رواية ثنايا الروح "الريح والغيامة" الفصل الاربعون 40 - بقلم رانيا الخولي

 رواية ثنايا الروح "الريح والغيامة" الفصل الاربعون 40 - بقلم رانيا الخولي 


كانت العودة من الجامعة أشبه بعبور صحراء قاحلة كل متر كانت تقطعه السيارة كان يزيد من الإرهاق الذي بدأ ينهش جسد صبر كانت تحاول جاهدة أن تخفي ألمها خلف ابتسامة باهتة، لكن أكمل بعينيه الصقريتين اللتين اعتادتا قراءة أدق التفاصيل كان يرى كل شيء كان يرى شحوب وجهها، والارتعاشة الخفيفة في يديها، والطريقة التي كانت تضغط بها على أسنانها لتكبت أنيناً.
ما إن وصلا إلى الشقة وساعدها على الاستلقاء في الفراش حتى انهار جدار صمودها الهش بدأ جسدها يرتجف، وشعرت بدوار شديد بينما كان الألم في ظهرها يطعنها كآلاف الإبر.
_صبر انتِ شكلك تعبانة أوي.
حاولت صبر طمئنته
_كل ده ألم عادي من ال....اه
صدرت منها اهه مؤلمة آلمته هو أكثر
تحرك لينادي والدته لكنه تذكر أنها بالمشفى
تحرك بسرعة اتصل بوالدته 
_أيوة يا أمي..صبر...صبر تعبت تاني.
قالت والدته بروية
_اهدى يا حبيبي متخافش انا كنت عاملة حساب حاجة زي كدة.
المحلول جاهز عندك هتوصله الكانيولا
ولما تخلصه هتتحسن متقلقش 
اغلق الهاتف وفعل ما أخبرته به والدته ثم جلس بجانبها على السرير وأمسك بيدها الأخرى وعيناه تراقبان وجهها المتألم بقلق كاد أن يفتك به.
_ماما قالت ان المحول ده عيريحك، معلش اتحملي شوية.
ظلت صامتة لبعض الوقت، تنتظر أن تهدأ العاصفة داخل جسدها. 
وعندما شعرت بتحسن طفيف فتحت عينيها لتجده يحدق بها بنظرة لم ترها من قبل. 
كانت مزيجاً من الحب العميق، والغضب، والخوف المطلق.
_ كفاية.
قالها بصوت هادئ، لكنه كان يحمل قوة قرار نهائي.
_ مفيش امتحانات تاني.
نظرت إليه بصدمة كأن كلماته صفعتها وقالت بصوت ضعيف لكنه حازم.
_ إيه؟ لأ طبعاً فاضل مادتين بس يا أكمل!
هز رأسه بنفي قاطع وعيناه لم ترمشا.
_ قولت كفاية أنا مش مستعد أخسرك أو أخسر ابني عشان شهادة. 
صحتك وصحة اللي في بطنك أهم من أي حاجة في الدنيا.
تجمعت الدموع في عينيها ليس من الألم الجسدي بل من الشعور بأن حلمها ينهار أمامها.
_ بس أنا كويسة ده تعب عادي أي واحدة حامل بتتعب المهم إن ابننا كويس.
انفجر أكمل غاضباً لكنه كان غضباً نابعاً من الخوف.
_ كويسة؟! أنتِ شايفة حالتك دي وتقولي كويسة؟! أنتِ مش متخيلة أنا حسيت بإيه وأنا شايفك راجعة عاملة كده، مش متخيلة الرعب اللي كنت فيه وأنا بعلقلك المحلول ده وخايف إيدك ترتعش! أنا كنت هموت من الخوف عليكي يا صبر!
كان صوته يرتجف في نهاية جملته، وفضح كل الهلع الذي كان يحاول إخفاءه خلف قناع القوة.
تأثرت بصدق خوفه ومدت يدها لتلمس وجهه.
_ أرجوك يا أكمل... متحرمنيش من فرحة النجاح أنا تعبت أوي عشان أوصل لهنا السنين اللي فاتت كلها والبهدلة اللي شفتها، كل ده هيروح لو مستحملتش اليومين دول. 
خليني أكمل وأوعدك هحافظ على نفسي.
نظر إلى عينيها الدامعتين ورأى فيهما الإصرار والعزيمة التي أحبها فيها، كان في صراع مرير عقله وقلبه يصرخان به أن يمنعها أن يحبسها في هذا الفراش حتى تضع طفلهما بأمان. 
لكنه رأى أيضاً أن قتل حلمها سيكون بمثابة قتل لجزء من روحها التي يقاتل ليعيدها إليها.
أغمض عينيه وأطلق تنهيدة طويلة وعميقة، تنهيدة رجل مهزوم أمام إصرار من يحب.
_ ماشي يا صبر.
قالها باستسلام كأنه يوقع على أخطر أوراق قضية في حياته.
_ هتكملي... بس بشرط.
نظرت إليه بلهفة.
_ إيه هو؟
_ أنا اللي هذاكرلك هقرالك كل حاجة وأنتِ نايمة مكانك ومش هتتحركي من على السرير ده إلا للحمام وبس.
