تحرّكت كلٌّ منهما وهو يحمل بداخله غضبًا من الآخر، وجمرة كبرياءٍ ملتهبة من عناد وكبرياء الطرف المقابل. لأول مرة تجد جود من يقف أمامها الندّ بالندّ، ولكن أخذتها الفكرة كفرصةٍ وتجربةٍ لطيفة لتجربة نوعٍ آخر من الرجال، وتلك أول مرة تأخذ فيها مهمة كتجربة، ولمَ لا؟ فكل شيءٍ في تلك المهمة مجرد تجربة.
أما هو، فبرغم ما يُظهره من عناد، إلا أن بداخله شعورًا غير مريح، لا يثق بأحدٍ من حوله، حتى إنه حين كان يتحدث آنفًا لم يُخبرهم بأن رجاله متفرقون في البلدة وضواحيها، وأنهم سيكونون متواجدين في اجتماع المساء.
هو لم يأتِ إلى المكان ليتفاجأ بالقرارات التي ستُوضع له، بل قبل مجيئه كان على درايةٍ تامة بكل كلمة ستُقال، حتى موضوع الزفاف كان يعلم به، لذلك كان متقبّلًا للوضع مسبقًا.
لا يستطيع الإنكار أنه تشاجر كثيرًا مع العقيد بشأن ذلك القرار، لكنه على استعدادٍ لأن يفعل أي شيء لينجح في المهمة المكلّف بها، حتى ولو انتهى به الأمر بزفافٍ في نهايتها، فالنهاية بالنسبة له هي إتمام المهمة بنجاح فقط.
•تابع الفصل التالي "رواية مطلوبه للانتقام" اضغط على اسم الرواية