رواية ثنايا الروح "الريح والغيامة" الفصل الثامن والاربعون 48 - بقلم رانيا الخولي

 رواية ثنايا الروح "الريح والغيامة" الفصل الثامن والاربعون 48 - بقلم رانيا الخولي 

ثنايا الروح 
الثامن والاربعون
.......................
كانت صبر تجلس على الأريكة في غرفة المعيشة الهادئة، تحتضن وسادة بقوة كأنها تستمد منها بعض الدفء المفقود. 
كانت قد أنهت للتو من مكالمة هاتفية مع حماتها نسرين، المكالمة التي أصبحت طقساً يومياً منذ أن غادرت هي وحسين المنزل.
كان صوت نسرين الحنون لا يزال يرن في أذنيها
_ "يا حبيبتي والله وإنتو وحشتوني أكتر بس أنا مش برتاح غير في شقتي وفي سريري وبعدين أنا مشغولة دلوقتي في العيادة اللي سبتها الفترة اللي فاتت، وهي واخدة كل وقتي يا دوب بلحق أرجع أعمل لقمة لحسين."
أغلقت صبر الهاتف وشعرت بفراغ كبير يملأ قلبها لقد اعتادت على وجودهما، على صوت حسين وهو يناقشها في دروسها وعلى حنان نسرين ورعايتها التي لم تشعر بها من قبل أصبح البيت صامتاً وبارداً بدونهما.
في تلك اللحظة دخل أكمل من الباب عائداً من يوم عمل طويل. 
ما إن رآها على هذه الحالة حتى شعر بالقلق فوراً، ملامحها كانت منطفئة وعيناها شاردتان
ألقى بحقيبته ومفاتيحه على أقرب طاولة وتوجه نحوها مباشرة وجلس بجانبها.
_ حبيبتي... مالك؟
رفعت إليه عينيها الذابلتين وحاولت أن تبتسم لكنها لم تستطع.
_ مفيش.
وضع يده على خدها برفق وأدار وجهها إليه ليتفحصها عن قرب.
_ لأ فيه أنا حافظك أكتر من نفسي وشك بيقول إنك مضايقة قاسم كويس؟
هزت رأسها.
_ قاسم نايم وكويس أنا بس...
صمتت للحظة تبحث عن الكلمات المناسبة.
_ من يوم ما والدك وولدتك مشيوا وأنا حاسة إن البيت فاضي أوي حاسة بوحشة.
ثم قالت بحرقة صادقة كشفت عن عمق مشاعرها.
_ أنا عايزة أعيش معاهم يا أكمل.
نظر إليها أكمل بدهشة وسعادة غامرة لم يكن يتوقع أبداً أن يسمع منها هذا الكلام. 
كان يظن أنها قد تشعر بالراحة في الحصول على خصوصيتها لكنها فاجأته بعمق حبها وأصالتها.
اتسعت ابتسامته وشعر بموجة من الحب والفخر تجاهها.
_ للدرجة دي وحشوكي؟
قالت بعينين دامعتين
_ أنا حبيبتهم أوي يا أكمل حبيت وجودهم وصوتهم في البيت مش قادرة أتقبل فكرة إنهم يعيشوا لوحدهم بعد العمر ده كله. 
مين هياخد باله منهم؟ باباك ساعات بينسى ياخد دوا الضغط وماما نسرين بترجع من العيادة تعبانة ومحتاجة اللي يساعدها مكانهم مش في شقة لوحدهم، مكانهم وسطينا.
لم يستطع أكمل أن يخفي سعادته ضمها إليه بقوة وقبل رأسها بحب عميق.
_ يا حبيبة قلبي إنتي، تعرفي أنا كمان كنت بفكر في إيه طول الفترة اللي فاتت؟
نظرت إليه بفضول.
_ كنت بفكر نشتري بيت أكبر فيلا صغيرة كده وناخدهم يعيشوا معانا فيها كل واحد له جناحه الخاص عشان راحته، بس نكون كلنا تحت سقف واحد نصحى الصبح نفطر مع بعض ونتعشى مع بعض وقاسم يكبر وسط جده وجدته.
تهلل وجه صبر بفرحة حقيقية، لمعت عيناها ببريق الأمل.
_ بجد يا أكمل؟ هتعمل كده؟
_ لو ده اللي هيريحك ويبسطك، أعمل أي حاجة في الدنيا أنا كمان نفسي أكون جنبهم وأطمن عليهم كل يوم.
ارتمت في حضنه بسعادة وشعرت بأن كل الوحشة قد تلاشت لم تكن تحلم يوماً بأن تجد عائلة بهذا الدفء، ولم تكن تتخيل أنها ستحبهم إلى هذا الحد الذي يجعلها لا تطيق فراقهم.
همس أكمل في أذنها وهو يضمها بقوة
_ ربنا رزقني بأحن وأجدع ست في الدنيا بحبك يا صبر.
في تلك اللحظة لم يكن البيت فارغاً أبداً بل كان ممتلئاً حتى آخره بحبهما وبأحلام مستقبل دافئ يجمع كل من يحبون تحت سقف واحد.
❈-❈-❈
بعد أن غادرت عائلة الرفاعي 
ظل جاسر ينظر للفراغ أمامه
لم يتخيل يومًا أن يفعل عمه ذلك
تذكر عندما زاره بالمشفى
فلاش باك.....
كانت الإضاءة خافتة في غرفة العناية المركزة وصوت الأجهزة الطبية المنتظم هو الصوت الوحيد الذي يكسر الصمت الثقيل فتح جاسر عينيه ببطء وشعر بألم حاد في كل جزء من جسده، لكن عقله كان صافياً بشكل مخيف. 
كان يحدق في السقف الأبيض لا يفكر في الحادث بل فيمن يقف خلفه.
