رواية ثنايا الروح "الريح والغيامة" الفصل الثالث والاربعون 43 - بقلم رانيا الخولي
الثالث والاربعون
.......................
كانت قاعة الامتحان أشبه بساحة معركة صامتة بالنسبة لصبر، كانت الحرب داخلية حرب ضروس بين عقلها الذي يحاول استدعاء المعلومات، وجسدها الذي بدأ يتمرد عليها بعنف
بدأت بآلام خفيفة في الظهر، تجاهلتها بعناد معتبرة إياها مجرد إرهاق طبيعي كما يحدث كل مرة لكن مع مرور الوقت، تحولت الآلام إلى طعنات حادة كسكاكين ملتهبة تغرس في أسفل ظهرها وتلتف حول بطنها.
عضت على شفتها السفلى بقوة حتى شعرت بطعم الدم المعدني في فمها
كانت يداها ترتعشان وهي تمسك بالقلم، وكلمات الأسئلة بدأت ترقص أمام عينيها وتفقد معناها.
لم يعد همها الإجابة بشكل مثالي بل مجرد كتابة أي شيء، أي شيء يثبت أنها أكملت المهمة أنها لم تخذل ثقة أكمل.
كانت كل دقيقة تمر بمثابة دهر من العذاب، وكل نفس تأخذه كان يخرج معه أنين مكتوم.
في الخارج كان أكمل أكثر من مجرد زوج ينتظر.
كان حارساً سجيناً لقلقه، كان يسير ذهاباً وإياباً في الردهة وعيناه مثبتتان على باب القاعة المغلق، كأنه يستطيع اختراقه بقوة نظراته.
كلما طال الوقت زاد شعوره بأن هناك خطباً ما، كان حدسه الذي تدرب لسنوات على الوثوق به في قاعات المحاكم يصرخ بأن هناك خطراً وشيكاً.
أخيراً انفتح الباب رأى الطلاب يخرجون لكن عينيه كانتا تبحثان عنها هي فقط
ثم رآها كانت تسير ببطء شديد تستند على الحائط ووجهها شاحب بلون الموت ومغطى بطبقة لامعة من العرق البارد.
في تلك اللحظة توقف العالم بالنسبة لأكمل انطلق نحوها كالسهم، ولم يكد يصل إليها حتى رأى ركبتيها تخونها وجسدها ينهار التقطها بين ذراعيه قبل أن ترتطم بالأرض وشعر بجسدها يرتجف بلا توقف.
_ صبر ردي عليا! مالك؟!
صرخ باسمها وصوته يرتجف بهلع لم يعرفه في حياته.
لم تستطع الرد كل ما استطاعت فعله هو التشبث بياقة قميصه بأصابع متشنجة بينما انطلقت صرخة ألم حادة ومكتومة من بين شفتيها صرخة هزت كيانه وصوت متهدج
_الحقني يا أكمل.....
لم يعد هناك وقت للتفكير حملها بين ذراعيه وشعر بخفة وزنها المقلقة وركض بها لم ير أحداً في طريقه، لم يسمع دهشة الطلاب كل حواسه كانت مركزة على هذا الجسد المتألم بين يديه وضعها برفق في مقعد السيارة وانطلق كالصاروخ، بيد واحدة على عجلة القيادة والأخرى يمسك بها هاتفه ويتصل بوالدته والدكتور مجدي في آن واحد، وصوته المذعور يخبرهما بما حدث.
_صبر تعبانة اوي شكلها المرة ولادة.
رد الدكتور مجدي بقلق
_طيب اسبقني على المستشفي وانا جيلكم حالا.
أغلق واتصل على والدته ليخبرها
قالت نسرين بلهفة
_اطمن يا حبيبي ان شاء الله هتقوم بالسلامة، انا وباباك جايين حالا.
اغلق أكمل الهاتف والقاه أمامه ثم نظر لصبر الذي كانت تضع يدها على بطنها وتكتم ألمها بشكل أرهق قلبه.
_معلش يا حبيبتي اتحملي، دقيقتين بالظبط وهنكون في المستشفى.
المسافة كانت قريبة لكنه شعر بها أبعد ما يكون.
كان يمسك يدها لا ليشعرها بالأمان بل ليستمد منها الامان الذي طغى عليه الخوف.
المستشفى كان دوامة من الفوضى المنظمة ما إن وصل، حتى كانت والدته وفريق من الممرضين في انتظاره بالنقالة وبعد دقائق بدت كأنها قرون في غرفة الطوارئ، نظر له الدكتور مجدي بوجه لا يبشر بالخير.
_للأسف مينفعش نستنى لحظة واحدة يا أكمل، ده تسمم حمل الوضع خطر عليها وعلى الجنين لازم تدخل عمليات فوراً.
شعر أكمل بأن الأرض قد انشقت وابتلعته وكيل النيابة القوي الذي يواجه عتاة المجرمين ببرود، شعر بأنه طفل ضائع نظر إلى صبر التي كانت تتلوى من الألم على السرير، وتشبثت بيده كأنها طوق نجاتها الأخير.
_ أكمل...
همست بصوت متقطع، وبالكاد يُسمع.
_ لو... لو جرالي حاجة... ابننا... أمانة في رقبتك.
شعر بسكين بارد يغرس في قلبه حتى مقبضه.
انحنى عليها وقبل جبينها المبلل بالعرق محاولاً أن يزرع فيها قوة لا يملكها هو نفسه.
_هششش متقوليش كده! هتقومي بالسلامة وهتربي ابنك معايا أنتِ قوية، وهتخرجيلي أنتِ وهو بألف خير سامعاني؟
قالت برجاء يقطع نياط القلب، ودموعها تسيل على خديها.
_ متسبنيش...خليك معايا جوه.
كان هذا الطلب هو الجحيم بعينه فكرة أن يراها على طاولة العمليات، عاجزة بين أيدي الجراحين، كانت تفوق قدرته على التحمل لكنه نظر في عينيها المذعورتين وعرف أنه لا يستطيع أن يخذلها.
