رواية ثنايا الروح "الريح والغيامة" الفصل الرابع والاربعون 44 - بقلم رانيا الخولي
ثنايا الروح
الرابع والأربعون
........................
كان الليل هادئاً في سرايا الرفاعي والجميع يغط في نوم عميق
لكن فى غرفة مالك وروح كان الهدوء مختلفاً كان هدوءاً دافئاً مشبعاً بالحب والمصالحة.
كانت روح نائمة بعمق في حضن مالك ويدها على بطنها المنتفخ قليلاً كأنها تحمي كنزها الثمين حتى في أحلامها
لكن هذا السلام تمزق فجأة.
فتحت روح عينيها على ألم حاد غادر بدأ في أسفل ظهرها ثم زحف ببطء ليلتف حول بطنها كحزام من نار.
حبست أنفاسها وحاولت تغيير وضعية نومها على أمل أن يكون مجرد تقلص عابر، أغمضت عينيها بقوة وهي تتمتم في سرها "هيروح دلوج هيروح"
لكن الألم لم يذهب بل عاد مرة أخرى أقوى وأكثر قسوة، شعرت ببرودة تسري في أطرافها رغم حرارة جسدها حاولت أن تتنفس بهدوء لكن الألم كان يخطف أنفاسها.
لم تعد قادرة على التحمل هذا ليس ألماً عادياً.
تحركت بضعف ووضعت يدها المرتجفة على كتف مالك الذي كان يغط في نوم عميق بجانبها
_ مالك.
لم يستيقظ كان نومه عميقاً بعد ليالي من القلق والأرق، هزته بقوة أكبر وصوتها خرج متقطعاً ومبحوحاً من الألم
_ مالك اصحى.
شعر مالك بالهزة وفتح عينيه ببطء ولا يزال في حالة ما بين النوم واليقظة.
_ همم فيه إيه يا حبيبتي.
لكنه استيقظ تماماً عندما رأى وجهها في ضوء القمر الخافت المتسلل من النافذة، كان وجهها شاحباً ومتغضناً من الألم وعيناها مليئتان بالدموع والخوف.
_ روح مالك فيه إيه
اعتدل في جلسته بسرعة البرق والقلق ينهش قلبه.
_ بطني وضهري مش جادرة.
قالتها وهي تتلوى من موجة ألم جديدة ضربتها بقسوة
_ نادي... ناديلي أمي بسرعة.
لم يسأل أي سؤال آخر قفز من السرير كالملسوع وبدون حتى أن يفكر في ارتداء أي شيء فوق بنطال نومه انطلق خارج الغرفة حافي القدمين وقلبه يدق في حلقه بعنف.
ركض في الممر المظلم وفتح باب غرفة والدته بقوة دون أن يطرق
_ أمى أمى اصحي الله يرضى عليك.
انتفضت ورد من نومها مذعورة على صوته.
_ مالك فيه إيه يا ولدى؟
_ روح روح تعبانة جوي.
لم تحتاج ورد لأكثر من ذلك، نهض سالم بدوره
_في ايه يا مالك.
ردت ورد بسرعة
_روح شكلها بتولد، جهز العربية لحد ما انادي ليل بسرعة
دخلوا جميعاً إلى الغرفة ليجدوا روح تبكي بصمت وهي متمسكة ببطنها
اقتربت منها ليل بسرعة وسألتها بجلج
_مالك يا روح...
تمتمت روح من بين بكاءها
_ألم شديد جوي مش جادرة اتحمله..
قالت ورد بتعاطف
_ اهدي يا روح يا حبيبتي خدي نفس واهدي.... الألم بييجي ويروح؟
أومأت روح برأسها بصعوبة.
كان مالك يقف على الجانب الآخر يشعر بعجز تام يرى زوجته تتألم أمامه ولا يستطيع أن يفعل شيئاً، كان وجهه شاحباً وعيناه زائغتين ويداه ترتجفان
_ هنعمل إيه نوديها المستشفى؟
قالت ورد وهي تربت على كتف مالك في محاولة لتهدئته
_ اهدى يا مالك لسة بدري متجلجش.
قالت ليل والجلج الذي كان واضحاً في عينيها
_ مش هنستنى لازم نروح المستشفى دلوج ورد ساعديني ألبسها حاچة تجيله عليها من البرد وأنت يا مالك غير هدومك بسرعة وشغل العربية.
تحرك الجميع ورد تساعد روح على ارتداء عباءة واسعة وليل تشعر بصعوبة في التحكم باعصابها من شدة خوفها على طفلتها، ومالك يرتدي ملابسه بسرعة جنونية ويداه لا تكادان تطاوعانه.
كان يقف هناك الرجل القوي المهندس الذكي الذي لا يهزه شيء، لكنه الآن مجرد زوج خائف مرعوب من فكرة أن يفقد أغلى ما في حياته، نظرت إليه ورد بحنان أموي.
_ متخافش يا ولدى إجمد إكده إن شاء الله خير روح جوية وهتجوم بالسلامة.
لكن كلماتها لم تستطع أن تزيل الرعب من عينيه، لقد حارب العالم كله من أجلها والآن عدوه هو ألم غامض لا يراه ولا يعرف كيف يحاربه، وكل ما يستطيع فعله هو أن يكون بجانبها ويدعو من كل قلبه أن تمر هذه الليلة بسلام.
❈-❈-❈
في هدوء الفجر حيث كان الضوء الرمادي الخافت يتسلل عبر ستائر الشرفة، اهتز الهاتف على المنضدة بجانب السرير برنين متواصل ومكتوم
فتحت نغم عينيها بنعاس وشعرت بجسدها دافئاً ومسترخياً.
التفتت لتجد جاسر نائماً بعمق بجانبها وجهه هادئ ومطمئن وذراعه ممتدة برفق بالقرب منها، كأنه حتى في نومه يحاول حمايتها.
