رواية ثنايا الروح "الريح والغيامة" الفصل الخامس والاربعون 45 - بقلم رانيا الخولي

 رواية ثنايا الروح "الريح والغيامة" الفصل الخامس والاربعون 45 - بقلم رانيا الخولي 

ثنايا الروح 
الخامس والاربعون 
........................
كانت الشقة غارقة في هدوء الليل لا يقطعه سوى صوت أنفاس طفلهما النائم في غرفتهما، كانت صبر تجلس على حافة السرير بينما كان أكمل يخلع ساعة يده ويضعها على المنضدة، كان يستعدان للنوم لكنه لاحظ أنها شاردة، وأن هناك ظلاً من القلق يكسو ملامحها الهادئة.
اقترب منها وجلس بجانبها ومرر يده على ظهرها بحنان.
_ مالك يا حبيبتي، من ساعة ما قولتلك إننا هنسافر البلد بكرة عشان نبارك لمالك وروح وأنتِ مش على بعضك.
أخذت نفساً عميقاً كأنها تستجمع شجاعتها لتقفز من فوق حافة الهاوية، لم تعد قادرة على التحمل والصبر أكثر من ذلك 
_ أنا أنا خايفة يا أكمل.
قطب جبينه بقلق
_ خايفة من إيه؟
_ خايفة أشوف أبويا.
زاد قلقه لكنه حاول أن يطمئنها
_ وأنتِ من إمتى بتخافي منه، أنا معاكي ومستحيل أسمحله يضايقك بكلمة واحدة.
هزت رأسها وبدأت الدموع تتجمع في عينيها
_ الموضوع أكبر من إكده يا أكمل، فيه حاجات أنت متعرفهاش حاجات أنا خبيتها عليك عشان....عشان خايفة من رد فعلك.
أمسك بيديها ونظر في عينيها مباشرة بنظرة جادة وحنونة.
_ صبر مفيش حاجة تخبيها عني، مهما كانت هنواجهها سوا احكيلي.
شعرت بالأمان في نظرته وبدأت تروي له القصة من بدايتها القصة الحقيقية التي لم يعرفها أحد.
_ فاكر زمان لما كنت بتنزل البلد عند جدك وأبويا كان شغال هناك؟
أومأ أكمل وهو يسترجع ذكريات بعيدة
_ أيوه.
_ وقتها كان بيلاحظ نظراتي ليك كان شايف اهتمامي حتى باسمك ولو من بعيد وفي يوم جه قالي "إيه رأيك أشغلك عنده ده باين عليه غني وتقيل لو لفتي حواليه هتعملي مصلحة حلوة"
اتسعت عينا أكمل بصدمة وغضب لكنه ظل صامتاً وتركها تكمل
_ أنا وجتها رفضت طبعاً وزعقت معاه، بس هو فضل يزن على دماغي ولما أنت اكتشفت إنه بيسرق جدك، هو مجاش قالي الحقيقة هو قالي إنك ظلمته، وإنك عشان تسامحه لازم أنا أروح أشتغل عندك في البيت وأخدمك لحد ما أسدد الدين اللي انت لفقّتهوله.
ضغط أكمل على قبضته بقوة وقد بدأ يفهم حجم الخداع الذي تعرضت له.
_ أنا مكنتش أعرف إنه بيرميني ليك كطعم عشان يرجع يشتغل تاني، أو عشان يبتزك بيا بعدين كنت فاكرة إني بساعد أبويا المظلوم.
واصلت وصوتها يرتجف من ألم الذكرى.
_ ولما لما اتجوزنا، بدأت لعبته الحقيقية بدأ يبتزني.
كان بيقولي يا إما أسرقك وأديله الفلوس اللي هو عايزها يا إما هيروح يقولك إني كنت على علاقة مع واحد غيرك قبل الجواز، وإني ضحكت عليك عشان أتجوزك قالي "زي ما كنت سبب في جوازك منيه هكون سبب في طلاقك"
شعر أكمل بأن الأرض تميد به كل هذا حدث تحت أنفه وهو لا يعلم شيئاً.
لقد أخبرته صبر بأنه هو من أجبرها على سرقته بالتهديد، وعندما رفضت أخبرها بأنه سيطلقها منه ويعيدها لعذابه لكن لم تقول كل ذلك.
_ وأنتِ ليه مقولتليش يا صبر، ليه سكتي على كل ده؟
انفجرت في البكاء بكاء مكتوم ومؤلم
_ عشان هو أبويا يا أكمل، مهما عمل هو أبويا مقدرتش أكسره قدامك، مقدرتش أجي أقول لجوزي وكيل النيابة إن أبويا حرامي وبلطجي، كنت بحاول أداري عليه وأبعده عني وأرفض طلباته على أمل إنه يزهق ويبعد.
تذكر أكمل الآن كل شيء تذكر تلك الليلة التي سمعها فيها تتحدث معه  عند أكمل فى المنزل.
_ والمرة اللي سمعتك فيها لما كان بيهددك كان عايز إيه وقتها؟
_ كان عايزني أسرق مبلغ كبير من خزنتك ولما رفضت جالي الكلام اللي أنت سمعته، قالي إنه هياجي يفضحني عندك ويخرب بيتي، وقتها أنت دخلت وطردتني.
لم يستطع أكمل التحمل أكثر، جذبها إلى حضنه بقوة ودفن وجهه في شعرها وهو يشعر بغضب عارم من نفسه قبل أي شخص آخر.
كيف كان أعمى إلى هذا الحد، كيف حكم عليها بهذه القسوة دون أن يستمع للحقيقة.
_ أنا آسف، أنا آسف يا صبر سامحيني.
تشبثت به وهي تبكي بحرقة كأنها تخرج كل الألم الذي حبسته لشهور.
_ أنت ملكش ذنب، أنا اللي كان لازم أكون أجوى وأجولك من لول.
