Ads by Google X

رواية ثنايا الروح "الريح والغيامة" الفصل التاسع والاربعون 49 - بقلم رانيا الخولي

الصفحة الرئيسية

 رواية ثنايا الروح "الريح والغيامة" الفصل التاسع والاربعون 49 - بقلم رانيا الخولي 

ثنايا الروح 
الفصل التاسع والاربعون 
.........................
كانت السيارة تسير بهدوء في شوارع القاهرة المزدحمة، لكن داخلها كان هناك عالم من السكينة. 
يجلس أكمل خلف عجلة القيادة يلقي نظرات خاطفة بين الحين والآخر على زوجته الجالسة بجانبه. 
كانت صبر تنظر من النافذة لكن نظراتها كانت شاردة كان ابنهما الصغير نائماً في كرسيه وأنفاسه المنتظمة هي الموسيقى التصويرية الهادئة لرحلتهم.
مد يده ووضعها فوق يدها التي تستقر على ساقها، شعرت بلمسته الدافئة فالتفتت إليه وابتسمت ابتسامة باهتة.
_ أنا عارف إنك مش مبسوطة أوي بالروحة عند ماما.
تنهدت صبر برفق.
_ مش القصد يا أكمل أمي ربنا يديها الصحة عمرها مزعلتني من وقت ما شوفتها، صحيح أول يومين مكنتش متقبلاني بس بعدها حسيت بحبها الحقيقي
لكن... أنا بحب بيتنا بحب أكون معاك.
ضغط على يدها برفق.
_ وأنا مقدرش أعيش من غيركم بس أنا شايفك بتتعبى إزاي اليومين دول الحمل تقيل عليكي ومحتاجة اللي ياخد باله منك ومن الولد طول الوقت 
وأنا للأسف دماغي مشتتة في القضية دي ومش عارف أساعدك.
نظر إليها بحب عميق.
_ كلها كام يوم بس يا حبيبتي أوعدك أول ما أخلص من الملف ده، هاخد أجازة طويلة ومش هعمل حاجة في الدنيا دي غير إني أقعد جانبكم أخدمك إنتي والباشا الصغير اللي نايم ومش دريان بحاجة ده.
ابتسمت صبر ابتسامة حقيقية هذه المرة، وشعرت بالاطمئنان يغمر قلبها.
_ ربنا يخليك لينا يا حبيبي وميحرمنيش من حنيتك دي.
_ ويخليكي ليا يا كل دنيتي أنا بس عايزك ترتاحي، وماتفكريش في أي حاجة سيبي كل حاجة على ماما وهي هتدلعك آخر دلع وبعدين الفيلا خلاص بتتشطب وأول ما تخلص هننقل كلنا فيها.
وصلوا إلى بناية والدته وركن السيارة نزل وفتح لها الباب وساعدها على النزول برفق ثم اتجه ليحمل ابنه النائم. 
صعدوا إلى شقة والدته التي استقبلتهم بحفاوة وفرحة، وأخذت الطفل من ذراعي أكمل على الفور.
بعد أن اطمأن على أنهم استقروا، وأن والدته قد بدأت بالفعل في تدليل صبر وإعداد كل ما تحبه، وقف أكمل ليستئذن بالرحيل.
احتضن صبر بقوة وهمس في أذنها.
_ هتوحشيني.
_ وأنت كمان متتأخرش عليا.
_ عيوني ليكي.
قبّل رأسها ورأس ابنه، ثم استدار ليغادر. 
بينما كان يسير عائداً إلى سيارته، كان يشعر بمزيج من الوحشة والفراغ لأنه سيبيت في شقتهما وحيداً الليلة. 
لكنه في نفس الوقت كان يشعر بالراحة لأنهم في أيدٍ أمينة. 
الآن، يمكنه أن يتفرغ تماماً لتلك العاصفة التي تنتظره في أوراق القضية، أن يغوص في تفاصيلها المعقدة وينهيها بأسرع وقت ممكن، ليعود إلى ملاذه الحقيقي إلى حضن عائلته الصغيرة.
❈-❈-❈
كانت شروق.
لكنها لم تكن شروق التي يعرفانها
لم تكن هناك نظرة متعجرفة أو ابتسامة ساخرة كانت تقف هناك مرتدية ملابس بسيطة، ويداها متشابكتان أمامها بتوتر كان رأسها منخفضاً
كانت هالة من الندم والكسوف تحيط بها، هالة غريبة لم ترها عليها من قبل.
منذ أن سمعت تلك المكالمة المشؤومة، وذلك الصوت البارد لوالدها وهو يأمر بقتل جاسر انهار كل شيء بداخلها. 
لقد أدركت في تلك اللحظة أنها كانت مجرد أداة في لعبة أكبر وأقذر بكثير مما تخيلت. 
كرهها لنغم وغيرتها، كله تلاشى أمام حقيقة أن والدها حاول قتل ابن أخيه بدم بارد. 
لم تجرؤ على الذهاب إلى المستشفى، كيف ستنظر في وجه جاسر أو نغم وهي تحمل هذا السر المروع؟ ولم تكن قادرة على المجيء إلى هنا، خوفاً من أن تزيد من ألم نغم. 
لكنها لم تعد قادرة على التحمل كان يجب أن تراه، أن تتأكد أنه بخير بعينيها.
صُدمت نغم وونس من هيئتها، لم تكونا مستعدتين لهذه النسخة المنكسرة من شروق.
رفعت شروق عينيها بصعوبة بالغة، وتلاقت نظراتها بنظرات نغم المصدومة. 
حاولت ونس رفع الاحراج عنها
_اهلا يا شروق نورتي البيت اتفضلي.
كان في عيني شروق مزيج من الخوف والرجاء والندم.
_ أنا... أنا آسفة إني چيت من غير ميعاد بس... إذا سمحتي... ممكن أشوف جاسر؟ عايزة بس أطمن عليه.
كان صوتها خافتاً مهزوزاً، خالياً من أي تحدي.