_ عمري ما هسيبك أنا معاكي لآخر لحظة.
بعد دقائق معدودة كان يقف بجانبها في غرفة العمليات البيضاء المعقمة وقد ارتدى ملابس معقمة فوق ملابسه أمسك بيدها الباردة بقوة، بينما كانت الأضواء الساطعة فوق رأسه، والأصوات المعدنية الحادة للأدوات، وصوت الأجهزة الإلكترونية، كلها تتجمع لتصنع جواً من الرعب النقي شعر بأنه ضعيف، عاجز، لا يملك من أمره شيئاً سوى أن يسلم روح حبيبته وطفله الذي لم يولد بعد إلى الله، ثم إلى أيدي هؤلاء الأطباء.
أغمض عينيه بقوة وبدأ يتمتم بآيات قرآنية ودعوات لم يكن يعرف حتى أنه يحفظها.
كانت كل ثانية تمر كأنها عام من العذاب، الوقت تجمد ولم يعد يسمع شيئاً سوى صوت دقات قلبه التي كانت تقرع في أذنيه كطبول الحرب.
كانت نائمة مستسلمة وتركته هو في ذلك العذاب الذي لا يرحم.
كان الطبيب يشعر به وبحالته فكان يطمئنه باستمرار
وفجأة في خضم هذا الصمت المشحون بالتوتر انطلق صوت صوت بكاء حاد قوي، مليء بالحياة والغضب والإصرار.
فتح أكمل عينيه على الفور كأن صعقة كهربائية قد أصابته لقد كان صوت ابنه.
في تلك اللحظة تبدد كل الخوف والرعب والقلق، وحلت محله موجة عارمة جارفة من الفرح النقي الذي أغرق روحه وجعله يترنح، رأى الممرضة وهي تحمل كائناً صغيراً يلوح بقبضتيه الصغيرتين في الهواء، ويصرخ معلناً وجوده للعالم.
وقبل أن يأخذوه إلى الحضانة، اقتربت الممرضة منه بابتسامة.
_ مبروك يا سيادة الوكيل ولد زي القمر.
تردد أكمل للحظة ثم مد يديه المرتجفتين وحمله.
لم يصدق نفسه كان ينظر إلى وجه ابنه الصغير، إلى شعره الأسود الكثيف إلى أصابعه الدقيقة التي تتحرك بعشوائية إلى فمه المفتوح وهو يبكي شعر بحب فوري، ساحق، حب لم يكن يعرف بوجوده نسي كل شيء نسي ألمه وخوفه وغرق في ملامح هذا الصغير الذي هو قطعة منه ومن حبيبته همس في أذنه:
"أهلاً بك في الدنيا يا بطل"
ثم أذن له بصوت خاشع..
لكن هذه اللحظة السماوية لم تدم طويلاً.
قاطعه صوت الدكتور مجدي الجاد وهو يوجه حديثه للممرضات
_ جهزوها فوراً للنقل على العناية المركزة.
انتفض أكمل وعاد قلبه ليسقط من السماء السابعة إلى أعمق حفرة في الأرض.
أعاد الطفل للممرضة بحركة آلية، واقترب من الطبيب بسرعة، وصوته عاد ليرتجف من جديد.
_ عناية مركزة؟! ليه؟! في حاجة؟!
وضع الدكتور يده على كتف أكمل ليطمئنه محاولاً أن يكون حازماً وهادئاً.
_ اهدى يا أكمل واسمعني العملية نجحت وابنك بخير، لكن صبر نزفت شوية والضغط لسه مش مستقر ده إجراء احترازي ضروري هنحطها تحت الملاحظة الدقيقة والمستمرة لمدة 24 ساعة عشان نضمن إن كل وظائفها الحيوية رجعت لطبيعتها ده أفضل وأأمن ليها.
تنفس أكمل الصعداء لكنه كان نفساً ناقصاً، لم يملأ رئتيه بالكامل.
بذرة القلق لم تذهب بل نمت لتصبح شجرة مرعبة لقد خرج ابنه إلى النور، لكن حبيبته والدة ابنه لا تزال تقاتل في معركة أخرى خلف جدار زجاجي.
وقف هناك في منتصف الردهة ممزقاً بين فرحته الأبوية التي لم تكتمل، ورعبه الشديد على روح حياته التي ترقد فاقدة للوعي معلقة بين الحياة والموت.
❈-❈-❈
كانت أشعة الشمس الذهبية تودع الأفق، وتلقي بظلال طويلة دافئة على الطريق الصحراوي المؤدي إلى البلدة.
داخل السيارة كان الصمت مريحاً، لا يقطعه سوى صوت المحرك الهادئ وموسيقى كلاسيكية ناعمة تنبعث من الجهاز.
ألقت نغم رأسها على مسند المقعد وأطلقت تنهيدة عميقة، تنهيدة تحمل في طياتها كل إرهاق الشهور الماضية، وكل راحة الانتهاء من هذا الهم الكبير لقد انتهت الامتحانات أخيراً.
التفت إليها جاسر وابتسامة حنونة تزين شفتيه، مد يده وأمسك بيدها، وشابك أصابعه بأصابعها.
_ مبروك يا استاذة نغم.
ضحكت نغم ضحكة صافية وشعرت بأن جبلاً قد أزيح عن صدرها.
_ الله يبارك فيك مش مصدجة إني خلصت الترم الأول.
_ أنا اللي مش مصدج إنك جدرتي تعمليها في وسط كل اللي حصل ده، بجد اثبتي انك جدها.
قالها بصدق وضغط على يدها برفق.
ساد الصمت مرة أخرى، لكنه كان صمتاً مليئاً بالترقب شعرت نغم بأن هناك شيئاً مهماً على وشك أن يقال.
وبالفعل بعد لحظات تحدث جاسر بصوت هادئ وجاد دون أن يرفع عينيه عن الطريق أمامه.
_ دلوجت... بما إنك جربتي تخلصي لازم نجرر
قطبت نغم حاجبيها باستفهام.
