رواية حرب سقطت راءها الفصل الفصل الرابع والعشرون 24 - بقلم نورا عبد العزيز
لفصـــــــــل الرابع والعشرون ( 24 )
بعنـــوان " انتقـــــــــــــــــام "
صرخت "قُدس" بفزع من الخوف من زوجها الذي أمتلك عنق "ليل" بين قبضته يعتصره بقوة وكاد أن يسرق منها أنفاسها الضعيفة قاتلًا إياها بيديه من هول الصدمة ومعرفتها للحقيقة ورغم ذلك أخفت الأمر عنه ، تحدثت "قُدس" بذعر وهى تحاول إفلات "ليل" من قبضته وقالت:-
_ أهدأ يا جارحي، أهدا خلينا نفهم منها فى أى ؟؟
دفع "ليل" بعيدًا لتحتضنها "قُدس" بقلق عليها ثم قالت بحزن يُخيم على قلبها :-
_ عرفتي من امتى وأزاى ؟
صرخ "الجارحي" بجنون وهو يلتف بعيدًا يحاول كظم غيظه منها قائلًا بانفعال شديد :-
_ أكيد من زمان مش كانت حبيبته الروح بالروح وهى اللى قالت أنك بتقابلى رجالة
تحدثت "ليل" بضعف ويديها على عنقها من الألم وضغطه الشديد عليه قائلة:-
_ لا، أنا مش مشاركة له فى كل دا عشان تقول أنى قُلت عليها، أنا أتفاجئت زي زيك بالظبط ومن الصدمة مكنتش مستوعبة اللى حصل ولا أزاى أتخدعت فيه كدة، واه كنت حبيبته الروح بالروح بس أنا وجعى أكبر لأنى مطلعتش حبيبته وطلع بستغفلني وبيلعب بيا أنا أول واحدة وكسر قلبي ومهتمش بمشاعري وعملني لعبة فى أيده، غفلني وأستقوى عليه زى ما أنت كمان بتستقوى عليا دلوقت وبتقول أنى مشاركة له ، أنتوا كلكم الرجالة كدة بتستقوا على الضعيف وبس
ألتف "الجارحي" لها مُستعم لحديثها فنظر "يزيد" إليه برجاء وألا يقسو على فتاة ضعيفة مثلها وقال بلطف:-
_ أنا واثق أن أنسة ليل مكنتش تعرف بحقيقته لأني كنت مراقبة طول الفترة اللى فاتت، بلاش توجه الاتهام ليها يا معلم وتسيب المجرم الحقيقي
ألتفت "ليل" إلى "يزيد" بانفعال وغضب شديد لتضربه بقوة على صدره وتدفعه للخلف قائلة:-
_ أنت متتكلمش ولا تتدخل ، أنت السبب فى كل دا، كذاب وغدار زيهم ، صنف زبالة معرفتش تصون السر وجبتني له يفش غله فيا، أنا بكرهك وبكره صنفكم كله
دفعته بقوة وسط بكائها وغادرت الشقة مُنهارة من البكاء فرمقته "قُدس" بهدوء ثم قالت بعفوية:-
_ متسبش الحمار وتمسك فى البردعة يا جارحي ، ليل مأذتنيش بالعكس ليل زي بالظبط اتأذت منه بس بطريقة تانية ومختلفة
خرجت من الشقة خلف "ليل" فنظر "الجارحي" إلى "يزيد" وقال بحزم مُرعب وعينيه يتطاير منها الغضب والنار تأكل عقله قبل قلبه:-
_ طبعًا عارف هتعمل أى؟
فهم "يزيد" ما يريده هذا الرجل والغضب من يسيطر ويتحكم الآن به، فحاول التداخل بحديثه وقال:-
_ بس يا معلم
رفع "الجارحي" سبابته فى وجه "يزيد" يهدده بنبرة أكثر شراسة وحدة جعلت قلب الآخر ينتفض رعبًا قائلًا:-
_ متفكرش تعارضني، روح نفذ يا يزيد