مدت يدها بحذر وأمسكت بالهاتف، فرأت اسم "مالك" يضيء الشاشة. انقبض قلبها على الفور بقلق حاد
مالك لا يتصل في مثل هذا الوقت إلا لسبب طارئ
نظرت إلى جاسر النائم ولم ترد أن يوقظه رنين الهاتف أو صوتها القلق بحركة بطيئة وحذرة أزاحت الغطاء الثقيل، ونهضت من السرير ثم خرجت من الغرفة على أطراف أصابعها وأغلقت الباب خلفها بهدوء تام.
وقفت في الصالة الفسيحة التي كانت غارقة في الظلال وأجابت بصوتٍ يملؤه القلق والهمس
_ألو... مالك؟ خير؟ فيه حاچة؟
جاءها صوته من الطرف الآخر متعباً لكنه يحمل نبرة من الفرح الخفيض.
_متخافيش يا نغم خير، روح ولدت من ساعة وچابت بنوتة زي الجمر. وهي... هي عايزة تشوفك.
في لحظة تبدد كل القلق وحلت محله موجة عارمة من السعادة النقية التي جعلتها تشهق بفرحة.
شعرت بالدموع تتجمع في عينيها دموع فرح خالصة.
_بجد؟! الحمد لله! الحمد لله وهي كيفها؟ زينة؟ طمني.
_كويسين الحمد لله هي في المستشفى دلوجت، بس هتخرچ اخر النهاردة إن شاء الله.
_أنا چاية حالاً مسافة السكة وهكون عندك متتحركوش من غيري.
أنهت المكالمة وظلت واقفة في مكانها للحظات تتنفس بعمق، تحاول استيعاب فرحتها.
لقد انجبت شقيقتها روحها
شعرت بابتسامة واسعة وصادقة ترتسم على وجهها رغماً عنها.
لكن وسط هذه السعادة الطاغية، تسلل إلى قلبها شعور آخر... شعور دافئ وحالم حنين غريب لم تعرفه من قبل.
وضعت يدها على بطنها بشكل لا إرادي وبدأت تتخيل كيف سيكون شعورها حين تحمل طفلاً من جاسر؟ قطعة صغيرة تجمع بين ملامحها وملامحه، بين عنادها وقوته بين عينيها وعينيه ترى كيف ستكون فرحة جاسر حينها؟ هل ستلمع عيناه بنفس العشق الذي تراه فيهما الآن، أم أكثر؟ هل سيحمل طفله بنفس الحنان الذي يحيطها به، أم أن قلبه سيتسع ليصبح أباً حنوناً بشكل لم يتخيله أحد؟ لقد أصبح هذا الحلم فجأة هو أمنيتها الأغلى، هدفها القادم في رحلتها معه.
فجأة شهقت بخفة حين شعرت بذراعين قويتين تحيطان بخصرها من الخلف وشعرت بأنفاسه الدافئة على عنقها تلتها قبلة رقيقة وعميقة جعلت رعشة لذيذة تسري في كل جسدها.
جاء صوته الأجش كهمس في أذنها يحمل عتاباً حنوناً
_إيه اللي جومك من چارى وسيباني لحالى؟ صحيت ملجتش ريحتك جلجت.
استدارت بين ذراعيه وابتسمت بحب وهي تنظر في عينيه التي كانت لا تزال تحمل آثار النوم، مما يجعله يبدو وسيماً بشكل خطير.
_صباح الخير لول.
ابتسم وقبلها قبلة صباحية سريعة لكنها عميقة.
_صباح النور على عيونك اللي مصحياني من أحلى نومة.
رفعت له الهاتف وقالت بفرحة لا تزال تملأ صوتها
_روح ولدت چابت بنوتة، وبجيت خالة.
اتسعت ابتسامته على الفور ورأى السعادة الصافية تشع من وجهها كله.
_ألف مبروك يا حبيبتي ألف مبروك يا خالة تتربى في عزهم.
ثم قال على الفور دون تردد وكأن سعادتها هي أولويته المطلقة
_لو عايزة تروحي لها دلوجت، يلا نلبس وأوصلك.
أومأت برأسها بحماس فتركها وتوجها ليغيرا ملابسهما بسرعة.
عندما نزلا إلى الطابق السفلي وجدا ونس قد استيقظت وبدأت في تجهيز الفطور مع سامية
_صباح الخير على فين بدري اكدة؟
قال جاسر وهو يقبل رأس والدته
_روح أخت نغم ولدت وهوديها تباركلها في المستشفى.
أطلقت ونس زغرودة خافتة من فرط سعادتها، واحتضنت نغم بحرارة.
_ألف مبروك يا نغم، مبروك ما چاهم بس استنوا لازم تفطروا لول.
حاول جاسر الاعتراض قائلاً إن نغم تريد الذهاب بسرعة لكن ونس أصرت بحزمها الحنون.
_مفيش خروج من البيت ده على لحم بطنكم خمس دجايج بس تفطروا فيهم وجاسر يشرب جهوته وتروحوا الفرحة مبتاچيش على چوع.
استجابا لإصرارها وجلسا لتناول فطور سريع.
وبعد وقت قصير نهض جاسر وهو يقول
هچهز العربية لحد ما تخلصي
نهضت نغم بدورها
_انا كمان خلصت.
وفي غضون نصف ساعة توقفت سيارة جاسر أمام المستشفى
قالت نغم وهي تفك حزام الأمان وقد عادت إليها بعض الرسمية
_مش هتدخل معايا؟
نظر إليها بهدوء وقرأ ما بين سطور طلبها.
_ده چَو عائلي كلهم هيكونوا هناك دي لحظة خاصة بيهم مش هيكون ليا مكان وسطهم خليكي براحتك معاهم.
حاولت إقناعه وفي صوتها رجاء
_بس أنت بجيت من العيلة أنت چوزي أكيد هيفرحوا لو دخلت.
هز رأسه برفض لطيف لكنه حازم وفي عينيه حكمة لم تكن تتوقعها.