_ نجرر إيه؟
_ نجرر حياتنا اللي چاية هتكون فين.
التفت إليها للحظة وعاد لينظر إلى الطريق.
_ أنا شغلي كله في القاهرة، وشقتي هناك چاهزة زي ما انتِ خابرة ومستنيانا بس... أنا عارف إن أهلك هنا وحياتك كلها كانت هنا عشان اكده، الجرار ده بتاعك أنتِ لوحدك.
نظر إليها مرة أخرى وعيناه تحملان كل الجدية.
_ تحبي نرچع نعيش في القاهرة، ونبجى نزور البلد في الإچازات؟ ولا تحبي نخلي حياتنا الأساسية هنا في بيت الجبل وأنا أبجى أسافر كل فترة عشان أتابع الشغل؟
فاجأها سؤاله لم تكن تتوقع أنه سيمنحها حق الاختيار الكامل في قرار مصيري كهذا لقد وضع حياته ومستقبله بين يديها.
صمتت للحظات طويلة تفكر صورة حياتها في القاهرة مرت أمام عينيها مدينة جميلة، حياة سريعة شقة فاخرة لكنها ستكون بعيدة بعيدة عن ضحكات روح، وعن حكمة والدتها وعن دفء عائلتها التي استعادتها بصعوبة.
ثم فكرت في والدته ونس المرأة الهادئة التي احتوتها بحب فاق حب الأم أحياناً، المرأة التي وقفت بجانبها في أصعب الظروف والتي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من شعورها بالأمان، هل تستطيع أن تطلب منها أن تترك بيتها وذكرياتها وتأتي لتعيش معهما في القاهرة؟ الإجابة كانت "لا".
نظرت إليه، وعيناها تلمعان بقرار واضح.
_ هنا.
نظر إليها جاسر متفاجئاً بعض الشيء من سرعة وحسم إجابتها.
_ هنا؟ أنتِ متأكدة؟ القاهرة فيها كل حاچة، حياة مختلفة تماماً.
هزت رأسها بابتسامة واثقة.
_ أنا مش عايزة كل حاچة أنا عايزة "حاچاتي" أنا عايزة أصحى الصبح أشرب الجهوة مع امي ونس في المطبخ، عايزة لما أحس إني مخنوجة، أركب العربية نص ساعة وأكون في حضن أمي أو بهزر مع روح عايزة أحس إني لسه چنبهم.
ثم أصبحت نبرتها أكثر حناناً.
_ ومامتك... أنا اتعلجت بيها جوي يا جاسر مجدرش أطلب منها تسيب بيتها اللي عاشت فيه عمرها كله وتاچي معانا، مكانها هنا وأنا مكاني چنبها.
تأثر جاسر بشدة من كلماتها، ومن نضجها وتفكيرها في الجميع قبل نفسها أوقف السيارة على جانب الطريق الخالي وأطفأ المحرك ثم استدار ليواجهها بالكامل.
_ أنتِ خابرة ده معناه إيه؟ معناه إني هضطر أسافر كتير، وممكن أغيب عنك يومين تلاتة كل أسبوع.
تعلقت بذراعه وأسندت رأسها عليه.
_ وأنا هستناك كل مرة وهكون خابرة إنك بتعمل اكده عشاننا وهكون مطمنة إني مش لوحدي، إني وسط أهلي وأهلك.
لم يعد يستطع التحمل أوقف السيارة جانبا واقترب منها سحبًا إياها إلى حضن دافئ وقوي
وقبل جبينها بحب
_ كل يوم بتخليني أحبك أكتر كل يوم بكتشف فيكي حتة جديدة أچمل من اللي جبلها.
ابتعد قليلاً لينظر في عينيها.
_ أنا كنت مستعد أعيش معاكي في أي حتة تختاريها، حتى لو كانت في آخر الدنيا بس اختيارك ده... أثبتلي إنك مش بس مراتي وحبيبتي، أنتِ روحي وعجلي اللي بيفكر صح.
انحنى وقبلها قبلة طويلة عميقة، تحمل كل الامتنان والحب والفخر قبلة في هدوء الصحراء، تحت سماء بدأت تتلون بألوان الغروب.
شعر بصعوبة في الابتعاد عنها لكن كان عليه أن يبتعد فهما على الطريق
همس على شفتيها.
_ يبجى اتفجنا....بيتنا هيكون في الجبل وحياتنا هتكون هنا.
أومأت برأسها بسعادة وشعرت بسلام يغمر روحها لقد اختارت، ليس فقط مكاناً بل اختارت حياة.
حياة هادئة، دافئة، محاطة بكل من تحبهم ومع هذا الرجل الذي بجانبها كانت متأكدة أنها اختارت جنتها على الأرض.
❈-❈-❈
لم يكن استيقاظاً بل كان صعوداً مؤلماً من بئر سحيق من الظلام بدأت صبر تطفو ببطء نحو سطح الوعي مجذوبة بأصوات خافتة ومُنغّمة... صوت صفير منتظم لجهاز، وصوت آخر أقرب وأكثر دفئاً، صوت كان همساً ودعاءً في آن واحد.
فتحت عينيها ببطء شديد، وشعرت بثقل هائل يجثم على جفونها، كان الضوء خافتاً والرؤية مشوشة. استغرقت ثواني لتدرك أنها ليست في غرفتها، بل في مكان غريب أبيض ومعقم محاطة بأسلاك وأنابيب.
ثم قبل أن يستوعب عقلها ما يحدث ضربها الألم.
لم يكن ألماً عادياً كان موجة حارقة، وحشية، انطلقت من منتصف جسدها وانتشرت في كل خلية، شعرت كأن جسدها قد تم تمزيقه ثم إعادة خياطته بخيوط من نار انطلقت من حنجرتها شهقة حادة، وتجمعت الدموع الحارقة في عينيها قبل أن تسيل على صدغيها.
_أ..كـ..مل...
في لحظة، كان هو بجانبها.