في تلك اللحظة فُتح باب الغرفة بهدوء ودخل صخر.
سار بخطوات بطيئة ومدروسة وعلى وجهه قناع متقن من القلق والحزن الأبوي وقف بجانب السرير ونظر إلى ابن أخيه الممدد بين الأنابيب والأجهزة.
_حمد لله على السلامة يا ولدي جلجتني عليك.
لم يجب جاسر على الفور أدار رأسه ببطء شديد وهي حركة كلّفته ألماً هائلاً وثبّت عينيه في عيني عمه. 
كانت نظراته هادئة لكنها حادة كشفرة جراح تخترق قناع القلق الزائف الذي يرتديه صخر.
_الله يسلمك... يا عمي.
قالها بصوتٍ أجش وضعيف لكن كل حرف كان يحمل وزناً وثقلاً.
جلس صخر على المقعد بجانب السرير وتنهد تنهيدة مسرحية.
_حادثة چوية... ربنا نچاك منيها بمعچزة البلد كلايتها مجلوبة.
صمت جاسر وظل يحدق فيه هذا الصمت كان أشد إزعاجاً لصخر من أي اتهام.
مال صخر إلى الأمام وخفض صوته وكأنه يشاركه سراً.
_عرفت... عرفت مين اللي عملها؟ مين الچبان اللي استجصدك بالشكل ده؟
هنا ارتسمت شبه ابتسامة باردة على شفتي جاسر المتشققتين ابتسامة لم تصل إلى عينيه.
_لسة.
كلمة واحدة، لكنها كانت كافية لزيادة التوتر في الغرفة.
واصل صخر لعبته، بنبرة غاضبة ومصطنعة.
_كيف يعني لسة؟ ده تار ولازمن يرچع اللي فكر يعمل أكده في كبير عيلة التهامي لازمن يتمحي من على وش الدنيا بس جولي... شاكك في حد؟
نظر جاسر إلى السقف مرة أخرى كأنه يفكر بعمق ثم أعاد نظره إلى عمه وكانت عيناه تلمعان ببريق خطير.
_شاكك.
توقف قلب صخر للحظة لكنه حافظ على رباطة جأشه.
_مين؟
قال جاسر ببطء وهو يختار كلماته كقطع زجاج حادة
_شاكك... إن اللي عملها... حد جريب حد مكنش عايزني أوصل لمكان معين... أو أعرف حاچة معينة حد... كان فاكر إن عربية النچل... هتخلص الحكاية.
كانت كل كلمة طعنة مباشرة وموجهة لم يذكر اسماً، لكنه وصف الفعل بدقة قاتلة.
شعر صخر ببرودة تسري في عموده الفقري هذا ليس ابن أخيه الجريح والضعيف هذا هو الوحش الذي رباه وقد استيقظ بالكامل.
حاول صخر أن يظهر الصدمة.
_جريب؟ معجول! مين ده اللي يبيع دمه ولحمه؟
ابتسم جاسر مرة أخرى بنفس الطريقة الجليدية.
_متجلجش يا عمي أول ما أجوم من اهنه بالسلامة... كل حاچة هتبان واللي ليه حج هياخده.
نهض صخر، مدركاً أن الزيارة قد انتهت وأن الرسالة قد وصلت ربّت على كتف جاسر (الكتف السليم) بحركة أبوية زائفة.
_جوم أنت بالسلامة بس وأني هجلبلك الدنيا عشان نعرف مين الكلب ده راحتك تهمنا.
رد جاسر بهدوء مميت وعيناه لم تفارقا عيني عمه
_عارف... عارف زين إن راحتي تهمك... يا عمي.
خرج صخر من الغرفة وشعر بأنه بحاجة إلى الهواء. 
لقد دخل ليرى ضحيته فخرج وهو يعلم أنه أصبح هو الفريسة لقد أعلن جاسر الحرب، حرباً صامتة وباردة ستكون أشد فتكاً من أي مواجهة سابقة فجاسر الآن لا يحارب من أجل ثأر قديم بل يحارب من أجل حياته التي حاولوا سلبها منه.
❈-❈-❈
ساعدت ونس نغم على صعود السلم ببطء، خطوة بخطوة حتى وصلتا إلى باب غرفتها. 
فتحت ونس الباب بهدوء فكان جاسر راقدًا على السرير، وعيناه مثبتتان على الباب كأنه كان ينتظرها منذ دهر.
عندما رآها تدخل وهي تتسند على والدته ابتسم لكنها كانت ابتسامة ممزوجة بحزن عميق، حزن رجل يرى حبيبته تتألم وهو عاجز عن مساعدتها 
لقد وعدها بأنه سيكون سندها في كل شيء، وأنه عندما تتعب هو من سيحملها بين ذراعيه، وها هو الآن لا يستطيع حتى أن ينهض من سريره ليمسك بيدها. 
شعر بعجز لم يشعر به من قبل، عجز كان أشد إيلامًا من أي جرح جسدي.
ساعدت ونس نغم على الاستلقاء بجانب جاسر على السرير، مع ترك مسافة كافية بينهما حتى لا يتألم أحدهما. 
مدت نغم يدها فورًا وأمسكت بيده شعر كلاهما براحة فورية بمجرد تلامس أصابعهما.
نظرت ونس إليهما بحب وحنان، وهما يرقدان جنبًا إلى جنب كأنهما طفلان متعبان بعد يوم طويل.
_ ناموا وارتاحوا شوية يا حبايبي على ما سامية تخلص الغدا وتجهزه.
لكنها لم تكد تنهي جملتها حتى سمعوا صوتًا قادمًا من أسفل، صوت يعرفونه جيدًا، صوت زينة وهي تنادي باسم ونس.