_هي فرحتهم بس فرحتهم ببتهم اللي ولدت مش عايز وجودي يلفت الانتباه أو يغير طبيعة اللحظة أني عندي مشوار ضروري لازم أخلصه هعدي عليكي بالليل آخدك خدي وجتك واشبعي منهم ومن بنت أختك.
قبل جبينها قبلة طويلة ثم راقبها وهي تنزل من السيارة وتدخل المستشفى بخطوات سريعة وسعيدة، وشعر بأن قراره كان صائباً.
لقد تعلم أخيراً أن الحب ليس فقط في الامتلاك والوجود، بل أحياناً يكون في الانسحاب قليلاً لمنح من نحب المساحة التي يحتاجها ليكون سعيداً.
..........
كانت غرفة روح في المشفى تشع بالدفء والحياة.
كانت روح مستلقية على السرير ويبدو عليها الإرهاق الممزوج بسعادة لا توصف ومحاطة بكل من تحب.
كانت روح تمسك بيد نغم بحب
وكان مالك يقف بجانب السرير يحمل طفلته الصغيرة بين ذراعيه بحذر وحب كأنه يحمل العالم كله.
كان يتأمل ملامحها الصغيرة وعلى وجهه ابتسامة بلهاء لم تفارقه منذ ولادتها.
_ بصي يا نغم خدت نفس غمازات أمها.
كانت نغم تجلس على حافة السرير بجانب روح وتنظر إلى الطفلة بسعادة غامرة.
_ لأ دي واخدة منك أنت عينيك يا مالك ربنا يحميها.
ضحكت ورد التي كانت تقف بجانب مالك وقالت بمرح
_ سيبكوا من كل ده المهم إنها حلوة
ضحك الجميع في الغرفة وكان الجو مليئاً بخفة الدم والسعادة.
هذا هو بيت الرفاعي في أبهى صوره، عندما يجتمعون حول فرحة جديدة، وتذوب كل الخلافات في بحر من الحب.
دخل سند إلى الغرفة وهو يحمل صينية من القهوة ووزعها على الجميع ثم اقترب من المهد ونظر إلى الطفلة النائمة بسلام وهز رأسه بابتسامة ماكرة.
_ لأ أنا جلبي مش مطمن البنت دي شكلها هتتعب عدي ابني من دلوجت.
ضحك الجميع من تعليقه وسأله مالك وهو يرفع حاجبه بمرح
_ ليه بجا إن شاء الله؟
أشار سند إلى الطفلة النائمة وقال بجدية مصطنعة
_ يعني مش كفاية چمالها اللي هيطلع عينه ده، لأ وكمان چاية تتولد في عز الشتا، وجبل الفچر كمان دي بنت مزاجها صعب من اول يوم
الواد ابني هيشوف أيام عنب.
انفجرت نغم في الضحك وقالت
_ يا سلام! وأنت كنت عايزها تستأذن من سي عدي جبل ما تتولد ولا إيه؟
رد سند وهو يغمز لوعد الواقفة بجانبه
_ على الأجل كانت تختار وجت مناسب، مش وجت عز البرد والنوم.
هنا تدخل سالم بصوته الهادئ والحاسم، وهو ينظر إلى سند نظرة ذات معنى.
_ هو إحنا هنعيده من تاني؟ سيبوا العيال لحالها كل واحد بعد إكده يختار بنفسه اللي جلبه يرتاحله
كفاية اللي شفناه.
ساد الصمت للحظة، حيث فهم الجميع عمق كلمات سالم، ثم ابتسم الحاج وهدان وقال بصوتٍ جهوري يملؤه الفرح
_ سالم معاه حق زمن الجبر خلص زمنهم ده زمن الحب والاختيار المهم يكبروا ويبجوا سند لبعض زي ما أنتم طول عمركم سند لبعض.
اقترب مالك من روح وانحنى وقبل جبينها قبلة طويلة، ثم همس لها
_ مبروك يا حبيبتي جبتيلنا جمر ينور دنيتنا.
نظرت إليه روح بعينين تملؤهما الدموع والسعادة وقالت بصوتٍ خفيض
_ مبروك علينا يا مالك.
كانت لحظة عائلية مثالية ضحكات ومزاح وحكمة الكبار، وحب يملأ الأجواء.
كانت ولادة هذه الطفلة الصغيرة ليست مجرد إضافة جديدة للعائلة، بل كانت تتويجاً لعهد جديد من السلام والتفاهم وتأكيداً على أن جذور الحب التي زرعوها ستنمو وتزهر في الأجيال القادمة.
في المساء ووسط هذه الأجواء رن هاتف نغم نظرت إلى الشاشة وابتسمت.
_ ده جاسر.
ردت عليه بسرعة وصوتها يقطر سعادة.
_ أيوه يا حبيبي...
لاحظ مالك المكالمة وبعد أن أنهت نغم حديثها السريع، سألها وهو يهز طفلته برفق.
_ هو سيادة المستشار مجاش يبارك لعديله ليه؟ ولا هو مجاطعنا؟
ضحكت نغم.
_ لأ والله كان عنده مشوار مهم ولسه راچع البلد حالاً.
لم يقتنع مالك اقترب منها وفي حركة سريعة ومرحة أخذ الهاتف من يدها وأعاد الاتصال بجاسر.
_ أيوه يا جاسر بيه...
لأ أنا مالك...
بجولك إيه، اطلع بارك لى خيك ومرته وبنت أخوك، وبطل بخل العواطف اللي أنت فيه ده مستنينك.
أغلق الخط قبل أن يسمع الرد وغمز لنغم التي كانت تضحك على تصرفه.
بعد دقائق قليلة طرق الباب فسمحوا له پالدخول، انفتح الباب ودخل جاسر.
لكن هذا لم يكن جاسر الذي تعرفه نغم في عزلتهما.
لم يكن الرجل الذي تذوب عيناه حباً وشوقاً لها.
هذا كان "جاسر التهامي" المحامي الرجل الذي تكسو ملامحه القوة والشموخ والاعتزاز بالنفس.
كانت نظراته حادة وخطواته واثقة وهالته تفرض احتراماً فورياً.