كان أكمل جالساً على مقعد بجوار سريرها، لم يغمض له جفن طوال الليل كان وجهه شاحباً وعيناه محمرتين من قلة النوم والقلق، وذقنه تحمل ظلاً خفيفاً من اللحية.
ما إن سمع شهقتها ورأى جسدها يتلوى حتى انتفض واقفاً وأمسك بيدها برفق وحنان كأنه يخشى أن يكسرها.
_ صبر... حبيبتي... أنا هنا أنا جنبك.
قالها بصوت مكسور يرتجف من الألم الذي كان يراه يعتصرها كان كل أنين يصدر منها بمثابة سكين يغرس في قلبه هو.
نظرت إليه بعيون ضائعة، مليئة بالألم والارتباك.
_ آآه... أكمل... ألم...شديد
همست بصوت متقطع بالكاد يُسمع.
شعر بعجز ساحق عجز لم يشعر به في حياته
هو وكيل النيابة الذي يملك السلطة والقوة يقف الآن مكتوف الأيدي لا يستطيع فعل أي شيء ليخفف من عذاب حبيبته.
_ ششش... اهدي يا روحي ده طبيعي بعد العملية هينادوا الدكتور حالاً.
هيدوكي مسكن وكل حاجة هتبقى كويسة.
ضغط على زر استدعاء الممرضة بقوة، ثم عاد لينحني عليها ويمسح دموعها بإبهامه برفق شديد.
_ استحملي عشاني... عشان ابننا أنتِ قوية يا صبر أقوى واحدة أنا شوفتها في حياتي.
كانت كلماته محاولة يائسة لزرع القوة فيها، لكنه كان يشعر بأنه هو من ينهار رؤيتها بهذا الضعف، بهذا الألم، كانت تمزقه من الداخل، كان يفضل أن يتحمل هذا الألم ألف مرة على أن يراها تتألم أمامه لدقيقة واحدة.
حاولت أن تتحدث مرة أخرى، لكن الألم كان أقوى كل ما استطاعت فعله هو التشبث بيده بقوة، وكأنها تستمد منه القوة لتتنفس كانت عيناها تتوسل إليه، تطلب منه أن يوقف هذا العذاب
دخلت الممرضة بسرعة
_حمد لله على السلامة يا مدام صبر.
أومأت لها صبر ولم تستطع الرد عليها بدأت في تجهيز حقنة مسكن نظر إليها أكمل برجاء.
_ بسرعة أرجوكي هي بتتألم أوي.
أومأت الممرضة بتفهم وحقنت المسكن في المحلول المعلق.
_ دقايق يا فندم والمسكن هيبدأ يشتغل وهترتاح.
لكن هذه الدقائق بدت لأكمل كأنها دهر ظل واقفاً بجانبها ممسكاً بيدها، يهمس في أذنها بكلمات حب وتشجيع، ويقرأ عليها آيات قرآنية بصوت خافت.
كان يشعر بكل تشنج في جسدها، وكل شهقة ألم تخرج منها وكأنها تصيبه هو.
ببطء بدأ مفعول المسكن يسري
وبدأت عضلات جسدها ترتخي تدريجياً وهدأ تنفسها المتقطع، وبدأ الألم الحاد يتحول إلى وجع خافت ومحتمل.
أغمضت عينيها بإرهاق لكنها لم تترك يده.
_ ابننا...
همست بصوت متعب.
_ متقلقيش هو كويس؟
انحنى أكمل وقبل جبينها قبلة طويلة، وشعر براحة تغمره لأنها بدأت تسأل.
_ كويس زي القمر ومستنيكي تقومي بالسلامة عشان تشوفيه.
ابتسمت ابتسامة باهتة، بالكاد ظهرت على شفتيها.
_ عايزة أشوفه.
_ هتشوفيه أوعدك أول ما تخرجي من الاوضة دي هجيبهولك بنفسي.
بس دلوقتي ارتاحي.
ازدردت جفاف حلقها بصعوبة
_خليك..... جانبي..... متسيبنيش...
_مش هسيبك لحظة واحدة.
ظل يمسح على شعرها بحنان حتى استسلمت للنوم مرة أخرى بفعل المسكن، نوماً هادئاً هذه المرة خالياً من الألم.
لكن أكمل ظل جالساً في مكانه ينظر إلى وجهها الشاحب وقلبه يعتصر
لقد مرت العاصفة الأولى لكنه كان يعلم أن الطريق للشفاء لا يزال طويلاً، وأقسم في تلك اللحظة أنه سيكون ظلها وسندها وممرضها حتى تعود إليه صبر التي يعرفها، قوية، وعنيدة، ومليئة بالحياة.
❈-❈-❈
كانت شمس الصباح قد بدأت ترسم خيوطها الذهبية على شرفة غرفة مالك وروح كانا يجلسان معاً، يحتسيان القهوة في صمت مريح يستمتعان بلحظات الهدوء قبل أن يبدأ صخب اليوم رن هاتف مالك فابتسم ما إن رأى اسم المتصل.
_ أكمل باشا... ألف ألف مبروك يا صاحبي يتربى في عزك يا رب
قالها مالك بصوت مليء بالفرح الصادق.
على الجانب الآخر، كان صوت أكمل يحمل مزيجاً من الإرهاق والسعادة.
_ الله يبارك فيك يا مالك عقبال ما تشوف اللي انا شايفه.
اقتربت روح من مالك بفضول وفرحة، فلف مالك ذراعه حول خصرها وقربها منه ثم طبع قبلة حنونة على جبينها وهو يكمل حديثه مع أكمل.
_ روح جنبي وعايزة تباركلك أنت وصبر.
_ طب ثانية واحدة...
نظر إلى صبر فوجدها تفتح عينيها دلالة على استيقاظها
مال على صبر وقال بحنان
_صبر... حبيبتي... مالك وروح على التليفون عايزين يباركولك
أومأت له وقد بدأت تسترد وعيها كاملاً
فأعطى أكمل الهاتف لها ومازال يبدو عليها الوهن الشديد رغم مرور يومين على الولادة أخذت الهاتف بيد مرتعشة، ووضعته على أذنها.