_مرت عمي انتي فين؟
تنهدت ونس وابتسمت ابتسامة متعبة.
_ أهي كملت دي أكيد زينة جاية تتخانق عشان خرجنا من المستشفى من غير ما نعرفها.
ضحكت نغم ضحكة خفيفة بينما ابتسم جاسر بيأس مصطنع.
_ سيبيها عليا أنا يا أمي.
قالت ونس وهي تتجه نحو الباب.
_ لأ خليك إنت في اللي إنت فيه أنا هنزل أشوف العاصفة دي عايزة إيه.
خرجت ونس وأغلقت الباب خلفها، وبقي جاسر ونغم وحدهما. 
التفت إليها جاسر وقال بصوت خافت يملؤه الأسف.
_ أنا آسف.
نظرت إليه باستغراب.
_ آسف على إيه؟
_ آسف إني مش جادر أكون چارك زي ما وعدتك، مش جادر أشيلك وأسندك وإنتي تعبانة.
شدت على يده بقوة ونظرت في عينيه مباشرة.
_ مچرد وچودك چنبي بالدنيا كلها يا جاسر، إنت سندي حتى وإنت نايم على السرير اكده، كفاية عليا إنك رچعتلي بالسلامة.
لم يرد عليها، بل اكتفى بالنظر إليها بحب عميق، وشعر بأن هذا الحب هو القوة الوحيدة التي ستساعدهما على تجاوز هذه المحنة، وأن وعده لها لم يُكسر، بل هو فقط تأجل لوقت قصير.
❈-❈-❈
لم تكد ونس تغلق الباب خلفها حتى انفتح مرة أخرى بعنف ودخلت منه زينة كالإعصار، وعلى وجهها ابتسامة مرحة وعابثة كعادتها.
_ إيه يا عصافير الحب عاملين إيه النهاردة، سمعت إنكم هربتوا من المستشفى من غير ما تدفعوا الحساب جولت أچي أحصل الفاتورة.
ضحكت نغم ضحكة خفيفة رغم ألمها بينما اكتفى جاسر بابتسامة باهتة، فهو معتاد على هذا النوع من المرح مع زينة. 
كيف ده؟ اومال الرسايل اللي شغالة من وجت ما فتحت الفون لحد دلوجت مين اللي أخدها.
اقتربت زينة منهما وجلست على طرف السرير
_ما انا عارفاك بخيل جلت للحاج سالم وهو بيحاسب المستشفى انك راچل شراني ولو عرف ان حد دفعله فلوس المستشفى هيجتلني أنا، وحلفتله بالطلاج ما هينفع لحد ما اقتنع.
سألتها نغم 
_حلفتي لعمي بالطلاج؟
أكدت زينة
_أومال مع إن كان نفسي يوجعني في الطلاج عشان ارتاح من وليد وعياله، بس كنت هسيبهم وأرچع لشروق، فجلت نار وليد أفضل.
وتغيرت نبرتها إلى الجدية فجأة.
_ لأ بجد حمدلله على سلامتكم جلجتوني عليكم جوي، بس الحمد لله كلمت الدكتور وطمني إن كل حاچة تمام، وشوية كدمات ورضوض بسيطة وهترچعوا أحسن من الأول.
شعرت نغم وجاسر بالراحة لكلماتها لكن زينة أكملت حديثها بعفوية، محاولة التهوين عليهما دون أن تدرك أنها على وشك أن تلقي قنبلة في هدوء الغرفة.
_ وإن كان على الحمل اللي نزل فده جضاء ربنا، وبكرة ربنا يعوضكم بعشرة غيره المهم صحتكم إنتو الاتنين.
سقطت الكلمات في الغرفة لكنها لم تسقط ككلمات عادية، بل سقطت كصخرة حطمت كل شيء.
الحمل اللي نزل...
تجمدت ابتسامة نغم على شفتيها وتحولت ملامحها إلى قناع من الصدمة المطلقة وعدم الفهم. 
نظرت إلى جاسر فرأت نفس الصدمة في عينيه التي اهتزت بصدمة واضحة، وكأن أحدهم طعنه في قلبه.
في تلك اللحظة، أدركت زينة من صمتهما المروع ومن نظراتهما الضائعة أنها ارتكبت خطأً فادحًا. 
نظرت إلى ونس التي كانت تقف عند الباب وقد شحب وجهها هي الأخرى وأدركت أنها لم تخبرهما. 
لقد كشفت هي عن السر بأكثر الطرق قسوة.
ارتبكت زينة وتلعثمت، محاولة إصلاح ما لا يمكن إصلاحه.
_ أنا أنا نسيت موبايلي تحت في العربية هنزل أجيبه وجاية
لم تنتظر ردًا، بل انسحبت من الغرفة بسرعة هاربة من العاصفة التي تسببت فيها تاركة خلفها دمارًا صامتًا.
بقيت نغم جامدة في مكانها لثواني تحاول استيعاب الكلمة. 
"حمل"
لقد كان بداخلها حياة أخرى حياة صغيرة كانت ثمرة حبها هي وجاسر وقد رحلت قبل أن تعرف بوجودها حتى. 
شعرت بألم جديد، ألم لا علاقة له بضلوعها المكسورة، بل ألم يمزق أحشاءها وروحها.
قامت من السرير ببطء بحركة آلية كأنها روبوت 
_ أنا...أنا داخلة الحمام
لم تنظر إلى جاسر لم تستطع. 
دخلت إلى الحمام وأغلقت الباب خلفها وبمجرد أن استندت بظهرها عليه، انزلقت على الأرض وانهارت. 
لم تصرخ لم تبكي بصوت عالي بل كان بكاءً صامتًا ممزقًا يهز جسدها كله. 