نظرت ونس إلى نغم، في إشارة صامتة تقول لها إن القرار قرارها هذا بيتها الآن، وهذا زوجها وهي سيدة الموقف.
شعرت نغم بوخزة من الغيرة وهذا طبيعي. 
لكنها رأت شيئاً حقيقياً في انكسار شروق رأت ألماً لم تره من قبل
تذكرت كيف ضحى جاسر بحياته من أجلها، وأدركت أن القوة الحقيقية ليست في الانتقام بل في التسامي فوق الجراح. 
تنهدت وتغلبت على مشاعرها، ورسمت على وجهها هدوءاً حزيناً.
_ أكيد طبعاً اتفضلي.
ثم التفتت إلى سامية.
_ جهزي حاچة تشربها
صُدمت شروق وونس من رد فعلها
لم تتوقعا هذا الرقي وهذه السماحة تقدمت شروق بخطوات مترددة وجلست على حافة أقرب مقعد، وما زالت غير قادرة على رفع عينيها بالكامل.
وقفت نغم.
_ أنا هطلع أجوله إنك اهنه.
صعدت نغم الدرج بهدوء وقلبها يخفق بقوة كانت مشاعرها متضاربة، لكنها كانت تعرف أنها فعلت الصواب وصلت إلى باب جناحهما وأخذت نفساً عميقاً قبل أن تفتحه.
كان جاسر قد استيقظ للتو ويحاول أن يعتدل في جلسته، عندما رآها ارتسمت على وجهه ابتسامة خفيفة.
_ كنت لسه هندهلك وحشتيني....
كان على وشك أن يقول شيئاً آخر، لكنه توقف عندما رأى الجدية على ملامحها. 
وقفت أمامه وقالت بصوت ثابت، هادئ لا يحمل أي تعبير.
_ شروق تحت وعايزة تشوفك.
❈-❈-❈
عاد أكمل إلى شقته وأغلق الباب خلفه، ليشعر على الفور بالصمت والفراغ الذي تركه غياب صبر وابنه. 
كان البيت بارداً يفتقد لدفء وجودهما. 
تنهد وخلع ملابسه الرسمية التي كانت تخنقه طوال اليوم، وارتدى بيجامة قطنية مريحة، محاولاً أن يتخلص من أعباء العالم الخارجي.
توجه إلى المطبخ وأعد لنفسه فنجان قهوة أسود قوي، ليكون رفيقه في الليلة الطويلة التي تنتظره مع أوراق القضية. 
حمل فنجانه وتوجه إلى مكتبه الصغير حيث كانت الملفات مكدسة، تنتظر أن يغوص في تفاصيلها المعقدة. 
جلس على كرسيه وأشعل مصباح المكتب الذي ألقى دائرة من الضوء على الأوراق تاركاً بقية الغرفة في شبه ظلام.
ما إن بدأ يقرأ أول سطر، حتى انقطع سكون الشقة بصوت جرس الباب الحاد المفاجئ.
عقد حاجبيه باستغراب من قد يأتي في هذا الوقت؟ هل نسيت صبر شيئاً؟ لكن والدته كانت ستتصل به بالتأكيد.
نهض من مكانه وتوجه نحو الباب وهو يشعر بشيء من القلق الغامض. نظر من العين السحرية وتجمد في مكانه للحظة.
ليلى.
ماذا تفعل هنا؟ فتح الباب ببطء ووقف يسد المدخل بجسده وملامحه جامدة لا تحمل أي تعبير.
_ ليلى؟ خير؟
كانت تقف أمامه ترتدي فستاناً أنيقاً وتفوح منها رائحة عطر قوي، غريب عن رائحة الياسمين الهادئة التي اعتاد عليها من صبر. 
ارتبكت قليلاً من استقباله البارد لكنها تماسكت.
_ أكمل... أنا آسفة إني جيت كده من غير ميعاد أنا رحتلك مكتبك في النيابة بس الساعي قالي إنك مشيت بدري النهاردة.
المهم إني محتاجة أتكلم معاك ضروري الموضوع مهم أوي وميستحملش تأجيل.
نظر إليها بشك لم يكن مرتاحاً أبداً لوجودها هنا، في مكانه الخاص في بيته الذي يشاركه مع زوجته. 
لكنه لم يستطع أن يطردها خاصة وهي تقول إن الأمر ضروري
تنهد وتراجع خطوة إلى الوراء، سامحاً لها بالدخول.
دخلت ليلى لكن ما أثار استغرابه وقلقه حقاً هو أنها مدت يدها خلفها وأغلقت باب الشقة، حركة صغيرة لكنها كانت كفيلة بإطلاق كل أجراس الإنذار في رأسه.
_ ممكن نقعد؟
أشار برأسه نحو الصالة بينما بقي هو واقفاً يراقبها بحذر 
جلست على الأريكة وبدأت تتحدث لكن كلماتها كانت تدور في دوائر، تتحدث عن عملها وعن ضغوط الحياة وعن شعورها بالوحدة، وعن كيف أن النجاح ليس كل شيء. 
كانت مقدمات طويلة ومشتتة، كأنها تحاول أن تجد المدخل الصحيح للموضوع الذي جاءت من أجله.
كان أكمل يستمع بصبر نافد، ويشعر بأن هناك شيئاً خاطئاً شيئاً خطيراً على وشك الحدوث.
فجأة صمتت ونظرت إليه مباشرة وفي عينيها نظرة يائسة لم يرها من قبل.
_ بصراحة يا أكمل أنا جاية اعترفلك بإني  مش قادرة أعيش من غيرك.
وقع الكلام عليه كالصاعقة.
_ أنا عارفة إني غلطت... غلطت لما اخترت الشغل والمناصب بدالك اتخطبت لواحد عنده منصب كبير، معاه فلوس وسلطة... كل الحاجات اللي كنت فاكرة إنها هتسعدني.
بس محستش معاه بأي حاجة محستش بالأمان اللي كنت بحسه معاك. 
محستش إن ليا ضهر وسند زيك.
اقترب صوتها من البكاء.