رفع وجهها بيديه ومسح دموعها بأصابعه.
_ لأ الذنب ذنبي أنا، أنا اللي كان المفروض أحميكي منه، مش أرميكي له تاني بس خلاص كل ده انتهى.
نظر في عينيها بنظرة حاسمة قوية لا تعرف التردد.
_ الراجل ده مش هيقرب منك تاني ولا هيشوف ضفرك، من النهاردة حسان ده اتمحى من حياتك ومن حياتنا، أنا هعرف إزاي أتعامل معاه بالقانون، أما أنتِ فأنتِ في حضني وفي حمايتي ومفيش مخلوق على الأرض يقدر يأذيكي طول ما أنا بتنفس.
كانت كلماته هي الملاذ الذي كانت تبحث عنه، لم تكن مجرد وعود بل كانت حقيقة لقد كشفت عن أعمق وأقبح أسرارها، وبدلاً من أن يدينها احتواها وحماها ووعدها بالأمان الأبدي، وفي تلك الليلة لم تلتئم جراحها فقط، بل ولدت من جديد حرة وقوية في حضن الرجل الذي أثبت لها أنه يستحق كل ثقتها وكل حبها.
❈-❈-❈
كانت سرايا الرفاعي تتنفس فرحاً، لم تكن مجرد جدران وأثاث بل كانت كياناً حياً يترقب عودة قطعة جديدة من روحه، كانت الشمس ترسل خيوطها الذهبية عبر النوافذ العالية كأنها تشارك العائلة احتفالها، ورائحة المسك والبخور الفاخر تفوح من كل زاوية معلنةً عن استقبالٍ يليق بأميرة صغيرة.
عندما توقفت سيارة مالك أمام المدخل الرئيسي، كان الجميع في انتظاره الجد وهدان الذي استعاد الكثير من عافيته بفضل هذه الفرحة، يقف شامخاً بعصاه وبجانبه ورد وليل اللتان كانتا تشرفان على كل التفاصيل الصغيرة، وحتى سند ووعد اللذان تركا "عدي الصغير" مع والدته، كانا يقفان بلهفة.
فتح مالك باب السيارة بحذر شديد كأنه يخشى أن يخدش الهواء صغيرته، ثم انحنى وساعد روح على النزول برفق، كانت روح تبدو متعبة لكن عينيها كانتا تلمعان بسعادة صافية، سعادة الأم التي تحمل معجزتها بين ذراعيها.
ما إن خطت روح أولى خطواتها داخل السرايا وهي تحمل طفلتها الملفوفة بغطاء أبيض ناعم مزين بالدانتيل، حتى انطلقت زغرودة قوية من ورد تبعتها زغاريد أخرى من ليل والخادمات لتملأ المكان ببهجة كانت غائبة عنه لوقت طويل.
اقترب الجد وهدان بخطوات بطيئة ونظر إلى وجه حفيدته الصغيرة النائمة بسلام، ارتسمت على وجهه ابتسامة حنونة ومد يده المرتجفة قليلاً ليمسح على رأسها.
_ نورتي بيتك يا نور عين جدك، نواره البيت انتي .
نظر إلى روح حفيدته الأغلى عنده وقال بحب
_ حمدلله على سلامتك يا روح يا بنيتي.
قبلت روح يده باحترام
_ الله يسلمك يا جدي، فضلك علينا كبير.
اقتربت ورد وليل وعيونهما تلمع بالدموع والفرح احتضنت، ورد روح بحب.
_ حمد لله على سلامتك يا حبيبتي نورتي البيت من تاني.
ثم نظرت إلى الطفلة وهمست
_ بسم الله ما شاء الله قمر ربنا يحميها ويحفظها، دي نسخة منك يا روح.
أخذتها ليل من بين ذراعي روح برفق وقبلتها على جبينها.
_ تتربى في عزك يا روح يا بنتي، وفي عز أبوها.
اقترب سند من مالك وربت على كتفه بقوة.
_ مبروك يا أخويا، بقيت أب رسمي، مرحباً بك في نادي قلة النوم وتغيير الحفاضات.
ابتسم مالك ابتسامة عريضة وهو ينظر إلى زوجته وابنته.
_ مستعد لأي حاجة عشان اللحظة دي وعشان خاطر عيونهم.
أخذت وعد الطفلة من ليل وبدأت تداعبها بحنان.
_ يا روحي عليها صغيرة جوي 
نظرت إلى روح تشاكسها.
_فاكر يا سند عدي لما اتولد كان أكبر من إكده.
ردت روح بكيد
_ دي بنت يا وعد لازم تطلع رقيقة وصغيرة زيي، وبعدين دي بنت الرفاعية لازم تطلع هادية مش  مزعجة زي ابنك اللي بيصحيني انا من النوم.
كانت الأحاديث تدور والضحكات تتعالى، والطفلة تنتقل من حضن إلى حضن، وكل فرد في العائلة يشعر بأن هذه الصغيرة هي ملك له، وأنها جاءت لتربط قلوبهم ببعضها البعض أكثر.
صعدوا جميعاً إلى جناح مالك وروح الذي كانت ورد قد أشرفت على تجهيزه بالكامل، كان السرير الصغير بجانب سريرهما مزيناً بالدانتيل الوردي، والغرفة تفوح برائحة عطر الأطفال المريحة.
جلست روح على السرير وأخذت ابنتها في حضنها مرة أخرى كأنها لا تشبع من النظر إليها.
جلس الجد وهدان على مقعد قريب وقال بصوت عميق يحمل حكمة السنين
_ البيت ده كان ضلمة من  وجهت ما نغم خرجت منيه، ودلوج ربنا رزقنا بنورين نور من روح ونور من نغم، ربنا يجعلها وش السعد عليكم ويجعل أيامكم كلها نور وفرح.
