رواية مطلوبه للانتقام الفصل العاشر 10 - بقلم هبه ابو الفتوح
كان الصباح هادئًا على غير عادته داخل جناح المستشفى، أشعة الشمس تتسلل من بين الستائر البيضاء لتنعكس على ملامحه المتعبة. لم يزل أثر الوجع يسكن جسده حاول أن يرفع جسده مستندًا على السرير، فارتسمت على ملامحه ابتسامة خفيفة حين شعر أن عضلاته بدأت تطيعه من جديد.
دُفع باب الغرفة فجأةً، ودخل العقيد وخلفه جود وصديقه المقرب، كانت ملامحهم تحمل مزيجًا من الاطمئنان والقلق.
تقدّم العقيد نحوه بخطوات هادئة وقال بنبرة أبوية:
ـ الحمد لله على سلامتك يا يمان، قلقتنا عليك يا ابني.
أجابه بابتسامة باهتة وهو يمد يده ليصافحه:
ـ الحمد لله يا فندم، شكل الرصاصة كانت أضعف من اللي استحملت قبل كده.
رمقته جود بنظرة سريعة، ثم حولت وجهها كأنها لم تسمع، فقال صديقه ضاحكًا يحاول كسر الجمود:
ـ واضح إنك لسه زي ما أنت حتى الموت مش عايز يزعلك.
ردّ يمان وهو يعتدل جالسًا:
ـ أنا بخير خلاص، ومش ناوي أفضل هنا أكتر من كده.
نظرت له جود بحدة مكتومة، وقالت وهي تضع الملف على الطاولة:
ـ مش شايف إنك لسه محتاج راحة؟ جسمك حتى مش مستقر.
التفت إليها، عينيه ثابتة على وجهها دون أن يلين صوته:
ـ أنا محتاج أتحرك، مش أرتاح القضية دي مش هتخلص وأنا نايم هنا.
صمت الجميع لحظة، وتبادل العقيد وصديقه جمال نظرات سريعة لم تخفَ عنه، فرفع حاجبه مستغربًا وقال:
ـ فيه إيه؟ بتبصوا لبعض كده ليه؟
خفض العقيد رأسه قليلًا، ثم قال ببطء كمن يخشى وقع كلماته:
ـ رشاد النمر هرب.
ساد الصمت المكان، وبدت ملامح يمان كأنها تصلبت للحظة، ثم رفع نظره نحوه ببطء وقال:
ـ هرب إزاي؟
تنحنح العقيد، وأكمل:
ـ أثناء نقله للمحكمة حصل هجوم مفاجئ على الموكب الظاهر إن في حد ساعده من جوه.
أسند يمان ظهره للمخدة، أنفاسه صارت أثقل. نظر بعيدًا، ثم تمتم بمرارة:
ـ كل ده وأنا هنا نايم ومش قادر أتحرك.
اقتربت جود وقالت بهدوء:
ـ ما تلومش نفسك محدش كان متوقع اللي حصل.
نظر إليها للحظة، عينيه فيها غضب مكتوم، ثم قال ببرود:
ـ أنا بتكلمش عن التوقع، بتكلم عن المسؤولية.
تحركت شفتاها لترد، لكنها تراجعت وكأنها تذكّرت شيئًا. اكتفت بالنظر إليه، ثم أدارت وجهها نحو النافذة.
قال العقيد شهاب:
ـ مش وقت جلد الذات دلوقتي، اللي يهمنا نعرفه هو إننا نرجّع رشاد، حيّ أو ميت.
رفع يمان رأسه وقال بثقة، رغم التعب في صوته:
ـ هنرجعه بس أولًا، خرجوني من هنا.
اعترضت جود بسرعة، صوتها فيه نبرة توتر:
ـ إنت لسه حتى ما وقفتش على رجلك كويس، تخرج تعمل إيه؟
نظر إليها بابتسامة باهتة أقرب للتهكم:
ـ أخرج أشتغل، ما تقلقيش مش ناوي أركب موتوسيكل وأجري وراهم.
ردّت بحدة خفيفة وهي تطوي ذراعيها:
ـ ده لو قدرت تمشي خطوة من غير ما تتعب.
قال بهدوءٍ قاتم:
ـ وجربي تمنعيني.
نظر العقيد إليهما بتنهيدة ثقيلة قبل أن يقول بصرامة:
ـ كفاية كلام، القرار عندي أنا تخرج بس تحت المراقبة، أول ما تتعب، ترجع فورًا. مفهوم
هزّ يمان رأسه موافقًا، ثم نظر إلى جود نظرة قصيرة قبل أن يحيد عنها وكأنه لا يريد أن يطيل التحديق أكثر.
