رواية ثنايا الروح "الريح والغيامة" الفصل الثاني والاربعون 42 - بقلم رانيا الخولي

 رواية ثنايا الروح "الريح والغيامة" الفصل الثاني والاربعون 42 - بقلم رانيا الخولي 

الثاني والاربعون 
..........
في منزل الرفاعي....
كانت رائحة الطعام الصعيدي الأصيل تملأ أرجاء المطبخ الواسع في قصر الرفاعي ممزوجة بضحكات النساء وزغاريدهن الخافتة فرحاً بصباحية نغم. 
كانت روح تتحرك بخفة ونشاط، رغم بطنها المستدير الذي دخل شهوره الأخيرة تساعد والدتها ليل وورد في تحضير "فطور العروس" الفاخر الذي سيحملونه إلى جناح نغم وجاسر.
لاحظت ورد أن روح بدأت تضع يدها على ظهرها بين الحين والآخر وتأخذ نفساً عميقاً. 
اقتربت منها بحنان ووضعت يدها على كتفها.
_ كفاية عليكي إكده يا روح يا بتي اطلعي ارتاحي شوية، وشك باين عليه التعب.
ابتسمت روح ابتسامة واسعة وصادقة وعيناها تلمعان بسعادة.
_ تعب إيه بس يا مرات عمي؟ ده أحلى يوم في حياتي وأنا بچهز الأكل لأختي بيدي. 
دي فرحة متتعوضش.
ردت ليل وهي تقلب في إحدى الأواني الكبيرة
_ ربنا يفرح جلبك دايماً يا بنتي، بس برضه صحتك واللي في بطنك بالدنيا.
أصرت روح على البقاء فحبها لأختها كان يمنحها طاقة استثنائية كانت تتخيل فرحة نغم وهي ترى كل هذا الاهتمام، وتدعو في سرها أن يكون جاسر هو السند والأمان الذي تستحقه. 
لكن بعد فترة وبينما كانت تحمل صينية ثقيلة شعرت بألم حاد ومفاجئ أسفل بطنها، جعلها تتوقف وتغمض عينيها بقوة.
رأتها ورد وليل في نفس اللحظة هرعت ورد وأخذت منها الصينية، بينما سندتها ليل بقلق.
_ شوفتي! مش بنجولك ارتاحي!
قالت ليل بحزم أمومي لا يقبل الجدال. 
_ يالا، على أوضتك دلوجت إحنا هنكمل كل حاچة ومرات عمك وسعدة معانا.
لم تجد روح مفراً من الموافقة هذه المرة صعدت السلم ببطء، تتنفس بصعوبة وكل ما تريده هو أن تستلقي قليلاً حتى يهدأ هذا الألم.
فتحت باب جناحها ودخلت لتجد مالك يخرج من الحمام للتو، يرتدي بنطالاً قطنياً مريحاً ومنشفة حول عنقه وهو يجفف شعره.
 ما إن رآها حتى اختفت ابتسامته الهادئة وحل محلها القلق العميق ألقى بالمنشفة من يده وهرع نحوها في خطوتين.
_ روح مالك؟ وشك أصفر ليه؟
لم تستطع الرد فقط هزت رأسها بتعب وهي تتكئ عليه لم يسأل سؤالاً آخر أحاط خصرها بذراعه القوية، وسندها بحرص شديد كأنها كنز هش قابل للكسر. 
قادها بخطوات بطيئة نحو السرير وساعدها على الاستلقاء برفق.
جلس بجانبها على حافة السرير ومرر يده على جبينها ليتأكد من حرارتها.
_ حاسة بإيه؟ الألم لسة موجود؟
قالت بابتسامة 
_  أنا بجيت زينة متجلجش.
نظر إليها بعينين تفيضان حباً وحناناً.
_ مجلجش كيف؟ لما بشوفك بتتألمي روحي بتتسحب مني.
انحنى وقبل جبينها قبلة طويلة ثم نزل بنظره إلى بطنها المستدير، ووضع يده الكبيرة عليه بحنان بالغ.
_ وأنتِ يا چميلة اهدى على ماما شوية مش كفاية واخد كل الدلع والحب لوحدك.
ابتسمت روح من بين ألمها، ووضعت يدها فوق يده.
_ هي بتسمع كلامك أول ما حطيت إيدك هديت.
رفع مالك نظره إليها مرة أخرى وكانت عيناه تحملان كل عشق العالم.
_ عشان خابرة إني مستعد أعمل أي حاچة في الدنيا عشانكم، راحتكم عندي بالدنيا كلها.
ظل جالساً بجانبها يده على بطنها ويده الأخرى تمسح على شعرها، يهمس لها بكلمات هادئة ومطمئنة حتى شعرت بالألم يتبدد تدريجياً ويحل محله شعور دافئ بالسكينة والأمان 
في حضرة حبه واهتمامه كانت تعرف أنها في حصنها المنيع، وأن لا شيء في العالم يمكن أن يؤذيها طالما هو بجانبها.
........
كان المطبخ يضج بالحياة والنشاط ورائحة الأكل الشهي تمتزج بضحكات النساء. كانت وعد تتحرك بخفة بينهن تساعد في تقطيع الخضروات وتجهيز الأطباق وقلبها يرقص فرحاً لأجل نغم.
فجأة دخل سند إلى المطبخ وهو يحمل ابنهما "عدي" الذي كان يصرخ بأعلى صوته ووجهه الصغير أحمر من شدة البكاء، كان سند يهزه برفق ويحاول تهدئته دون جدوى.
نظر حوله حتى وجد وعد فتوجه نحوها مباشرة.
_ وعد... يا وعد تعالى شوفيلنا حل في الأستاذ ده.
تركت وعد السكين من يدها ومسحت يديها بسرعة ثم اقتربت منهما بقلق.
_ ماله يا سند؟ ليه بيعيط اكده؟
أخذت ابنها منه وبدأت تهدهده بحنان أمومي فطري لكن الصغير استمر في البكاء.
سحبها سند من ذراعها برفق وأخذها إلى خارج المطبخ في زاوية هادئة بعيداً عن ضجة الأواني وأحاديث النساء. 