ولو حسيت للحظة واحدة إنك تعبانة تاني هنلغي كل حاجة اتفاقنا؟
أومأت برأسها بسرعة وابتسامة ممتنة ومشرقة أزاحت كل آثار الألم عن وجهها.
_ اتفاقنا.
انحنى وقبل جبينها قبلة طويلة ثم همس وهو يزيح خصلة شعر عن وجهها.
_ بحبك... وبخاف عليكي أكتر من روحي.
لقد وافق لكنه في قراره نفسه، أقسم أنه سيتحول إلى حارسها الشخصي وظلها وسجّانها لو لزم الأمر حتى تمر هذه العاصفة بسلام، ويعود إليه كنزاه هي وطفلهما، سالمين.
❈-❈-❈
صعد جاسر الدرج إلى جناحه الخاص لا يبحث عن الراحة بل عن الهدوء قبل العاصفة التي يعرف أنها قادمة كان يريد أن يغير ملابسه قبل أن يعود إلى بيت الجبل حيث يقيم احتفاله هناك.
فتح باب الجناح ودخل لكنه توقف على الفور لم يكن المكان فارغاً.
كانت شروق تقف في منتصف الغرفة، تنتظره كانت ترتدي فستاناً أسود، كأنها في حداد ووجهها شاحب وعيناها حمراوان من البكاء أو من الحقد.
نظر إليها جاسر ببرود نظرة عابرة كأنه ينظر إلى قطعة أثاث في غير مكانها
لم يقل شيئاً تجاهل وجودها تماماً، وأكمل طريقه نحو غرفة الملابس وبدأ في خلع ساعة يده ووضعها على المنضدة.
هذا التجاهل كان أشد عليها من أي إهانة ركضت ووقفت أمامه مباشرة سادة طريقه وأجبرته على التوقف.
_ كيف يا جاسر؟!
صرخت بصوت يرتجف من القهر.
_ كيف تعمل فيا كده يا جاسر؟!
رفع جاسر عينيه ببطء ونظر إليها مباشرة، نظرة خالية من أي عاطفة باردة كجليد القطب الشمالي.
_ عملت إيه؟
_ الفرح، بتعملها فرح يا جاسر؟! بتجيبها هنا في بيتي وعلى سريري وكمان بتعلن چوازك منيها جدام الناس كلها؟! عايز تفضحني؟! عايز تكسرني؟!
لم تتغير ملامحه ظل هادئاً وهذا الهدوء كان يدفعها إلى الجنون.
_ أولاً ده بيتي أنا ثانياً هي مراتي وده حجها ثالثاً انا مش هچيبها البيت هنا
والأهم أنا مش فاضي للكلام ده.
حاول أن يتخطاها لكنها أمسكت بذراعه وتشبثت به بيأس.
_ مراتك؟! مراتك اللي كنت بتجولي إنها مجرد وسيلة انتقام؟! كدبت عليا يا جاسر ضحكت عليا!
نفض ذراعها بعنف لكن دون أن يلمسها مجرد حركة قوية جعلتها تتراجع خطوة إلى الوراء اقترب منها هو الآن وصوته انخفض إلى همس خطير، همس يحمل تهديداً لا لبس فيه.
_ اسمعي زين يا بنت عمي عشان الكلام ده مش هكرره تاني نغم مراتي وحبيبتي، والبلد كلها مش بس البلد الدنيا كلها هتعرف ده.
تجمعت الدموع في عينيها لكنها دموع غيظ وليست دموع ضعف.
_ وأنا؟! أنا مراتك برضه!
ضحك جاسر بسخرية ضحكة قصيرة ومريرة.
_ أنتِ كنتِ صفقة، صفقة أبوكي فرضها عليا وأنا جبلتها في وقجت كنت فيه أعمى لكن خلاص أنا فجت
والصفقة دي بالنسبالي ملغية.
قالت بتحدي يائس.
_ مش هسيبك مستحيل أسيبك تتهنى بيها الفرح ده مش هيكمل.
هنا تغيرت نظرة جاسر اختفى البرود وحل محله شيء آخر، شيء مظلم ومرعب أمسك بذقنها بأصابعه ورفعه بقوة مجبراً إياها على النظر في عينيه.
_ لو فكرتي بس... مجرد تفكير... إنك تعملي حاچة تكسر فرحة نغم، أو تنزلي دمعة واحدة من عينها الليلة دي...
صمت للحظة وشد على قبضته.
_ هخليكي تتمني الموت ومتلاجيهوش هنسى إنك بنت عمي وهنسى إن في بينا صلة دم وهتشوفي وش جاسر التهامي اللي عمرك ما شفتيه جبل سابج.
كانت كلماته كالصقيع تجمد الدم في عروقها رأت في عينيه صدق تهديده، ورأت الوحش الذي كان يختبئ خلف الرجل الشامخ وهو الآن مستعد للخروج من أجل حماية مملكته.
ترك ذقنها بقسوة ودفعها من طريقه.
_ اطلعي بره جناحي ومش عايز أشوف وشك تاني.