سألته وعد بصدمة مصطنعه.
_وانا يا جدي، فين في كل ده؟
رد وهدان بصدق 
_ربنا اللي عالم بغلاوتكم كلايتكم في جلبي قد ايه، وانتي اكتر واحدة تشبهي المرحومة عشان إكدة معزتك في القلب من جوة.
نظر الجميع إلى بعضهم البعض وشعروا بصدق كلماته، لقد كانت هذه اللحظة أكثر من مجرد استقبال مولودة جديدة، كانت إعلاناً بأن بيت الرفاعي بعد كل العواصف التي مر بها، قد وجد نوره من جديد نوراً صغيراً هادئاً لكنه كان كافياً ليبدد كل الظلام.
❈-❈-❈
كانت زينة تمسك بالأوراق في يدها وشارفت على النطق بالكلمات التي تنتظرها نغم بفارغ الصبر، كلمات قد تحمل الطمأنينة، أو ربما تحمل الخوف.
كانت ونس تراقب وجه زينة بترقب شديد، بينما حبست نغم أنفاسها وقلبها يخفق بعنف كطائر سجين.
في تلك اللحظة بالذات انفتح باب العيادة فجأة بقوة ودون أي استئذان
تجمدت الكلمات في حلق زينة وتجمد الدم في عروق نغم وونس معًا.
وقف جاسر على عتبة الباب.
لم يكن هذا جاسر الحبيب أو العاشق الذي يغمرها بحنانه، ولم يكن حتى جاسر المحامي الواثق بل كان شيئًا آخر تمامًا، كان ظلًا من الماضي وحشًا استيقظ من سباته العميق كانت عيناه باردتين حادتين كشفرات الجليد تحملان غضبًا أسود مكبوتًا يجعله أكثر رعبًا من أي صراخ مسموع، لقد تحول شموخه المعتاد إلى هالة من التهديد الصامت الذي ملأ الغرفة الصغيرة وخنق الهواء فيها.
سقط قلب نغم إلى قدميها وشعرت بصدمة كهربائية تسري في جسدها كله، وشحب وجهها حتى كاد يصبح بلون ملاءة السرير البيضاء، لم تستطع أن تنطق ولم تستطع حتى أن ترمش فقد كانت عيناها مثبتتين عليه تريان فيه الرجل الذي خطفها وعذبها، الرجل الذي كانت تخشاه أكثر من أي شيء في هذا العالم.
ونس التي تعرف ابنها جيدًا شعرت بالرعب يزحف إلى قلبها، رأت في عينيه تلك النظرة التي لم ترها منذ زمن طويل، نظرة لا تعرف الرحمة ولا تقبل النقاش، ارتبكت وحاولت أن تجد الكلمات المناسبة لتهدئة الموقف لكنها علمت أن أي كلمة ستقولها الآن ستكون كمن يصب الزيت على النار.
زينة التي لم تفهم سبب هذا الدخول المفاجئ أو هذا التوتر المشحون، حاولت أن تتصرف بمهنية ورسمت ابتسامة باهتة وهي تقول.
_ جاسر مفاجأة زينه اتفضل اجعد كنت لسه هجول لنغم نتيجة التحاليل.
لم يحرك جاسر عينيه قيد أنملة عن نغم، كانت نظرته ثاقبة تخترقها وتجردها من كل دفاعاتها، نظرة واحدة سحبت الهواء من رئتيها وجعلتها تشعر بأنها عارية وضعيفة أمامه، ثم وبصوت قاطع بارد وهادئ بشكل مرعب قال دون أن ينظر إلى زينة.
_ مش عايز أسمع حاجة.
تحرك أخيرًا لم تكن خطواته سريعة، بل كانت بطيئة ومحسوبة كخطوات نمر يقترب من فريسته، تجاهل ونس وزينة تمامًا ووقف أمام نغم الجالسة على المقعد، لم يلمسها ولم يقل شيئًا آخر فقط مد يده نحوها في إشارة صامتة آمرة لا تقبل أي جدال بأن تنهض وتتبعه.
لم تجرؤ نغم على الرفض، فالخوف قد شل إرادتها تمامًا وضعت يدها المرتجفة في يده وشعرت ببرودة أصابعه وهي تطبق على يدها بقوة، ليست قوة مؤذية بل قوة تملّك مطلق.
سحبها خلفه بهدوء قاتل وهي تتعثر في خطواتها وعندما وصلا إلى الباب توقف للحظة ودون أن يلتفت قال بصوته البارد نفسه لوالدته
_ السواج مستنيكي تحت يا أمي.
ثم خرج وهو يجر نغم خلفه، التي كانت تسير كالمسحورة لا ترى شيئًا سوى ظهره العريض الذي يسد عنها العالم كله، لم يمنحهما أحد فرصة للاعتراض أو حتى للسؤال لقد دخل كالعاصفة وفي لحظات اقتلع زهرته وغادر تاركًا خلفه صمتًا مدويًا ورعبًا ونذيرًا بأن الجحيم الذي هربت منه نغم قد عاد ليفتح أبوابه من جديد.
كانت يده قابضة على معصمها بقوة محسوبة، قوة لا تترك أثراً على جلدها لكنها تطبع بصمتها على روحها. 
سحبها جاسر خلفه عبر ممرات المستشفى الطويلة، لم تكن تسير بل كانت تنجرف في تياره الصامت كانت رؤوس الممرضات والمرضى تلتفت نحوهم لكن هالة التهديد التي أحاطت بجاسر كانت كفيلة بأن تجعل الجميع يخفضون أبصارهم بسرعة، لم يجرؤ أحد على النظر طويلاً في وجهه الذي كان قناعاً من الغضب البارد.
كانت نغم تشعر وكأنها في كابوس مألوف، لقد عادت إلى نقطة الصفر إلى الأيام الأولى من اختطافها، هذا هو جاسر الذي عرفته أول مرة.