انحنى وهمس في أذنها بنبرة ماكرة وعيناه تلمعان بخبث مرح.
_ شكله زعلان عشاني مش راضي يسكت خالص.
نظرت إليه وعد باستغراب.
_ زعلان عشانك؟ ليه يعني؟
اتسعت ابتسامته الماكرة وهو ينظر إليها نظرة ذات معنى.
_ عقاب، ده عقابك عشان نمتي امبارح وسيبتيني الواد حاسس بيا وبياخد حجي.
فهمت وعد تلميحه على الفور، فانفجرت في ضحكة خافتة وحاولت إخفاءها بكف يدها، واحمرت وجنتاها.
_ يا سلام! بجى هو ده السبب؟ تطلعت إليه بغيظ
_حرام عليك يا سند اليوم كان طويل ومتعب، وكنت محتاچة أنام عشان أجدر أجوم معاهم بدري وأحضر حاچات نغم.
لم تذب ملامحه الماكرة بل اقترب أكثر حتى كاد يلامسها، وهمس بصوتٍ أعمق وأكثر إغواءً.
_ وأنا ذنبي إيه؟
نظرت إليه بعينين تملؤهما السعادة والخجل وقالت بدلال
_ ذنبك إنك حلو زيادة عن اللزوم.
ضحك بخفة ثم أصبح جاداً فجأة ونظر في عينيها مباشرة بنظرة حب صافية.
_ طيب... بما إنك عارفة ذنبي، يبقى لازم تكفّري عنه.
_ وأكفّر عنه كيف بجا إن شاء الله؟
مرر إبهامه على خدها برقة، وعيناه معلقتان بعينيها.
_ تعوضيني الليلة.
في تلك اللحظة وكأنها معجزة هدئ الصغير عن البكاء فجأة وأطلق تنهيدة صغيرة ثم أغلق عينيه ليستسلم للنوم بين ذراعي والدته.
نظر سند إلى ابنه النائم ثم إلى وعد بابتسامة منتصرة.
_ شوفتي؟ حتى الواد موافق مستني التعويض بتاعي.
هزت وعد رأسها بيأس مصطنع، لكن قلبها كان يرقص من فرط حبه ودلاله أعطته قبلة سريعة على خده وهمست
_ مجنون.
أخذ منها الطفل النائم بحرص وقبل جبينها قبلة عميقة.
_ مجنون بيكي يالا روحي كملي اللي بتعمليه، وأنا هاخده أنيمه في الأوضة بس متنسيش... اتفاقنا.
غمز لها غمزته الأخيرة وخرج من الطرقة تاركاً إياها تبتسم بحب وتشعر بأنها أسعد امرأة في العالم مع هذا الزوج العاشق والمرح.
❈-❈-❈
قالت ونس وهي تضع طبقاً من الفطير الساخن أمامهما
_دوجي يا نغم الفطير ده، لسة سامية خابزاه.
أخذت نغم قطعة وقبل أن تأكلها نظرت إلى جاسر الذي كان يراقبها بابتسامة هادئة.
_طبعاً حلو كل حاچة من إيدك يما ونس حلوة.
كانت نغم تشعر براحة لم تعهدها هذا المطبخ الذي كان يمثل لها سجناً أصبح الآن مسرحاً لأجمل صباح في حياتها. 
وجود جاسر بجانبها وونس أمامها جعلها تشعر بأنها أخيراً في بيتها.
نظر جاسر إلى والدته وقال بمرح
_شوفتي يا ست الكل؟ خدت مكانتي في يوم وليلة مبجاش ليا طبيخ ولا فطير.
ضحكت ونس وهي تنظر لابنها بسعادة غامرة. كانت ترى في عينيه لمعة لم ترها من قبل، لمعة الحب والرضا.
_وأنت تطول إن القمر دي تاكل اكلك؟ وبعدين هي اللي هتاكل وأنت اللي هتشبع.
ضحكت نغم بخجل من تعليق حماتها بينما شد جاسر على يدها تحت الطاولة. 
كان يشعر وكأنه في حلم كل صباح كان يستيقظ على صراع أو خطة أو تهديد، واليوم يستيقظ على صوت ضحكة حبيبته ورائحة طعام والدته. 
لقد حارب العالم من أجل هذه اللحظة البسيطة، وشعر بأنها تستحق كل التعب.
قال جاسر وهو يوجه كلامه لنغم، لكن عينيه كانتا تبتسمان لوالدته
_هي شكلها هتدلع عليا جوي يا أما، وأنتي اللي هتشجعيها.
ردت ونس بثقة
_وأدلعها ليه لأ؟ دي اللي نورت البيت ورجعتلي ابني اللي كان غايب
كانت ونس تنظر إليهما وقلبها يفيض فرحاً. 
لقد رأت ابنها قاسياً ورأته قوياً ورأته حزيناً، لكنها لم تره "سعيداً" بهذا الشكل من قبل. 
وجود نغم لم يغيره فقط بل أعاده إلى الحياة.
قالت نغم بهدوء وهي تنظر إلى جاسر
_خلاص عشان متزعلش هدوقك.
وأخذت قطعة صغيرة من الفطير وقربتها من فمه بجرئة لم تشهدها في نفسها من قبل
فتح جاسر فمه وأخذ القطعة وعيناه لم تفارقا عينيها. 
كانت لقمة بسيطة لكنها في عالمهما كانت تعني كل شيء. 
كانت تعني القبول والمشاركة وبداية حياة حقيقية.
وهكذا على طاولة إفطار بسيطة بين ضحكات الأم وخجل الزوجة وعشق الزوج، اجتمعت ثلاث أرواح كل منها يعيش حلمه الخاص وكل منها يجد سعادته في وجود الآخرين، في مشهد عائلي دافئ كان بمثابة بداية حقيقية لحياة جديدة.
بعد أن أخذ جاسر اللقمة من يدها لم يبعد عينيه عنها بل همس بصوتٍ خفيض لم تسمعه سوى هي
_حتى الفطير طعمه أحلى من إيدك.
شعرت نغم بالحرارة تتصاعد إلى وجهها، فسحبت يدها بسرعة وهي تحاول إخفاء ابتسامتها الخجولة متظاهرة بالانهماك في كوب الشاي.