وضعت يدها على بطنها الفارغة وشعرت بخواء لم تشعر به من قبل خواء لا يمكن لأي شيء في العالم أن يملأه. 
لقد فقدت ابنها، ابنها الذي لم تكن تعرفه.
أما جاسر فبقي مستلقيا على السرير يحدق في السقف لكنه لا يراه. 
كانت الصدمة قد شلت تفكيره. 
"ابن"
لقد كان سيصبح أبًا. 
كان سيحمل طفلًا من المرأة التي يعشقها لكنه فقده وبسبب من؟ بسببه هو.
شعر بالذنب ينهشه كالوحوش الكاسرة
لولا تهوره، لولا غضبه الأعمى في ذلك اليوم لما حدثت كل ذلك 
لولا أنه أصر على مواجهة الماضي، لما فقد مستقبله لقد قتل ابنه بيده قبل أن يولد.
كان يسمع صوت بكاء نغم المكتوم القادم من الحمام وكان كل شهقة منها كأنها سكين تُغرس في قلبه. 
أراد أن ينهض أن يذهب إليها أن يكسر الباب ويأخذها في حضنه ويخبرها أنهم سيتجاوزون هذا معًا. 
لكنه لم يستطع لقد خانه جسده وخانته قوته
شعر بعجز مطلق عجز جعله يكره نفسه أكثر من أي وقت مضى.
لأول مرة في حياته سمح لدموعه بالانطلاق الداخلي
لم تكن دموعًا تنهمر على خديه بل كانت دموعًا تحرق روحه من الداخل، دموع رجل قوي أدرك للتو أنه تسبب في تحطيم أغلى ما يملك وأنه لا يستطيع فعل أي شيء لإصلاح ذلك.
❈-❈-❈
مر الوقت في المرحاض كأنه لا يمر، كانت نغم لا تزال جالسة على الأرضية الباردة تحتضن ركبتيها ودموعها قد جفت على خديها لكن شهقاتها المتقطعة لم تتوقف، لم تكن تبكي فقط على الحلم الذي لم تعشه بل كانت تبكي على جاسر .
كانت تتخيل وقع الخبر عليه هو الذي بدأ للتو يرى النور في حياته كيف سيتحمل ذنبًا كهذا.
لقد كانت هي المخطئة هي التي خرجت من ورائه هي التي عرضت نفسها وهذا الكائن الصغير الذي لم تكن تعرفه للخطر، كان الذنب ينهشها ليس فقط حزن الأم بل ذنب الزوجة التي تشعر أنها خذلت زوجها بأبشع طريقة ممكنة.
في الغرفة كان جاسر لا يزال في نفس وضعيته يحدق في الفراغ، كان الصمت بينه وبين باب الحمام المغلق أثقل من أي صراخ، كان كل نفس يأخذه يشعر به كأنه يسرق الهواء من الغرفة، لقد قتل ابنه بتهوره وغضبه، لقد فشل في حماية عائلته فشل في حماية المرأة التي أقسم على أن يكون سندها، وفشل في حماية ثمرة حبهما.
كان يشعر بأنه لا يستحقها لا يستحق حبها ولا يستحق حتى أن يكون بجانبها في هذه اللحظة.
أخيرًا وبعد زمن بدا كأنه دهر انفتح باب المرحاض.
خرجت نغم كان وجهها شاحبًا وخاليًا من أي تعابير وعيناها حمراوين لكنهما جافتان، اتجهت إلى الجانب الآخر من السرير، وسارت ببطء حتى وقفت بجانبه 
نظر إليها فرأى في عينيها حزنًا عميقًا كالمحيط لكنه لم ير لومًا أو عتابًا.
استلقت بجانبه بهدوء ووجهها يقابله لم تقل شيئًا فقط مدت يدها المرتجفة وأمسكت بيده بقوة كأنها تستمد منه الأمان وتمنحه إياه في نفس الوقت.
شعر جاسر بارتعاش يدها، وشعر بالدفء الذي تبعثه رغم برودتها، لقد جاءت إليه لم تبتعد في عمق حزنها كانت لا تزال تبحث عنه.
قال بصوت متحشرج صوت رجل محطم.
_ أنا السبب أنا اللي......
هزت رأسها بسرعة ودمعة جديدة هربت من عينيها وسقطت على الوسادة بينهما وهي تقاطعه.
_ لأ متجولش اكده، لو حد المفروض يتلام فهو أنا.
انا اللي اتسرعت وفكرت بغباء، بس صدجني كنت خايفة ازعلك لو اكتشفت اني عندي مشكلة وخصوصاً لما جولتلي انك عايز ولاد كتير مني.
ابتلعت غصة مؤلمة في حلقها
_كان نفسي افرحك، كان نفسي اطمن إني معنديش أي مشكلة والموضوع مسألة وجت.
نظر إليها بعينين يملؤهما الألم وقد رفض أن تتحمل هي الذنب لوحدها، هو أيضاً اخطأ بتهوره
_ المفروض في الوقت ده كنت سألتك الأول 
أو كنت أخدتك البيت واتفاهمنا..
غامت عينيه بالألم 
_على الأجل كنت هكون لوحدي..
شدت على يده بقوة أكبر وصوتها خرج متقطعًا بالبكاء، هي لم تفهم معنى جملته الأخيرة فظنت أنه سيتألم وحده
_ وإنت غضبت ليه؟ مش عشاني مش عشان خايف عليا، أنا اللي حولت خوفك وحبك ليا لكارثة.
كل واحد فيهم يبعد الغلط عن الآخر 
فاحساس الذنب الذي يشعر به كلاهما يحاولون ابعاد ثقله عن بعضهم.