وقفت شروق متسمرة في مكانها، ترتجف من الخوف والغضب والعجز. 
لقد أدركت في تلك اللحظة أنها خسرت كل شيء لم تخسر جاسر الرجل فقط، بل خسرت أي سلطة أو نفوذ كانت تظن أنها تملكه عليه. 
لقد تحول إلى حصن منيع يحيط بنغم وأي شخص يحاول الاقتراب من هذا الحصن سيحترق.
❈-❈-❈
لم يلتفت جاسر خلفه خرج من الجناح الذي أصبح يخنقه حاملاً حقيبة سفر واحدة تحتوي على كل ما يخصه تاركاً خلفه كل أثر لشروق أو للماضي الذي فرض عليه لم تكن وجهته جناح نغم بل جناح آخر في السرايا، الجناح الذي كان دائماً ملاذه ومصدر قوته: جناح والدته.
طرق على الباب طرقاً خفيفاً قبل أن يدخل وجدها كما توقع تماماً كانت تجلس على طرف السرير بكامل وقارها الهادئ، وبجانبها حقيبة سفر صغيرة مغلقة وجاهزة كانت تنتظره.
ما إن رأته حتى وقفت وارتسمت على وجهها ابتسامة حنونة، لكنها كانت ممزوجة بقلق خفي.
تقدم جاسر منها ووضع حقيبته بجانب حقيبتها.
_ خلصتي يا أمي؟
سألها بصوت هادئ صوت الابن الذي يعود إلى أصله.
أومأت برأسها.
_ أيوه يا حبيبي من بدري.
ثم تطلعت إليه بنظرة مليئة بالحب والتفهم.
_ بس أنا ليا طلب عندك يا جاسر.
قطب جاسر حاجبيه بقلق طفيف.
_ اؤمري يا ست الكل.
_ سيبني اهنه.
قالتها بهدوء.
_ روح أنت لمراتك واشبع منها وعيشوا فرحتكم. 
أنا مش عايزة أكون عزول وسطكم في بيتكم الجديد مش دلوجت على الأجل.
هز جاسر رأسه بنفي قاطع وحاسم، قبل حتى أن تنهي جملتها تقدم منها وأمسك بيديها برفق وجلس بجانبها على السرير وهو ما نادراً ما يفعله.
_ مفيش حاچة اسمها أسيبك اهنه
قالها بنبرة لا تقبل النقاش لكنها كانت مغلفة بحنان عميق.
_ أنتِ مش عزول يا أمي أنتِ البركة اللي هتكون في البيت، أنتِ الخير كله أنا مجدرش أبدأ حياة جديدة وأنتِ مش فيها، ومش معايا.
حاولت أن تعترض.
_ بس يا ابني دي خصوصيتكم دي عروسة جديدة وليها حج تاخد راحتها في بيتها.
ضغط على يديها برفق ونظر في عينيها مباشرة.
_ وراحتها من راحتي ونغم بتحبك زي ما أنا بحبك بالظبط البيت اللي هترفضيه أنا مش هعيش فيه، المكان اللي مش هتكوني منورة فيه، أنا مش هدخله.
كانت كلماته صادقة نابعة من أعماق قلبه لقد تخلى عن كل شيء وحارب الجميع لكنه لم يكن مستعداً أبداً أن يتخلى عن والدته هي ثابته الوحيد في عالم متغير.
_ يا أمي...
أكمل بصوت أكثر حناناً.
_ أنتِ استحملتي معايا كتير جوي وجفتي في ضهري جصاد الدنيا كلها مينفعش دلوجت وأنا ببني دنيتي الجديدة متكونيش أنتِ أساسها وعمدانها.
تأثرت والدته بكلماته وترقرقت الدموع في عينيها لم تكن دموع حزن بل دموع فخر وحب لهذا الابن الذي رغم قسوته وجبروته مع العالم كله، إلا أنه أمامها يعود طفلاً يبحث عن أمانه.
_ أنا رايدك معايا ورايد حفيدك يتربى في حضنك، ويشرب من حنيتك، ده مش طلب يا أمي، ده رجاء.
لم تعد قادرة على الرفض كيف ترفض وهي ترى كل هذا الحب والإصرار في عينيه؟ أومأت برأسها موافقة، وربتت على يده.
_ اللي تشوفه يا حبيبي طالما ده يريحك، أنا معاك في أي مكان.
نهض جاسر واقفاً وشعر براحة تغمر قلبه حمل حقيبتها في يد وحقيبته في اليد الأخرى.
_ يلا بينا بيتنا الجديد مستنينا.
خرج جاسر من الجناح ووالدته تسير بجانبه وشعر بأنه الآن يمتلك العالم حقاً ليس لأنه انتصر على أعدائه بل لأنه استطاع أن يجمع أغلى امرأتين في حياته تحت سقف واحد، وفي حمايته.
❈-❈-❈
كانت غرفة نغم قد تحولت إلى مكان يعج بالحركة والضحكات والهمسات السعيدة وفي مركز كل هذا وقفت نغم أمام المرآة الطويلة، لا تكاد تصدق الصورة التي تراها.