لاحظت ونس هذا الهمس وهذه النظرات فابتسمت ابتسامة عريضة وقررت أن تمنحهما بعض الخصوصية. 
نهضت وهي تقول
_أني هروح أخلي سامية تشوف الغسيل شكل السما مغيمة النهاردة كملوا فطاركم على مهلكم.
وما إن خرجت ونس وأغلقت باب المطبخ حتى استدار جاسر بجسده كله نحو نغم ترك يدها التي كان يمسكها تحت الطاولة ورفع يده ليمررها برفق على خدها الذي لا يزال متورداً.
_معجول لساتك مكسوفة مني؟
لم تجب بل اكتفت بهز رأسها بنفي بخفة وهي تنظر إلى طبقها. 
فرفع ذقنها بإصبعه برفق مجبراً إياها على النظر في عينيه.
_أني عايزك تبصيلي عايز أشوف السعادة في عينيكي عايز أتأكد إن كل ده مش حلم.
قالت بصوتٍ ناعم
_ولو حلم؟
_يبقى أحلى حلم حلمته في حياتي ومستعد أعمل أي حاچة عشان مَصحاش منيه أبداً.
صمت للحظة وعيناه تتفحصان كل تفصيل في وجهها ثم قال بنبرة جادة مليئة بالمشاعر
_عارفة يا نغم... أني عشت حياتي كلها بحارب، بحارب عشان أحافظ على مكانتي، بحارب عشان أنتقم، بحارب عشان أكون الأقوى
أول مرة في حياتي أحس إني مش عايز أحارب
أول مرة أحس بالسلام.
تأثرت نغم بصدق كلماته ومدت يدها ووضعتها فوق يده التي على خدها.
_وأني... أول مرة أحس بالأمان.
كانت هذه الكلمة "الأمان" هي كل ما يحتاجه جاسر ليسمعه لقد كانت اعترافاً منها بأنه لم يعد مصدر خوفها بل أصبح ملجأها.
انحنى نحوها ببطء وقبلها قبلة رقيقة وعميقة قبلة بنكهة الفطير ورائحة الشاي، قبلة صباحية تحمل كل وعود الأيام السعيدة القادمة.
ابتعد عنها قليلاً وأسند جبينه على جبينها.
_أوعدك... إن الإحساس ده عمره ما هيفارقك تاني طول ما أني بتنفس.
في تلك اللحظة لم يكن هناك جاسر التهامي القاسي، ولا نغم الرفاعي المخطوفة كان هناك فقط رجل وامرأة وجدا وطنهما في عيني بعضهما البعض على طاولة إفطار بسيطة، في صباح يوم جديد يحمل في طياته حياة كاملة من الحب.
بعد أن انتهيا من فطورهما الذي كان أشبه بجلسة اعترافات هادئة نهض جاسر وسحبها برفق من يدها.
_تعالي فيه حاچة عايز أوريهالك.
قادها عبر البهو الفسيح وفتح باباً زجاجياً كبيراً يؤدي إلى الحديقة الخلفية ما إن خطت نغم خطوتها الأولى للخارج، حتى توقفت مبهورة وشعرت بأنها دخلت عالماً آخر، جانب من الحديقة لم تراه من قبل.
لم تكن حديقة عادية كانت قطعة فنية طبيعية، مصممة بعناية لتكون امتداداً للجبل الذي بُني عليه البيت. 
لم تكن هناك صفوف من الزهور المنمقة بل كانت هناك صخور صغيرة تتخللها مسارات حجرية متعرجة، وأشجار فريدة تبدو وكأنها نمت هناك منذ زمن
كان الهواء نقياً ومنعشاً يحمل رائحة الأرض الرطبة والصنوبر.
سار جاسر بجانبها يده لا تزال متشابكة بيدها، وبدأ يعرفها على مملكته السرية.
_المكان ده... هو الحتة الوحيدة اللي كنت بهرب ليها من كل حاچة.
توقفا أمام شجرة ضخمة ذات جذع مائل وأوراق فضية اللون كانت تلمع تحت أشعة الشمس الخافتة.
_دي شجرة الأرز الأطلسي مش موجود منها كتير في مصر أصلها من جبال الأطلس وبتحب الأجواء الجبلية زي دي. 
شوفي إزاي جذعها قوي وثابت... كانت دايماً بتفكرني باللي المفروض أكون عليه.
استمعت نغم إليه باهتمام لم تكن تنظر إلى الشجرة بقدر ما كانت تنظر إليه. 
كانت ترى شغفاً حقيقياً في عينيه وهو يتحدث، شغفاً بعيداً كل البعد عن عالم الصراعات والثأر.
أكمل سيره بها نحو مجموعة من الشجيرات ذات الأزهار البنفسجية الداكنة.
_وده اللافندر الجبلي ريحته بتهدي الأعصاب كنت باچي أچمع منه لما أكون على مضايج
قطف زهرة صغيرة وفركها بين أصابعه ثم قربها من أنفها، أغمضت عينيها واستنشقت العطر العميق والمهدئ.
ثم أشار إلى شجرة أخرى ذات أوراق صغيرة لامعة وثمار حمراء صغيرة تشبه الكرز.
كل الانواع دي من الشجر مش بتصلح غير في الچبل
في منها شكل چميل وحلو بس سام
نظر إليها بابتسامة جانبية ماكرة.
_زي الدنيا إكدة... شكلها حلو ومغري بس جواها سم، لازم تعرفي إيه اللي تاخديه منيها وإيه اللي تبعدي عنيه.
كانت كل شجرة يحكي عنها قصة، وكل نبتة تحمل معنى لم يكن مجرد تعريف بأسماء نباتات، بل كان يكشف لها عن جزء خفي من روحه. 
كان يريها كيف يرى العالم من خلال هذه الأشجار: 
القوة، الصمود، الهدوء، والجمال الذي يختبئ خلف الخطر.
توقفا عند نقطة تطل على الوادي السحيق بالأسفل أحاطها بذراعه من خصرها وقربها إليه وأسند ذقنه على رأسها.