صمت كل منهما للحظات يغرقان في بحر من الذنب المشترك ثم قال جاسر بصوت مكسور
نظر كل منهما في عيني الآخر، ورأى كل منهما صورته في عين الآخر .
صورة شخص محطم يحمل ذنب العالم على كتفيه، لم يكن هناك لوم لم يكن هناك عتاب، كان هناك فقط حزن مشترك وألم واحد وذنب يتقاسمانه رغم أن كلًا منهما يصر على حمله وحده.
شد جاسر على يدها بكل ما تبقى له من قوة، وسحبها أقرب إليه رغم الألم الذي شعر به في جسده لم تكن هناك حاجة للمزيد من الكلمات لم يكن هناك عزاء يمكن أن يقال، كل ما كانا يملكانه هو وجودهما معًا في قلب هذه المأساة.
بقيا هكذا صامتين يداهما متشابكتان وشفاههم الصامتة تحكي قصة حبهما الذي وُلد من رحم الألم، والذي يبدو أنه محكوم عليه بأن يعيش فيه، لم يكونا غريبين بل كانا روحًا واحدة انشطرت إلى نصفين من الألم وكل نصف يحاول يائسًا أن يداوي الآخر دون أن يدرك أنه هو نفسه ينزف.
❈-❈-❈
عاد الهدوء الحذر ليسود قصر الرفاعي بعد أن اطمأن الجميع على نجاة جاسر.
تجمعوا في البهو الرئيسي لكن الأجواء كانت مثقلة بالترقب والقلق، والوجوه شاحبة من أثر الصدمة كان فنجان القهوة في يد كل منهم بارداً لم يلمسه أحد.
كسر الحاج وهدان الصمت الثقيل بصوته الذي يحمل وقار السنين وقلق الجد.
_ محدش عرف مين اللي عملها؟ مين اللي كان سايج عربية النجل دي؟
نظر الجميع إلى مالك الذي أصبح بحكمته وهدوئه مرجعهم في الأزمات 
تنهد مالك تنهيدة متعبة.
_ لأ يا جدي العربية كانت مسروجة والسواج هرب بس أكمل بنفسه ماسك الجضية، ومفيش حاچة هتستخبى عليه، إن شاء الله هيوصل للي عمل اكده.
هز وهدان رأسه ببطء، وعيناه تائهتان في الماضي كأنه يرى خيوطاً لا يراها غيره قال بنبرة واثقة ومظلمة
_ مفيش حد له مصلحة في موت جاسر غير واحد بس... صخر.
ساد الصمت للحظة ثم قال سالم باستنكار وعدم تصديق
_ صخر! يجتل ابن أخوه؟!
التفت إليه وهدان وفي عينيه بريق حاد كشف عن معرفته العميقة بنفوس أعدائه.
_ صخر يجتل أخوه نفسه لو لزم الأمر
الراجل ده مبيشوفش غير مصلحته وبس الفلوس والسلطة عميت جلبه من زمان 
جاسر كان العقبة الوحيدة اللي فاضله عشان ياخد كل حاچة، وأي حد يجف في طريجه... بيزيله على طول.
استوعب الجميع خطورة كلمات وهدان، لقد كان الأمر أكبر من مجرد حادث كان محاولة قتل مدبرة والصراع الذي ظنوا أنه انتهى كان لا يزال يلقي بظلاله القاتمة عليهم.
❈-❈-❈
كان الليل قد انتصف لكن أضواء غرفة المكتب لا تزال مشتعلة. 
كان أكمل غارقًا حتى أذنيه في كومة من الأوراق والتقارير القانونية، كانت تفاصيل قضية معقدة تتراقص أمام عينيه، كل سطر فيها يحتاج إلى تركيز مطلق وكل كلمة قد تكون مفتاحًا لإدانة مجرم أو براءة مظلوم. 
كان يشعر بثقل المسؤولية على كتفيه، فمصير أحدهم يعتمد على قدرته على فك شفرات هذه الأوراق.
في الصالة، كانت صبر تسير ذهابًا وإيابًا لا تهدئ، كانت تحمل طفلهما قاسم بين ذراعيها، تهزه برفق وتهمس له بكلمات مهدئة، لكن لا شيء كان يجدي نفعًا. 
كان قاسم يبكي بكاءً حادًا متواصلًا، بكاءً لا تعرف له سببًا. 
لقد فحصت حرارته، وتأكدت من أنه ليس جائعًا وغيرت له لكن صراخه لم يتوقف، بل كان يزداد حدة مع مرور الوقت، وكأنه يعبر عن كل التعب والإرهاق الذي تشعر به هي.
بدأ صوت بكاء قاسم يتسلل إلى غرفة المكتب، في البداية كان ضجيجًا في الخلفية، لكنه سرعان ما تحول إلى إزعاج حاد، كأنه إبر تخترق تركيز أكمل. 
حاول أن يتجاهله أن يركز على الأوراق أمامه لكنه كان يفقد خيط أفكاره مع كل صرخة جديدة. 
شعر بالضغط يتزايد ضغط القضية وضغط الضجيج في المنزل.
أخيرًا لم يعد قادرًا على التحمل. 
قام من على مكتبه بعصبية، وفتح باب الغرفة ووجهه متجهم من فرط التركيز والغضب المكتوم.
_ صبر ممكن تاخدي الولد وتدخلي الأوضة شوية مش عارف أركز خالص.
نظرت إليه صبر بعينين يملؤهما الإرهاق واليأس. 
كانت تقف على حافة الانهيار، وجاءت كلماته الباردة كأنها الدفعة الأخيرة التي أسقطتها في الهاوية. 
انفعلت بشكل لم تكن تتوقعه من نفسها، وصوتها خرج متحشرجًا بالبكاء والتعب.