_ أنا كنت غبية والبعد عنك عرفني قيمة اللي كان في إيدي وخسرته. 
لازم نرجع لبعض يا أكمل... أنا مستعدة أعمل أي حاجة.
لم يعد أكمل قادراً على الصمت وضع فنجان القهوة على أقرب طاولة بقوة، وانفجر فيها بغضب مكتوم.
_ ترجعي لمين؟ إنتي اتجننتي؟ إنتي ناسية إني متجوز؟ ناسية إن عندي ابن وزوجة؟ إيه الكلام الفارغ اللي بتقوليه ده؟
نهضت ليلى من مكانها واقتربت منه متجاهلة غضبه تماماً. 
تحركت نحوه بطريقة مغرية مقصودة ومدت يدها لتحاول لمس صدره.
_ مراتك دي مجرد فلاحة بسيطة مش من مستواك ولا من مستوايا. 
أنت تستاهل واحدة تانية... تستاهلني أنا وأنا مش هقدر أبعد عنك تاني أنا بحبك.
تراجع أكمل خطوة إلى الوراء مبتعداً عن لمستها كأنها نار.
_ إنتي مريضة! اطلعي بره بيتي حالاً.
لكنها لم تستمع تقدمت نحوه مرة أخرى وهي تهمس باسمه بنبرة لم تعد تحتمل هي رأته يدخل بزوجته منزل والدته وعاد وحيدًا وهذه فرصتها كي يضغط عليه.
❈-❈-❈
كانت روح تجلس أمام منضدة الزينة الكبيرة في غرفتها، تمرر الفرشاة في شعرها الطويل ببطء لكن عينيها لم تكونا تتابعان حركتها، بل كانتا مثبتتين على الانعكاس في المرآة.
كانت المرآة تعكس مشهداً أصبح يتكرر يومياً: مالك مستلقٍ على السرير على جانبه، وبجانبه ترقد ابنتهما الصغيرة "نور" التي لم تتجاوز الشهر، في نفس وضعيته كأنها صورته المصغرة كان يتحدث معها بصوتٍ عميق وحنون، كأنه يشاركها أسرار الدولة، ويناقشها في أمور الكبار.
كانت الصغيرة تناغيه بأصوات غير مفهومة، وهو يرد عليها بجدية مصطنعة كأنه يفهم كل كلمة تقولها.
شعرت روح بوخزة حادة من الغيرة لقد كانت هي طفلته المدللة، وأخته، وحبيبته، وكل عالمه والآن جاءت هذه الصغيرة لتستولي على كل الاهتمام لقد أصبح كل وقته، كل حنانه، كل كلماته موجهة لها.
لم تعد تحتمل ألقت بالفرشاة على المنضدة بعنف مكتوم ونهضت وتوجهت نحو الباب لتخرج من الغرفة.
ما إن فتحت الباب حتى جاء صوته الحاد من خلفها قاطعاً حديثه الهام مع ابنته.
_ على فين؟ وإنتي خارچة من أوضتك بشعرك اكده كيف؟
استدارت إليه بغيظ 
_ خارجة أشم هوا! وسند مش اهنه عشان تجلج.
جلس على حافة السرير، ونظر إليها بصرامة لم تفقد حنانها.
_ برضه مينفعش متضمنيش ممكن يرچع في اي وجت.
أطلقت تنهيدة غيظ وجذبت أقرب طرحة من على الأريكة، ووضعتها على شعرها بإهمال وعنف ثم خرجت وصفقت الباب خلفها بقوة خفيفة.
في الردهة كانت على وشك النزول لكنها قابلت ورد التي كانت تخرج من جناحها في نفس اللحظة رأت ورد ملامح روح المتجهمة وحاجبيها المعقودين، فابتسمت بمكر.
_ مالك يا روح؟ جالبه وشك ليه؟
نظرت إليها روح بتذمر طفولي، كأنها تشتكي لأمها.
_ عاچبك اللي ابنك بيعمله ده؟
رفعت ورد حاجبها بدهشة مصطنعة.
_ ابني؟ عمل إيه مالك تاني؟
قالت روح بغيظ وهي تشير بيدها نحو باب غرفتها
_ من ساعة ما ست نور شرفت، وهو نسي إن له زوچة أصلاً! كل اهتمامه وحبه وكلامه بجى ليها هي وبس! وأنا كأني هوا!
انفجرت ورد في ضحكة مكتومة فهي تعرف روح جيدًا ومدى دلالها على مالك من طفولتها ثم اقتربت منها ووضعت ذراعها حول كتفها وقالت بنبرة خبيرة
_ عشان هبلة.
نظرت إليها روح بعدم فهم.
_ هبلة؟
_ أيوه هبلة عشان سيبتي حتة العيلة الصغيرة تاخده منك بالسهولة دي.
زادت حيرة روح.
_ مش فاهمة أعمل إيه يعني؟
مالت ورد عليها وهمست في أذنها بسر، كأنها تمنحها وصفة سحرية.
_ هو إنتي فاكرة إنك لما بتنشغلي بيها وتهتمي بها وتنسيه هو هيرچعلك؟ لأ يا ناصحة هو كمان بيغير.
_ بيغير؟ بيغير من إيه؟
_ بيغير من اهتمامك إنتي بيها إنتي كمان انشغلتي عنه بالبنت، وبجيتي أم وبس اسحبيه منيها تاني.
_ إزاي بس يا مرات عمي؟
ابتسمت ورد ابتسامتها الماكرة الواسعة.
_ خليكي ناصحة دلعي نفسك، البسي واتشيكي واعملي كإنك مش غيرانة منها خالص ولما تلاجيه بيلعب معاها، روحي اجعدي چنبه مش بعيد عنه ادخلي في حضنه وهو شايلها، وبوسيها إنتي كمان خليه يشوفك أم وحبيبة في نفس الوقت خليه يحس إنك بتشاركيه حبه ليها، مش بتنافسيه عليها وساعتها، هتلاقيه هو اللي بيدور عليكي عشان يثبتلك إنك لسة الأصل... وإنها هي مجرد صورة منك.