_كل الأشجار دي... أني اللي اشرفت على زرعتها بنفسي، كل واحدة فيهم كانت بتفكرني بحاچة.
 واحدة بالقوة، وواحدة بالصبر، وواحدة بالهدوء بس عارفة...
صمت للحظة ثم همس في أذنها
_من يوم ما دخلتي حياتي بجيت باچي اهنه وأبص عليهم كلهم، والاجيهم كلهم ناقصين حاچة واحدة.
نظرت إليه باستفهام فابتسم.
_ناقصين شجرة تشبهك، شجرة تكون رجيجة وچميلة، بس چذورها جوية ومتتشالش من مكانها مهما حصل، شجرة تكون هي الوحيدة اللي بتزهر طول السنة.
لم تعد قادرة على تحمل كل هذا العشق استدارت بين ذراعيه ودفنت وجهها في صدره تستنشق عطره الذي أصبح إدمانها. 
لم تكن بحاجة للرد فقد كان صمتها وحضنها هما أبلغ رد. 
وفي تلك الحديقة الجبلية بين الأشجار النادرة أدركت أنها لم تكن مجرد زوجة لجاسر، بل أصبحت هي الشجرة النادرة والأثمن في حديقته السرية.
بعد جولتهما في الحديقة لم يترك جاسر يدها، بل قادها نحو مبنى حجري أنيق يقع على بعد مسافة قصيرة.
_فيه حد تاني لازم تتعرفي عليه.
عندما فتح الباب الخشبي الضخم استقبلتهما رائحة القش النظيف والجلد، كان الإسطبل فخماً ومنظماً لكن عيني نغم اتجهت مباشرة إلى الحصان الوحيد الذي كان يقف في الحجرة الأكبر، حصان أسود فاحم ضخم الجثة يبدو كقطعة من الليل تم نحتها. 
كان قوياً ومهيباً لكن ما لفت انتباهها هو شيء آخر.
اقتربت ببطء ولاحظت ما لم تره من قبل بوضوح. 
كانت هناك ندوب قديمة علامات باهتة لكنها واضحة على أجزاء من ظهره وجانبه مناطق بدا فيها الجلد مشدوداً ولامعاً بشكل مختلف، كأثر لحروق قديمة شفيت بصعوبة.
نظرت إلى جاسر الذي كان يراقب رد فعلها وسألت بصوتٍ خفيض مليء بالتعاطف
_الحصان ده... اتصاب في الحريج؟
أومأ جاسر برأسه وتقدم نحو الحصان الذي صهل صهيلاً خفيفاً ما إن رآه.
_أيوه ده بركان، اتضرر جوي وجتها، كل الدكاترة اللي چابوهم جالوا إن مفيش أمل، وإن الحل الوحيد هو "القتل الرحيم" عشان نريحه من عذابه.
اقترب جاسر من "بركان" وبدأ يملس على وجهه بحنان فأسند الحصان رأسه على كتف سيده في ثقة مطلقة. 
تابع جاسر بصوتٍ هادئ لكنه كان يحمل ثقل ذكريات مؤلمة
_أني فاكر الليلة دي كويس جوي...
صمت للحظة ثم التفت لينظر إليها وعيناه تحملان عمقاً لم تره من قبل.
_لأنها الليلة اللي شوفتيني فيها على حجيجتي الليلة اللي بانت لكِ فيها نجطة ضعفي.
عادت الذاكرة بنغم في لحظة تذكرت حالته في تلك الليلة، ليلة زواجهما القسري. 
تذكرت كيف عاد من الخارج وكيف رأت في عينيه ألماً حقيقياً، وهناً وضعفاً لم تكن تتخيل وجوده في جاسر التهامي. 
لقد كان حزنه على حصانه هو الشرخ الأول الذي رأته في قناعه الجليدي وهو ما جعلها في تلك الليلة تستسلم له، لأن حالته لم تكن تسمح بالرفض لقد رأت الإنسان خلف الوحش.
واصل جاسر حديثه وهو لا يزال يملس على حصانه
_رفضت أسمع كلامهم فضلت چمبه أسابيع، بعالج حروجه بإيدي وبأكّله، وبكلمه. 
كنت خابر إنه هيعيش لأنه مقاتل... زيي.
نظر إلى الندوب على جسد الحصان ثم نظر إلى نغم.
_بركان ده مش مجرد حصان عندي أني بشوف فيه نفسي. 
عنيد ومبيستسلمش وشكله من برة يوحي بالجوة والجبروت... بس من چوه لو اتچرح چرحه بيكون غويط ومبيلمش بسهولة. 
بيخبي وجعه ورا قوته ومبيسمحش لأي حد يشوف ضعفه... إلا اللي بيثق فيهم بس.
كان المشهد مؤثراً بشكل لا يصدق، جاسر الرجل الذي يرتجف منه الجميع يقف الآن كاشفاً عن روحه أمامها، مقارناً نفسه بحصان جريح نجا من الموت. 
أدركت نغم أن حبه لهذا الحصان ينبع من أنه يرى فيه انعكاساً لقصته هو: 
كائن قوي تعرض للأذى والحروق من الحياة لكنه رفض أن يموت وظل واقفاً بشموخ، يحمل ندوبه كجزء من تاريخه ولا يسمح بالاقتراب من روحه إلا لمن يستحق.
تقدمت نغم ببطء ومدت يدها وملست على وجه الحصان بجانب يد جاسر. 
لم يتحرك الحصان بل ظل هادئاً كأنه شعر بأن هذه المرأة أصبحت جزءاً من عالم سيده. 
وفي تلك اللحظة في صمت الإسطبل فهمت نغم جاسر أكثر من أي وقت مضى.
بعد لحظات من الصمت المؤثر في الإسطبل حيث كانت يداهما متجاورتين على وجه "بركان" استدار جاسر ليواجه نغم بالكامل. 
كانت المسافة بينهما شبه معدومة ورائحة القش الممزوجة بعطره الترابي تملأ الهواء.
لم يتكلم بل رفع يده ببطء وتتبع بإصبعه خط الندبة القديمة الباهتة على يدها، تلك التي تركها هروبها من السائق في ذلك اليوم. 
كانت لمسته رقيقة كهمس لكنها كانت تحمل ثقل العالم.