جاسر القاسي الذي لا يرحم الذي لا تحتاج كلماته إلى صوت لتُفهم نظراته وحدها كانت كافية لجلدها، لم يكن هناك أثر لذلك الرجل الحنون الذي سمحت لنفسها بالاعتماد عليه، كل لمسة دافئة وكل كلمة مطمئنة تبخرت في لحظة وحل محلها هذا الجليد الحارق.
وصل بها إلى السيارة المركونة أمام المدخل فتح الباب الأمامي ودفعها للداخل برفق عنيف، حركة متناقضة لم تؤذها جسدياً لكنها أهانت روحها ثم أغلق الباب بقوة ودوى صوته في صمت الموقف، دار حول السيارة واستقل مقعده في ثواني معدودة.
انطلقت السيارة باندفاع عنيف جعل جسد نغم يرتطم بالمقعد، أدارت وجهها نحو النافذة تتظاهر بمشاهدة الطريق لكنها في الحقيقة كانت تهرب من مواجهة صورته المنعكسة على زجاج النافذة، كانت أنفاسها متقطعة ويداها ترتجفان على قدميها، حاولت أن تجمع شتات أفكارها أن تجد مبرراً لكن عقلها كان مشلولاً بالخوف.
كان جاسر يقود بصمت مطبق قبضته على عجلة القيادة كانت بيضاء من شدة الضغط عليها، وعيناه مركزتان على الطريق أمامه لكن نغم كانت تشعر بنظراته الجانبية تحرقها بين الحين والآخر، كان الصمت في السيارة أثقل وأشد رعباً من أي صراخ.
بعد دقائق بدت كدهر، ابتعدت السيارة عن صخب المدينة وسلكت طريقاً جانبياً هادئاً ثم توقفت فجأة تحت شجرة ضخمة في مكان شبه مهجور.
أطفأ جاسر المحرك وعم السكون فجأة سكون لم يقطعه سوى صوت أنفاس نغم المرتجفة.
بقي على وضعه لثواني ثم التفت إليها ببطء شديد، حركة مدروسة زادت من رعبها، لم تكن في عينيه نظرة غضب صاخبة بل هدوء مميت هدوء ما قبل العاصفة.
قال بصوت خفيض أجش كأنه يصدر من أعماق بئر سحيق.
_ إزاي تطلعي برة البيت من غير ما تعرفيني؟
تجمدت الكلمات في فمها، كان قلبها يقرع بعنف في صدرها حتى ظنت أنه سيقف، حاولت أن تفتح فمها لتتكلم لتبرر لكن لم يخرج أي صوت، حنجرتها كانت جافة ولسانها ملتصق بسقف حلقها، كل ما استطاعت فعله هو هز رأسها بخفة في محاولة يائسة للنفي أو الشرح.
لم يرفع صوته لكن حدة نظراته اشتدت
_ أنا بسألك سؤال.
عندما رأى صمتها وعجزها انفجر فيه شيء ما، لم يعد يحتمل صمتها الذي فسره تحدياً أو خوفاً لا يهمه، فضرب عجلة القيادة بكلتا يديه فجأة محدثاً صوتاً قوياً جعل نغم تنتفض في مكانها، ثم صرخ فيها بصوت جعل زجاج السيارة يرتجف
_ انطجي.
كانت تلك الصرخة هي القشة التي قصمت ظهر مقاومتها الهشة، انفجرت في بكاء صامت ومؤلم اهتزت كتفاها بعنف وانسابت الدموع على خديها بغزارة تحدثت أخيراً بصوت متقطع مختنق بالبكاء.
_ كنت... كنت عايزة أطمن... عشان... عشان الحمل... كنت عايزة أعرف لو فيا حاچة... حاچة هي السبب في التأخير... عشانك.
كانت تأمل أن تلمس كلماتها قلبه أن ترى دموعها شفيعاً لها لكنها كانت مخطئة.
اقترب منها فجأة حتى كاد وجهه يلامس وجهها، ورغم دموعها التي كانت تمزق قلبه لم يتراجع، أمسك بذقنها بأصابعه وأجبرها على النظر في عينيه مباشرة، كانت عيناه لا تزالان تحملان تلك القسوة وذلك الغضب.
_ مشكلتي مش في اللي كنتي عايزة تعرفيه، مشكلتي إنك اتصرفتي من ورايا، خرچتي من البيت من غير إذني وچيتي لمكان زي ده لوحدك في موضوع يخصنا إحنا الاتنين، جررتي فيه لوحدك كأني مش موچود في حياتك.
كانت كلماته كالسياط، لم يكن غاضباً لخروجها فقط بل لقرارها بالتصرف دونه، في أمر يمس حياتهما معاً، شعر بالخيانة شعر بأنها استبعدته من دائرتها الخاصة، وهذا ما لم يستطع تحمله.
ترك ذقنها بقسوة وابتعد عنها مستنداً بظهره إلى مقعده وهو يتنفس بعنف محاولاً السيطرة على الوحش الذي أطلقته هي بتصرفها، لم تشفع دموعها له هذه المرة لأن جرح كبريائه كرجل وكسيد لحياتها كان أعمق من أي شفقة يمكن أن يشعر بها في تلك اللحظة، لقد ذكرته بأنها لا تزال تحمل تلك الروح المتمردة التي لا يمكن ترويضها بالكامل، وهذا ما أثار جنونه.
كان يتنفس بعنف، لم يكن يحاول السيطرة على غضبه بل كان يترك العاصفة تجتاحه بالكامل أدار رأسه نحوها مرة أخرى، لكن هذه المرة كان صوته قد فقد حرارته وتحول إلى برودة قاسية برودة أشد إيلامًا من أي صراخ.