أبتلع "يزيد" لعابه بقلق مما سيفعله "الجارحي" وأنتقامه لينال ثأر طفله الذي قتل فى رحم زوجته وحق زوجته التى واجهت الموت والقسوة وذاقت معنى الألم بسبب ذاك الأحمق وغادر الشقة متوترًا، ترجل للأسفل فرأى "قُدس" جالسة على الدرج مع "ليل" وتحدثها بلطف يملأ قلبها الصغيرة رغم كل ما ذاقته من قسوة وألم وفقد قائلة:-
_ خلاص ما تزعليه ، ميستاهلش أنك تزعلي عليه والله ، أنا معرفش أنتِ عقلك كان فين وأنتِ بتختري واطي زيه وبتاع بنات
تحدثت "ليل" بضيق شديد من حديثها قائلة:-
_ أنتِ فاكرة أنى زعلانة عليه يا قُدس، بالعكس انا بقالى حاولى أسبوع بحاول أستوعب قذارته والمقلب اللى كنت واخداه فيه والصدمة خلاص راحت أسبوع كافى أنى أعيط وأنهار على غبائي وقد اى أنا كنت مُغفلة لدرجة دى، أنا بعيط أنى كنت الباب اللى الحيوان دا دخل منه ليكم وبفضلى أنا قدر يأذيكي ويعملك مشاكل مع الجارحي، أنا طول الوقت بسأل نفسي سؤال واحد ، أنا كنت هبلة أوى كدة وأزاى مأخدتش بالى أن معظم حواراتنا وكلامنا كان بيبدأ بعاملة أى ويوصل للبيت وأهلك وقُدس ومشاكلى .... أزاى منتبهتش فى كل مرة أن مسار الحوار بيوصل لنفس النقطة كأنه بيسرق منى الكلام
ربتت "قُدس" على كتفها بحنان وقالت :-
_ مش ذنبكِ ومتلوميش نفسكِ يا ليل ، أنتِ مش مكارة ولا الشر بيجري فى دمك عشان تعرفي الناس اللى الغل مالي قلوبهم بيفكروا أزاى، الحرامي بيفكر أن كل الناس حرامية عشان هو كدة، وأنتِ بريئة وطيبة وصادقة عشان كدة فكرتي أن كل الناس كدة، عقلك النظيف موصلش لمرحلة وساختهم
ألتفت "ليل" إلى "قُدس" وأخذت يدها فى يديها الصغيرتين وقالت بلهجة واهنة ونبرة خافتة:-
_ أنا أسفة يا قُدس، أسفة لو كنت السبب فى أى حاجة وحشة حصلتلك
تبسمت "قُدس" بعفوية فى وجه صديقتها الوحيدة وقالت ببراءة:-
_ وأنتِ بتعتذري ليه؟ أصلًا أنتِ مأذتنيش فى حاجة ، وحقى مش عندك وأنا مش زعلانة منكِ
أومأت "ليل" بنعم لتبتسم "قُدس" بخباثة بريئة وقالت بكبرياء مُصطنع تشاكس "ليل" محاولة مساعدتها فى التخطي لهذا الحزن قائلة:-
_ أنما يعنى أنا لاحظت حاجة كدة
نظرت "ليل" لها بفضول وعدم فهم وقالت:-
_ اي
_ هو أنتِ كنتِ مع يزيد يا ليل، اصلكم جيتوا الشقة عندنا سوا ولا كان مجرد صدفة
تنحنحت "ليل" بحرج وتحدثت بأنفعال شديد تتهرب من هذا السؤال قائلة:-
_ متجبليش سيرة البنى أدم دا، كلهم جنس واطي ومعفن ، أنا أفضفض معه عشان يقول أعمل أي يقوم قابض عليا زى العسكرى اللى قفش حرامي فى عز الظهر ويسلمنى تسليم أهالى للجارحي
ضحكت "قُدس" بقوة على أنفعال "ليل" وقالت بسخرية:-
_ طب والله لايق عليكي الحرامي
_ أتلمى يا قُدس
وضعت "قُدس" ذراعها حول كتف "ليل" بمكر وقالت بخباثة أكبر:-