لم تكن تنظر إلى نفسها بل إلى فتاة أخرى فتاة تشبهها لكنها تشع نوراً كانت الكوافيرة قد أبدعت، فمكياجها كان ناعماً يبرز جمال ملامحها الطبيعية دون تكلف، وتسريحة شعرها تحت الحجاب المصمم بعناية كانت متقنة وأنيقة. 
أما الفستان فقد كان قصة بحد ذاتها لونه الهادئ كان ينسجم تماماً مع لون بشرتها، وقصته المحتشمة ذات الأكمام الطويلة المطرزة لم تنقص من جماله شيئاً، بل أضافت إليه وقاراً ورونقاً خاصاً.
كان كل خيط فيه ينطق بالفخامة
دارت حول نفسها ببطء وضحكت ضحكة صافية ضحكة فتاة ترى حلمها يتحقق أمام عينيها.
كانت كل بضع دقائق تمسك هاتفها وتتصل بجاسر الشوق واللهفة لسماع صوته كانا لا يقاومان لكن في كل مرة، كان الخط يرن دون إجابة أو أحياناً يرفض المكالمة شعرت بقلق طفيف لكنها كانت تثق به.
وبينما كانت روح تخرج لها حذائها رن هاتفها برسالة نصية 
فتحتها بلهفة وابتسمت ابتسامة واسعة أضاءت وجهها بالكامل عندما قرأت كلماته البسيطة والمباشرة:
"معايا رجالة أول ما أفضى هكلمك شكلك هيكسر الدنيا."
أغلقت الهاتف ووضعته على قلبها، وشعرت بسعادة دافئة تغمرها حتى وهو مشغول يفكر بها ويجد طريقة لطمأنتها ومغازلتها.
قامت بالتقاط صورة لها وقامت بإرسالها إليه وكتبت 
"بس حاسة نفسي مش حلوة"
"انت شايف ايه"
لم تمضي ثواني الا وكان رده جاهزًا
"بلاش اقولك ردي لأنه هيكون قاسي"
تابعت بدهاء
"اللي هو ايه؟"
جاء رده
"هاجي اضيع كل اللي عملته وأخدك على بيت الجبل اعرفك بطريقتي"
ضحكت نغم ضحكة عالية دون إرادتها جعلت الجميع ينتبه لها وليل التي دلفت لتوها كاد قلبها يسقط فرحًا من ساعدة ابنتها.
"لأ خلاص الطيب أحسن"
دخلت والدتها في تلك اللحظة  ووضعت يدها على صدرها وهي تطلق "ما شاء الله" طويلة وعميقة تقدمت منها ودموع الفرح تلمع في عينيها.
_ بدر منور يا جلب أمك بدر منور.
احتضنتها بقوة وهمست في أذنها
_ النهاردة بس حسيت إن روحي ردت فيا لما شفت الفرحة على وشك يا بنتي.
دخلت زوجة عمها سالم وابتسامة صادقة على وجهها لأول مرة منذ زمن.
_ ربنا يتمملك على خير يا نغم. تستاهلي كل خير.
كانت الأجواء في الغرفة وفي السرايا كلها أشبه بحلم، الزغاريد لا تتوقف، والأغاني الصعيدية التراثية التي تتغنى بالعروس تملأ المكان، كانت رائحة البخور والمسك تمتزج برائحة السعادة.
وقفت وعد بجانب روح وهما تنظران إلى نغم بفخر همست وعد لروح
_ شوفي الفرحة؟ أخيراً الفرح عرف طريق بيتنا من تاني.
أومأت روح برأسها ورغم الجرح الخفي في قلبها إلا أن سعادتها بنجاة أختها وتحقق حلمها كانت أكبر من أي ألم.
لقد عادت الضحكات لترن في أرجاء السرايا وعادت القلوب لتنبض بالأمل. 
كانت ليلة نغم لكنها كانت فرحة للجميع، فرحة انتصار الحب على الكراهية وفرحة عودة الحياة إلى بيت كاد أن يقتله الحزن.
لم يكن مجرد حفل زفاف بل كان حدثاً تاريخياً ستتحدث عنه البلدة لسنوات  طويلة. 
لقد أقام جاسر التهامي عرساً أسطورياً، لم تشهد البلدة مثيلاً له من قبل. 
أُقيم الفرح في أرض واسعة أمام بيت الجبل، زُينت بآلاف الأضواء التي حولت الليل إلى نهار وفُرشت بأفخر أنواع السجاد ووُضعت فيها مئات الموائد التي امتلأت بما لذ وطاب من الطعام.
كانت البلدة كلها هناك الأعيان وكبار العائلات والمزارعون البسطاء، والشباب والشيوخ جاء الجميع ليشهدوا بأعينهم نهاية أطول وأشرس عداء عرفته المنطقة وليشاهدوا العروس التي استطاعت أن تفعل المستحيل.
وفي قلب هذا كله جلست نغم على "الكوشة" الفخمة التي صُممت خصيصاً لها كملكة متوجة على عرشها في منزل عائلتها
كانت بجانبها والدتها وأقرب صديقاتها بينما كانت روح ووعد تتحركان بين الضيوف، تستقبلان المهنئين بوجوه تفيض بالفخر والسعادة.