نظرت روح إلى عمتها بذهول كأنها كشفت لها عن سر من أسرار الكون لقد كانت تنظر للأمر من زاوية خاطئة تماماً.
ربتت ورد على كتفها.
_ يالا اسمعي نصيحة اللي أكبر منك، وارجعي أوضتك وابدأي الحرب بتاعتك بس بشطارة ودلع مش بغيظ وعصبية.
ابتسمت روح ابتسامة واسعة لأول مرة منذ أيام وشعرت بأنها استعادت أسلحتها. 
قبلت ورد على خدها بسرعة، وعادت إلى غرفتها بخطوات واثقة مستعدة لخوض معركة استعادة "مالك" من منافستها الصغيرة.
عادت روح إلى غرفتها لكنها لم تكن نفس المرأة التي خرجت منها قبل دقائق لم تعد تلك الزوجة الغاضبة المتذمرة، بل كانت أنثى واثقة تخطو أولى خطواتها في معركة محسوبة.
وجدته لا يزال على نفس وضعيته مستلقياً بجوار ابنتهما لكنه كان صامتاً الآن ويبدو أنه كان ينتظر عودتها. 
لم ينظر إليها عندما دخلت متظاهراً بالانشغال بالصغيرة.
تجاهلت صمته تماماً خلعت الطرحة بهدوء وألقتها على الأريكة ثم توجهت إلى خزانة ملابسها. 
فتحتها وبدأت تمرر يدها على الفساتين المعلقة، كأنها تبحث عن شيء محدد اختارت فستاناً حريرياً بسيطاً بلون هادئ من تلك التي يعرف مالك أنها تحبها.
دخلت إلى الحمام وبعد دقائق خرجت وقد تغيرت تماماً سرحت شعرها من جديد ليتموج على كتفيها ووضعت لمسة عطر خفيفة، ذلك العطر الذي أهداه لها في عيد ميلادها 
كان مالك يراقبها بطرف عينه، متظاهراً بعدم الاهتمام لكنه لاحظ كل تفصيل لاحظ تغير ملابسها، ورائحة عطرها التي وصلت إليه وهدوءها غير المعتاد كان يتوقع عاصفة من الغضب، لكنه وجد سكوناً مقلقاً وجميلاً في نفس الوقت.
لم تتجه نحوه مباشرة بل توجهت إلى سرير الطفلة وأحضرت منه غطاءً خفيفاً ثم اقتربت من السرير بهدوء تام.
لم تقل "ابعد" أو "هاتها"
بدلاً من ذلك جلست على حافة السرير بجانبه تماماً حتى لامس كتفها ذراعه
 انحنت فوق الصغيرة وقبلتها على جبينها برقة ثم غطتها بالغطاء الخفيف وهي تهمس بصوتٍ حنون
_ عشان متبرديش يا قلبي.
شعر مالك بالارتباك لقد توقع أي شيء إلا هذا.
ثم وبدلاً من أن تنهض وتبتعد فعلت شيئاً لم يتوقعه أبداً استندت برأسها على كتفه، وظلت تنظر إلى ابنتهما النائمة وقالت بصوتٍ هادئ ودافئ
_ شكلها شبهك أوي وهي نايمة نفس هدوءك.
تجمد مالك للحظة لقد حاصرته من كل الجهات لقد دخلت إلى عالمه الخاص مع ابنته، وشاركته فيه بدلاً من أن تحاربه عليه شعر بدفء رأسها على كتفه ورائحة عطرها تملأ أنفاسه.
لم يستطع المقاومة استدار قليلاً ليواجهها ورفع يده ومسح على شعرها برفق.
_ كنتي فين؟
نظرت إليه بعينين بريئتين كأنها لا تفهم سؤاله.
_ كنت بغير هدومي.
هز رأسه ببطء وابتسامة خفيفة بدأت ترتسم على شفتيه.
_ لأ. كنتي فين من زمان؟
لم تجب فقط ابتسمت ابتسامتها التي يعرفها الابتسامة التي تذيب كل دفاعاته.
في تلك اللحظة تحول اهتمامه بالكامل لم تعد الصغيرة "نور" هي محور الكون بل أصبحت مجرد خلفية جميلة في مشهد بطله هو وهذه المرأة التي تجلس بجانبه.
همس بصوتٍ عميق، وهو يقرب وجهه منها
_ وحشتيني.
ردت بهمس مماثل وعيناها لا تفارقان عينيه
_ وإنت كمان.
لم تكن هناك حاجة لكلمات أخرى انحنى وقبلها، قبلة كانت في البداية هادئة وحنونة ثم سرعان ما تعمقت لتصبح قبلة شغف وشوق، كأنه يعيد اكتشافها من جديد.
في خضم هذه اللحظة أدركت روح أن ورد كانت على حق لم تكن المعركة مع ابنتها بل كانت مع نفسها وعندما فهمت اللعبة فازت بها بسهولة، واستعادت عرشها كملكة متوجة على قلب "مالك" دون منازع.
❈-❈-❈
كانت كلمات نغم الأخيرة معلقة في الهواء ثقيلة ومفاجئة كحجر أُلقي في مياه راكدة. 
نظر جاسر إليها ثم إلى الباب المفتوح خلفها وفهم على الفور كل ما يدور في رأسها. 
رأى غيرتها المكتومة خلف قناع الثبات الذي ترتديه بشق الأنفس، ورأى أيضاً قوتها وهي تتغلب على هذه الغيرة لتسمح لابنة عمه، التي كانت تعتبرها عدوتها اللدودة بالدخول إلى أقدس مكان في حياتها.
أومأ برأسه ببطء في موافقة صامتة تحمل الكثير من المعاني، موافقة لم تكن لشروق بقدر ما كانت لنغم إقراراً منه بنضجها وقوتها الجديدة.
استدارت نغم وخرجت لكنها تركت الباب مفتوحاً قليلاً عمداً، حركة لا واعية تقول إنها لا تزال هنا، وأن هذا عرينها وأنها تراقب وتسمع.