سمعت روح تقول بصوت عالي ومتحمس والفرحة تملأ نبرتها.
_ مبروك يا صبر ألف ألف مبروك يا حبيبتي حمدلله على سلامتك.
جاءها صوت صبر من الطرف الآخر، لكنه لم يكن كما توقعته كان صوتاً خافتاً ضعيفاً وبالكاد يُسمع، وكأنه قادم من بئر عميق.
_ الله... يبارك... فيكي... يا روح.
شعرت روح بقبضة باردة تعتصر قلبها اختفت حماستها فجأة، وحل محلها القلق.
_ مالك يا صبر؟ صوتك تعبان أوي أنتِ كويسة؟
_ الحمد... لله كويسة... بس... تعبانة شوية.
كانت كل كلمة تخرج منها بمجهود واضح، كأنها ترفع حجراً ثقيلاً.
أخذ أكمل الهاتف منها برفق عندما رأى الإرهاق على وجهها.
_ معلش يا روح هي لسه تعبانة شوية من العملية.
حاولت روح أن تخرج صوتها طبيعياً وتخفي ذلك الخوف الذي تمكن منها
_انا فاهمة حمد لله على سلامتها، وألف مبروك.
_الله يبارك فيكي وعقبالك، سلميلي على مالك.
_ حاضر... يوصل حمدلله على سلامتها مرة تانية، وخلي بالك منها.
قالتها روح، وصوتها أصبح أكثر جدية وقلقاً.
أغلقت الخط وظلت تنظر إلى الهاتف في يدها بشرود
اختفت ابتسامتها وحلت محلها ملامح القلق الواضح.
لاحظ مالك تغيرها المفاجئ وضع فنجانه وأمسك بيدها.
_ في إيه؟ مالك؟
نظرت إليه بعيون قلقة.
_ صوتها... صوتها تعبان جوي يا مالك، بتتكلم بالعافية أنا خايفة عليها شكلها مش كويس خالص.
تنهد مالك وسحبها لتجلس أقرب إليه، واحتضنها ليطمئنها.
_ اهدي يا حبيبتي ده طبيعي.
_ طبيعي كيف؟ هي صوتها بيجول إنها بتتألم.
_ ما هو ده اللي لازم تفهميه حالة صبر غير حالتك خالص، أنتِ ولادتك الدكتورة أكدت انها هتكون طبيعية وفي معادها ان شاء الله، إنما صبر حالتها كانت صعبة من الأول، والدكتور ولدها في الشهر الثامن عشان ينقذها هي والطفل عمليتها كانت طارئة وخطيرة طبيعي جداً إنها تكون تعبانة ومجهدة بالشكل ده.
جسمها لسه بيتعافى من صدمة كبيرة.
كانت كلمات مالك المنطقية والهادئة كبلسم لقلقها لم تفكر في الأمر من هذه الزاوية.
_ يعني... يعني هي هتبجى كويسة؟
_ هتبجى زي الفل إن شاء الله أكمل جنبها، وولدته دكتورة ومتابعة كل حاچة الموضوع محتاچ شوية وجت وصبر بس.
أومأت برأسها وشعرت ببعض الراحة لكن رغم تطمينات مالك، ظل صوت صبر الضعيف يرن في أذنيها وظلت بذرة القلق موجودة في قلبها تدعو في صمت أن تمر هذه الفترة الصعبة على خير وأن تستعيد صديقتها عافيتها بسرعة.
❈-❈-❈
كانت غرفة المستشفى قد تحولت إلى ملاذ صغير من الدفء والاهتمام لم يتركها أكمل لحظة واحدة، كان يجلس بجانبها يقرأ لها بصوت هادئ أو يمسح على شعرها أو يكتفي بالصمت مجرد وجوده كان كافياً ليمنحها شعوراً بالأمان.
كان قد تعلم كيف يحركها برفق شديد عند الحاجة وكيف يتوقع احتياجاتها قبل أن تنطق بها.
في وقت الغداء انفتح باب الغرفة بهدوء، ودخل حسين ونسرين يحملان أكياساً تفوح منها رائحة الطعام البيتي الشهي.
كانت ابتسامتهما دافئة وعيونهما تحمل كل الحب والاهتمام.
_ السلام عليكم يا أبطال.
قال حسين بصوت مرح وهو يضع الأكياس على الطاولة.
اقتربت نسرين من صبر وانحنت لتقبل جبينها بحنان.
_ عاملة إيه النهاردة يا حبيبتي؟ شكلك أحسن.
ابتسمت صبر ابتسامة باهتة.
_ الحمد لله يا ماما أحسن.
_ طب يلا عشان تاكلي أنا عملالك شوربة هتخليكي تبقي زي الحصان.
قالتها نسرين وهي تفتح الأوعية، وتسكب الشوربة الساخنة في طبق.
لكن ما إن حاول أكمل أن يساعد صبر على الاعتدال في جلستها، حتى تمسكت بالملاءة بأصابع متشنجة، وقالت بخوف
_ لأ... لأ بلاش أنا كويسة كده.
نظر إليها أكمل بحنان.
_ يا حبيبتي لازم تاكلي عشان تقدري تقومي.
قالت بصوت خافت وعيناها تترجى أن يتركها.
_ مش قادرة أتحرك كل حركة بتوجعني.
هنا تدخل أكمل بحزمه الممزوج بالحنان.
_ مفيش حاجة اسمها مش قادرة.
ثم نظر إلى والدته.
_ هاتي الطبق يا أمي.
انزلق أكمل برفق على السرير خلف صبر ثم رفعها بحركة بطيئة ومدروسة، كأنه يحمل أثمن جوهرة في العالم، حتى استند ظهرها بالكامل على صدره.
لف ذراعيه حولها كحصن ليصبح هو مسندها.
_ كده مرتاحة؟
همس في أذنها.
أومأت برأسها وقد شعرت بالأمان في حضنه.