اقترب من السرير ونظر إلى مالك وروح.
_ مبارك عليكم تتربى في عزكم.
رد مالك وروح بحفاوة.
_الله يبارك فيك عقبالكم.
أومأ لهم بابتسامة ثم أخرج من جيبة علبة مخملية وقدمها لروح
_دي هدية صغيرة لـ.....
قالت نغم
_نورين
حاول الابتسام فخرجت باهتة
اقتربت منه ورد التي كانت تنظر إليه بسعادة وحفاوة.
_ إزيك يا جاسر يا ابني.
مدت يدها لتسلم عليه فصافحها باحترام.
_ يوم فرح نغم مالحجتش أسلم عليك ولا أباركلك ألف مبروك يا حبيبي، خللي بالك من بنتنا.
تلك المرة ظهرت ابتسامته صافية على وجهه وهو ينظر لعمته بحنين
_ نغم في عنيا متجلجيش.
كان جاسر يراقبهم جميعاً يرى مالك وهو يناول الطفلة لروح بحنان، ويرى نغم وهي تمسك يد أختها، ويرى ورد وهي تربت على كتف مالك بفخر.
رأى ترابطاً عائلياً حقيقياً دافئاً، لم يره في بيته قط.
في بيته لم يكن هناك سوى الرسميات، والمصالح ومؤخراً نظرات الحقد والكراهية الصريحة في عيني عمه.
شعر للحظة أنه غريب أنه دخيل على هذا العالم الدافئ.
بعد أن تبادل بضع كلمات أخرى، اقترب من نغم.
_ يلا بينا؟
نظرت نغم لروح باحراج
_خليني مع روح شوية..
قالت ليل برفض
_لا يا نغم لازم تروحي مع جوزك.. متخافيش على روح كلنا معها واحتمال نروح كلنا دلوجت.
أومأت نغم برأسها عندما لاحظت نظرات جاسر الشاردة، وودعت الجميع
بحب أخذ جاسر يدها، واستأذنا وغادرا الغرفة.
بينما كانا يسيران في الممر شد على يدها بقوة كأنه يستمد منها الدفء الذي رآه في تلك الغرفة.
لقد أدرك في تلك اللحظة أن نغم لم تكن مجرد زوجة، بل كانت جسره إلى عالم آخر عالم لم يكن يعرف بوجوده، عالم مليء بالحب الحقيقي الذي لا تشوبه المصالح.
❈-❈-❈
كانت رحلة العودة إلى بيت الجبل مختلفة هذه المرة، لم تكن هناك أحاديث دافئة أو ضحكات خافتة، كان جاسر يقود السيارة في صمت تام وعيناه مثبتتان على الطريق أمامه لكن عقله كان يبحر في مكان آخر مكان مظلم وبعيد.
شعرت نغم بهذا الصمت الثقيل يضغط على صدرها حاولت كسره.
_ جاسر... مالك؟
لم يلتفت إليها بل أجاب بنبرة محايدة خالية من أي عاطفة.
_ مفيش مجهد شوية من الطريج.
ثم أضاف كأنه يلقي بمعلومة عابرة
_ هسافر القاهرة بكرة الصبح، عندي شغل ضروري.
سكتت نغم لقد عرفت هذه النبرة هذا هو "جاسر التهامي" الذي قابلته أول مرة، الرجل الذي يرتدي قناعاً من الجليد ليخفي عواصفه الداخلية تعلمت أنه عندما يكون بهذه الحالة، لا فائدة من الضغط عليه لكن صمته تزامن مع أفكارها التي بدأت تعصف بها، مما جعلها تشعر بالوحدة أكثر.
كانت في أمس الحاجة إليه الآن ليس جاسر القوي الصامت، بل جاسر حبيبها
منذ أن رأت "نورين" ابنة مالك الصغيرة والناعمة، استيقظ شيء بداخلها.
حنين جارف للأمومة وبدأ السؤال المرعب يطرق باب عقلها:
لماذا لم تحمل حتى الآن؟
هل المشكلة فيها؟
هل لن تستطيع أن تنجب له طفلاً؟ وإذا كان هذا صحيحاً... ماذا سيفعل جاسر؟ هل حبه لها سيكون كافياً؟ أم أنه في يوم من الأيام... سيتزوج عليها ليحقق حلم الأبوة؟
هزت رأسها بعنف طاردة هذه الأفكار السامة من رأسها لا، جاسر ليس كأي رجل آخر.
عندما وصلوا أخيراً إلى بيت الجبل أوقف جاسر السيارة، لكنه لم ينزل على الفور نظر باتجاه الإسطبل المظلم.
_ ادخلي أنتِ هطمن على بركان وأچيلك.
أومأت برأسها في صمت ونزلت من السيارة لم يكن يريد رؤية الحصان، بل كان يريد بضع دقائق أخرى من العزلة.
دخلت نغم إلى المنزل فوجدت حماتها ونس تنتظرها بابتسامة دافئة، لكن الابتسامة تلاشت فوراً ما إن رأت ملامح نغم الشاحبة وعينيها القلقتين.
_ نغم؟ مالك يا بنيتي؟ فيكى إيه عاد؟
لم تستطع نغم أن تخفي مخاوفها أكثر أمام هذه المرأة الحنونة التي أصبحت لها أماً ثانية انهار سد كتمانها.
جلست بجانبها وحكت لها عن كل شيء.
عن صمت جاسر وعن قلقها من تأخر الحمل، وعن خوفها من المستقبل.
احتضنتها ونس بحب أموي وربتت على ظهرها.
_ يا حبيبتي كل دي أوهام، الحمل ده رزج من حدا ربنا، بياچي في وجته ساواعى عتيأخرهبابه من غير أي سبب.
ده مش معناه إن فيكم حاچة وحشة لاسمح الله جاسر بيعشقك مستحيل يفكر في أي حاچة من اللي بتجوليها دي.
هو بس أكيد فيه حاچة شغلاه في الشغل، وأنتِ عارفاه لما بيكون اكده
.