_ أدخل الأوضة أروح فين يعني، أرميه في الشارع؟ الولد بيعيط بقاله ساعة وأنا مش عارفة أسكته وإنت قاعد هنا ولا على بالك.
تفاجئ أكمل من رد فعلها، فرد بانفعال هو الآخر مدافعًا عن نفسه وعن عمله.
_ وأنا المفروض أعمل إيه يعني أسيب الشغل اللي في إيدي وأجي اسكته؟
مش شايفه إن عندي قضية مهمة ومحتاجة تركيز ولا ده كلام مش مهم بالنسبالك.
اتسعت عينا صبر بصدمة من قسوة كلماته.
_ قضيتك مهمة وأنا وابنك مش مهمين، مش كده؟
أنا اللي شايلة مسؤوليته لوحدي طول النهار وطول الليل تغيير ورضاعة وعياط وسهر وإنت كل اللي بتعمله بقالك يومين ترجع من الشغل تقفل على نفسك في المكتب وكأننا مش موجودين في البيت.
_ وإنتي فاكرة إني قاعد بلعب هنا؟ دي حياة ناس، وإنتي عارفة القضية دي بالذات معناها إيه بالنسبة ليا.
كانت الكلمات تخرج منهما كأنها طلقات نارية، كل منهما يلقي بألمه وتعبه في وجه الآخر.
_ وحقنا إحنا فين؟ حق ابنك عليك إنك تشيله وتلعب معاه، وحقي أنا إنك تكون جنبي وتحس بيا أنا مش عايزة منك عدالة للناس كلها، أنا عايزاك إنت معايا عايزاك تحس بيا وبـتعبي مش تحسسني إني مجرد حاجة ثانوية في حياتك بعد شغلك.
_ حاجة ثانوية؟ أنا بحسسك إنك حاجة ثانوية يا صبر بعد كل اللي بعمله عشانك بتقولي كده؟
ساد صمت مريع في الغرفة، لم يقطعه سوى بكاء قاسم الذي شعر بالتوتر المشحون بين والديه. 
نظرت صبر إلى أكمل نظرة طويلة نظرة مليئة بالخذلان والحزن ثم استدارت دون أن تنطق بكلمة أخرى ودخلت إلى غرفة نومهما وأغلقت الباب خلفها.
بقي أكمل واقفًا في مكانه، يشعر بالذنب يعتصر قلبه، لقد فهمت كلامه بشكل خاطئ 
لم يكن يقصد أن يجرحها، لكن ضغط العمل أعمى بصيرته. 
نظر إلى أوراقه المبعثرة على المكتب، فلم تعد لها أي قيمة. 
لقد كرس حياته لتحقيق العدالة للآخرين لكنه الليلة، فشل في تحقيق أبسط أنواع العدالة في بيته العدالة لزوجته التي لم يعد يعرف كيف يصل إليها.
بقي أكمل واقفًا في مكانه لعدة دقائق يستمع إلى الصمت الذي حل فجأة بعد إغلاق الباب، صمت كان أشد إيلامًا من أي صراخ. 
نظر إلى أوراق قضيته المبعثرة، فرآها مجرد حبر على ورق، بلا معنى وبلا قيمة أمام ما يحدث في عالمه الحقيقي خلف هذا الباب. 
ترك كل شيء وسار بخطوات ثقيلة نحو غرفة نومهما.
فتح الباب بهدوء شديد، فوجدها تجلس على حافة السرير وظهرها له. 
كانت تهز قاسم الصغير بين ذراعيها برقة، وقد هدأ بكاؤه أخيرًا وتحول إلى أنين خافت، كأنه يشاركها حزنها. 
كان المشهد يقطر بالوحدة والتعب، وشعر أكمل بقلبه ينقبض من الألم والندم.
اقترب منها ببطء وجلس بجانبها على السرير لم تقل شيئًا، لم تلتفت حتى ظلت عيناها مثبتتين على طفلهما النائم. 
مد يده بتردد ووضعها على كتفها، فشعر بارتعاشة خفيفة سرت في جسدها.
قال بصوت خافت، صوت رجل يعترف بهزيمته.
_ أنا آسف. 
لم ترد لكنه شعر بأنها تستمع
أكمل بنفس النبرة المكسورة.
_ حقك عليا أنا عارف إنك فهمتي كلامي غلط بس والله ده مش مقصدي 
انا اقصد إني مش بقصر معاكي في تربيته مش أكتر، كنت قاسي معاكي بس غصب عني ضغط الشغل والقضية عموني وخلوني أنسى كل حاجة أنسى أهم حاجة.
صمت للحظة يجمع كلماته التي كانت تخرج بصعوبة.
_ ساعات بنسى نفسي في الشغل وبنسى إن عندي بيت وحياة تانية أهم من أي قضية ومن أي مجرم، بنسى إن عندي كنز هنا لازم أحافظ عليه بس في نفس الوقت لازم انتي كمان تكوني داعم ليا
دي روح بين ايديا مينفعش أي تهاون فيها.
عند هذه الكلمة التفتت إليه أخيرًا، وعيناها كانتا بحيرتين من الدموع الصامتة.
_ وإنت كنزي يا أكمل، إنت وابننا كل كنوزي بس أنا بحس إني لوحدي، بحس إني شايلة كل حاجة فوج كتافي وبخاف بخاف أكون مش جد المسؤولية دي.
أمسك بيدها التي كانت لا تزال تهز طفلهما برفق، وقبلها بحنان.
_ إنتي مش لوحدك يا صبر، أنا معاكي وجنبك يمكن أكون بقصر غصب عني بس عمري ما هسيبك لوحدك أبدًا، إنتي روحي والواحد ميعرفش يعيش من غير روحه.
اقترب منها أكثر وضمها إليه بذراع واحدة، محتويًا إياها هي والطفل معًا في حضنه. 