أخذ أكمل طبق الشوربة من والدته، وبدأ يطعمها بنفسه ملعقة تلو الأخرى، بهدوء وصبر كان ينفخ في الملعقة قبل أن يقدمها لها، ويمسح شفتيها بمنديل برفق بعد كل ملعقة.
كان حسين ونسرين يراقبان المشهد بابتسامة متأثرة
كانا يريان ابنهما القوي، وقد تحول إلى زوج حنون يغمر زوجته بحب ورعاية لا حدود لهما.
بدأ حسين في الحديث ليخفف من الأجواء.
_ شوفتي الواد ابنك يا صبر؟ مش سايب الممرضات في حالهم كل شوية يصرخ عايز يرضع شكله طالع مزعج لأبوه.
ضحكت صبر ضحكة خفيفة لكنها كانت كافية لتضيء وجهها.
أكملت نسرين الحديث وهي تبتسم.
_ وصورة طبق الأصل من أكمل وهو صغير نفس الشعر الأسود، ونفس تقطيبة الحواجب لما بيعيط كنت لسه بوري حسين صور أكمل وهو بيبي كأنهم توأم.
شعرت صبر بدفء يسري في قلبها، كانت هذه التفاصيل الصغيرة عن ابنها الذي لم تره سوى بالصور هي التي تمنحها القوة.
_ بجد يا ماما؟
_ بجد يا قلب ماما وهتشوفيه بنفسك قريب أوي.
بس أنتِ شدي حيلك وكلي كويس عشان تقدري تشيليه وترضعيه.
استمروا في الحديث يصفون لها كل تفصيلة صغيرة عن طفلها وعن طفولة أكمل ويحكون لها مواقف مضحكة.
تحولت الغرفة من مكان للألم إلى جلسة عائلية دافئة مليئة بالضحكات الخافتة والذكريات الجميلة.
ولأول مرة منذ دخولها المستشفى شعرت صبر بأنها ليست مجرد مريضة، بل هي زوجة وأم، وابنة.
شعرت بأنها تنتمي إلى هذه العائلة الجميلة التي تحيطها بالحب من كل جانب وأدركت أن هذا الدفء، وهذا الحب هما أفضل علاج يمكن أن تحصل عليه.
❈-❈-❈
كان المطبخ في بيت الجبل قد تحول إلى ما يشبه ساحة معركة، الدقيق يغطي أجزاء من الطاولة، وقطرات من الشوكولاتة تزين خد نغم بينما كانت هي تقف في المنتصف بكامل تركيزها، وعيناها مثبتتان على شاشة هاتفها المثبت على حامل صغير.
كان صوت الشيف في الفيديو يتردد في أرجاء المطبخ: "...وبعدين بنضيف البيض واحدة واحدة مع الخفق المستمر على سرعة متوسطة..."
أوقفت نغم الفيديو وأعادت المقطع للمرة الخامسة.
كانت سامية وونس تجلسان على الطاولة الصغيرة في زاوية المطبخ تراقبان المشهد بابتسامات مكتومة، كأنهما تشاهدان فيلماً كوميدياً.
قالت سامية بحنان وهي ترى حيرة نغم
_ يا ست نغم، خليني أنا أعملها لك هتطلع زي ما الكتاب بيجول.
هزت نغم رأسها بإصرار وعناد لطيف دون أن ترفع عينيها عن وعاء العجين.
_ لأ يا سلمية لازم أعملها أنا بنفسي دي أول مرة أعمل لجاسر حاچة في عيد ميلاده وعايزاها تكون مفاچأة مني أنا.
ثم التفتت إليهما بنظرة متآمرة وخفضت صوتها كأنها تكشف عن سر خطير.
_ أوعوا حد فيكم يجوله أي حاچة! أنا عايزاه يتفاچئ بالليل.
أنا خططت لكل حاچة هنطفي النور أول ما يدخل وهنحط الشموع على التورتة...
كانت تتحدث بحماس طفولي ولم تنتبه للظل الذي كان يقف عند مدخل المطبخ يراقبها بابتسامة واسعة وعيون تلمع بالحب والمكر.
كان جاسر قد عاد مبكراً وقاده صوت الشيف إلى المطبخ وقف هناك لدقائق يستمتع بمنظر زوجته وهي غارقة في هذه الفوضى اللذيذة، ويستمع إلى خططها السرية شعر بقلبه يفيض حباً.
لم تكن مجرد تورتة، كانت دليلاً على حبها واهتمامها بالتفاصيل الصغيرة
قرر أن يلاعبها.
انسحب بهدوء تام كشبح دون أن يشعر به أحد وصعد إلى غرفته وكأنه لم ير شيئاً.
في المطبخ استمرت المعركة بعد معاناة طويلة مع العجين والخفق والخبز أخرجت نغم الكيكة من الفرن.
ساد صمت ترقب... ثم تحول إلى خيبة أمل.
كانت الكيكة... غريبة هابطة من المنتصف ومحروقة قليلاً من الأطراف وشكلها لا يمت بصلة للصورة المثالية على هاتف الشيف.
نظرت نغم إلى "إنجازها" الفني وشعرت بالإحباط يغمرها، لمعت الدموع في عينيها وقالت بصوت مخنوق
_ باظت... شكلها وحش جوي.
اقتربت منها ونس بسرعة وقالت بحنان.
_ وحشة إيه بس؟ دي أول مرة تعمليها وطبيعي متطلعش مظبوطة من أول مرة وبعدين المهم الطعم.
لكن نغم هزت رأسها بيأس.
_ لأ أنا كنت عايزاها تبجى حلوة من بره ومن جوه.
ابتسمت ونس ابتسامة مشجعة.
_ طب وإيه يعني؟ نرمي دي ونعمل واحدة تانية بس المرة دي أنا هعملها معاكي.
إيدي على إيدك وأنا هجولك على أسرار المهنة وأوعدك هتطلع أحلى تورتة شافها جاسر في حياته.
رفعت نغم رأسها ونظرت إلى حماتها بامتنان.
_ بچد؟
_ بچد يا جلبي يلا شدي حيلك لسه ورانا تزيين وحركات لازم نبهره.