هدأت كلمات ونس من روعها قليلاً.
جلستا تتحدثان حتى عاد جاسر حاول أن يرسم ابتسامة على وجهه، وجلس معهما لبعض الوقت ثم استأذنا وصعدا إلى غرفتهما.
ما إن أغلق باب الغرفة خلفهما حتى تغير كل شيء.
اقترب منها جاسر وفي حركة سريعة وقوية جذبها إليه فى حضن عنيف، كأنه يخشى أن تتبخر من بين يديه.
وبدون مقدمات دفن وجهه في عنقها يستنشق رائحتها بعمق كغريق يتعلق بقشة نجاة.
تفاجأت نغم من قوة احتضانه، لكنها لفت ذراعيها حوله تحاول أن تهدئه
ثم رفع وجهها وقبلها.
لم تكن قبلة حنونة كالتي اعتادتها كانت قبلة جائعة يائسة فيها حدة لم تحبها.
كانت قاسية ومتطلبة كأنه لا يقبلها بل يحاول أن يطبع ملكيته عليها، أن يؤكد لنفسه أنها هنا أنها حقيقية.
للحظة أرادت أن تصده أن تسأله عن سبب هذه القسوة المفاجئة.
لكنها رأت في عينيه ألماً عميقاً صراعاً لا تعرف عنه شيئاً.
فأدركت أن هذه ليست قسوة بل هي صرخة يأس صامتة.
فاستسلمت له وقررت أن تكون هي ملاذه حتى لو لم تفهم سبب عاصفته.
ومع مرور الوقت بدأت القسوة تخفت تدريجياً تحولت القبلات اليائسة إلى قبلات أكثر حناناً.
تحولت يداه التي كانت تمسك بها بقوة إلى لمسات رقيقة حائرة، تتفقد كل جزء من وجهها، عاد جاسر الذي تعرفه، الرجل الذي يغلف حبه لها بخوف من فقدانها.
لقد كانت ليلة غريبة بدأت بالصمت، ومرت بالخوف، وانتهت بعاطفة جياشة لكنها تركت في نفس نغم سؤالاً كبيراً:
ما هو السر المظلم الذي يحمله جاسر في قلبه ويجعله يتحول من عاشق حنون إلى رجل يائس على حافة الهاوية؟
❈-❈-❈
كانت نغم مستلقية على صدر جاسر، تستمع إلى دقات قلبه المنتظمة التي عادت إلى هدوئها بعد العاصفة
كان ذراعه يلتف حولها بقوة كأنه لا يزال يخشى أن يفقدها.
كان يجب أن تشعر بالأمان المطلق، لكن صورة واحدة ظلت تتكرر في ذهنها ترفض أن تتركها بسلام.
صورة مالك وهو يحمل ابنته "نورين".
تذكرت نظرته تلك النظرة المليئة بالفخر والحب الخالص الذي لا يمكن تزييفه.
تذكرت سعادته وهو يتأملها كأنها معجزته الخاصة هذه الصورة أشعلت في قلبها حنيناً مؤلماً، وأيقظت كل مخاوفها التي حاولت دفنها.
لم تستطع الصمت أكثر رفعت رأسها قليلاً، وسألته بصوت خافت كأنها تخشى سماع الإجابة.
_ جاسر...
عاد جاسر من شروده لأجلها
همس وهو يمرر يده على شعرها.
_ عيونه.
_ أنت... نفسك في طفل؟
تغيرت نبرة جاسر على الفور
انشغل بالحديث معها، كأنه يهرب من التفكير إلى هذا الأمر بالذات ولأول مرة منذ وقت طويل لم يلاحظ الحزن الخفي في صوتها، أو ربما تجاهله عمداً لانشغاله في أمر آخر
_ نفسي في طفل؟ يا نغم أنا نفسي في فريق كورة منيكى.
حاولت أن تبتسم لكن ابتسامتها لم تصل إلى عينيها.
_بجد؟
_ بجد والله، نفسي في أطفال كتير يملوا علينا البيت ده، ستة... سبعة... اللي يچيبه ربنا المهم يكونوا منك أنتِ شبهك اكده، عشان أعرف أعيش.
كانت كلماته تهدف إلى التعبير عن حبه لها، لكنها سقطت على قلبها كالحجارة
ستة أطفال وهو لا يعلم أنها حتى الآن لم تحمل في طفل واحد زاد قلقها أضعافاً مضاعفة شعرت ببرودة تسري في أوصالها.
تظاهر هو بالنعاس، وأعادها إلى حضنه وأغمض عينيه لكن النوم جافى عينيها تماماً ظلت مستيقظة طوال الليل والأفكار السوداء تدور في رأسها كدوامة لا نهاية لها.
عندما أذن الفجر تسللت من جانبه بهدوء توضأت وصلت ودعت ربها بقلب مثقل بالخوف.
بعد الصلاة لم تستطع العودة إلى الغرفة.
كانت تعلم أن ونس تستيقظ دائماً لصلاة الفجر وتظل مستيقظة بعدها.
توجهت إلى غرفتها ووجدتها كما توقعت، تجلس في الغرفة ومعها سبحتها ومصحفها ما إن رأت ونس وجه نغم الشاحب وعينيها المتورمتين، حتى أدركت أن ليلتها لم تكن هانئة.
_ نغم؟ منمتيش يا بنيتي؟
هزت نغم رأسها وجلست بجانبها، لم تعد قادرة على التحمل وحدها.
_أمي... أنا خايفة جوي.
سألتها ونس بقلق
_ خايفة من إيه يا بنيتي؟
_ جاسر... جاسر جالي انه نفسه في أطفال كتير وأنا... أنا لحد دلوجت محملتش، أنا خايفة يكون فيا حاچة تمنعني، خايفة مجدرش أچيبله الطفل اللي نفسه فيه.
ربتت ونس على يدها بحنان.
_ يا حبيبتي ما إحنا اتكلمنا في الموضوع ده وجولنا ده رزج.