_ بأمان يا ليل خليكي صريحة معايا أنتِ كنتِ برا مع يزيد
دفعتها "ليل" بضيق ووقفت لكي تغادر من أمامها وهربت ركضت بتعجل للأسفل لتضحك "قُدس" وهى تنظر من الدرابزين وتحدثتها بمكر:-
_ برضو مش هتفلتي مني يا ليل وهعرف، هتروحي منى فين؟
دقت باب الشقة المجاورة ولتفتح لها "ليان" فدلفت مع أختها ليمر "يزيد"الذى سمع الحوا ربينهما بدون عمد ، ترجل بضيق من هذا الحوار فخرج من العمارة وصعد بسيارته وقبل أن يتحرك رأى "ليل" تفتح شرفة غرفتها وتخرج منها ماسكة هاتفها بيديها الأثنين وقد نزعت حجابها ليظهر شعرها الأسود مُنسدل على الجانبين وعينيها تحملق بالهاتف بتركيز شديد مع حركة أناملها ضغط على زر تشغيل السيارة ليسع صوت إشعار هاتفه فأخرجه ليُصدم برسالة منها ، رفع نظره إلى الشرفة فرأى تحملق بالهاتف وتقرض أظافرها بأسنانها من التوتر مُنتظرة الرد فنظر بهاتفه من جديد وفتح الرسالة ليجد محتواها كلمة واحدة جعلت عينيه تتسع على مصراعيها ورفع نظر إلى الشرفة غاضبًا من كلمتها وكز على أسنانه وفتاة بحجم عقلة الأصبع أمامه وتسبه بجراءة هكذا فنظر للكلمة من جديد وقال بتمتمة:-
_ حيوان.... أنا حيوان يا بنت الـ......
كتب رسالة إليها بغيظ يتملكه وألقى بالهاتف على المقعد المجاور وأنطلق وعينيه تنظر بالمرآة الجانبية على الشرفة يرى رد فعلها على رسالته ليفزع من جراءتها وهى تنفث غضبها بالمزهرية التى على شرفتها وقذفتها بقوة للخارج ليضحك بقوة نافثٍ عن غضبه من طريقة تنفثها للغضب وأنتقامه الذي نال مراده بإغضابها مثلما فعلت معه ؟
________________________
بعيدًا عن حي الأزهر وتحت سماء الليل كان المخزن غارق في ظلامٍ قاتم، الهواء مشبع برائحة القماش القديم، وكل زاوية فيه تشهد على خوفٍ يختنق بين الجدران. والرائحة الثقيلة للقماش كانت واضحة جدًا كأنها لوحة حية من الخوف، وفي نسمة الهواء البارد وقف "عمران" مقيدًا من يديه بالأعلى، جسده متوتر وقلبه يخفق بعنف، عيونه تبحث عن أي مخرج وأي فرصة للهرب،لتحول لحظة الخوف إلى لحظة يستجمع فيها شجاعته، ظهرت سيارة تولج من باب المخزن حتى توقفت بالمنتصف ورجل الأمن يغلق الباب من جديد ، يراقب "عمران" الموقف حتى رأى وجه "الجارحي" الذي ترجل من سيارته مع "يزيد" ليبتلع لعابه بخوف وخطواته القوية تضرب على صدر "عمران" كاللهب الُمشتعل، وقف "الجارحي" أمامه، عيونه تلمع نارًا وغضبًا، كل خطوة له كأنها صاعقة تهز المكان. صوته منخفض لكنه يقطع الصمت كالسيف قائلًا:-
_ليه ؟ إيه اللي خلاك تعمل كده؟
تشنّج "عمران" من الذعر وقلبه يتوقف لحظةلكنه رفع رأسه متحديًا، صوته يرتجف لكنه صارم وقال بتلعثم:-
_أنا؟! أنا ماعملتش حاجة والله......