بعد لحظات ظهر ظل شروق عند الباب.
ترددت للحظة كأنها تستجمع كل ذرة من شجاعتها لعبور هذه العتبة. 
ثم دخلت كانت خطواتها مترددة، خافتة على عكس خطواتها الواثقة المعتادة. 
كان رأسها منخفضاً كأنها تحاول أن تختبئ من نظراته التي طالما عرفت أنها تخترق الدروع. 
وقفت على بعد خطوات من السرير، عاجزة عن النظر إليه مباشرة، ويداها متشابكتان أمامها في حركة عصبية.
_ حمدلله على سلامتك يا جاسر.
كان صوتها خافتاً مهزوزاً، بالكاد يُسمع لم يرد جاسر على الفور بل ظل يراقبها بنظرته الثاقبة التي تقرأ ما خلف الكلمات. 
كان يرى فيها انكساراً حقيقياً انكساراً لم يره عليها من قبل. 
لقد اختفت تلك المرأة المتعجرفة ولم يتبق سوى فتاة خائفة تائهة.
_ الله يسلمك اتفضلي.
جلست على طرف المقعد كأنها تستعد للفرار في أي لحظة. 
بقيت صامتة لثواني طويلة كانت أثقل من الدهر، تجمع فيها شتات نفسها ثم رفعت عينيها المليئتين بالدموع المحبوسة ونظرت إليه، نظرة مباشرة لأول مرة.
_ أنا... أنا آسفة.
لم يكن اعتذاراً عن الماضي بل كان اعتذاراً عن كل شيء، عن وجودها في حياته عن الألم الذي سببته، عن الكارثة التي حلت به. 
تنهدت بعمق وكأنها تزيح جبلاً عن صدرها ثم انطلقت الكلمات منها في فيضان لم تعد قادرة على كبحه.
_ أنا السبب في اللي حصلك.
صمت جاسر وتركها تكمل كان يعرف أن هذه اللحظة قادمة، وكان يعرف أن أفضل ما يمكن فعله هو أن يتركها تفرغ كل ما بداخلها.
_ أبويا... أبويا هو اللي أمر بالحادثة دي هو اللي كان عايز يقتلك.
لم تبدُ على ملامح جاسر أي مفاجأة كان هدوؤه مرعباً، كأنه كان يقرأ كتاباً يعرف نهايته. 
هذا الهدوء شجعها على الاستمرار، على كشف الحقيقة كاملة.
_ أنا سمعته بالصدفة وهو بيكلم حد في التليفون... كان صوته واطي، بس أنا سمعته... سمعته وهو بيديله الأمر اتجننت... حسيت إن الأرض بتدور بيا 
حاولت أتصل بيك كتير في اليوم ده عشان أحذرك بس مكنتش بترد... معرفتش أوصلك. 
فضلت أتصل زي المجنونة، بس مكنش فيه رد.
أغمضت عينيها بألم وهي تتذكر تلك اللحظات من العجز المطلق، صوت والدها البارد وصمت هاتف جاسر المطبق.
_ أنا عارفة إن مفيش حاچة بتستخبى عليك... وعارفة إنك أكيد كنت خابر أو شاكك، ذكاؤك ميخلهوش يفوتك حاچة زي دي. 
بس كان لازمن أجولهالك بنفسي كان لازم تسمعها مني.
كان لازمن تعرف إني... إني مستحيل أكون موافجة على حاچة زي دي مهما كنت بكره نغم، ومهما كنت غيرانة منيها... أنت ابن عمي لحمي ودمي.
فتح جاسر عينيه ونظر إليها لم يكن في نظرته لوم، بل كان هناك سؤال سؤال عملي بارد، يتجاوز الدراما العائلية إلى قلب المؤامرة.
_ مين اللي ورا عمي؟ صخر التهامي مش بالغباء اللي يخليه يعمل حاچة زي دي لوحده، ويستخدم طريقة مكشوفة زيها هو مجرد واجهة مين اللي بيحركه؟
ابتلعت شروق ريقها لقد عرفت دائماً أن جاسر يرى ما لا يراه الآخرون، أنه يرى خيوط اللعبة كلها.
_ معرفش... أقسم بالله ما أعرف هو عمره ما بيتكلم في شغله جدامي كل اللي سمعته في المكالمة دي، إنه بعد ما خلص كلامه قال للطرف التاني إن "الباشا الكبير" هيكون مبسوط بالخبر ده.
أومأ جاسر برأسه ببطء كأنه يركب قطع الأحجية في عقله. 
"الباشا الكبير،،
هذا هو الخيط الذي كان يبحث عنه ثم نظر إليها مرة أخرى، نظرة طويلة فاحصة كأنه يقرر مصيرها الآن.
_ جاسر... أنا عارفة إني دمرت حياتك من يوم ما دخلتها وعارفة إن چوازنا ده كان غلطة من الأول، وأنا اللي أچبرتك عليه.
أخذت نفساً عميقاً وقالت الكلمات التي كانت تجهزها منذ أيام، الكلمات التي كانت تظنها خلاصه وخلاصها.
_ لو عايز تطلجني... أنا موافجة ده حقك أنا مستعدة أخرج من حياتك وحياة نغم للأبد
اتنازل عن كل حاجة وامشي من اهنه يمكن لما أبعد، الشر يبعد عنكم
أنتم الاتنين تستاهلوا تعيشوا في سلام، أنا مش هجدر أعيش وأنا شايفة أبويا بيحاول يجتلك، وأنا السبب في وجودي بينكم.
كانت كلماتها صادقة نابعة من إحساس عميق بالذنب، ورغبة حقيقية في التكفير عن خطايا لم ترتكبها هي، بل ارتكبت باسمها لم يرد جاسر، بل ظل صامتاً يفكر. 
لقد اعترفت له بكل شيء، ووضعت مصيرها بين يديه، تاركة له القرار في كيفية إنهاء هذه المسرحية المأساوية.