كان بينهما جدار غير مرئي، لا هو قادر على هدمه، ولا هي تملك الجرأة على الاقتراب منه.
خرج يمان من بوابة المستشفى يسير بخطوات ثابتة رغم الألم الذي يلسع كل عضلة في جسده كان الهواء الخارجي يضرب وجهه كصفعة توقظه من كابوس طويل، بينما تسير إلى جواره جود في صمت تام، تحمل بعض الأوراق في يدها وتنظر أمامها دون أن تلتفت إليه.
وقف لحظة عند السيارة السوداء التي كانت تنتظرهما، فتح الباب الأمامي ونظر إليها قائلًا بنبرة جافة:
ـ اتفضلي اركبي، واضح إنك سايقة المرة دي.
نظرت له ببرود مماثل، ثم قالت وهي تضع الأوراق على المقعد الخلفي:
ـ عادي، اللي يقدر يهرب من رصاصة، أكيد يقدر يسوق.
رفع حاجبه بابتسامة خفيفة لم تكتمل:
ـ ماشي يا ستي، بس لو حصللي حاجه وإحنا راجعين، اعتبري نفسك مسئولة رسمي.
ردّت دون أن تنظر إليه وهي تشغل المحرك:
ـ مش أول مرة أكون مسئولة عن مصيبة عملتها بإيدك.
ضحك بخفة، تلك الضحكة التي كسرت الصمت للحظة، ثم عاد وجهه للجمود من جديد. انطلقت السيارة على الطريق الهادئ، لا يُسمع فيه سوى صوت الهواء المتسلل من النافذة وصوت أنفاسهما المتقطعة بين الفينة والأخرى.
ظل ينظر من النافذة إلى الطريق الممتد أمامه، ثم قال كأنه يحدث نفسه:
ـ كل مرة أفتكر إننا خلاص قربنا نقفل الملف، بنرجع للصفر من تاني.
أجابت دون أن تلتفت:
ـ الموضوع أكبر من مجرد ملف يا يمان، رشاد مش هينتهي بسهولة.
ابتسم ابتسامة جانبية وقال بسخرية باهتة:
ـ أهو دا اللي مخليني مش مطمن. كل مرة نقرّب، يختفي، وكأنه دايمًا سابقنا بخطوة.
ترددت قليلًا قبل أن تقول وهي تمسك عجلة القيادة بإحكام:
ـ بس المرة دي… مش لوحدك!
التفت إليها ببطء، نظر إلى ملامحها الجادة، ثم قال بهدوءٍ فيه شيء من الامتنان الذي حاول إخفاءه:
ـ عارفة يا جود…أول مرة أصدق إنك ممكن تقولي حاجة تريحني.
رمقته بنظرة حادة وقالت سريعًا كأنها تدافع عن نفسها:
ـ ما تتعودش، دي كانت استثناء.
ضحك بخفوت، ثم أدار وجهه للنافذة مرة أخرى، وترك الصمت يملأ المسافة بينهما من جديد.
ظلّا يسيران على الطريق حتى بدأت معالم المدينة تلوح في الأفق، ضوء الغروب ينعكس على زجاج السيارة كأنه يرسم حولهما ظلالًا من الماضي الذي لم يمت بعد.
كانت جود تتابع بعينيها الطريق، لكن عقلها كان مشغولًا به أكثر مما تود الاعتراف. أما هو فكان غارقًا في صمته يرى في كل زاوية من المدينة وجهًا يشبهها، وضحكة تذكره بها، وكأن الحلم الذي عاشه ما زال يسكنه رغم أنه عاد إلى الواقع.
اقتربا من المقرّ الرئيسي، فتوقفت جود وقالت وهي تطفئ المحرك:
ـ وصلنا المفروض ترتاح النهارده.
فتح الباب ببطء، ثم قال وهو يخرج من السيارة:
ـ الراحة للناس اللي خلصوا اللي عليهم… وأنا لسه عليّا كتير.
أغلقت الباب خلفه، ونظرت إليه وهو يسير بخطوات بطيئة نحو المبنى، لم تعلم إن كانت تشفق عليه أم تحسده على قدرته على التحمّل.
مرّ يومان منذ خروجه من المستشفى استعاد يمان وعيه كاملًا، لكن رأسه لا يزال مثقلًا بالذكريات، والندوب التي خلّفها الوقت في داخله لم تلتئم بعد.
في ذلك الصباح، خرج متجهًا إلى النيابة، يتفقد بنفسه سير الأوراق الخاصة بقضية "رشاد النمر" التي أصبحت تشبه لغزًا لا نهاية له.