الجارحي اقترب خطوة وبدون سابق إنذار مسك عنق "يزيد" بغضب ناري، قبضته شدّت أكثر على عنقه، والظلال على وجهه جعلت الغضب يبدو كأنه نار حية:
–مش هيفيدك الكذب ، أنا عارف أنك قتلت ولادي فى بطن أمه لكن سؤال ليه أنا عارف كل حاجة! كل حاجة عن حبيبتك السرية وعنك وعن اللعبة اللي لعبته، وسؤالي ليه؟ ليه أذيت قُدس
للحظة شعر "عمران" بالذعر من سلطة "الجارحي" ومعرفته بكل شيء فقال بتلعثم محاولًا تبرئة نفسه وإنكار الجُرم:-
–أنت غلطان أنا مليش أي يد في ده! مش أنا اللي حرّضتهم، مش أنا اللي أذيت قدس ولا الطفل الصغير والله أنا برئ
الجــــارحي زفر بغضب، كأن الغضب ينهش قلبه ممزوج هذا الغضب بنظرة ساخرة وقال:-
_ يعنى زبالة وغبي، أنا مجبتش سيرة الأجهاض ولا تحريضك للستات ، بس هو المجرم كدة مبيجيش فى باله غير جريمته ، أفتكر إنك اللى بدأ وكل دا مجرد بداية يا عمران وأنت لسه متعرفنيش ولا تعرف أنا ممكن أعمل أى
لم يخف غضبه، قبضته على عنقه كانت تتقوى أكثر، كل شيء في المكان يصرخ بالقهر والانتقام فقال بغضب و صرامة قاطعة:-
_بس تعرف مش مهم كلامك دلوقتي مش هيفيد بحاجة أنا بس كنت عايز أعرف ليه؟ ليه عملت كل ده؟ ليه أتجرأت على مراتي وابنها اللى فى بطنها بس تعرف مش هيفيد بحاجة
كادت قبضته أن تقتل هذا الرجل فحاول "عمران" يسحب نفسه للخلف، يحاول أن يتنفس بحرية، لكنه شعر بالخنق
_أنا أقولك ،أنا أبداً ما خطرت على بالي أذي حد بس ......
ضغط "الجارحي" على فمه يمنعه من الحديث نهائيٍ وعينيه يتطاير منها الغضب والزفر بينما "يزيد" واقفًا عند الباب، صامتًا، عيناه تتفحصان كل حركة، وكأنه يراقب اللحظة المنتظرة للانفجار، بينما "الجــــارحي" لم ينفك عن ضغطه المتصاعد، صوته كالسيف يقول بشجن:-
_مجرد بداية
نظر "عمران" له بعينيه المشتعلتين بالخوف والغضب معًا، شعر بتناقض داخلي بين رغبته في الدفاع عن نفسه وبين شعور الغضب على إهانة "الجارحي" المتراكمة له
–أنا مش كذاب! والله مش أنا… واللي عمل كده مش أنا… أنا ضحية زيك
هز "الجارحي" رأسه بنعم وضحكة ساخرة تحمل براكين من الغضب و "يزيد" تنفس بصوت خافت، عينه على "الجــــارحي"، كأنها تقول:-
_ " هيتصرف بحكمة ولا بالجنون؟"
لكن "الجــــارحي"، بغضبه الهائج، لم يستمع لأي أحد، وكل ما يريده هو معرفة السبب… وإشباع رغبته في الانتقام ،وقف أمام "عمران" قلبه يشتعل بالنار، كل خفقة فيه كأنها صاعقة غضب، ولم تعد كلمات الإنكار من "عمران" قادرة على تهدئته. فجأة، ارتجف الهواء في المخزن مع صوت خطوات ثابتة وواثقة، صوت يقشعر القلب قبل الأذن.