استندت برأسها على كتفه، وشعرت بالأمان والدفء الذي كانت في أمس الحاجة إليه.
_ سامحيني.
همس في أذنها فأغمضت عينيها وتنهدت بعمق، كأنها تطلق كل الحزن والتعب الذي كان حبيسًا في صدرها.
_ مسمحاك يا أكمل.
بقيا هكذا لبعض الوقت في صمت لا يتكلمان، فقط يتنفسان معًا. 
لم تكن هناك حاجة للمزيد من الكلمات. 
لقد كان اعتذاره صادقًا، وكان غفرانها حقيقيًا. 
وفي حضرة طفلهما النائم، تصالحا ليس فقط بكلمات الأسف، بل بوعد صامت بأن يكونا سندًا لبعضهما البعض، وأن يتذكرا دائمًا أن بيتهما الصغير هو أهم قضية يجب أن يربحاها معًا كل يوم.
بعد وقت طويل 
تأكد أكمل من انتظام انفاسها فنهض من جوارها بهدوء وخرج من الغرفة كي يتابع باقي الأوراق.
❈-❈-❈
كانت نغم نائمة بجانبه وأنفاسها الهادئة والمنتظمة هي الصوت الوحيد الذي يكسر صمت الغرفة الثقيل. 
كان وجهها يبدو مسالمًا في نومها، كأنها هربت إلى عالم آخر لا وجود فيه للألم أو الحزن. 
لكن جاسر كان مستيقظًا تمامًا، يحدق في الظلام وعقله ساحة معركة لا تهدأ. 
لم يكن الألم الجسدي هو ما يمنعه من النوم، بل كان ألم الروح، ألم الذنب الذي ينهشه بلا رحمة.
وفجأة اخترق اهتزاز صامت هذا السكون، اهتزاز هاتفه على الطاولة بجانب السرير.
مد يده ببطء وأخذه ونظر إلى الشاشة 
رقم غير مسجل، لكنه كان يعرفه جيدًا. 
كانت هذه هي المكالمة التي كان ينتظرها، المكالمة التي ستشعل فتيل الجحيم من جديد.
نظر إلى نغم النائمة وتأكد من أنها لم تستيقظ. 
ثم نهض من السرير بصعوبة بالغة متجاهلًا الألم الحاد الذي ضرب جسده مع كل حركة. 
استند على الجدران وهو يسير بخطوات بطيئة وثقيلة، وخرج إلى الشرفة الواسعة وأغلق الباب الزجاجي خلفه بهدوء.
وقف في برودة ليل الجبل، وأخذ نفسًا عميقًا من الهواء النقي كأنه يستعد للغوص في وحل الماضي مرة أخرى، ثم ضغط على زر الرد.
لم يقل شيء بل انتظر بصمت. 
أتاه صوت رجل من الطرف الآخر صوت خشن ومكتوم.
_ تم يا باشا
قال جاسر بصوت هادئ، بارد كبرودة الليل.
_ لجيته؟
_ أيوه لقيناه زي ما توقعت كان مستخبي في شجة جديمة على اول البلد بيچهز نفسه عشان يهورب الصبح.
_ كويس.
_ هو دلوجت في المخزن الجديم متكتف ومستني أوامرك يا باشا.
صمت جاسر للحظة، وعيناه تحدقان في الظلام الشاسع أمامه. 
كان بإمكانه أن يأمر بقتله الآن، أن ينهي هذا الفصل من حياته بكلمة واحدة لكن شيئًا ما تغير بداخله، لم يعد الانتقام السريع هو ما يريده
قال بصوت قاطع.
_ خليه حداك يومين.
_ يومين يا باشا؟
_ أيوه يومين من غير أكل ولا مية، خليه يعرف إن الموت أرحم من اللي مستنيه، خليه يحس بالخوف اللي حست بيه مراتي وهي بين الحياة والموت، أنا جاي بنفسي عشان أسمع منه كل حاچة وأعرف مين اللي وراه بالظبط.
_ أوامرك يا باشا.
أغلق جاسر الخط دون أن ينطق بكلمة أخرى. 
بقي واقفًا في الشرفة لبعض الوقت، يشعر بالبرودة تتسلل إلى عظامه. 
لم يكن يشعر بنشوة الانتصار أو بقرب الانتقام، بل كان يشعر بثقل هائل على صدره.
عاد إلى الغرفة بنفس البطء المؤلم، واستلقى على سريره مرة أخرى. 
نظر إلى نغم النائمة بجانبه، وشعر بمسافة شاسعة تفصل بينهما، مسافة من الأسرار والدماء.
لقد عاد إلى عالمه القديم، عالم الظلام والعنف العالم الذي حاول أن يهرب منه من أجلها.
لم يستطع النوم. 
أغمض عينيه فرأى صورة ابنه الذي لم يولد ورأى صورة السائق المربوط في المخزن، ورأى ظلال أعدائه القدامى والجدد وهي تحوم حوله. 
شعر وكأن القدر يعاقبه على كل ما فعله في حياته، وكأن السعادة التي وجدها مع نغم كانت مجرد استراحة قصيرة، والآن حان وقت دفع الحساب. 
وأدرك في تلك اللحظة أن المعركة الحقيقية لم تكن مع من حاول قتله، بل كانت مع نفسه، مع الوحش الذي يسكن بداخله والذي استيقظ من جديد، وهو لا يعرف ما إذا كان سيتمكن من السيطرة عليه هذه المرة، أم أن هذا الوحش سيبتلعه هو وكل من يحب.
❈-❈-❈
❈-❈-❈
كان أول ما تسلل إلى وعي نغم هو شعور بالأمان، شعور دافئ ومألوف يغلفها بالكامل
لم يكن هناك ألم حاد، بل مجرد وجع خفيف باهت، يذكرها بأن جسدها قد نجا من التحطم. 