_الچرح ده...
قالها بصوت أجش كأنه يتحدث عن جرح في روحه هو.
_كل ما أشوفها بتفكرني باليوم اللي كان ممكن أخسرك فيه جبل ما ألاجيكي. 
وبتفكرني إني مستعد أحرج الدنيا باللي فيها، لو فكر أي مخلوق يلمسك تاني.
لم تكن كلماته تهديداً للعالم بل كانت عهداً لها
عهداً بالحماية المطلقة.
نظرت في عينيه ورأت فيهما الصدق الخام والعشق الذي لم يعد يحاول إخفاءه. 
مدت يدها هي الأخرى وبجرأة لم تكن تعتقد أنها تملكها لمست وجهه
_وأني... كل ما أبص لعينيك بتفكرني بالجوة اللي خلتك تحارب عشان توصل للي أنت عايزه. وبتفكرني بالراچل اللي كسر كل القواعد عشان ياخدني.
 كانت تلك هي المرة الأولى التي تعترف فيها صراحة بأن أفعاله القاسية كانت في نظرها دليلاً على حبه.
تغيرت نظرة جاسر لم تعد مجرد عشق بل أصبحت جوعاً... جوعاً لروحها لوجودها، لكل تفصيل فيها. 
انزلقت يده من يدها إلى خصرها وسحبها نحوه حتى التصق جسدها بجسده بالكامل، ولم يعد هناك أي هواء يفصل بينهما.
_بتعملي فيا إيه يا نغم؟
همس السؤال في أذنها وأنفاسه الساخنة ترتطم ببشرتها مرسلة رعشة لذيذة عبر جسدها.
_كل يوم بكتشف فيكي حاچة جديدة... بتخليني أحبك أكتر. 
كل يوم بتوريني إن جوتك مش في عنادك، جوتك في جلبك اللي بيسامح وبيحتوي.
لم تستطع الرد كانت غارقة في عينيه في رائحته في قربه الذي أصبح وطنها.
انحنى ببطء لكنه لم يقبلها. 
توقف وشفتيه على بعد مليمترات من شفتيها كأنه يتلذذ بلحظة الترقب هذه.
_المرة دي... مش هسرجها منك.
كان صوته تحدياً رقيقاً دعوة صريحة. 
فهمت ما يريده لم يعد يريد أن يكون هو المبادر دائماً لم يعد يريد أن يأخذ كان يريدها أن تعطيه، أن تختاره هي بكامل إرادتها.
وبكل الشجاعة التي منحها إياها حبه رفعت نفسها على أطراف أصابعها وألغت هي المسافة الأخيرة بينهما. 
كانت قبلة مختلفة عن كل القبلات السابقة. 
لم تكن قبلة مسروقة ولا قبلة تحدي ولا قبلة غفران. 
كانت قبلة اختيار، قبلة ملكية، قبلة امرأة تعلن بجرأة أنها وجدت رجلها، وأنها ملكه بقلبها وروحها وجسدها.
بادلها القبلة بعمق وشغف ورفعها بين ذراعيه بسهولة وحملها خارج الإسطبل، متجهاً نحو البيت. 
لم يقطعا القبلة بل كانا يتنفسان من بعضهما البعض.
دلف من الباب الخلفي حتى لا يصادف أحد يجعله يعود لرشده الذي ضاع في حب تلك المرأة
وعندما وصلا إلى عتبة جناحهما انزلها وابتعد عنها قليلاً، وأسند جبينه على جبينها وعيناه تلمعان بانتصار عاشق.
_من النهاردة... مفيش أسرار مفيش خوف، ومفيش هروب فيه بس أني... وأنتي.
ثم أخذها إلى الداخل وأغلق الباب خلفهما ليبدآ معاً فصلاً جديداً من حكايتهما، فصلاً لا يكتبه الثأر أو الماضي بل يكتبه عشق رجل وجد في حبيبته خلاصه، وعشق امرأة وجدت في سجانها... حارس روحها الأبدي.
❈-❈-❈
كان قصر الرفاعي أشبه بخلية نحل تضج بالحياة والفرح انتهت النساء من وضع اللمسات الأخيرة على وليمة الصباحية الفاخرة، وتم ترتيب الصواني الضخمة بعناية فائقة، كل صينية تحمل تحفة فنية من الطعام الشهي الذي أُعد بحب خصيصاً لعروس العائلة. 
رائحة الخبز الطازج واللحم المشوي وعبير التوابل الأصيلة كانت تملأ كل ركن من أركان القصر، معلنة عن يوم استثنائي.
في البهو الخارجي كان الرجال قد تجمعوا، أصواتهم ترتفع بالضحكات والأحاديث الودية. 
كان الحاج وهدان يجلس في صدر المجلس ووجهه يشع بسعادة ورضا لم يشهدهما منذ سنوات طويلة بجانبه جلس ابنه سالم يراقبان الجيل الجديد بفخر.
خرج مالك وسند معاً من القصر، يرتديان جلابيبهما الأنيقة التي تليق بهذه المناسبة السعيدة. 
كان سند يحمل ابنه "عدي" الذي استيقظ لتوه وعيناه الصغيرتان تتفحصان هذا الجمع الكبير بفضول بينما كان مالك يلقي نظرة قلقة نحو الطابق العلوي ينتظر نزول روح.
بعد لحظات بدأت النساء في الخروج تباعاً كأنهن سرب من الفراشات الملونة. 
خرجت ليل ونادية أولاً تحملان بعض الأطباق الخفيفة، ووجوههن تملؤها الفرحة. 
تبعتهن وعد التي كانت تضبط شالها الأنيق وتبادلت نظرة حب سريعة مع سند الذي ابتسم لها من بعيد.
وأخيراً ظهرت روح عند مدخل القصر تسير ببطء وحذر، كانت ترتدي فستاناً فضفاضاً جميلاً يبرز حملها المتقدم، وعلى وجهها ابتسامة هادئة. 
ما إن رآها مالك حتى تحرك نحوها فوراً، ووضع يده على ظهرها بحنان وهمس
_ كيفيك دلوجت يا روح؟
أومأت له برأسها ووضعت يدها على يده المطمئنة.