❈-❈-❈
كانت شقة نسرين، والدة أكمل تعج بالحياة والفرح كانت السيدة تمشي في أرجاء الشقة وهي تحمل حفيدها قاسم، تغني له تارة، وتداعبه تارة أخرى والفرحة الصافية ترتسم على وجهها
كانت صبر تراقبها بابتسامة هادئة، وتشعر بالدفء يغمر قلبها لقد كانت حماتها بمثابة أم ثانية لها، حنونة ومحبة.
بعد أن نام قاسم أخيراً في سريره الصغير، جلست نسرين بجانب صبر في الشرفة ومع كل منهما كوب من الشاي الدافئ.
_ شفتي الواد قاسم ده؟ كل يوم بيحلو عن اليوم اللي قبله واخد عيون أبوه وشخصيته.
ابتسمت صبر وقالت بصوت خفيض.
_ واخد طيبة قلبك إنتي يا ماما.
ربتت نسرين على يدها بحنان.
_ وإنتي يا حبيبتي؟ مالك؟ حاساكي مهمومة أكمل مزعلك في حاجة؟
هزت صبر رأسها بسرعة.
_ لأ طبعاً! أكمل ده مفيش في حنيته وطيبته أنا اللي... أنا اللي حاسة إني مقصرة معاه أوي اليومين دول.
_ مقصرة إزاي بس؟ ده إنتي شايلة بيتك وابنك وحملك على كتافك.
_ عشان كده بالظبط من ساعة ما قاسم اتولد، وأنا كل وقتي وكل تفكيري معاه ولما بدخل أنام، بكون مهدودة ومبشوفش قدامي. 
بحس إني مبقتش أهتم بأكمل زي الأول، وهو راجع تعبان من شغله ومحتاج اللي ياخد باله منه.
نظرت نسرين إليها نظرة عميقة، مليئة بالحكمة والتفهم.
_ اسمعيني يا صبر يا بنتي الراجل زي الطفل الصغير بالظبط، مهما كبر وعلت مناصبه بيفضل محتاج اهتمام ودلع وأكمل بيعشقك، وشايلك فوق راسه متجيش على نفسك، بس برضه متنسيهوش.
صمتت للحظة ثم قالت بابتسامة ماكرة.
_ وأنا عندي ليكي الحل.
_ حل إيه؟
_ أنا بكرة إجازة من الشغل، وقاعدة في البيت إيه رأيك تسيبي قاسم معايا النهاردة، وتقومي تلبسي وتروحي لجوزك؟ خلي الليلة دي بتاعتكم لوحدكم. 
بيت هادي وعشا حلو وكلمتين حلوين عوضيه عن كل الأيام اللي فاتت.
لمعت عينا صبر بالفكرة شعرت بالحماس واللهفة فجأة. 
فكرة أن تقضي ليلة هادئة مع أكمل، بعيداً عن مسؤوليات الأمومة بدت كحلم جميل.
_ بجد يا ماما؟ مش هتقل عليكي؟
_ تقل إيه بس؟ ده أنا أبيع الدنيا عشان ساعة أقضيها مع الواد ده. 
يلا قومي متضيعيش وقت.
نهضت صبر بسرعة، وقبلت رأس حماتها بحب وامتنان دخلت غرفتها، وارتدت أجمل ما لديها وتعطرت بعطرها المفضل، وشعرت بأنها عروس تستعد للقاء زوجها. 
ودعت ابنها النائم بقبلة خفيفة ثم غادرت الشقة وقلبها يرقص من الفرحة واللهفة.
في طريقها إلى شقتها اشترت بعض الحلوى التي يحبها أكمل كانت تتخيل ردة فعله حين يراها، وكيف سيفاجئ بوجودها. 
كانت تخطط في رأسها لكل تفاصيل الليلة، وكيف ستعوضه عن كل لحظة انشغلت فيها عنه.
وصلت إلى باب الشقة وأخرجت مفتاحها بهدوء، تريد أن تفاجئه. 
لكن ما إن اقتربت من الباب حتى سمعت صوتاً من الداخل لم يكن صوت التلفاز كان صوت حديث، وصوت امرأة.
تجمدت يدها وهي على وشك وضع المفتاح في القفل، من هذه التي تتحدث مع زوجها في شقتهما في هذا الوقت من الليل؟ انقبض قلبها بشدة، وشعرت ببرودة تسري في أوصالها.
فتحت الباب ببطء شديد، بحركة شبه صامتة ودخلت.
كانت الصدمة
كان المشهد أمامها كفيلم من أسوأ كوابيسها أكمل يقف متوتراً غاضباً وأمامه مباشرة على بعد خطواة صغيرة منه تقف امرأة أخرى بكامل زينتها تبدو وكأنها على وشك احتضانه. 
لم تكن غريبة لقد عرفتها من الصور القديمة إنها ليلى خطيبته السابقة.
كان الوضع كله يصرخ بالخيانة قربهما من بعضهما توقيت الزيارة نظرة التحدي في عيني ليلى، وصدمة أكمل التي بدت في عينيها كأنها صدمة من قُبض عليه متلبساً.
سقط كيس الحلوى من يدها على الأرض محدثاً صوتاً خافتاً كان في ذلك الصمت مدوياً كانفجار.
❈-❈-❈
كانت الساعة قد تجاوزت الثانية عشر ليلا وقد اخبرها أنه سيعود في التاسعة كانت تجوب غرفة المعيشة ذهاباً وإياباً، وقلبها يخفق بقلق مع كل دقيقة تمر كانت تعرف أن سند في مشوار عمل بعيد ومرهق، وأن الطريق طويل وخطير في هذا الوقت من الليل. 
أمسكت بهاتفها للمرة المئة تحدق في شاشته المظلمة تقاوم رغبتها في الاتصال به حتى لا تشتت انتباهه أثناء القيادة.
كانت كل الأصوات في القصر قد خمدت، ولم يبق سوى صوت خطواتها القلقة وصوت دقات الساعة التي كانت تبدو كضربات مطرقة على أعصابها.