فتحت عينيها ببطء، لتجد نفسها ليست في سريرها، بل في حضن جاسر. 
كان ذراعه يلتف حول خصرها برفق، ورأسه يستريح على الوسادة بجانبها، وأنفاسه المنتظمة الهادئة تلامس شعرها كأنها لحن السكينة.
تجمدت للحظة، تتأمل المشهد الذي كان قبل أيام مجرد حلم مستحيل. 
هذا هو الرجل الذي اخترق الموت ليعود إليها. 
الرجل الذي كان جسده درعا لها. 
نظرت إلى ملامحه الهادئة في ضوء الفجر الخافت الذي تسلل من النافذة، ورأت آثار الإرهاق حول عينيه والندبة الصغيرة التي بدأت تلتئم على صدغه
لم تعد ترى فيه القسوة أو الغضب بل رأت فيه ملاذها، بيتها الرجل الذي ارتبطت روحه بروحها بطريقة أعمق من أي رابط.
غمرها شعور جارف بالحب حب ممزوج بالخوف عليه، خوف يجعلها تريد أن تبقيه في فقاعة آمنة بعيداً عن كل شر. 
تحركت ببطء شديد وبحذر فائق محاولةً أن تنسل من بين ذراعيه دون أن توقظه أو تسبب له أي ألم في جسده الذي مازال يؤلمه
كانت حركتها أشبه بحركة فراشة تخشى إزعاج زهرة، لكنه شعر بها على الفور.
فتح جاسر عينيه ببطء وتلاقت نظراتهما في صمت الفجر. 
لم يقل شيئاً فقط شدد من احتضانه لها قليلاً كأنه يطمئن نفسه أنها حقيقية أنها هنا.
_ صباح الخير كنت خايفة أكون بوجعك.
ابتسم مغمغمًا بنعاس
_ وجعي بيروح لما بتكوني هنا.
ابتسمت ابتسامة صغيرة وشعرت بقلبها يذوب. 
مدت يدها ومسحت على شعره برقة.
_ لازم أجوم  عاد مش عايزة أضغط عليك.
تنهد جاسر وأرخى ذراعه، سامحاً لها بالنهوض ثم راقبها وهي تقف وتتحرك ببطء وحذر، ولا يزال أثر الألم واضحاً في حركتها. 
لقد تغير كل شيء بينهما لم يعد هناك حاجة للكلمات الصاخبة أو المواجهات العنيفة. 
لقد تحدث الموت نيابة عنهما وأزال كل الحواجز ولم يترك سوى حقيقة واحدة: أنهما لا يستطيعان العيش بدون بعضهما البعض.
نزلت نغم إلى الطابق السفلي تبحث عن ونس وسامية 
وجدت ونس تجلس وحيدة في بهو الصالون الواسع، تحمل فنجان قهوة لم تلمسه وعيناها شاردتان في الفراغ. 
كان الحزن يلفها كوشاح ثقيل، حزن الأم التي كادت أن تفقد ابنها.
عندما رأت ونس نغم نهضت بقلق.
_ نغم؟ إيه اللي نزلك يا بنيتي؟ أنتِ لساكى تعبانة والدكتور جال لازم ترتاحي.
_ زهجت من الرجدة، حسيت إني محبوسة جلت أتحرك شوية.
نظرت ونس إليها ورأت في عينيها قوة لم تكن موجودة من قبل. 
تنهدت وجلست مرة أخرى.
_ حمدلله على سلامتكم أنا... أنا كل ما بفتكر اللي حوصل، بحس إن جلبي هيجف.
صمتت للحظة ثم نظرت إلى نغم مباشرة وفي عينيها دموع محبوسة.
_ أنا السبب يا نغم أنا اللي حاسة بالذنب مكنش المفروض أطاوعك واخدك عند زينة في اليوم ده من وراه، لو مكنتش عملت اكده مكنش كل ده حوصل
أنا اللي عرضتكم للخطر.
أمسكت نغم بيد حماتها بقوة، ونظرت في عينيها بحنان.
_ أوعي تجولي إكده تاني يا امي ده نصيب، ومكتوب ربنا اللي جدر ده ومحدش فينا يجدر يغير المكتوب
وبعدين يمكن اللي حوصل ده كان فيه خير واحنا منعرفش.
_ خير ايه بس انا من وجت الدكتور ما جال انك سجطتي وانا جلبي بيتطجع.
_ يمكن الحمل ده مكنش فيه خير فربنا صرفه عنا بالطريجة دي، الأهم من كل ده إن جاسر رچعلي ورچوعه من الموت بالدنيا كلها، كل حاچة تانية تهون.
كانت كلمات نغم البسيطة والعميقة هي البلسم الذي كانت ونس تحتاجه. 
شعرت بأن حملاً ثقيلاً قد أزيح عن صدرها.
لقد سامحتها هذه الفتاة بل ورأت حكمة إلهية فيما حدث
احتضنتها بقوة وهي تشعر لأول مرة أنها لم تكسب زوجة لابنها فقط، بل ابنة حقيقية.
في وسط هذه اللحظة المشحونة بالعاطفة، انقطع سكون المنزل بصوت جرس الباب الحاد.
ابتعدت المرأتان عن بعضهما، ونادت ونس على سامية لتفتح الباب
ذهبت سامية وعادت بعد لحظات، وعلى وجهها حيرة وارتباك.
سألتها ونس
_ مين يا سامية؟
ارتبكت سامية اكتر 
_دي...دي..... ست شروق جات.

•تابع الفصل التالي "رواية ثنايا الروح" الريح والغيامة" اضغط على اسم الرواية

تعليقات