بدأ الشباب في حمل الصواني الثقيلة وتوزيعها في السيارات التي اصطفت أمام القصر كانت الأجواء احتفالية بحق كل شخص يتحرك بهمة ونشاط والهدف واحد: إيصال الفرحة والسعادة إلى قلب نغم في يومها المميز.
أعطى الحاج وهدان إشارة البدء بصوته الجهوري
_ يالا يا ولاد، اتحركوا مش عايزين نتأخر على العروسة.
صعد الجميع إلى السيارات ركب الحاج وهدان وسالم في سيارة، ومالك وروح وليل وورد في سيارة أخرى، وسند ووعد ووالدته في سيارة ثالثة، بينما امتلأت بقية السيارات بالشباب وبقية أفراد العائلة والطعام.
انطلق موكب السيارات ببطء من بوابة القصر، الواحدة تلو الأخرى كقافلة فرح مهيبة تشق طريقها نحو بيت الجبل. 
كانت الشمس مشرقة والسماء صافية والقلوب عامرة بالحب والأمل، في طريقهم للاحتفال بنهاية حقبة من الألم وبداية عهد جديد من السلام والسعادة لعائلة الرفاعي.
❈-❈-❈
كانت نغم تقف أمام خزانة الملابس المفتوحة، وتمرر نظرها بين الفساتين والعباءات المعلقة بعناية. 
كانت تشعر بمزيج من السعادة والتوتر فبعد قليل سيصل أهلها ليباركوا لها في بيتها الجديد وأرادت أن تبدو في أبهى صورة، ليس فقط لتسعدهم بل لتشعر هي نفسها بأن هذه بداية جديدة وحقيقية.
لكن كلما نظرت إلى ملابسها شعرت بأن شيئاً ما ينقصها. 
لا شيء يبدو مناسباً تماماً لهذه المناسبة الخاصة.
في تلك اللحظة انفتح باب الحمام بهدوء وخرج جاسر منه. 
رآها واقفة أمام الخزانة بملامح حائرة فابتسم.
اقترب منها بخطوات هادئة ووقف خلفها مباشرة ثم انحنى وطبع قبلة دافئة على خدها وهو يهمس بالقرب من أذنها بصوته العميق
_ملكة جلبي حيرانة ليه؟
التفتت إليه قليلاً وقالت بتنهيدة
_أهلي چايين كمان شوية ومش عارفة ألبس إيه. 
حاسة إن كل الهدوم دي مش مناسبة.
نظر جاسر إلى انعكاس وجهها الحائر في مرآة الخزانة وابتسم ابتسامة جانبية ماكرة.
_تؤ تفتكري إن حاچة زي دي ممكن تفوتني؟
وقبل أن تفهم ما يعنيه أحاطها بذراعيه من الخلف ومد يده إلى أعمق جزء في الخزانة، في مكان لم تكن قد وصلت إليه بعد. 
سحب بهدوء كيساً أنيقاً كان مخبأً بعناية.
ناولها الكيس وهو لا يزال يقف خلفها وهمس
_افتحيه.
بأصابع مترددة فتحت نغم الكيس لتسحب منه عباءة بيضاء فاخرة حبست أنفاسها من جمالها. 
كانت العباءة مصنوعة من قماش انسيابي بتطريز ذهبي هادئ وراقٍ يزين منطقة الصدر وأطراف الأكمام. 
كان تصميمها بسيطاً لكنه ملكي؛ مجسمة قليلاً عند الخصر لتبرز رشاقتها ثم تنسدل باتساع ونعومة حتى الأرض، بأكمام واسعة تضفي عليها فخامة ورونقاً خاصاً.
ظلت تنظر إلى العباءة بانبهار لم تكن تتخيل شيئاً بهذا الجمال لقد فكر في كل شيء، حتى في هذه التفصيلة الصغيرة. 
لقد أعد لها زياً يليق باستقبال أهلها كملكة في مملكتها الجديدة.
استدارت بين ذراعيه لتواجهه وعيناها تلمعان بالدموع من فرط السعادة.
_جاسر... أنا... أنا مش عارفة أجولك إيه.
وقبل أن تكمل جملتها أو تحاول شكره وضع إصبعه برفق على شفتيها مقاطعاً إياها.
_شششش...
نظر في عينيها مباشرة، وتحولت نظرته الماكرة إلى نظرة عميقة مليئة بالرغبة والشوق.
_الشكر مش عايزه كلام.
انحنى أكثر حتى لامست أنفاسه وجهها وهمس بصوتٍ أجش
_عايزه فعل... بس بعد ما أهلك يمشوا.
ثم غمز لها وابتعد عنها متجهاً نحو ملابسه تاركاً إياها واقفة في مكانها تحتضن العباءة البيضاء وقلبها يخفق بعنف من مزيج السعادة والخجل والترقب لما سيأتي. 
لقد أثبت لها مرة أخرى أنه يفكر في أدق تفاصيل سعادتها، ولكنه دائماً ما يطالب بثمنه بطريقته الخاصة.
❈-❈-❈
كان أكمل يقود سيارته عائداً إلى المنزل ورأسه مثقل بتفاصيل القضايا وملفات العمل التي لا تنتهي. 
كل ما كان يتمناه هو أن يجد بعض الهدوء والسكينة بين جدران بيته فتح باب الشقة بهدوء ودخل، لكنه توقف في مكانه عند مدخل غرفة المعيشة متجمداً أمام مشهد لم يكن ليتخيله في أكثر أحلامه جموحاً.
كانت صبر تجلس إلى طاولة الطعام الكبيرة التي تحولت إلى مكتبة مصغرة الأوراق والكتب مبعثرة حولها بطريقة منظمة وقلم في يدها تدون به الملاحظات بتركيز شديد. 
وبجوارها كان يجلس والده حسين منحنياً فوق أحد الكتب المفتوحة، يشرح لها نقطة معقدة بصبر وأناة، ويشير بإصبعه إلى فقرة معينة
 كانت صبر تستمع إليه باهتمام مطلق، وتهز رأسها بين الحين والآخر علامة على الفهم.