_ امسحي دموعك لأنها مش هتغير حاجة
توقفت شهقات نغم للحظة ورفعت يدها المرتجفة ومسحت خديها المبللين بطاعة عمياء، لم تكن طاعة الخوف فقط بل طاعة من أدركت أنها أخطأت، لكنها لم تفهم حجم خطئها بعد.
_ بصي لي.
رفعت نغم عينيها الدامعتين إليه فرأت فيهما بركانًا من المشاعر المتضاربة.
_ بتعيطي ليه دلوجت، عشان زعجت ولا عشان كشفتك.
أخذت نغم نفس عميق بمحاولة فاشلة للتحكم بدموعها
_ عشان خايفة منك، شايفة جدامي جاسر الجديم.
ابتسم جاسر ابتسامة ساخرة خالية من أي مرح، ابتسامة لم تصل إلى عينيه الجامدتين.
_ كويس إنك لسه بتخافي مني، ده معناه إنك لسه فاكرة أنا مين في حياتك، بس شكلك نسيتي أهم حاچة نسيتي إنك مرتي.
قالت نغم بمحاولة خاطئة للدفاع عن نفسها
_ أنا معملتش حاچة غلط أنا بس...
قاطعها بحدة قاطعة وصوت كفحيح الأفعى.
_ لأ عملتي الغلط، مش إنك عايزة تطمني على نفسك، الغلط إنك فكرتي إن ده سرك لوحدك إن دي مشكلة تحليها لوحدك، إنك استبعدتيني من المعادلة كلها.
اقترب منها مرة أخرى وكانت حركته هذه المرة أبطأ وأكثر تهديدًا كأنه وحش يطوق فريسته.
_ إيه اللي كان في دماغك يا نغم هاه، كنتي ناوية على إيه، تاچي هنا من ورايا وتعرفي النتيچة لوحدك وبعدين لو كانت النتيچة كويسة كنتي هترچعي البيت كأن شيئًا لم يكن، ولو كانت وحشة كنتي هتعملي إيه؟ كنتي هتشيلي الهم ده لوحدك، هتعيشي في عذابك الخاص جوه بيتي وأنا معرفش؟
صمتت نغم لأن كلماته كانت كالصخور أصابت الحقيقة في مقتل، فهذا بالضبط ما كانت ستفعله.
ارتفع صوته فجأة مشحونًا بالألم والغضب معًا.
_ ده اللي بيجتلني يا نغم، فكرة إنك لسه بتتعاملي معايا كأني السجان بتاعك مش جوزك، فكرة إنك لسه بتخبي عني حاجات كأنك بتبني بينا جدار كل يوم.
وأنا بعمل إيه عشان كل ده.
بحاول أهدم الأسوار اللي بينا وأنتِ بتبنيها تاني ورا ضهري.
انفجرت نغم بصوت يائس
_ أنت اللي بنيتها في الأول يا جاسر، أنت اللي علمتني أخاف منك وأخبي عنك، أنت اللي خليتني أحس إن كل حاچة بعملها لازم تكون سر عشان معرفش رد فعلك هيكون إيه، طبيعي اني احتاچ وجت أكتر لحد ما أفهمك.
ضرب جاسر بيده على مقود السيارة بقوة محدثًا صوتًا مدويًا في صمت السيارة المشحون.
_ وأنا مش بحاول أغير ده دلوجت؟! مش بحاول أثبتلك كل يوم إني اتغيرت عشانك؟! إيه لزمته كل اللي بعمله لو كنتي عند أول فرصة هترچعي تاني لنقطة الصفر وتتعاملي معايا كأني عدوك.
تراجع إلى مقعده مرة أخرى وشعرت بيداه ترتجفان قليلاً من فرط الانفعال.
ولم تكن تعرف شيئاً عم يدور بداخله
ثم التفت إليها وكانت نظرته قد تغيرت، لم تعد غاضبة بل كانت تحمل خيبة أمل عميقة ومدمرة
_ أنا مش بس زعلان عشان خرچتي من غير إذني يا نغم، أنا مجهور عشان لسه مش واثقة فيا، مجهور عشان فكرتي ولو للحظة إنك ممكن تواچهي حاچة زي دي لوحدك، أنا عايز أكون معاكي في كل خطوة، في الحلو وفي الوحش ، عايزك لما تحسي بخوف أول حضن تجري عليه يكون حضني، عايز لما تحسي بوچع أول إيد تمسح دمعتك تكون إيدي.
صمت للحظة ثم أكمل بنبرة تحمل تحذيرًا نهائيًا وقاطعًا
_ اللي حوصل النهاردة ده آخر مرة، آخر مرة تتصرفي من ورايا آخر مرة تحسسيني إني غريب في حياتك، المرة الچاية مش هكون بالهدوء ده.
نظر أمامه وأدار محرك السيارة التي انطلقت كالرصاصة، لم يقل كلمة أخرى طوال طريق العودة ولم تكن هناك حاجة للكلام، لقد قال كل شيء لم يكن غضبه مجرد غيرة أو رغبة في السيطرة، بل كان صرخة رجل شعر بأن الثقة الهشة التي بناها مع المرأة التي يحبها قد تحطمت، وأن عليه أن يبدأ في جمع شظاياها من جديد، لكنه هذه المرة لن يقبل بأنصاف الحلول أبدًا
❈-❈-❈
في العيادة
بمجرد أن أغلق جاسر الباب خلفه، ساحباً نغم معه عاد الهواء فجأة إلى الغرفة، لكنه كان هواءً ثقيلاً مشبعاً بالتوتر ورائحة كارثة وشيكة. 
وقفت ونس متجمدة في مكانها، عيناها معلقتان على الباب المغلق، ويداها ترتجفان بشكل لا إرادي.
قالت ونس بصوت مهموس كأنها تحدث نفسها
_يا رب استر... يا رب استر يا رب.