وفجأة سمعت ذلك الصوت الذي كانت تنتظره بفارغ الصبر صوت المفتاح وهو يدور في قفل الباب الخارجي.
تجمدت في مكانها للحظة، كأنها لا تصدق ثم دون تفكير ركضت نحو الباب حافية القدمين.
ما إن انفتح الباب ودخل سند متعباً ومرهقاً حتى ارتمت بين ذراعيه بقوة ودفنت وجهها في صدره، متشبثة به كأنها تخشى أن يختفي مرة أخرى.
تطايرت كل كلمات العتاب والقلق التي كانت تجهزها ولم يتبق سوى كلمة واحدة خرجت من بين شفتيها بصوتٍ مخنوق بالدموع والشوق
_ وحشتني... وحشتني جوي يا سند.
فوجئ سند بهذا الاستقبال العاصف لكنه سرعان ما استجاب له، أسقط حقيبته ومفاتيحه على الأرض بصوتٍ مكتوم ولف ذراعيه القويتين حولها وضمها إليه بقوة أكبر، كأنه يريد أن يخبئها داخل ضلوعه. 
استنشق رائحة شعرها بعمق وأغمض عينيه وشعر بكل تعب السفر ومشقة الطريق يذوب ويتلاشى.
همس في أذنها بصوتٍ أجش من فرط الشوق
_ وإنتي وحشتيني أكتر يا جلب سند وروحه.
ابتعد عنها قليلاً ليرى وجهها فلاحظ دموعها التي تلمع في الضوء الخافت مسحها بإبهامه برفق وحنان لا حدود له.
_ كل ده جلج؟ أنا كويس يا حبيبتي متخافيش.
هزت رأسها وهي لا تزال تتنفس بصعوبة.
_ جلبي كان هيجف من الخوف عليك الطريق، والوقت...
قاطعها بابتسامة دافئة وهو يرفع وجهها إليه بكلتا يديه.
_ وأنا طول الطريج مكنتش شايف جدامي غير وشك ده كنت بعد الدجايج والثواني عشان أرچع وأشوفك.
نظر في عينيها بعمق ذلك النظر الذي كان يذيبها دائماً.
_ تعرفي إيه اللي كان مصبرني؟ إني عارف إن فيه هنا روح مستنياني روح لو غابت عني، حياتي كلها تضلم.
لم تعد تحتمل ألقت بنفسها في حضنه مرة أخرى لكن هذه المرة لم يكن عناق قلق، بل عناق حب خالص عناق يحكي عن ليالي من الانتظار وأيام من الشوق.
حملها سند بين ذراعيه بسهولة، كأنها ريشة وتوجه بها نحو غرفتهما لم يقل كلمة ولم تقل هي كلمة لم تكن هناك حاجة للكلام كانت لغة العيون واللمسات والأحضان كافية لتروي كل الحكايات.
أغلق باب غرفتهما بقدمه وفي تلك اللحظة أغلقا الباب على العالم الخارجي كله، ولم يبقَ في عالمهما الخاص سوى رجل عاشق عاد إلى وطنه وامرأة كانت هي الوطن كله.
❈-❈-❈
بعد أن غادرت شروق تركت خلفها فراغاً مشحوناً بالأسئلة والتوتر وصمتاً أثقل من أي كلام. 
لم تعد نغم قادرة على الجلوس في المكان شعرت بأن الهواء أصبح خانقاً، وأن جدران البيت تطبق عليها.
لم تكن متقبلة لوجود شروق في حياة جاسر ليس كابنة عمه بل كامرأة أخرى. 
امرأة شاركته طفولته وكانت يوماً ما "مكتوبة له"
كانت ترى في عيني شروق المنكسرتين بقايا حب قديم حب لم يمت بل تحول إلى رماد قد يشتعل من جديد بأي نسمة هواء هذا الإحساس كان يأكل روحها. 
هي تثق في جاسر تثق به الآن أكثر من أي وقت مضى لكن غيرتها كانت شعوراً لا إراديا سماً يسري في عروقها رغماً عنها يذكرها بأنها لم تكن الأولى وأن هناك دائماً "ما قبلها".
هربت إلى المطبخ كجندي جريح ينسحب من ساحة المعركة
كانت بحاجة إلى أي شيء لتشغل به يديها وعقلها. 
أمسكت بسكين وبدأت تقطع الخضروات بحركة آلية عنيفة وكل ضربة على لوح التقطيع كانت صدى لضربات قلبها المضطرب. 
كانت تعيد مشهد دخول شروق اعترافها نظراتها لجاسر صمته هو... كل تفصيل كان بمثابة شوكة صغيرة تنغرس في قلبها وتتعمق أكثر مع كل لحظة.
دخلت ونس المطبخ ووجدتها على هذه الحال رأت الشرود في عينيها ورأت يديها اللتين تعملان بلا وعي، ورأت الدموع التي تتجمع في زاوية عينيها وتهدد بالهطول اقتربت منها بهدوء ووضعت يدها على كتفها.
_بتعملي إيه اهنه يا نغم؟
انتفضت نغم وسقطت السكين من يدها محدثة صوتاً معدنياً حاداً على الأرضية كأنه صوت انكسار شيء بداخلها.
_مفيش يما... بساعد سامية.
نظرت ونس في عينيها مباشرة، بنظرة حنونة وحازمة.
_بتساعدي سامية، ولا بتهربي من چوزك؟
لم تستطع نغم الإجابة
لقد أصابت حماتها الحقيقة بدقة مؤلمة انهار السد الذي كانت تبنيه، وانفجرت في بكاء صامت بكاء مكتوم يهز كتفيها.
لم تقل ونس شيئاً فقط سحبتها برفق إلى حضنها وتركتها تبكي، تفرغ كل ما بداخلها من غيرة وقلق وخوف. 
كان حضناً دافئاً حضن أم تعرف متى تتكلم ومتى تترك الدموع تقوم بالعمل.
بعد لحظات هدأت نغم قليلاً وقالت بصوت مختنق بالدموع وهي لا تزال في حضن ونس
_صعب... صعب جوي يما.