دخل الطبيب، وجهه متجهم، عيونه باردة، كأن كل إحساس إنساني قد تلاشى عنه بين يديه أدواته، وكل حركة منه تعكس خبرة قاسية، بلا رحمة، بلا تردد
_ ابدأ
فزع "عمران" وحاول أن يتحرك، لكن القيود الشديدة أبقته محاصرًا، شعوره بالخوف يختنق مع كل ثانية تمر، كل نبضة قلبه تزيد من رعبه فتبسم "الجارحي" و اقترب أكثر، ووضع يده على كتف "عمران" وهمس بنبرة مُرعبة:-
_ أنا عايز أشوفك بتدفع تمن اللي عملته… عايزك تحس بالألم اللي أنا حاسه ، أنت قتلت ابني وأنا هحرم من الخلفة العمر كله دا حق قُدس ودم ابني
صوته يخرج كالصاعقة قائلًا من جديد:-
_ابدأ ، خلّيه يحس قد إيه الألم و قد إيه الغدر واللعب ببنات الناس ممكن يوجع، دا حق قُدس وحق ابني وحق ليل اللى كسرت قلبها بنجاستك
بدأ الطبيب بتخديره و"عمران" شعر بدوخة شديدة، يده ترتجف، كل جسده يحاول المقاومة، لكنه محاصر، وعيه يزداد وضوحًا للخطر الذي يحيط به. كل ثانية تمر كانت تضاعف شعوره بالرعب، وكل نفس يلتقطه كان صعبًا وكل هذا أمام عيني "الجارحي" الذي شعر بغرابة من شعور بالارتياح الذي اجتاحه، كأنه وجد لحظة ثأرية صغيرة وسط بحر النار الذي يلتهم قلبه من الداخل، نار لا تعرف الهدوء ولا التراجع. كل ارتجاف لـ "عمران"، كل صرخة خافتة، كل نفس يلتقطه مرتعشًا، كان بمثابة دفعة من العذاب النفسي الذي كان يخبئه لنفسه منذ فقد طفله البريء ومعاناة "قدس" زوجته البريئة التي لم تذق بعد طعم الحياة
لأخر لحظة وعية كان "عمران" يحاول أن يصرخ و يهرب لكن كل زاوية في المخزن وهمسة في الهواء كانت تهمس له بأن العدالة هذه المرة لن تعرف الرحمة. كل حركة من الطبيب كانت كإيقاع العقاب القاسي، خطوة تقرّبه من الحقيقة التي لا مهرب منها، والحقيقة التي تذكي نار "الجارحي" أكثر وأكثر، كان الألم والفقدان والخذلان يختلطون بالغضب، كل شيء في جسده يهتز من القهر، وكل جزء من قلبه ينطق بالانتقام. لم يعد هناك سوى لحظة واحدة فقط تُطفئ النار الداخلية: رؤية العقاب يُنفذ، رؤية العدل الذي خطط له بعنف شديد يتراءى أمامه، رؤية "عمران" يدفع ثمن كل ما أُخذ منه بالقسوة نفسها التي فُقد بها كل شيء غالٍ على قلبه.
كل خفقة قلبه كانت تعكس ألمًا داخليًا يتجاوز الجسد نفسه. كل عضلة في جسمه كانت متوترة، يديه المرتبطتان تصرخان من الشدة، ساقاه ترتعشان، ظهره يشتعل من كل انقباض، وكل عرق يتصبب من جبينه كأنه دموع من نار
لكن كل كلمة كانت تتلاشى في صمت المخزن، في وقار"الجارحي" المتأجج بالغضب، في النار التي تلتهم قلبه. الألم النفسي كان يتسرب إلى جسده كما لو أن كل خلية فيه تحترق، وكل عظم في جسده يشعر بالضغط والشد والارتعاش.
في هذه اللحظة، لم يعد "عمران" مجرد إنسان يتألم، بل كان روحًا معلقة بين الخوف والغضب والخذلان، بين الألم النفسي الذي يفتك بقلبه وبين الألم الجسدي الذي يسيطر على جسده، وهو يعرف يقينًا أن كل ثانية تمر تزيد من وطأة العقاب النفسي، وأن قلب الجارحي لن يهدأ إلا بعد أن يرى العقاب وقد تحقق، مهما طال الوقت أو قصر.
سقط "عمران" فجأة على الأرض، غارقًا في الإغماء، جسده المرتعش يستسلم لقوة الألم والصدمة، وكل ما تبقى في ذهنه كان صدى الخوف والرهبة التي زرعتها كل لحظة من المواجهة.
"الجارحي" نظر إليه، عيناه لا تفارقه، النار التي تلتهم قلبه لم تهدأ، كل خفقة كانت تذكره بالطفل الذي فقده، بـ "قدس" التي تجرعت الألم، بكل لحظة ظلم وقع عليها، وكل شيء لم يُعوض بعد.