لاحظت زينة شحوب وجه ونس وقلقها البالغ. 
لقد اختفت تماماً تلك السيدة القوية الواثقة، وحلت محلها أم مرعوبة تعرف تماماً حجم العاصفة التي على وشك أن تضرب.
تقدمت زينة نحوها ووضعت يدها على كتفها.
وسألتها بنبرة قلقة
_في إيه يا مرت عمي؟ ماله جاسر؟  وإيه اللي حوصل عشان ياخد نغم بالشكل ده؟
أخذت ونس نفساً عميقاً، محاولة استجماع شتات نفسها لكن صوتها خرج مهزوزاً.
_ جاسر... جاسر ميعرفش إننا هنا نغم جات من وراه.
اتسعت عينا زينة بصدمة وفهمت كل شيء في لحظة فهمت سبب البرود القاتل في عيني جاسر، وذلك الغضب المكتوم الذي كان أشد فتكاً من أي صراخ.
تراجعت خطوة إلى الوراء، ونظرت إلى ونس نظرة تحمل اللوم والعتاب.
_ إيه؟ كيف تعملوا حاچة زي دي يا مرت عمي؟ كيف!
ردت حنان بصوت دفاعي ضعيف
_ هي اللي كانت عايزة تطمن، وأنا... أنا صعبت عليا جلت أچي معاها عشان تطمن.
رفعت زينة  صوتها قليلاً، وقد نفد صبرها
_ تصعب عليكي؟ وأنتِ مش صعبان عليكي اللي ممكن جاسر يعمله فيها دلوجت؟ أنتِ أمه أنتِ أكتر واحدة في الدنيا دي خابرة جاسر لما بيغضب بيبجى عامل كيف! خابرة إن كبرياءه وكلمته عنده بالدنيا، وعارفة إنه مبيسامحش في الخيانة أو الكدب.
ونس بدموع بدأت تتجمع في عينيها 
_دي مش خيانة... دي كانت خايفة وجلجانة.
قاطعتها بحزم
_جاسر مش هيشوفها اكده، هيشوفها إنها كسرت كلمته واتصرفت من وراه، واستغفلته، أنتِ خابرة إنه بيعتبر ده طعنة في ضهره. 
إزاي توافجيها على حاچة زي دي؟ كان المفروض تنصحيها، تجنعيها تكلمه هو الأول مش تاخديها من إيدها وتجيبيها هنا وتخليها تواجه غضبه لوحدها!
صمتت ونس تحت وطأة كلمات زينة القاسية، لأنها كانت الحقيقة. 
لقد قادها قلبها وعاطفتها كأم ونسيت للحظات طبيعة ابنها التي لا ترحم.
تنهدت بقلة حيلة، وقد خففت من نبرتها قليلاً عندما رأت دموع ونس
_ اللي حوصل حوصل بس دلوجت البنت دي معاه في العربية لوحدهم، ربنا يستر وما يأذيهاش. 
أنتِ حطيتيها في وش المدفع يا مرت عمي ابنك لما بيتحول، مبيشوفش قدامه.
جلست ونس على أقرب مقعد، وقد استسلمت تماماً للقلق الذي ينهش روحها. 
❈-❈-❈
كان صخب مطار القاهرة يضج بالحياة، لكن صبر لم تكن تسمع شيئاً منه كانت تسير بخطوات مترددة بجوار أكمل، الذي كان يحمل ابنهما قاسم النائم على كتفه بحرفية أب كأنه معتاد. 
كانت عيناها تتجولان في كل الوجوه بقلق، كأنها تبحث عن خطر قادم ويداها ترتعشان قليلاً وهي تضبط حجابها للمرة العاشرة.
لاحظ أكمل توترها الشديد وضع يده الحرة على ظهرها لكنه شعر بجسدها متصلباً. 
توقف للحظة ثم أمسك بيدها الباردة وضمها بين يده الدافئتين انحنى قليلاً لينظر في عينيها مباشرة، وقال بنبرة عتاب رقيقة يملؤها الحنان
_ هتخافي وإنتي معايا؟
رفعت إليه عينيها الخائفتين، وكانتا مرآة لكل ما مرت به. 
قالت بصدق موجوع وصوتها كان مجرد همس
_ لأ بس... اللي شوفته مكنش قليل يا أكمل.
شد على يدها بقوة أكبر وكأن هذه اللمسة قادرة على نقل كل قوته إليها.
_ واللي شوفتيه ده راح وانتهى دلوقتي إنتي في أمان أماني أنا ومفيش مخلوق على الأرض يقدر يمسك، طول ما أنا بتنفس.
هدأت قليلاً لكلماته لكن الخوف ظل كامناً في عينيها خرجا من بوابة الوصول، ليجدا مالك واقفاً بجوار سيارته يبتسم لهما ابتسامة عريضة ومرحبة.
تقدم مالك وعانق أكمل بحرارة الأخوة.
_ حمد الله على السلامة نورت بلدك.
ثم نظر إلى صبر التي كانت تقف خلف أكمل، متمسكة به كأنه درعها الوحيد. ابتسم لها ابتسامة دافئة ومطمئنة.
_ حمد الله على السلامة يا صبر منورة الصعيد كلايته.
ثم انحنى لينظر إلى قاسم النائم في حضن أبيه.
_ وإيه الجمر ده؟ لأ ده شكله هينافس ابن سند على بنتي.
ضحك أكمل لكن مالك لاحظ أن صبر لم تبتسم بل كانت عيناها زائغتين، تراقبان الطريق خلفه بقلق فهم على الفور.
ساعدهم مالك في وضع الحقائب في السيارة ثم انطلق بهم. 
جلس أكمل في المقعد الأمامي بجوار مالك، بينما جلست صبر في الخلف مع قاسم الذي بدأ يتململ في نومه.