وبعد ساعات طويلة من المداولات والانتظار، خرج من هناك هو وجود، وقد بدت علامات الإرهاق واضحة على ملامحهما.
وقفت هي أمام السيارة تمس جبهتها بتعب قائلة:
ـ رأسي بيوجعني، حاسة إني مش قادرة أركّز في أي حاجة.
نظر إليها للحظة ثم قال بشيءٍ من الإقتراح أكثر من الأمر:
ـ طب تيجي نشرب قهوة؟ نراجع التفاصيل بهدوء، يمكن نطلع بحاجة جديدة.
لم تتردد، كأن جسدها سبق لسانها وقال:
ـ ماشي، فعلًا محتاجين نفصل شوية.
تحرّكت السيارة وسط الزحام، لم يخطر ببالها أن الطريق سيقوده إلى هناك تحديدًا… إلى الكافيه الذي لم تطأه قدمه منذ خمس سنوات.
كان يقود بصمت، يحدّق في الطريق بعينين زائغتين كأن شيئًا خفيًا يجذبه من الداخل ولمّا توقفت السيارة أمام المكان، شعر بأن الهواء قد اختنق فجأة اللافتة نفسها، الرائحة نفسها، وحتى المقاعد الخشبية في الداخل ما زالت في أماكنها دخلا معًا كان المكان دافئًا، تملؤه موسيقى خفيفة من نوعٍ يثير الذكريات أكثر مما يُسكنها.
اختار طاولة في أقصى الكافية، الطاولة ذاتها التي كان يجلس عندها ذات يوم، وبدون وعي جلس في نفس المقعد الذي اعتاد أن تجلس فيه هي…
جلست جود في المقعد المقابل، تراقب نظراته المليئة بالتوتر والشرود، فسألته باستغراب وهي ترفع حاجبها:
ـ فيه إيه؟ المكان مش عاجبك ولا إيه؟
ابتسم بخفوت وقال وهو يشيح بنظره عن عينيها:
ـ لا… المكان حلو. بس يمكن الذكريات اللي فيه تقيلة شوية.
جاء صاحب المقهى العجوز، رجل خمسيني بملامح طيبة وصوت مألوف.
تأمل يمان لثوانٍ قبل أن تتسع عيناه بدهشة ويقول بفرح:
ـ يااااه، ده إنت يا أستاذ يمان! فين أيامك؟! وحشتنا والله، فكرتك سافرت ولا حاجة!
ابتسم يمان بتوتر واضح، وقف وصافحه قائلًا بلطفٍ مصطنع:
ـ إزايك يا عم سامي؟ والله الظروف خدتني بعيد شوية.
نظر العجوز إلى جود بابتسامة كبيرة وقال بحفاوة:
ـ أكيد دي البنت اللي كنت بتيجي معاها دايمًا، كنتوا لُطاف جدًا مع بعض، الله يباركلكوا
تجمّدت جود في مكانها، حدّقت به بدهشة:
ـ إيه؟
لكن يمان سارع بإصلاح الموقف، حمحم بخفّة وقال وهو يلوّح بيده:
ـ لأ، لأ، دي مش هي… دي زميلة في الشغل، جايين نراجع شوية أوراق بس.
تراجع الرجل خطوة وقال بخجلٍ بسيط:
ـ آسف يا ابني، كنت فاكر إنكم اتجوزتوا.
خفض يمان رأسه قليلًا وقال بصوت منخفض كأن الكلمات خرجت من جرح قديم:
ـ لأ… هي توفاها الله من خمس سنين.
ساد صمت مفاجئ أما العجوز، فقد تغيّر وجهه تمامًا، وضع يده على كتفه بحزن وقال بصوتٍ مبحوح:
ـ الله يرحمها يا ابني.
ثم انسحب بهدوء، تاركًا خلفه ظلًا من الشفقة والوجع.
جلس يمان في مكانه يتنفس ببطء، بينما نظراته تتجول على تفاصيل الطاولة كأنه يراها للمرة الأولى بعد فراقٍ طويل.
بعد لحظات، جاء النادل ووضع أمامه كوب القهوة المفضل لديه دون أن يطلبه، نفس النوع، نفس الرائحة.
ابتسم بمرارة وهو يهتف لنفسه:
ـ لسه فاكرين طلبي بعد كل السنين دي…
قالت جود بهدوء وهي تحاول كسر الصمت:
ـ المكان شكله فعلاً مهم بالنسبالك…
رفع عينيه إليها وقال:
ـ أكتر مما تتخيلي.
ثم مد يده نحو الملف، فتحه وقال وهو يحاول استعادة جديته المعتادة:
ـ نرجع بقى للشغل، قبل ما القهوة تبرد.