كانت نغم تشعر وكأنها في حلم كل شيء كان أكبر وأجمل مما تخيلت لكن وسط هذه الفرحة، كانت تشعر بالعيون المسلطة عليها من كل حدب وصوب. 
كانت قادرة على قراءة الأفكار في نظراتهم، وسماع الهمسات التي تدور في كل زاوية.
كان هناك فريق المندهشين....
مجموعة من نساء البلدة جلسن على طاولة قريبة، يختلسن النظر إليها ثم يتهامسن
"شفتي يا ختي؟ هي دي اللي بيجولوا عليها بنت الرفاعي سبحان من غير الأحوال مين كان يصدج إن جاسر التهامي، اللي الصخر بيلين تحت إيده جلبه يلين لواحدة منهم؟
ردت أخرى وهي تهز رأسها بعدم تصديق
"بيجولوا عملاله عمل مفيش تفسير غير اكده ده كان بيكره التراب اللي بيمشوا عليه."
وكان هناك فريق السعداء...
على طاولة أخرى، جلس بعض كبار السن من حكماء البلدة، يرتشفون الشاي ووجوههم تفيض بالراحة.
قال أحدهم وهو يسبح بمسبحته
"الحمد لله الحمد لله الذي ألف بين قلوبهم. 
كنا خايفين الدم يوصل للركب ربنا يجعل في الچوازة دي نهاية للشر وبداية للخير."
أضافت آخرى
"الواد ده طلع أصيل حب ووجف جدام الدنيا كلها عشان حبه والبنت وشها فيه الجبول والبركة ربنا يهنيهم."
وكان هناك فريق الحاسدين...
بالطبع، لم يخلُ الفرح من العيون التي تملؤها الغيرة والحقد فتيات كن يحلمن بالزواج من جاسر، وعائلات كانت تطمع في مصاهرته.
قالت فتاة بمرارة لصديقتها
"مش خابرة شاف فيها إيه زيادة عننا؟ لا هي أحلى مننا ولا حسبها ونسبها زينا ده الحظ لما بيلعب."
ردت صديقتها وهي تنظر إلى فستان نغم ومجوهراتها بحسد
"حظ إيه بس دي دنيا قايمة على الواسطة شوفي الفرح اللي عاملهولها، كأنه فرح بنت ملوك واحنا ميرضاش بينا."
كانت نغم تسمع بعض هذه الهمسات، وترى تلك النظرات، لكنها لم تكن تهتم
لقد تعلمت أن تتجاهل العالم كله طالما أن "هو" بجانبها. 
لقد أدركت في تلك الليلة أنها لم تتزوج رجلاً عادياً لقد تزوجت أسطورة البلدة، وأن حياتها معه ستظل دائماً تحت الأضواء ومحط أنظار الجميع لكنها كانت مستعدة لذلك، مستعدة أن تكون ملكة هذا الرجل وأن تواجه العالم كله وهي في حماه.
❈-❈-❈
كانت أجواء الفرح الصاخبة قد هدأت أخيراً، ولم يتبق في السرايا سوى الصمت المريح وأصداء ليلة أسطورية. 
في غرفة نغم، كانت الأجواء أكثر هدوءاً وحميمية بمساعدة روح ووعد خلعت نغم فستان زفافها الثقيل وارتدت بيجامة حريرية بسيطة وشعرت أخيراً بأنها تستطيع التنفس.
نظرت وعد إلى هاتفها الذي أضاء بصورة طفلها النائم وتثاءبت قائلة
_ أنا فصلت خلاص عدي نام، هلحق أناملي ساعتين أنا كمان جبل ما يصحى ويعلن حالة الطوارئ.
احتضنت نغم بحب.
_ ألف مبروك مرة تانية يا أجمل عروسة.
ثم غمزت لها.
_ سيبي لچوزك فرصة يكلمك بجا.
ضحكت الأخوات الثلاث وغادرت وعد الغرفة تاركة نغم وروح بمفردهما.
ساد صمت مريح للحظات جلست فيه الأختان بجانب بعضهما على السرير كانت نغم تشعر بسعادة تامة لكنها لم تستطع تجاهل نظرة الحزن الخفية التي لم تفارق عيني روح طوال الليل.
وضعت نغم يدها على يد أختها وسألتها بهدوء وحنان
_ عملتي إيه مع مالك؟
تنهدت روح تنهيدة عميقة كأنها تخرج جبلاً من الهم من صدرها نظرت إلى الفراغ وقالت بصوت خافت
_ مفيش كل واحد فينا في عالم عايشين في اوضة واحدة، بس بينا ألف سور أنا مش جادرة أسامح وهو... مش خابرة، يمكن زهق من إنه يحاول.
نظرت نغم إلى أختها بجدية واختفت ملامح العروس السعيدة، وحلت محلها ملامح المرأة الحكيمة التي علمتها التجارب القاسية الكثير.
_ روح... اسمحيلي أجولك كلمة حتى لو هتزعلك.
نظرت إليها روح باستفهام.