قال أكمل وهو ينظر إلى الطريق
_ خلينا نروح بيتنا الأول يا مالك نرتاح من السفر وبعدين بالليل أجيلك أنا وصبر نبارك لروح.
كان مالك يراقب صبر في مرآة الرؤية الخلفية رآها وهي تنظر من النافذة إلى لافتات الطريق التي تحمل أسماء القرى والمدن، ورأى كيف انقبضت ملامحها كلما اقتربوا أكثر. 
كانت تتشبث بابنها النائم كأنه طوق نجاة.
قال مالك بهدوء وحكمة موجهاً كلامه لأكمل لكنه كان يقصد صبر
_ لأ اسمع مني خليها تروح عندنا الأول.
نظر إليه أكمل باستغراب، فأكمل مالك وهو يركز على الطريق أمامه
_ البيت عندكم لسة مجفول ومحتاچ وجت عشان يتنضف ويتچهز. 
تروحوا عندنا البيت مليان ناس وحركة روح والبنات موجودين، وأمي وعماتي خليها تجعد وسطهم الأول، تطمن وتندمج مع اللمة والجو الحلو. 
وبعدين بالليل لما تكون هديت وارتاحت يبجى خدها وروح بيتك براحتك، انت مش شايف حالتها عاملة ازاي.
نظر أكمل إلى مالك بامتنان لقد فهم صديقه ما لم يقله هو لقد أدرك أن ترك صبر وحدها في بيت هادئ الآن سيكون بمثابة تركها فريسة لذكرياتها ومخاوفها. 
اللمة والدفء العائلي هما أفضل علاج لها في هذه اللحظة.
أومأ أكمل بالموافقة وقال
_ عندك حق تسلم يا صاحبي.
ألقى مالك نظرة أخرى سريعة في المرآة فرأى صبر وقد التفتت إليه للحظة، وفي عينيها بريق خافت من الامتنان. 
_نورتي بلدك يا أم قاسم، روح ووعد مستنيينك.
لقد فهمت هي الأخرى أنه فعل ذلك من أجلها ابتسم لها ابتسامة أخوية صغيرة ثم أعاد نظره إلى الطريق وهو يقودهم نحو مكان آمن ودافئ، نحو "العائلة".
❈-❈-❈
وصلت شروق إلى بيت جاسر وقلبها يخفق بعنف من الخوف والسرعة لم تكد السيارة تتوقف حتى نزلت منها مسرعة، واندفعت نحو باب المنزل
 في تلك اللحظة، كانت ونس تنزل من سيارة أخرى عائدة لتوها من الخارج وعلى وجهها آثار حزن وإرهاق حاولت جاهدة أن تخفيهما.
ما إن رأت شروق ونس حتى جرت نحوها بلهفة وأمسكت بذراعها دون مقدمات.
_مرت عمي جاسر وينه؟ لازمن أكلمه ضروري.
نظرت إليها ونس باستغراب من لهفتها، ثم قالت بصوتٍ حاولت أن تجعله طبيعياً لكنه خرج متعباً
_جاسر في مشوار مع نغم يا بتي.
تجمدت شروق في مكانها. "مع نغم؟" هذا يعني أنه ليس في المكتب، وليس في مكان آمن. 
هذا يعني أنه في الطريق هدف سهل. 
زاد قلقها أضعافاً وبدا ذلك واضحاً على وجهها الشاحب.
_مشوار فين يا مرت عمي؟ طب اتصلي عليه اتصلي عليه دلوجت.
شعرت ونس بأن الأمر ليس طبيعياً قلق شروق لم يكن عادياً، ونظراتها كانت تحمل رعباً حقيقياً.
_فيه إيه يا شروق؟ جلجتيني ماله جاسر؟
لم تجب شروق بل قالت بإصرار وعيناها على وشك البكاء
_اتصلي عليه بس يا مرات عمي، اتصلي الأول أني بتصل بيه من بدري ومبيردش.
أخرجت ونس هاتفها وقلبها بدأ ينقبض من الخوف ضغطت على اسم ابنها ووضعت الهاتف على أذنها. 
رن الهاتف مرة اثنتين ثلاث... لا إجابة.
نظرت إلى شروق بقلق متزايد.
_مبيردش في ايه بس عرفيني.
قالت شروق برجاء
_حاولي تاني يا مرات عمي، بالله عليكي حاولي تاني.
حاولت ونس مرة أخرى، لكن النتيجة كانت نفسها هنا، لم تعد ونس قادرة على التماسك
أمسكت بكتفي شروق وهزتها برفق
_فيه إيه يا بتي، انطجي! ولدي ماله؟ جالولك إيه؟
لم تستطع شروق أن تخبرها بالحقيقة، فكيف تقول لها إن والدها يخطط لإيذاء ابنها؟ كل ما فعلته هو أنها هزت رأسها بالنفي، ثم أمسكت هاتفها بأصابع ترتجف، وفتحت رسالة جديدة، وبدأت تكتب بسرعة، وكأن كل حرف هو سباق ضد الموت.
"چاسر، رد عليا ضروري أبويا عرف مكانك وباعتلك ناس
متكملش في طريقك ارچع
 حياتك في خطر."
ضغطت على زر الإرسال ورفعت عينيها إلى السماء، تدعو الله أن تصل رسالتها قبل أن يصل رجال والدها.
بعد أن أرسلت شروق الرسالة ظلت واقفة تحدق في هاتفها، كأنها تنتظر معجزة. 
لاحظت ونس ارتعاش يديها ووجهها الذي ازداد شحوباً، فاقتربت منها مرة أخرى لكن هذه المرة بنبرة أكثر حزماً.
_شروق، بصيلي إهنه أني مش عيلة صغيرة عشان تضحكي عليا الخوف اللي في عينيكي ده مش خوف من مشكلة في البيت. 