تمتم "الجارحي" بهمس لنفسه، غاضبًا ومصممًا:-
_دي مجرد البداية،وأنا هخلي كل اللي حصل يترد
صعد "يزيد" إلى السيارة، محركها يزمجر في الصباح البارد بعد أن مر الليل بأكمله فى الجراحة، وعيناه على الطريق بينما "الجارحي" يجلس بجانبه، كل تفكيره مشغول بخطط الانتقام، بكل لحظة يسجلها في قلبه، بكل وجع ستراه "قدس" يُستعاد بطريقة أو بأخرى، كل عقاب سيلحق بمن أساء إليها وكل فكرة في رأسه كانت واضحة: الانتقام… الانتقام… حتى يرى العدالة التي لا تهدأ إلا بعد أن يتحقق الثأر لمحبوبته وقدسه.
___________________________
كانت الشمس ترسل أشعتها على واجهة الشركة، لكن الداخل كان عالمًا آخر؛ عالم يسوده الصمت المشحون بالخوف، وكل من يخطو خطوة في الرواق يشعر بأن كل حركة مراقبة، كل نظرة تحت المجهر، وكل كلمة يمكن أن تُكلفه حياته المهنية وربما أكثر من رئيسهم "جلال"، كان يقف خلف مكتبه الضخم، وجهه عبوس دائمًا، عيناه كالرماد المشتعل، صوته يقطع الصمت كالسيف، وحركاته الصغيرة توحي بالخطر والوحشية، كل من هب ودب في المكتب يرتجف من مجرد نظرة، كأن الرأس يُقطع بسهول لمسة المطر وفجأة، وسط هذا الجو المشحون، ظهرت "ليان" طبيبته الصغيرة، حاملة نظرة تحدٍ وعزم، تخطت الممر بخطوات واثقة، رغم عناد والدها وأصرار على قطع علاقة ابنته بهذا المجرم، رغم كل التحذيرات، جاءت إليه وعيني "جلال" توسعت قليلًا، قلبه تشنج، وشيء بدا غريبًا في داخله. لم يحدث من قبل أن أشرق وجهه ببسمة وسط موظفينه، كل عبوسه وتوتره اختفى للحظة، كأن العالم كله توقف، وكأن جحوده وقساوته أصبحت مجرد نسمة خفيفة أمام سحر ظهورها تقدمت ليان بخطوات هادئة، كل خطوة منها تنبض بالثقة والعناد، وعينيها تتوهجان بجرأة لا تقهر، كأنهما تحدقان في قلب الوحش نفسه، يتحديان خوفه وعبوسه الطويل. جسدها كان مشدودًا، ثابتًا، وكل حركة فيها تحمل رسالة واضحة إليه : أنا هنا
وقف للحظة، قلبه يرفرف بشكل غير معتاد، كل شريان فيه كأنه يغلي، وكل أنفاسه تتسارع والتردد الذي شعر به منذ اللحظة الأولى زاد عندما اقترب منها، حاول أن يمد يده ببطء، لكن عقله كان يصارع قلبه، وكل شيء فيه يحذر من لمسها، فهي فتاة شرسة، قوية، تعرف كيف تدافع عن نفسها، وكل لمسة خاطئة قد تتحول إلى صفعة لا تنسى.