ابتسمت ابتسامة باهتة وهي تفتح أوراقها، لكن عينها كانت تراقبه دون وعي.
لم يكن الرجل الذي عرفته منذ شهور، بل رجل يحمل داخله مدينة كاملة من الذكريات الموجعة، مدينة اسمها تولين.
بعد وقتٍ قصير، ألقت جود القلم على الطاولة بإهمال، زفرت بضيق وهي تشعر أن عقلها لم يعد قادرًا على التركيز في أي شيء كل ما يدور في ذهنها الآن هو اسمه... واسم تلك الفتاة التي كانت تتردد على لسانه في الحلم كأنها تعيش بين أنفاسه.
رفعت نظرها نحوه، تخلّت عن كل محاولات التجميل في الحديث، وهتفت بحدّة مكتومة:
ـ أنا عايزه أعرف مين تولين اللي انت كنت عمال تقول اسمها في الحلم، وليه جايبني في نفس المكان اللي كنت بتيجي فيه أنت وهيّ؟ أنا عايزة أعرف كل حاجة دلوقتي، عشان بجد مش عارفه أنت عاوز مني إيه.
رفع رأسه ببطء، لم يبدُ عليه الغضب، بل ابتسم ابتسامة واهنة وهو يترنح للخلف في مقعده. طقطق ظهره قليلًا ونظر حوله بتفحّص كأنه يسترجع ماضيًا ثقيلًا، ثم عاد ببصره نحوها وبدأ يسرد ما حدث معه منذ أن رآها لأول مرة، إلى اللحظة التي تلاشت فيها الرؤية أمامه، والفراغ الذي تركته تلك الغيبوبة داخله.
كانت جود تُنصت بصمت، لكن عينيها فضحتا تأثرها، حاولت إخفاء الحزن الذي بدأ يتسرّب إلى ملامحها، بينما هو يتحدث وكأن الكلمات تنزف من صدره.
وعندما أنهى حديثه، رفع كوب القهوة، أنهى آخر رشفة منه، وقال بابتسامة هادئة:
ـ أتمنى يكون فضولك ارتوى... وعرفتِ كل حاجة كنتِ عايزه تعرفيها عني.
هزّت رأسها في صمتٍ، باتت الجلسة بعدها أكثر ثقلًا…حاول كلاهما العودة إلى العمل، لكن يمان لم يستطع تجاهل الإحساس الغريب الذي خفّ من داخله. كأنه تخلّص من حجر كان يضغط على صدره منذ سنوات. نظر إليها ثانية وقال بخفوت:
ـ شكرًا.
قطّبت حاجبيها باستغراب، فسارع لتوضيح قصده:
ـ يعني... عشان خلّيتيني أتكلم. أنتِ مش عارفة الموضوع ده شال من على قلبي حمل قد إيه شكرًا إنك أول حد... يسمعني من غير ما يخليني أتكلم غصب أو أشوف في عينه نظرة شفقة، مع أنك نجحتي في إخفائها.
أغمضت عينيها لثوانٍ، وكأنها تشاركه الصمت أكثر من الكلام، ثم فتحت عينيها بابتسامة صغيرة وقالت:
ـ أنت لسه ما تعرفنيش... أنا فيا سحر زي التنويم المغناطيسي كده.
ابتسم هو الآخر ابتسامة باهتة وهو يرد:
ـ شكلها فعلًا حكايتنا لسه طويلة يا جود.
وعادا بعدها لاستكمال العمل... لكن هذه المرة، لم يكن بينهما الصمت ذاته، ولا الجدار نفسه.
ليس بين القلوبِ مرسال،
لكنّ بينها لغةً لا تُكتَب، تُقالُ بالنبض.
حين يضيقُ صدرك، يختنقُ هناك قلبٌ آخر لا يعرفُ السبب،
وحين تبتسمُ فجأة، يطمئنُّ في البعيدِ من كان يفتقدُ نورك.
رسائلٌ تُبعثُ بلا حروف،
تسيرُ في العروق كأنّها تيارُ إحساسٍ خفي،
تعبرُ المسافاتِ دونَ خُطى،
ولا تعرفُ طريقَ العودة،
لأنها تسكنُ في القلبِ الذي كُتِبَت له.
أحيانًا، أراكَ في صمتي…
وأسمعُ صوتكَ في هدوئي،
فأدركُ أن بيننا رسولًا لا يُرى،
يُبلّغُ الأشواقَ،
ويحملُ من الحنينِ ما لا يقدرُ عليه الكلام.
•تابع الفصل التالي "رواية مطلوبه للانتقام" اضغط على اسم الرواية