ولدي چرى له حاچة؟ حد كلمه وهدده؟ انطجي.
أخذت شروق نفساً عميقاً محاولة استجماع شتات نفسها رفعت عينيها إلى ونس، ورسمت على وجهها قناعاً من الارتباك المصطنع.
_لا والله ما فيه حاچة الحكاية وما فيها إن... إن فيه مشكلة كبيرة حصلت في البيت بين أبويا وامي وأني خايفة يتخانقوا. 
وچاسر هو الوحيد اللي بيعرف يحلها وأبويا مش هيرضى يسمع لحد غيره عشان اكده كنت عايزاه يلحقنا جبل ما تحصل مصيبة.
نظرت إليها ونس بعينين ضيقتين، تدرس ملامحها بدقة. 
لم تقتنع تماماً، قصة شروق كانت منطقية لكنها لم تفسر حجم الرعب الذي رأته في عينيها قبل قليل.
 لكنها قررت أن تسايرها في الوقت الحالي.
_طيب طالما الحكاية أكده، يبجى متتحركيش من اهنه اجعدي استنيه معايا ولما يرچع نبجى نشوف حكاية أبوكي وامك دي.
شعرت شروق بالراحة لأن ونس لم تضغط عليها أكثر أومأت برأسها بالموافقة.
_حاضر يا مرات عمي مش همشي.
دخلت المرأتان إلى المنزل كل منهما تحمل في قلبها قلقاً مختلفاً. 
ونس قلقة على ابنها من مجهول لا تعرفه وشروق قلقة عليه من شر تعرفه جيداً، وتدعو الله أن تكون قد تمكنت من إيقافه.
❈-❈-❈
ساد صمت كثيف داخل السيارة، أثقل من كل الكلمات التي قيلت كانت كلمات جاسر الأخيرة ترن في أذني نغم ليس كتهديد بل كحقيقة مؤلمة
لقد رأت الصراع من وجهة نظره لأول مرة. 
لم يكن الأمر يتعلق بالسيطرة بل بالثقة المكسورة. 
شعرت بالخجل من نفسها، ليس لأنها خافت منه، بل لأنها لم ترى محاولاته لم تمنحه الفرصة ليكون شريكها فعلاً.
التفتت إليه ودموعها قد جفت وحل محلها ندم عميق.
قالت بصوت خافت ومهزوز
_ أنا آسفة.
لم يلتفت إليها ظل وجهه متجمداً، وعيناه تنظران إلى الفراغ أمامه.
أعادت المحاولة بصوت أكثر وضوحاً
_ جاسر... أنا آسفة مش هتتكرر تاني أنا... أنا بس مكنتش عارفة أتصرف.
أدار جاسر رأسه نحوها ببطء، وكانت عيناه باردتين كالموت.
وقال بنبرة لا تحمل أي تعبير
_اعتذارك مش مجبول لأنك مش آسفة على اللي عملتيه، أنتِ آسفة عشان اتمسكتي، فيه فرج كبير.
أنهت كلماته أي أمل لديها في إصلاح الموقف 
الآن أدارت وجهها إلى النافذة، تستسلم للصمت بينما  هو ينظر إلى الطريق أمامه ليس باندفاع غاضب كما في المرة الأولى، بل بهدوء حاسم وكأنه يقود سيارته مبتعداً عن تلك اللحظة، وعن خيبة أمله فيها.
كانت نغم تراقبه من طرف عينها يده ثابتة على عجلة القيادة وملامحه جامدة، وعيناه على الطريق
شعرت بفجوة هائلة تتسع بينهما، فجوة لم تكن موجودة قبل ساعات من الآن.
خرج من الطريق الفرعي وعاد إلى الطريق الرئيسي المظلم. 
كانت السرعة تتزايد تدريجياً وفجأة ومن العدم ظهرت أضواء كاشفة مبهرة من منعطف حاد أمامه.
شاحنة نقل ضخمة.
كانت تسير في الاتجاه المعاكس لكنها انحرفت بشكل خاطف وسدت عليهما الطريق بالكامل.
حدث كل شيء في أجزاء من الثانية الزمن تباطأ وتمدد.
لم يكن هناك وقت للضغط على مكابح السيارة، لم يكن هناك مجال للمناورة كان الاصطدام حتمياً.
في تلك اللحظة التي تتجمد فيها الحياة لم يفكر جاسر. 
كل الغضب كل خيبة الأمل كل القسوة، تبخرت في لحظة واحدة أمام حقيقة واحدة مطلقة: 
حياة نغم في خطر.
بحركة خاطفة غزيزية لا يمكن للعقل الواعي أن يأمر بها، فك حزام الأمان الخاص به. 
لم يصرخ لم يقل شيئاً. 
كل ما فعله هو أنه ألقى بجسده الضخم فوق جسد نغم، رامياً نفسه عليها كدرع بشري وفي لمح البصر
لف ذراعيه حولها ودفن وجهها في صدره، بينما أحاطها بجسده بالكامل جاعلاً من ظهره حاجزاً بينها وبين الموت القادم.
سمعت نغم صوت تمزق المعدن، وشعرت بقوة الدفعة الهائلة التي جعلت جسد جاسر يضغط عليها بقوة كأنه سيصهرها في جسده. 
آخر ما رأته قبل أن يغمرها الظلام الكامل كان وجهه فوقها وعيناه مغمضتان بقوة وملامحه متشنجة ليس من الخوف بل من التصميم المطلق على حمايتها حتى لو كان الثمن هو حياته.
ثم دوى صوت الاصطدام المروع، الذي ابتلع كل الأصوات الأخرى، وابتلع العالم معه ولم يترك سوى الظلام والصمت.

•تابع الفصل التالي "رواية ثنايا الروح" الريح والغيامة" اضغط على اسم الرواية

تعليقات