مسحت نغم دموعها وعادت روح الحماس إليها من جديد لقد فشلت محاولتها الأولى لكن بوجود هذه العائلة الدافئة بجانبها، شعرت بأنها تستطيع أن تفعل أي شيء حتى لو كان صنع تورتة مثالية لرجل لا يزال يبتسم بمكر في الطابق العلوي، وهو ينتظر بفارغ الصبر "مفاجأته" التي لم تعد سرية على الإطلاق.
❈-❈-❈
كانت التورتة هذه المرة ناجحة وبطبقات متساوية، مغطاة بكريمة الشوكولاتة اللامعة ومزينة بحبات الفراولة الطازجة التي رتبتها نغم بعناية فائقة.
وقفت تتأملها بفخر وسعادة ولم تصدق أنها شاركت في صنع هذا الجمال.
اقتربت منها ونس وربتت على كتفها بحب.
_ شوفتي؟ قلتلك هتطلع أحلى تورتة.
عانقت نغم حماتها بقوة.
_ شكراً أوي لولاكي مكنتش عرفت أعمل أي حاچة.
ابتسمت ونس بحنان.
_ المهم إنكم نبسطوا.
ودلوجت اطلعي أوضتك عشان تچهزي وتستعدي جبل ما يرچع خلي الاحتفال ده بتاعكم انتوا الاتنين بس، في أوضتكم ده أول عيد ميلاد ليه وأنتِ معاه، خلوها ليلة متتنسيش.
أومأت نغم بامتنان وقبلت خد حماتها، ثم صعدت إلى غرفتها وقلبها يرقص من الفرح والترقب.
فتحت باب الغرفة بهدوء لتتفاجئ بجاسر يخرج من الحمام في تلك اللحظة
تجمدت للحظة ثم ابتسمت بسعادة وركضت نحوه.
_ جاسر! أنت چيت!
اقتربت منه ووقفت على أطراف أصابعها لتقبله قبلة سريعة على خده الأيمن، ثم قبلة أخرى على خده الأيسر.
_ حمدلله على السلامة يا حبيبي چيت ميتى؟
نظر إليها جاسر بابتسامة جانبية ماكرة وعيناه تلمعان.
_ لسه واصل حالاً.
ثم رفع حاجبه وهو يمسح على خده
_ بس هي دي بوسة حمد لله على السلامة؟
وقبل أن تستوعب سؤاله انحنى وخطف شفتيها في قبلة عميقة شغوفة جعلتها تنسى كل الخطط والمفاجآت للحظات كانت قبلة تحمل كل ترحيبه الخاص بها.
بعد فترة ابتعد عنها ببطء تاركاً إياها تتنفس بصعوبة ووجنتاها متوردتان.
واصل مكره وابتعد عنها متجهاً إلى الدولاب وفتحه ليخرج قميصاً وبنطالاً رسمياً.
نظرت إليه بحيرة وقلق.
_ أنت... أنت رايح فين؟
أجابها بهدوء وهو يرتدي ملابسه متظاهراً بالجدية التامة.
_ عندي مشوار ضروري لازم أروحه واحتمال أتأخر.
اتسعت عيناها بصدمة وخيبة أمل ثم اقتربت منه بسرعة وأمسكت بذراعه.
_ مشوار إيه دلوجت؟ لأ مش هتروح في حتة، لازم تفضل معايا النهاردة.
التفت إليها ورفع حاجبه بتساؤل مصطنع.
_ وليه لازم أفضل معاكي؟ فيه حاچة معينة يعني؟
تلعثمت نغم لم تستطع أن تخبره عن المفاجأة، حاولت أن تجد أي سبب، أي حجة.
_ عشان... عشان...
رأى حيرتها فاستمتع باللحظة
وسألها بخبث
_عشان ايه جولي.
اقتربت منه أكثر وغيرت نبرتها إلى الدلال الأنثوي الذي تعرف أنه نقطة ضعفه لفت ذراعيها حول رقبته ونظرت في عينيه مباشرة.
_ عشان الليلة حلوة... وأنا عايزاك تسهر معايا.
توقف جاسر عن ارتداء ملابسه، وابتسامة نصر ماكرة ارتسمت على شفتيه لقد وقعت في فخه.
_ اممم... أسهر معاكي؟
مرر يده على خصرها وقربها منه أكثر.
_ والموضوع ده ملهوش مقابل؟
قطبت حاجبيها باستغراب.
_ مقابل؟ مقابل إيه؟
لم يجب بدلاً من ذلك أمال رأسه قليلاً وغمز بعينيه وهو ينظر نظرة سريعة ذات مغزى نحو السرير الكبير.
فهمت تلميحه على الفور كتمت ضحكة كادت أن تفلت منها وضربته على كتفه ضربة خفيفة.
_ أنت وقح!
ضحك جاسر بصوت عالي ضحكة رجولية عميقة هزت الغرفة.
_ وقح عشان بطلب حجي من مرتي؟
_ مش بتفكر غير في الحاچات دي.
قالتها وهي تحاول أن تبدو غاضبة، لكن عينيها كانتا تضحكان.
عانقها بقوة ودفن وجهه في عنقها وهو يهمس.
_ ولما تكون مرتي بالچمال ده تفتكري ممكن أفكر في حاچة تانية؟
ثم ابتعد لينظر في عينيها بمكر.
_ ها... جولتي إيه؟ أكنسل المشوار الضروري چداً ده... ولا معنديش مقابل يشچع؟
نظرت إليه وقد استسلمت تماماً لجاذبيته وخفة دمه.
لقد كان بارعاً في تحويل أي موقف إلى لعبة لذيذة بينهما.
_ ماشي... بس بشرط.
_ أؤمري.
_ تسهر معايا الأول... وبعدين تاخد المقابل بتاعك.
ضحك مرة أخرى وقبلها على وجنتها
_ ده أحلى شرط سمعته في حياتي موافج.
ابتسمت بسعادة وقالت بفرحة
_طيب انا هدخل اخد شاور لحد ما سامية تخبط.