وقبل أن يستوعب أكمل هذا المشهد الأول، خرجت والدته نسرين من المطبخ وهي تحمل صينية عليها أكواب من عصير الليمون المثلج. 
تحركت بهدوء ووضعت الأكواب أمامهما على الطاولة، وربتت على كتف صبر بحنان وهي تقول
_ اشربي يا حبيبتي روقي دمك شوية دماغك هتنفجر من كتر المذاكرة.
كان المشهد كاملاً أمامه الآن زوجته التي كانت تخشى من ظلها، تجلس بثقة وتنهل من علم والده
ووالده الصارم دكتور الجامعة يبدو مستمتعاً بدوره. 
ووالدته تجلس بجانبهم تقدم الدعم والحنان.
شعر أكمل بغصة دافئة في حلقه لقد تحول بيته إلى شيء لم يكن يتوقعه أبداً، لقد أصبح منزلاً حقيقياً مليئاً بالدفء والحياة.
في تلك اللحظة، لمحته نسرين واقفاً عند المدخل فابتسمت ابتسامة عريضة ومشرقة.
_ حمد الله على السلامة يا حبيبي.
انتبه حسين وصبر لوجوده نهض حسين من مكانه وهو يمدد ظهره بتعب مصطنع.
_ أهلاً كويس إنك جيت بما إن جوزك وصل يبقى مهمتي خلصت خليه هو يكمل معاكي بقى.
ضحكت نسرين وهي تأخذ منه الكتاب.
_ إيه يا حسين زهقت من ساعتين مذاكرة بس؟
هز حسين رأسه بجدية مازحة وهو يتجه نحو ابنه.
_ ساعتين إيه بس؟ أنا أصلاً زهقان منه في الجامعة، مش هيبقى في البيت وفي الجامعة كمان! كفاية عليا أشوف الوش ده هناك كل يوم.
ابتسم أكمل لوالده الذي ربت على ظهره بقوة، ثم نظر إلى صبر التي كانت تنظر إليه بخجل وسعادة، وعيناها تلمعان بامتنان. 
لم يقل شيئاً لكن نظراته كانت تحمل كل الكلام كانت تقول لها "شكراً". 
شكراً لأنكِ جلبتِ هذه الحياة إلى بيتنا، وشكراً لأنكي أصبحتي جزءاً من هذه اللوحة الجميلة.
تقدم نحو الطاولة وأخذ كوب العصير الذي تركه والده وجلس في مكانه بجوار صبر. 
نظر إلى الكتاب المفتوح ثم إليها وقال بابتسامة هادئة
_ ها واقفين عند أنهي مادة؟
كانت لحظة بسيطة لكنها كانت تعني كل شيء. 
كانت إعلاناً صامتاً بأن هذا البيت بكل من فيه، قد وجد أخيراً إيقاعه الخاص من السعادة والتناغم.
❈-❈-❈
كانت الشمس تلقي بأشعتها الذهبية على حديقة البيت الفسيحة عندما توقفت سيارات عائلة الرفاعي أمام البوابة الكبيرة. 
نزل منها وهدان الجد بشموخه المعهود، يتبعه سالم وحامد وسند ومالك.
كان جاسر في انتظارهم عند مدخل المضيفة يقف بثقة وهيبة لكن عينيه كانتا تحملان ترحيباً حقيقياً. 
ما إن رأوا بعضهم حتى ساد صمت قصير صمت يحمل في طياته تاريخاً من الصراع لكنه اليوم يُطوى ليبدأ فصل جديد.
تقدم وهدان أولاً ونظر في عيني جاسر مباشرة نظرة فاحصة وقوية ثم ابتسم ابتسامة خفيفة ومد يده.
_مبروك يا ولدي.
صافحه جاسر بحزم واحترام.
_الله يبارك فيك يا چدي البيت نور بوچودكم.
تبادل التحية مع سالم وحامد، ثم جاء دور سند صافحه جاسر بحرارة وقال بنبرة صادقة
_مبروك على المولود يا سند يتربى في عزك.
رد سند بابتسامة هادئة
_الله يبارك فيك وألف مبروك 
جاء دور مالك الذي ابتسم له كإبن عمته وعديله وليس شيء آخر
_مبروك يا جاسر الف مبروك شكلك رايج ومبسوط.
رد جاسر بترحيب
_الله يبارك فيك، أكيد رايج يا مالك اتفضل.
كانت جملة بسيطة لكنها كانت بمثابة اعتراف بأن كل شيء قد انتهى، وأن السعادة قد وجدت طريقها للجميع.
جلسوا جميعاً وبدأت القهوة تُقدم كان الجو في البداية رسمياً بعض الشيء، لكن سرعان ما بدأ سالم في الحديث عن الأراضي والمحاصيل، وبدأ وهدان يروي حكاية قديمة وبدأ الجليد يذوب تماماً. 
كان جاسر يستمع باهتمام يشارك في الحديث ويضحك أحياناً. 
كان رجال العائلتين يجلسون معاً، لا كأعداء سابقين بل كأنساب جدد، يجمعهم الآن رابط أقوى من أي ثأر... حبهم لنغم.
في الصالون الداخلي للنساء...
في الداخل كانت الأجواء مختلفة تماماً. 
كانت صاخبة مليئة بالضحك والزغاريد الخافتة
ما إن دخلت ليل وروح ووعد والبقية حتى استقبلتهن ونس بالأحضان والقبلات الحارة.
كانت نغم تقف في وسط الصالون ترتدي العباءة البيضاء التي أهداها لها جاسر، وتبدو كأميرة حقيقية. 
عانقت والدتها عناقاً طويلاً وهمست ليل في أذنها
_وشك منور يا جلب أمك باين عليه حاطك في عينيه.
ثم جاء دور روح التي عانقتها بقوة وهمست بمرح
_العباية دي چميلة أوي يا نغم هتنطج عليكي.
ضحكت نغم، ثم احتضنت وعد التي كانت تنظر إليها بسعادة غامرة.
_ألف مبروك يا نغم، فرحتك بالدنيا كلها.
جلست النساء جميعاً وكانت ونس تتصرف كأم حقيقية للجميع، تقدم الحلوى والعصائر بنفسها، وتتحدث مع ليل كأنهما صديقتان قديمتان.