_ جولي.
_ أنتِ اللي ظلمتي مالك.
قالتها نغم بهدوء لكن بحدة قاطعة
تفاجأت روح وقبل أن تعترض أكملت نغم
_ اسمعيني للآخر، أنتِ بتجولي إنه غلط ماشي هو غلط بس تعالي نحسبها صح.
مالك ضحى بإيه عشانك وأنتِ ضحيتي بإيه عشانه؟
صمتت روح فأكملت نغم 
_ مالك اتچوزك وهو فاكر إنك مرات أخوه قولاً وفعلاً، كان شايفك بتحبي عدي ومتأكد إن جلبك مش معاه ورغم اكده عمل إيه؟ حارب الدنيا كلها عشانك وجف جصاد جدي ووجف قصاد نفسه وجرر إنه يعمل المستحيل عشان يخليكي تحبيه وتنسي اللي فات. 
اتحمل برودك في الأول وصبر عليكي وعمل كل حاچة عشان يسعدك.
نظرت في عيني أختها مباشرة، ونبرتها أصبحت أكثر قوة.
_ هو لما غلط كان غلطان في ماضي مكنتيش أنتِ فيه. 
كان وحيد في غربة ومكسور، ومكنش عنده أي أمل فيكي 
غلطة وعدت لكن أنتِ... أول ما عرفتي بغلطته دي عملتي إيه؟ طردتيه من حياتك حكمتي عليه بالإعدام من غير ما تسمعيله عذر واحد. 
دمرتي كل اللي بناه عشانك في لحظة.
كانت كلمات نغم كالسياط تجلد روح وتجبرها على رؤية الحقيقة التي كانت تهرب منها.
_ هو لما حبك حبك وأنتِ مش ملكه وحارب عشانك وأنتِ لما عرفتي إنه كان مع واحدة تانية جبلك، اتخليتي عنه وهو ملكك وأبو بنتك شفتي الفرج؟ هو شاف فيكي أمل لحياته، وأنتِ شفتي فيه خاين وجفلتي الباب.
تجمعت الدموع في عيني روح، ليس من الحزن، بل من الإدراك. 
كانت كلمات أختها قاسية، لكنها كانت حقيقية.
_ أنا... أنا مچروحة يا نغم.
_ وأنا كنت مدبوحة يا روح، جاسر خطفني وعذبني وأهانني، ورغم اكده لما شفت حبه الحجيجي في عينيه اديته فرصة. 
عشان الحب الحجيجي يستاهل فرصة ومالك بيحبك حب حجيجي. متضيعيهوش من إيدك عشان كبرياء مچروح. 
الراجل لما بيحس إن الست اللي بيحبها مش مجدراه، بيمشي وساعتها هتندمي ندم عمرك.
أمسكت بيد أختها بقوة.
_ فكري في كلامي يا روح فكري بعجلك مش بجلبك اللي موچوع
مالك يستاهل منك فرصة تانية يستاهل إنك تحاربي عشانه، زي ما حارب هو عشانك بالظبط.
تركت كلمات نغم أثراً عميقاً في نفس روح
لأول مرة بدأت ترى الموقف من زاوية مختلفة بدأت ترى حجم تضحية مالك، وحجم قسوتها هي. 
لم تكن تعرف ماذا ستفعل، لكنها عرفت شيئاً واحداً: أختها على حق.
❈-❈-❈
أخيراً وفي ساعة متأخرة من الليل، أغلق جاسر باب جناحه الجديد خلفه
كان اليوم طويلاً ومجهداً، مليئاً بالمواجهات والترتيبات والوقوف لساعات طويلة لاستقبال المهنئين. 
شعر بإرهاق ينهش جسده، لكن روحه كانت تحلق عالياً كل هذا التعب كان يهون من أجلها.
ألقى بجسده على أقرب أريكة وأغمض عينيه واستحضر وجهها أمامه صورتها التي بعثتها له وهي تجلس على الكوشة كملكة لم تفارق خياله. 
شعر برغبة عارمة في سماع صوتها، أن يتأكد أنها سعيدة كما يتخيلها.
أمسك هاتفه وتردد هل يتصل؟ ربما تكون نائمة بعد هذا اليوم الطويل ولا يريد أن يوقظها. 
قرر أن يرسل رسالة نصية، كطَرقَة خفيفة على باب قلبها.
جاسر:
"صحيتي؟ ولا العروسة نامت؟"
لم تمر ثواني حتى أضاءت شاشة هاتفه بردها، وكأنها كانت تمسك بالهاتف في انتظار رسالته.
نغم:
"مش عارفة انام من الفرحة."
ابتسم جاسر ابتسامة واسعة وشعر بأن كل تعب اليوم قد تبخر عاد ليكتب بسرعة.
جاسر:
"يعني المفاجأة عجبتك؟"
نغم:
"عجبتني بس؟ دي ليلة عمري ما هنساها طول حياتي أنت رجعتلي فرحتي اللي كانت مسروقة."
لم يعد يستطع التحمل ضغط على زر الاتصال المرئي (الفيديو)، وانتظر بلهفة أن يرى وجهها.