ربتت ونس على ظهرها.
_إيه هو اللي صعب يا بتي؟
ابتعدت نغم قليلاً ومسحت دموعها بكف يدها كطفلة صغيرة.
_صعب... إني أسيب چوزي مع واحدة تانية في أوضتنا... وأخرج صعب أشوفها بتبصله كيف وأعمل نفسي مش شايفة أني بثق فيه، والله بثق فيه... بس غصب عني الچمرة اللي في جلبي دي هتحرجني.
تنهدت ونس وأمسكت بوجه نغم بين يديها، وأجبرتها على النظر إليها.
_ومين جالك إن ده سهل؟ الغيرة دي طبيعة كل ست بتحب چوزها لازمن تغير عليه لو مغيرتيش، يبجى مبتحبيهوش بس الفرق بين الست العاجلة والست اللي بتخرب بيتها بإيدها، هي بتعمل إيه بالغيرة دي.
مسحت دمعة هاربة من عين نغم بإبهامها.
الهروب مش حل يا بنيتي اللي في جلبك ده لو متكلمتيش فيه معاه، هيكبر وهياكلك من چوه جاسر فوج مستنيكي اطلعي لچوزك وواچهيه جوليله إنك مش متجبلة الوضع، جوليله إنك غيرانة
صرخي فيه لو عايزة، عاتبيه طلعي كل اللي چواكي في وشه
بس بلاش تهربي وتسيبيه يخمن إيه اللي چواكي الراچل بيحب الست الجوية اللي بتعرف تاخد حجها منه، مش اللي بتهروب وتستخبى الجوة في المواچهة، مش في الهروب.
كانت كلمات ونس هي الدفعة التي كانت تحتاجها كانت كالمياه الباردة التي أيقظتها من دوامة أفكارها. 
أومأت برأسها بصمت، وفي عينيها تصميم جديد تركت المطبخ وخرجت بخطوات ثابتة، متجهة إلى الطابق العلوي لم تعد تهرب لقد قررت أن تواجه العاصفة، حتى لو كانت هذه العاصفة بداخلها هي.
❈-❈-❈
صعدت الدرج ببطء وكل خطوة كانت تزيد من خفقان قلبها، وقفت أمام باب جناحهما للحظة ثم فتحته ودخلت.
كان راقداً على السرير يسند ظهره إلى كومة من الوسائد، ويتصفح هاتفه ما إن شعر بوجودها حتى أغلق الهاتف ووضعه جانباً وعيناه لم تفارقاها وهي تقترب.
_ تعالي.
كانت نبرته هادئة دافئة، لكنها لم تخفف من توترها اقتربت وجلست على حافة السرير أمامه عيناها في الأرض.
مد يده وأمسك يدها برفق وشعر ببرودتها.
_ بتهربي مني ليه؟
رفعت عينيها إليه وكانت مليئة بالدموع التي كانت تحبسها.
_ أنا تعبت يا جاسر مبجتش جادرة أتحمل.
_ من إيه؟
_ من كل حاچة من وچودها في حياتنا من فكرة إنها مراتك زيي بالظبط
من نظراتها ليك ونظراتك ليها
أنا... أنا لما طلبت تشوفك لوحدكم حسيت كأن حد بيخلع جلبي من مكانه حسيت إني بسلمك ليها بإيدي.
بدأت دموعها تسيل على خديها، وخرج صوتها متقطعاً محملاً بكل الألم الذي شعرت به.
_ أنا خابرة إنها بنت عمك وعارفة إنها اعترفتلك بكل حاچة بس أنا مش جادرة أتجبلها مش جادرة أتجبل فكرة إن فيه واحدة تانية بتشاركني فيك غصبت عني. 
بحاول أكون جوية وبحاول أعدي الموضوع بس مش جادرة الإحساس ده بيجتلني.
كان جاسر يستمع إليها بصمت ويتألم لي ألمها. 
رأى صدق مشاعرها ورأى عمق حبها الذي كان السبب في هذه الغيرة المدمرة. 
سحبها إليه برفق وجعلها تجلس بجانبه واحتضنها بذراعه السليمة.
_ حجك
كل اللي بتحسي بيه ده حجك وأنا آسف إني حطيتك في الموجف ده.
_ طب والحل؟ أنا مش هجدر أعيش اكده.
تنهد جاسر ومسح على شعرها بحنان.
_ إنتي عارفة إن جوازي منها مؤقت، عشان الكلام اللي اتجال في البلد، وحالياً مش هينفع أطلجها واعادي ابوها لحد ما أعرف مين اللي وراه.
_ طب على الأجل... على الأجل طلجها  بينك وبينها خليك چوزي أنا لوحدي خلي الورج ده مجرد حبر، بس في الحجيجة وفي جلوبنا، أكون أنا مراتك الوحيدة.
كانت تتشبث به وتترجاه بعينيها كانت تطلب منه طمأنينة وعداً، شيئاً تتمسك به في وسط هذه العاصفة نظر في عينيها مباشرة ورأت فيهما حناناً وعطفاً لكنها لم ترى الموافقة.
فاجأها برده كلمة واحدة هادئة، لكنها كانت قاطعة كالسيف.
_ لأ.
اتسعت عيناها بصدمة وعدم تصديق كيف يرفض طلبها البسيط هذا؟ كيف يرفض أن يمنحها هذا السلام النفسي الذي تتوق إليه؟ شعرت وكأن الأرض قد سُحبت من تحت قدميها مرة أخرى.

•تابع الفصل التالي "رواية ثنايا الروح" الريح والغيامة" اضغط على اسم الرواية

الروايات كاملة عبر التلجرام

ملحوظة

يرجى التنبية: حقوق الملكية محفوظة لدى المؤلفون ولم تسمح مدونة دليل الروايات pdf نسب الأعمال الروائية لها أو لشخص غير للكاتب الأصلي للرواية، وإذا نشرت رواية مخالفة لحقوق الملكية يرجى أبلغنا عبر صفحة الفيسبوك
google-playkhamsatmostaqltradent