لم تلاحظ ما تفوهت به لذا أراد هو التلاعب بها وهي تتجه للخزانة الوقحة كما تلقبها
_وهي سامية هتخبط ليه.
اغمضت عينيها بحنق من غباءها وقالت بكذب
_اه هتخبط عشان تجبلنا العشا هنا.
أخذت الملابس وأسرعت للدخول الى المرحاض هاربة من حصاره..
❈-❈-❈
كانت ليلة دافئة في منزل الرفاعي، والجميع مجتمعون في بهو المنزل الفسيح يتبادلون أطراف الحديث والضحكات كانت الأجواء مريحة وهادئة، تعكس السلام الذي حط رحاله أخيراً على العائلة.
جلس مالك بجوار روح التي كان حملها قد أصبح ثقيلاً في شهره الأخير.
كل بضع دقائق كان يميل نحوها ويهمس بصوتٍ خفيض لا يسمعه سواها
_ مرتاحة يا حبيبتي؟ عايزة حاچة؟
وكانت هي في كل مرة تبتسم له ابتسامة هادئة، وتضع يدها على يده الموضوعة على ركبتها، وتهز رأسها مطمئنة إياه.
كانت هذه اللفتات الصغيرة وهذا الاهتمام الصامت، عالمهما الخاص الذي بنياه وسط الجميع.
كانت ورد تراقبهما من بعيد على قدر سعادتها الغامرة لروح التي تعتبرها ابنتها، وعلى قدر فرحتها باستقرار مالك الذي رأت في عينيه حباً لم تره من قبل، كان قلبها ينقبض بألم حاد.
كل ضحكة كل لمسة حنان بين زوجين كانت تذكرها بفراغها.
نظرت حولها فرأت وهدان سعيداً وسالم بجانبه وسند ووعد يتهامسان، ومالك وروح في عالمهما الخاص
كلهم سعداء لكن ينقصهم عدي
لقد رحل عدي، ولم يترك لها حتى ذكرى حية منه، لم يترك لها طفلاً صغيراً يحمل ملامحه، طفلاً يعوضها عن فراقه ويهون عليها وحشة الأيام.
شعرت بغصة حارقة في حلقها وبأن دموعها على وشك أن تفضحها.
لم تعد تحتمل البقاء في هذا الجو الذي آلمها.
نهضت بهدوء ورسمت على وجهها ابتسامة باهتة.
_ تصبحوا على خير يا چماعة هطلع أنام، حاسة إني مصدعة شوية.
لم يلحظ أغلب الحاضرين سبب انسحابها الهادئ، لكن سالم زوجها شعر بها لقد رأى الانكسار في عينيها قبل أن تنهض، وشعر بثقل حزنها الصامت.
انتظر لحظات ثم استأذن منهم بهدوء وصعد خلفها.
وجد باب غرفتهما مفتوحاً قليلاً، وسمع صوت بكاء مكتوم دخل بهدوء فرآها تجلس على حافة السرير، وظهرها له وكتفاها يهتزان بعنف وهي تحاول أن تكتم شهقاتها.
تألم قلبه لألمها اقترب منها وجلس بجانبها ووضع يده على كتفها برفق.
_ ورد...
رفعت وجهها إليه وكان غارقاً في الدموع.
لم تعد قادرة على إخفاء حزنها أمامه.
_ مالك يا ورد؟
لم تستطع أن تخبي عليه انفجرت في بكاء مرير، وقالت بصوتٍ متقطع يمزقه الألم
_ عدي... عدي وحشني جوي يا سالم
مش جادرة أصدج إنه راح خلاص مات وسابني لوحدي بحسرتي عليه بحاول... بحاول أكون قوية وأتأقلم، بس مش جادرة.
كل ما أشوف اللي حواليا مبسوطين وهو غايب بحس بالنار في جلبي.
أخذت نفساً عميقاً وخرجت الكلمات التالية كأنها طعنة.
_ كان نفسي... كان نفسي يسيبلي حتة منه طفل يهون عليا اللي أنا فيه بس حتى دي... روح محملتش منه.
نظر إليها سالم بحزن عميق، ثم تنهد تنهيدة طويلة وقرر أن يكشف لها سراً ثقيلاً
_ كانت هتحمل منه إزاي يا ورد... وهو ملمسهاش أصلاً.
توقفت عن البكاء فجأة ونظرت إليه بصدمة وعدم استيعاب.
_ إيه؟ بتجول إيه؟ كيف ده؟
قال سالم بهدوء وهو يختار كلماته بعناية
_ مالك حكالي يوم ما اتجوز روح اكتشف إنها لسة بنت.
عدي... رفضها وجرحها.
اتسعت عينا ورد بصدمة أكب وهمست
_ ليه؟ ... وليه مجالتش؟ ليه روح مجالتش حاچة زي دي؟
هز سالم رأسه بإعجاب وأسى.
_ عشان تحافظ عليه عشان متجللش منه في نظرنا حتى بعد ما مات عشان تخليه في عيون أمه وأبوه راچل.
صمتت ورد تماماً وعقلها يحاول استيعاب هذه الحقيقة الصادمة.
روح الفتاة التي ربتها على يديها تحملت كل هذا وحدها تحملت رفض زوجها، ثم تحملت موته وحملت سراً كهذا لتحمي صورته أمامهم.
نظرت إلى سالم بعينين دامعتين، لكن هذه المرة كانت دموعاً مختلفة، دموع فخر وحب.
_ مش غريب عليها أنا اللي مربياها وخابرة أصلها الطيب.
في تلك اللحظة شعرت ورد بشيء من السلام. لقد كان حزنها على عدم وجود حفيد من عدي كبيراً، لكن معرفتها بأن ابنها، رغم كل شيء، لم يكسر روح بالكامل، وأن روح، رغم كل شيء، حافظت على شرف ابنها... كان في ذلك عزاء غريب ومؤلم، لكنه كان عزاءً على أي حال.
•تابع الفصل التالي "رواية ثنايا الروح" الريح والغيامة" اضغط على اسم الرواية