_ خابرة والله بس أنا رايدة أطمن عايزة أجطع الشك باليقين، لازم أروح لدكتورة.
_ طيب وفيها إيه؟ خدي جاسر معاكي وروحوا اطمنوا سوا.
قاطعتها نغم بسرعة.
_ لأ... جاسر لأ.
نظرت إليها ونس باستغراب.
_ ليه يا بنيتي؟ ده جوزك.
_ مش عايزاه يعرف، يعني مش عايزاه يجلج معايا، ولو طلع فيا حاچة بچد... مش عايزة أشوف نظرة الخذلان في عينيه، هروح لوحدي لول.
فهمت ونس مخاوفها ورأت الإصرار في عينيها فكرت للحظة، ثم قالت بهدوء.
_ خلاص جاسر هيسافر القاهرة الصبح بعد ما يمشي نروح أنا وأنتِ عند زينة بنت عمه هي دكتورة شاطرة ومحدش هيعرف حاچة.
نطمن الأول وبعدين لكل حادث حديث.
شعرت نغم براحة طفيفة لم تعد وحدها في هذا القلق.
_ بجد يا امي؟ هتاچي معايا؟
_ طبعاً يا حبيبتي هو أنا عندي كام نغم؟
اتفقتا الاثنتان على الخطة ستنتظر نغم حتى يسافر جاسر، ثم ستواجه أكبر مخاوفها، على أمل أن تجد الطمأنينة التي تبحث عنها.
❈-❈-❈
بعد جلسة دافئة مع حماتها، صعدت نغم إلى جناحهما وقلبها يفيض بالسكينة.
كانت تتوقع أن تجد جاسر لا يزال نائماً، لكنها تفاجأت به واقفاً أمام المرآة الطويلة وقد ارتدى ملابسه بالكامل. كان يرتدي قميصاً رسمياً داكناً وبنطالاً، مظهره يوحي بأنه يستعد للخروج لموعد هام.
اقتربت منه بابتسامة هادئة، ووضعت يدها برفق على ظهره.
_صحيت ميتى يا حبيبي؟
لم يلتفت أمسك بفرشاة الشعر من على منضدة الزينة، وبدأ يمررها في شعره بحركة ميكانيكية خالية من أي مشاعر.
_لسة صاحي.
كانت إجابته مقتضبة حادة كشظية زجاج.
نبرة صوته كانت خالية من الدفء الذي اعتادت عليه، نبرة أعادتها بالذاكرة إلى أيام "جاسر" القديم، الرجل الذي كان يخفي كل شيء خلف جدار من الجليد.
اختفت ابتسامتها على الفور، وحل محلها جلج خفي.
اقتربت أكثر حتى وقفت بجانبه، تحاول أن تلتقط نظرة من عينيه في المرآة، لكنه كان يتجنب النظر إليها.
_جاسر... فيه حاچة؟
أنهى تسريح شعره ووضع الفرشاة مكانها بقوة طفيفة غير مقصودة لكنها أحدثت صوتاً خافت في صمت الغرفة.
ثم استدار ليواجهها، وحاول رسم ابتسامة على شفتيه لكنها لم تصل إلى عينيه.
كانت عيناه تحملان ظلاً غامضاً عمقاً مقلقاً لم تره فيهما منذ زمن.
_مفيش يا حبيبتي صباح الخير.
مد يده ومسح على خدها لكن لمسته كانت شاردة، كأنه يفعلها بحكم العادة لا بحكم الشوق.
_شوية شغل بس جضية جديمة ورجعت فتحت تاني. متجلجيش.
لم تكن كلماته مطمئنة على الإطلاق
"قضية قديمة"؟
أي قضية؟ هل لها علاقة بعائلتها؟ أم بعمه صخر؟ أم شيء آخر لا تعرف عنه شيئاً؟
حاولت أن تقرأ ما يدور في عقله، لكن وجهه كان قناعاً من الغموض المتقن.
لقد عاد ليبني الجدار بينهما، ليس جداراً من القسوة بل جداراً من الأسرار.
_شغل إيه اللي يخليك بالمنظر ده؟ شكلك كأنك شايل هم الدنيا كلايتها.
اقترب منها وقبل جبينها قبلة سريعة وباردة.
_جولتلك متجلجيش كل حاچة هتبجى زينة.
ثم التقط مفاتيحه وهاتفه من على المنضدة، واتجه نحو الباب.
_عندي مشوار ضروري احتمال أتأخر.
وقبل أن تتاح لها فرصة لسؤاله عن أي تفاصيل أخرى، كان قد خرج وأغلق الباب خلفه بهدوء.
وقفت نغم في منتصف الغرفة، تشعر ببرودة غريبة تتسلل إلى قلبها.
لم يكن هذا هو جاسر الذي نامت بجانبه الليلة الماضية لقد استيقظ رجل آخر رجل يحمل أسراراً ثقيلة، وعاد ليلعب لعبته القديمة في إخفاء أوراقه.
وشعرت بخوف لم تشعر به منذ زمن، خوف ليس منه بل خوف من المجهول الذي عاد ليطرق بابهما من جديد.
ما هي "القضية القديمة" التي يمكن أن تعيد الوحش النائم بداخل زوجها إلى الحياة مرة أخرى؟
ما إن انطلقت سيارة جاسر متجهة إلى القاهرة، حتى كانت نغم وونس تستعدان للخروج.
كان قلب نغم يخفق بعنف، ويداها باردتان كالثلج.
كل خطوة نحو السيارة كانت تزيد من توترها.
في الطريق لم تستطع نغم إخفاء قلقها.
_ أنا خايفة.
ربتت حنان على يدها بحنان أموي.
_ من إيه بس يا حبيبتي؟
_ من زينة، يعني... هي أخت شروق أكيد زعلانة عشان أختها، وممكن...
قاطعتها ونس بابتسامة مطمئنة.
_ زينة دي أنا اللي مربياها على يدي هي غير شروق وأمها خالص.