_البيت ده كان ضلمة من غيرها يا أم نغم ربنا يباركلك فيها، رجعت الروح للبيت ولابني.
كانت روح ووعد لا تتوقفان عن ممازحة نغم.
قالت روح وهي تغمز لها
_ها لسة بتصحي بدري تساعدي طنط ونس في المطبخ؟
ردت ونس بسرعة وهي تضحك
_لأ ابني اللي بيصحى دلوجت يدور عليها في المطبخ.
انفجر الجميع في الضحك واحمر وجه نغم التي لم تجد ما تقوله.
كانت السعادة تملأ المكان سعادة ليل وهي ترى ابنتها معززة مكرمة في بيتها، وسعادة ونس وهي ترى ابنها قد وجد نصفه الآخر، وسعادة الأخوات وهن يرين بعضهن مجتمعات في الفرح بعد طول عناء. 
لم يكن هناك أي أثر للماضي الأليم، بل كانت هناك فقط بهجة الحاضر، وأمل المستقبل المشرق الذي يجمع العائلتين.
كانت ورد تتذكر ذلك المنزل الذي لم يتغير كثيراً 
فشعرت بها ونس وربتت على يدها بحنو
_الباب اتفتح يا ورد مش هيكون ليكي حچة بعد إكدة.
ردت ورد الابتسامه 
_أكيد يا أم جاسر، ربنا يديم المحبة بينا.
بعد أن غادر أهلها والبيت يعج بصدى ضحكاتهم وبهجتهم، شعرت نغم بسعادة غامرة. 
توجهت إلى المطبخ حيث كانت ونس وسامية تقومان بترتيب الأطباق.
_أساعدكم في حاچة ؟
ابتسمت ونس بحنان ووضعت يدها على كتف نغم.
_مفيش حاچة تتعمل يا حبيبتي وبعدين عريسك فوج لوحده، روحي لچوزك ده زمانه بيعد الدجايج.
أصرت ونس عليها حتى استجابت نغم بخجل، وصعدت الدرج وقلبها يخفق بترقب.
فتحت باب الجناح بهدوء فوجدت جاسر يقف أمام خزانة الملابس، يغلق بابها للتو. 
كان يرتدي ملابسه المنزلية المريحة، وماسكاً في يده علبة قطيفة صغيرة داكنة اللون.
ما إن رآها حتى ارتسمت على وجهه ابتسامة ساحرة، ابتسامة كانت مخصصة لها وحدها. 
اقترب منها بخطوات واثقة وكل نظرة من عينيه كانت تهمس بكلمات الشوق.
لم يقل شيئاً فقط أحاط خصرها بذراع ومال عليها ليطبع قبلة عميقة وحنونة على شفتيها، قبلة كانت تحمل كل ما شعر به من فخر وسعادة وهو يراها بين أهلها في بيته.
عندما ابتعد عنها قليلاً أسند جبينه على جبينها، وهمس بصوتٍ أجش
_وحشتيني الشوية دول.
ذابت الكلمات في أذنيها وابتسمت بحب.
_وأنت كمان كنت مبسوطة جوي النهاردة يا جاسر. 
حسيت إن كل حاچة رچعت أحسن من لول.
مرر إبهامه برقة على خدها.
_ده مش هياچي حاچة چمب السعادة اللي هعيشّك فيها. 
كل يوم هصحى من النوم وهيكون كل همي إزاي أخليكي أسعد من اليوم اللي جبله. 
أنتي بجيتي النفس اللي بتنفسه يا نغم.
شعرت بقلبها يذوب من كلماته الصادقة ثم انتبهت للعلبة التي لا يزال يمسكها في يده الأخرى.
_إيه اللي في يدك ده؟
ابتسم جاسر ابتسامة غامضة، ورفع العلبة بينهما.
_دي حاچة تخصك... ورجعت لصاحبتها.
فتح العلبة ببطء أمام عينيها
 في الداخل، على وسادة من المخمل كانت ترقد سلسلتها الذهبية الرقيقة تلك الذكرى الوحيدة المتبقية لها منه، والتي كانت قد فقدتها في بيت الجبل قبل أن تتركه وتعود لأهلها.
اتسعت عيناها بذهول وشعرت بالدموع تتجمع فيها فجأة رفعت نظرها إليه، وعيناها تسألان ألف سؤال.
_إنت... إنت لجيتها إمتى؟
قال بهدوء وعيناه تلمعان بحب عميق
_لجيتها في نفس اليوم اللي مشيتي فيه من بيت الجبل
لجيتها على الأرض چمب السرير. عرفت إنها وجعت منك.
مسحت دمعة هاربة قبل أن تنزل.
_طب... طب ليه مجولتليش؟ ليه مدتهاليش من وجتها؟
_عشان كنت مستني الوجت المناسب. 
كنت مستني اليوم اللي أجدر أدهالك فيه وأنتي في حضني، مش وأنتي بعيدة عني وبعدين...
أخرج السلسلة من العلبة وأمسكها بين أصابعه.
_بعتها للصايغ يكبرها شوية ويصلح الجفل بتاعها عشان لما تلبسيها تاني متجعش منك أبداً.
لم تعد قادرة على التحمل لم يكن مجرد عثوره على السلسلة هو ما أثر فيها، بل تفكيره العميق احتفاظه بها كل هذا الوقت وانتظاره للحظة المثالية وإصلاحها ليتأكد أنها لن تضيع مرة أخرى. 
كل هذه التفاصيل الصغيرة كانت تصرخ بحبه الذي لا حدود له.
لم تجد أي كلمات يمكن أن تعبر عما تشعر به، كل ما فعلته هو أنها ألقت بنفسها في حضنه ودفنت وجهها في صدره وعانقته بكل قوتها.
_بحبك... بحبك جوي يا جاسر.
شدد جاسر من احتضانها وشعر بأنه يمتلك العالم كله بين ذراعيه. 
لقد أعاد إليها ذكرى من والدها لكنه في المقابل فاز بقلبها إلى الأبد.

•تابع الفصل التالي "رواية ثنايا الروح" الريح والغيامة" اضغط على اسم الرواية

تعليقات