شعرت بتردد يده، رفعت رأسها ونظرت إليه بعينين مليئتين بالتحدي، الابتسامة الخفيفة التي ارتسمت على وجهها تُطمئنه فقال بلطف :-
_ أى اللى جابك هنا؟
ظلت ترمق يديه المترددة فى لمسها دون جوابه فجمع "جلال" شجاعته أخيرًا، مد يده ببطء، وأصابعه تلمس أصابعها الرقيقة، شعور كهربائي اجتاح جسده، قلبه دق بعنف، كل شيء حوله اختفى إلا شعور اليدين المتشابكتين، حرارة جسدها ودفء قلبها ينبعث من بين أصابعهما
_ تعالي معايا
ليان تبعت خطواته، كل خطوة ثابتة تقول له :-
_ أنا هنا بإرادتي… أنا جنبك رغم كل شيء
ومع كل خطوة كان قلب "جلال" يلين أكثر، كل جزء من الوحشية التي اعتاد أن يعيش بها ينهار أمام جرأتها وصدقها ،دخلوا المكتب تحت صدمة جميع الموظفين الذين رأوا بسمته لأول مرة وأغلق "جلال" الباب خلفهما، فجأة وقفت "ليان" أمامه، عينيها تلمعان بالحب والجرأة، ثم اقتربت وبدون تردد، عانقته بعناق قوي يجعل كل الجدران تنهار وكل الصمت يذوب وكل خوف يتحول إلى دفء لا يُقاوم، صُدم من قوة العناق ودفئها فاتسعت عيناه وكل إحساسه بالتحكم والسيطرة تلاشى للحظة، كل الوحشية التي اعتاد أن يظهرها أمام موظفيه اختفت ،كان عاجزًا أمام دفء قلبها،أمام صدق مشاعرها، أمام الشجاعة التي تعكسها نظراتها والسكن والأمان الذي شعر بهما لأول مرة فى حياته بين ذراعيها
تحدث بتلعثم وصوت مرتعش من هو الصدمة يقول:-
_ يا… يا ليان… إنتِ… إيه اللي بتعمليه
ابتسمت وعيناها تقولان أكثر مما تستطيع الكلمات التعبير عنه فقالت بلطف
– أنا هنا لأني عايزة أكون جنبك مهما حصل مهما حاولت الدنيا تمنعنا
أطمن من كلماتها الرقيقة ووضع يده على خصرها بلطف ويحتضنها كما لو أنه لا يريد أن يتركها أبدًا، وابتسامته الباهتة التي نادرًا ما أشرق بها وجهه، لمعت كالنجوم لأول مرة وسط عبوس السنوات الطويلة، كل شيء من حولهما اختفى، كل الضوضاء، كل تهديد، كل وحشية، صارت مجرد خلفية لصوت القلوب، لصدى المشاعر، ولحرارة العناق التي تجعل كل لحظة بينهما تتلألأ بالحب الصادق والدفء الذي لم يشعر به أحد قبلهما، ابتعدت"ليان" بعد لحظة من العناق الطويل، عيناها تتوهجان بالجرأة، وابتسامتها لا تخلو من التحدي. قلبها ينبض بسرعة، كل شعورها ممتزج بالحب والعناد، لكنها لم تخف التعبير عن رغبتها فقالت "ليان" بصوت حازم، وهي تقترب من مكتبه :-
_ جلال أنا فكرت طول الليل قبل ما أجيلك ووصلت لحاجة واحدة
_ أى هى ؟
تبسمت بجراءة كالعادة وقالت بجنون:-
_عايزاك تكلم المأذون دلوقتي… أيوه دلوقتي… عايزة نتجوز
أندهش من حديثها ، وصدمته بها تكرر نفسها رغم انه لم يعتد أحد على تحديه بهذه الجرأة، وابتسامته الباهتة تلاشت تمامًا، وحل محلها العبوس المعتاد:-
_ أنتِ مجنونة! دلوقتي؟ أنا مش هعمل أي حاجة دلوقتي
اقتربت أكثر، نظرت إليه بعينين لا تعرفان الخوف، وصوتها صار أقوى وأكثر إصرارًا وتهديدًا أكثر إليه :-
_ لو مشيت دلوقتي، متفكرش تشوف وشي تاني، أنا مبهزرش وأنت تعرف أني مش بقول كلام من فراغ ولا مش قده
صمت "جلال" وقلبه يخفق بشدة، كل وحشيته وغضبه الداخلي تصادم مع جرأة "ليان"، شعور لم يعتد عليه لكنه لم يستطع تجاهل هذه العزيمة، هذا التحدي، والقلب الذي يقف أمامه بلا خوف فرفع رأسه ببطء، عيناه تتفحصانها، ثم أخذ نفسًا عميقًا، وابتسم ابتسامة خفيفة، مليئة بالاستسلام لمشيئة قلبها، رغم كل عناده وقال بجدية عازمًا امره على التمسك بمحبوبته :-
_تمام… هكلم المأذون يا مجنونة ."
ابتسمت "ليان" ابتسامة واسعة، وعيونها تلمع كالنجوم، ثم عادت لتقبله على خده برقة، قبل أن تتركه ليجلس على مكتبه، بينما قلبها يفيض بالسعادة والانتصار وفي تلك اللحظة، كل الغضب، كل الوحشية، كل التهديدات اختفت، وكل شيء حولهما صار خلفية لعاطفة حقيقية، جرأة وحب لا يمكن إنكاره، وقرار اتخذ بدافع القلب أكثر من العقل.