عاقلة ومحترمة وعمرها ما تدخل شغلها في مشاكل شخصية، دي دكتورة جبل ما تكون أي حاچة تانية اطمني خالص.
هدأت كلمات ونس من روعها قليلاً، لكن القلق ظل ينهش قلبها حتى وصلوا إلى عيادة الدكتورة زينة.
كانت عيادة أنيقة وهادئة مما أراح أعصاب نغم بعض الشيء.
استقبلتهم زينة بنفسها عند الباب بابتسامة مهنية وترحاب حار، خاصة عندما رأت ونس.
_ مرت عمي نورتي الدنيا.
عانقتها بحب واحترام ثم التفتت إلى نغم بابتسامة لطيفة.
_ أهلاً يا نغم اتفضلوا.
لم يكن في نظراتها أي أثر للحساسية أو العداء، كانت تتعامل معها كمريضة لا كزوجة الرجل الذي تزوج على أختها.
هذا الاحتراف خفف من توتر نغم كثيراً.
بعد أن جلسوا، نظرت زينة إلى نغم نظرة ودودة.
_ خير يا نغم؟ مرت عمي جالتلي إنك عايزة تطمني بس أنتم لسه عرسان جداد، ليه مستعچلة على الجلج ده كله؟
أجابت نغم بصوت خافت وهي تفرك يديها بتوتر.
_ مش استعجال والله يا دكتورة بس... عايزة أطمن بس مش أكتر.
أومأت زينة بتفهم.
_ ولا يهمك ده حجك طبعاً خلينا نعمل كام فحص وتحليل، ونجطع الشك باليقين.
قامت زينة بعملها بمنتهى الحرفية أجرت الفحوصات اللازمة، وطلبت التحاليل، وتعاملت مع نغم برقة وهدوء مما جعل نغم تشعر بالراحة والثقة.
بعد فترة من الانتظار عادت زينة وهي تحمل نتائج التحاليل والأشعة جلست خلف مكتبها، ووضعت الأوراق أمامها ساد صمت متوتر في الغرفة، ونغم وونس تراقبان تعابير وجهها باهتمام شديد تحاولان قراءة أي إشارة قبل أن تنطق.
❈-❈-❈
كان صخر يجلس خلف مكتبه محاطاً بهالة من الشر المعتاد، لم يكن يقرأ أوراقاً أو يراجع حسابات بل كان عقله يعمل كآلة تخطيط دقيقة، ينسج خيوط مؤامرة جديدة.
كان الهدوء الذي يسبق العاصفة وهو يستمتع بهذا الهدوء قبل أن يطلق العنان لدماره.
فجأة اخترق هذا الصمت رنين حاد لهاتفه نظر إلى الرقم غير المسجل بلامبالاة، ثم أجاب بصوته الأجش.
_أيوة.
صمت للحظات وهو يستمع للطرف الآخر ببطء
بدأت ملامحه تتغير، اختفت اللامبالاة وحل محلها تركيز حاد ثم انقبضت عضلات فكه، وظهر وميض خطير في عينيه.
_أنت متأكد من الكلام ده؟
استمع مرة أخرى وعيناه تضيقان كعيني صقر رأى فريسته.
_مين اللي خبرك؟... تمام... تمام... اسمعني زين.
انحنى بجسده إلى الأمام ووضع مرفقه على المكتب وخفض صوته إلى همس مميت، همس يحمل أمراً لا يقبل الجدال.
_يبجى مش لازمن يوصل فاهم؟ بأي تمن وعلى أي وضع، لازمن تمنعه إنه يوصل.
لو وصل... كل اللي خططناله هيروح على الفاضي اتصرف.
أغلق الخط بقوة وألقى الهاتف على المكتب.
ظل جامداً في مكانه لثواني وعقله يدور بسرعة ألف ميل في الساعة.
لقد حدث شيء لم يكن في الحسبان شيء يهدد بنسف كل خططه من أساسها.
في تلك اللحظة كانت شروق قد وصلت إلى باب مكتبه، وكانت على وشك أن تطرق الباب لتسأله عن شيء ما.
لكن يدها تجمدت في الهواء عندما سمعت نبرة والدها، ووصلت إلى مسامعها كلماته الأخيرة:
"مش لازمن يوصل... اتصرف."
لم تكن بحاجة لسماع المزيد لقد عرفت تلك النبرة جيداً.
إنها نبرة والدها عندما يقرر التخلص من عقبة ما
وفهمت على الفور أن هذه العقبة هي جاسر لا يوجد شخص آخر يمكن أن يثير كل هذا الخوف والغضب في نفس والدها.
تراجعت بهدوء وقلبها يدق بعنف، لم تعد تشعر بالغضب من جاسر بل شعرت بخوف حقيقي عليه.
مهما فعل بها مهما تجاهلها يظل ابن عمها الرجل الذي كبرت وهي تحلم به.
وفكرة أن والدها قد يؤذيه أثارت فيها رعباً لم تتوقعه.
عادت إلى غرفتها بسرعة وأغلقت الباب خلفها، أمسكت بهاتفها بأصابع مرتعشة وبحثت عن اسم "جاسر" وضغطت على زر الاتصال.
رن الهاتف مرة اثنتين ثلاث... لكنه لم يجب ذهب الاتصال إلى البريد الصوتي.
حاولت مرة أخرى وثالثة ورابعة
نفس النتيجة.
كان اليأس يتسلل إلى قلبها، ربما يكون في اجتماع أو ربما لا يريد الرد عليها.
نظرت من نافذتها وشعرت بأن الوقت يمر بسرعة وأن كل دقيقة تأخير قد تكون قاتلة لم يعد هناك وقت للانتظار.
بعد كل ما فعله والدها، وبعد أن يئست من أن يكون جاسر لها، لم يعد يهمها شيء سوى سلامته.
اتخذت قرارها في لحظة لن تسمح لوالدها بإيذاء جاسر حتى لو كان هذا يعني أنها ستخونه وتقف في وجهه لأول مرة في حياتها.