ظهرت صورتها على الشاشة وكانت أجمل من الصورة التي بعثتها. 
كانت قد أزالت مكياج الحفل ووجهها يبدو طبيعياً ومشرقاً لكن ما فاجأه هو أنها كانت ترتدي حجاباً بسيطاً يغطي شعرها.
قطب حاجبيه باستغراب مصطنع وابتسامة ماكرة بدأت ترتسم على شفتيه.
_ إيه ده؟ العروسة رجعت تلبس الحجاب جدامي تاني ليه؟
ضحكت نغم ضحكة خافتة مليئة بالدلال ومالت برأسها قليلاً.
_ أنت اللي حكمت على نفسك باكده.
_ أنا؟ عملت إيه؟
_ أنت اللي طلبت فرح جدام الناس كلها وبما إن الفرح بكرة، يبجى أنا جدام الناس لسه مش مرتك رسمي. 
يبجى لازم ألبس الحچاب جدامك لحد ما الفرح يتم بكرة.
نظر إليها جاسر عبر الشاشة معجباً بدهائها ومرحها لقد أحب هذه اللعبة.
_ماشي يا نغم، شكلك اتعلمتي وبتلعبي على تجيل.
_ طبعاً لازم أستغل آخر يوم ليا كـ "مخطوبة"
قالتها وهي تشدد على كلمة مخطوبة بمكر.
تنهد جاسر تنهيدة مسرحية وأسند رأسه على الأريكة.
_ ماشي يا ستي موافج كلها أجل من 24 ساعة، وهترچعي تاني لسريرك اهنه وساعتها هعوض اليومين دول بالثانية.
احمر وجه نغم خجلاً من جرأته المباشرة وحاولت تغيير الموضوع.
_ أنت... أنت تعبت جوي النهاردة.
_ كل التعب راح أول ما شفتك بعتّيلي الرسالة.
قالها بصوت عميق وحنون، وعيناه مثبتتان عليها عبر الشاشة.
_ وحشتيني يا نغم.
ذابت الكلمات في أذنيها وشعرت بقلبها يخفق بقوة.
_ وأنت كمان.
صمت لثواني وكأنهما يتحدثان بلغة العيون عبر المسافات ثم قال بهمس همسًا بدا وكأنه سر خطير بينهما فقط
_البيچامة اللي لابساها دي... حلوة عليكي.
فوجئت نغم بتعليقه غير المتوقع ونظرت إلى البيجامة الحريرية البسيطة التي ترتديها شعرت بالخجل يغزوها مرة أخرى.
_شـ... شكراً.
لكن نبرته تغيرت فجأة تحولت من الهمس الحميمي إلى نبرة ماكرة تحمل تحدياً.
_بس فيها مشكلة واحدة.
عقدت حاجبيها بقلق مصطنع.
_إيه هي؟
_إني مش أني اللي اخترتها.
لم تفهم قصده تماماً فظلت صامتة فتابع هو وعيناه تلمعان بوميض خطير عبر الشاشة
_عايز أجيلك دلوجت.
تسارعت دقات قلبها وشعرت بالحرارة تتصاعد إلى وجهها. 
سألته بصوتٍ يكاد يُسمع محاولة إخفاء تأثرها
_عشان... عشان وحشتك؟
جاء رده سريعاً وحاسماً كعادته حين يريد أن يربكها.
_لأ.
صُدمت من رده القاطع تلاشت ابتسامتها قليلاً وشعرت بخيبة أمل طفيفة كيف يقول "لا" بهذه البساطة بعد كل هذا الشوق؟
لكنه لم يتركها في حيرتها طويلاً أكمل بنفس النبرة الماكرة، وكأنه يستمتع برؤية ارتباكها
_عشان أجطعها عليكي.
اتسعت عيناها بصدمة كاملة من جرئته ولم تجد أي كلمة للرد. 
فاستغل صمتها وتابع موضحاً فلسفته الخاصة في الحب والملكية
_ أي حاچة تلبسيها أي حاچة تلمسك وميكنش أني اللي اخترتها وامتلكتها الأول... يبجى لازم تتشال من الوجود، البيچامة دي... أني مشفتهاش جبل إكده، يبجى مينفعش تبات عليكي ليلة واحدة.
كانت كلماته مزيجاً غريباً من الغيرة والتملك والجرأة لكنها كانت مغلفة بطريقة مرحة وماكرة جعلتها تشعر بالارتباك والخجل بدلاً من الخوف. 
لقد كان يفرض سيطرته ولكن هذه المرة كانت سيطرة العاشق لا السجان.
أخيراً وجدت صوتها وقالت بتلعثم وهي تضحك بخجل
_أنت... أنت مجنون.
ضحك هو ضحكة عميقة وقوية ضحكة المنتصر.
_مجنون بيكي وده أقل حاچة بس متخافيش هعوضك عنها هملالك الدولاب كله بحاجات على ذوجي، حاجات لما تلبسيها، تلبسيها عشاني أني وبس.
لم تعد قادرة على مجاراته. 
_طيب واللبس اللي في الشجة اللي في مصر.