جلس المأذون على طرف المكتب، الورق أمامه، قلمه جاهز، وعيونه تتفحص كل شيء بهدوء واحترام. وجلس "جلال" على كرسيه المعتاد، عبوسه خفت قليلًا، لكن عيناه لا تزالان مشحونتين بالجدية، بينما "ليان" واقفة أمامه، عيونها تتوهج بالسعادة والفرحة التي لم تختبئ خلف أي غموض مُستمع إلى المأذون يقول:-
_بارك الله لكم وبارك عليكم وجمع بينكم فى خير
ابتسمت "ليان" ابتسامة واسعة، لم تستطع إخفاء فرحتها، ورفعت يدها لتضعها على يد جلال، الذي نظر إليها بحدة معتادة في البداية، ثم ابتسم أخيرًا بطريقة نادرة، لم يشهدها أحد من قبل في رواق شركته.
_________________________
خرج "عماد" من الملهى الليلي مُنهار من وطأة الخمر، ولكن الخمر لم يكن السبب الوحيد لهذا الانهيار، بل قلبه المثقل بالألم، الروح الممزقة، والعقل الذي يعيد بلا رحمة مشهد "ليان" في حضن "جلال" على سطح المستشفى كان منظرها، ضاحكة أو هادئة، تتشبث بـ "جلال"، يبتسم لها، يضع يده على كتفها برقة، وكأن كل لحظة عاطفة كان ينبغي أن يكون هو فيها، قد ذهبت إلى غيره، الألم اجتاح قلبه، قلبه تمزق بطريقة لم يعرفها من قبل، وكأنه يرى روحه نفسها تتحطم أمامه، قطعة قطعة
تأرجح جسده مع كل خطوة، يده تقترب من باب السيارة وتبتعد، عينيه مغلقة أحيانًا في محاولة لتهدئة الدوار، لكن كل رنة سيارة، كل ضوء في الطريق كان يذكره بها، كل شيء حوله صار جدارًا من الألم والخذلان ، فتح باب سيارته برعشة، جلس خلف المقود مع قلبه الذي يصرخ في صدره و عينه تحوم في الفراغ، كل حركة للسيارة تحت يده كانت انعكاسًا لحالة الغضب واليأس التي يعيشها، كل نبضة قلب كانت تقول له :-
_لقد فقدتها لقد خسرته كل شيء
وبينما كان يقود بتهور تحت تأثير الخمر والصدمة، ظهر أمامه فجأة ضوء سيارة، مفاجئ كأن القدر نفسه قرر أن يتدخل فلم يكن هناك وقت للتفكير، لم يكن هناك مجال للفرار و الانعطاف أو المكابح لم تعد كافية لتغير القدر والاصطدام كان لا مفر منه، انقلاب السيارة حدث بسرعة مذهلة، الدخان والدوامة، كل شيء حوله اختلط، جسده أصيب، الألم الجسدي اجتاحه بسرعة، لكن ما كان أعظم من ذلك، كان الألم النفسي، الصدمة التي مزقت قلبه للمرة الأخيرة
سقط "عماد الدين" على الأرض، جسده محطمًا، كل شيء بدا ساكنًا حوله، إلا صدى قلبه الذي كان يكسر نفسه مع كل خفقة. لم تعد هناك حياة داخله، لم يعد هناك مقاومة، كل شيء انتهى، كل حلم، كل حب، كل ألم اختلط في لحظة واحدة، ليترك جسده كجثة هادئة، لكن قلبه كان محطمًا إلى الأبد وفي السماء فوقه، كانت النجوم تشهد على سقوطه، وكأن الكون نفسه يعترف بأن روحه قد انكسرت، وأن هذا الألم لم يكن مجرد خسارة، بل موت لجزء منه، موت لروحه التي لم تجد طريقها سوى الانكسار الكامل أمام قدر لا يرحم.
• تابع الفصل التالي "رواية حرب سقطت راءها" اضغط على اسم الرواية