ألقت نظرة أخيرة على هاتفها الصامت ثم ارتدت عباءتها بسرعة وتسللت خارج غرفتها، متجهة نحو باب المنزل.
ستذهب إليه بنفسها ستحذره حتى لو كان هذا هو آخر شيء ستفعله.
❈-❈-❈
كان يجلس في سيارته المتجهة إلى القاهرة يراجع أوراق قضيته الهامة لكن عقله كان في مكان آخر تماماً، كان في بيت الجبل مع نغم، ظلت صورتها ليلة أمس عالقة في ذهنه عيناها القلقتان صمتها الممزوج بالحزن سؤالها الخافت عن الأطفال وكيف أنه في خضم انشغاله وهمومه لم يمنحها الطمأنينة التي كانت تبحث عنها.
حتى لهجته معها في الصباح الذي حاول اخفاءها لكنه فشل وأخافها منه.
شعر بوخزة حادة من تأنيب الضمير
كيف انشغل عنها إلى هذا الحد كيف لم يلاحظ أن هناك شيئاً عميقاً يؤرقها، لقد وعد نفسه أن يكون ملاذها وأمانها وها هو يتركها وحدها مع مخاوفها ويسافر.
في منتصف الطريق اتخذ قراره هذا الاجتماع هذه القضية كل شيء يمكن أن ينتظر لا شيء أهم من نغم.
رن هاتفه فنظر به ليجدها شروق.
لم يعيرها انتباه
رن هاتفه مرة أخرى وكان مساعده على الطرف الآخر
_ جاسر بيه، الجلسة اتأجلت للأسبوع الجاي القاضي عنده ظرف طارئ.
كانت هذه هي الإشارة التي كان ينتظرها لم تكن مصادفة
_ تمام الغي كل مواعيد النهاردة وبكرة أنا راجع البلد.
أدار السيارة وعاد أدراجه بنفس السرعة التي انطلق بها وقلبه يخفق بشعور غريب، مزيج من القلق واللهفة كان عليه أن يصل إليها أن يعرف ما الذي يخفيه قلبها أن يطمئنها ويمحو كل تلك المخاوف من عينيها
وأن يؤجل مشواره الهام إلى الغد.
وصل إلى بيت الجبل في وقت أسرع مما توقعه أي شخص، كان البيت هادئاً بشكل مريب لا صوت لنغم ولا لونس.
وجد "سامية" في المطبخ وما إن رأته حتى تجمدت في مكانها وارتبكت بشكل واضح.
_ جاسر بيه، أنت رچعت ميتى؟
نظر إليها جاسر بنظرة حادة وقد شعر على الفور أن هناك شيئاً خاطئاً
_ فين نغم وفين أمي؟
تلعثمت "سامية" وحاولت اختلاق كذبة
_ هما هما راحوا مشوار عند...
لم يمهلها جاسر فرصة لتكمل، اقترب منها خطوة وبنبرة صوت باردة وحاسمة جعلتها ترتعد قال
_ سامية..
ارتجفت العاملة من نبرته
_ نعم يا بيه.
غمغم من بين أسنانه
_ أنا شكلي هادي؟
_ لأ يا بيه.
_ طيب كويس عشان مش عايز أزعج اكتر من إكدة انطوجي وجولي راحوا فين.
انهارت مقاومة سامية تحت نظرته المخيفة وقالت بصوت مرتعش
_ راحوا راحوا عند الدكتورة زينة في العيادة
سقطت الكلمات على مسامع جاسر كالصاعقة... زينة.... العيادة
شعر بتوقف قلبه عن النبض وسألها بلهفة
_ليه؟ في حاچة حوصلت؟
ازدردت لعبها بوجل
_لأ ه مفيش بس سمعت ست نغم بتجول رايحة عند زينة وخلاص، بس كانت كويسة.
ربط الخيوط في لحظة واحدة، قلقها ليلة أمس، سؤالها عن الأطفال ذهابها إلى طبيبة نساء في الخفاء ومع والدته لقد كذبت عليه، لقد أخفت عنه أمراً جللاً واستغلت سفره لتذهب من وراء ظهره.
لم يشعر بالغضب بل شعر بشيء أسوأ شعر بالخيانة، شعر بأنها لا تثق به وأنها تتعامل معه كغريب، تخفي عنه أسرارها ومخاوفها هذا الجرح كان أعمق من أي شيء آخر.
لم ينطق بكلمة أخرى استدار وخرج من المنزل بنفس السرعة التي دخل بها، ركب سيارته وانطلق بها كالسهم نحو عيادة زينة وفي عينيه عاصفة هوجاء وقلبه قد تحول إلى قطعة من الجليد، مستعداً لمواجهة لم يتخيل يوماً أنها ستحدث.
❈-❈-❈
نظرت زينة في الأوراق بتركيز، ثم رفعت رأسها ببطء وعلى وجهها تعابير غامضة لم تستطع نغم تفسيرها. فتحت فمها لتبدأ الحديث...
وفجأة، انفتح باب العيادة بقوة، دون طرق أو استئذان.
انتفضت النساء الثلاث على أصواتهن، والتفتن نحو الباب في حالة من الصدمة.
كان يقف هناك.
جاسر.
لم يكن جاسر الحنون ولا العاشق ولا حتى المحامي القوي، كان شيئاً آخر.
كانت ملامحه جامدة كالصخر، وعيناه تقدحان بنار باردة نظرة لم ترها نغم في عينيه منذ عودتها إليه كانت نظرة رجل اكتشف خيانة لا تغتفر.
تجمد الدم في عروق نغم
كيف؟ ماذا يفعل هنا؟ ألم يسافر إلى القاهرة؟
نظر جاسر إليهن جميعاً بنظرة واحدة فاحصة استقرت أخيراً على نغم.
لم ينطق بكلمة، لكن صمته كان أعلى من أي صراخ، وملامحه كانت تبشر بعاصفة لا قبل لأحد بها.
❈-❈-❈
•تابع الفصل التالي "رواية ثنايا الروح" الريح والغيامة" اضغط على اسم الرواية