زاد دهاءه
_متجلجيش عامل حساب الاتنين لما نحب نجضي يومين لوحدينا منخدش حاچة معانا، ولا يكون عندك حچة واحنا هناك.
أخفت وجهها الذي اشتعل خجلاً بكفيها وهي تضحك.
_خلاص خلاص اسكت.
قال بصوتٍ عاد إلى حنانه العميق
_حاضر هسكت بس بشرط.
رفعت وجهها من بين كفيها، وسألته
_شرط إيه تاني؟
_تفضلي معايا على الخط لحد ما تنامي عايز أتأكد إنك هتنامي وإنتي بتفكري في كلامي ده.
أومأت برأسها دون وعي فقد كان عقلها لا يزال يحاول استيعاب جرأته ظلا يتحدثان، وهو يراقبها بعينيه العاشقتين وهي تحاول جاهدة أن تتصرف بطبيعية لكن قلبها كان يرقص على إيقاع كلماته المجنونة مدركة أنها وقعت في حب رجل لا يشبه أحداً، رجل حبه في حد ذاته... مغامرة لا تنتهي.
كانت ليلة تفصلهما لكن قلبيهما كانا معاً، يعدان الساعات والدقائق حتى بزوغ فجر يوم جديد، اليوم الذي سيوحدهما إلى الأبد.
❈-❈-❈
كانت ظلمة الليل في غرفة مالك وروح أثقل من المعتاد لم تكن ظلمة عادية، بل كانت مشبعة بالصمت والمسافات والألم المكتوم. 
كان كل منهما مستلقياً على طرف السرير يعطي ظهره للآخر لكن لا أحد منهما كان نائماً كانا سجينين في جزيرتين منفصلتين يفصل بينهما محيط من الكبرياء المجروح.
في عالمها:
كانت كلمات نغم تدور في رأسها كصدى لا يتوقف. 
"هو حارب عشانك... وأنتِ اتخليتي عنه"
كانت كل كلمة سكيناً يمزق قناع الغضب الذي تحصنت به ليكشف عن الحقيقة. 
لقد كان قاسياً على نفسه لكنها كانت أقسى عليه تذكرت كل لحظاته معها، صبره حنانه الطريقة التي كان ينظر بها إليها كأنها كنزه الوحيد هل يستحق كل هذا الهجران من أجل خطأ ارتكبه في ماضٍ لم تكن هي فيه؟ بدأ قلبها يلين وبدأت تشتاق إليه تشتاق لحضنه لصوته، لوجوده الذي أصبح كالهواء الذي تتنفسه.
وفي عالمه:
كان مالك يغرق في بحر من اليأس لقد فعل كل ما بوسعه اعتذر توسل، شرح وبرر. 
لكنه اصطدم بجدارها الجليدي مراراً وتكراراً شعر بأنه استنفد كل طاقته وأن قربه منها بهذا الشكل، وجودها بجانبه في نفس الفراش دون أن يستطيع لمسها أو التحدث إليها، هو أقسى أنواع العذاب. 
شعر باختناق كأن جدران الغرفة تطبق على أنفاسه.
لم يعد يحتمل.
نهض من الفراش بهدوء محاولاً ألا يصدر صوتاً قد يوقظها وسار بخطوات ثقيلة نحو الشرفة فتح الباب الزجاجي وخرج مستنشقاً هواء الليل البارد بعمق لعله يطفئ النار المشتعلة في صدره. 
وقف هناك مستنداً بيديه على السور، ينظر إلى الظلام ولا يرى شيئاً سوى صورة وجهها وهي ترفضه.
في الداخل شعرت روح بحركته، سمعت صوت الباب الزجاجي وهو ينزلق ترددت للحظة ثم قررت. 
لا يمكن لهذا الوضع أن يستمر نهضت هي الأخرى ولفّت شالاً خفيفاً حول كتفيها وتبعته إلى الشرفة.
وجدته واقفاً يعطيها ظهره وكتفاه يهتزان قليلاً كأنه يكبت تنهيدة عميقة. 
وقفت خلفه لثواني طويلة تجمع شجاعتها، وترتب الكلمات في رأسها ماذا ستقول؟ كيف ستبدأ؟
أخيراً استجمعت كل قوتها وفتحت فمها لتنطق باسمه بصوت خافت:
_ مالك...
لم تكد الكلمة تخرج من شفتيها حتى استدار هو بسرعة خاطفة كأنه كان يشعر بوجودها طوال الوقت. 
لم تكن في عينيه نظرة عتاب أو غضب بل كانت نظرة لهفة جائعة نظرة رجل على حافة الانهيار وجد طوق نجاته.
وفي حركة واحدة سريعة وحاسمة قطع المسافة القصيرة بينهما، وسحبها إلى حضنه بقوة وأطبق بشفتيه على شفتيها كاتماً أي كلمة أخرى كانت ستقولها.
لم تكن قبلة عادية كانت انفجاراً لكل الشوق المكبوت لكل الألم، لكل ليالي الوحدة 
كانت قبلة يائسة متملكة تعتذر وتطالب في آن واحد. 
شعرت روح بكل مشاعره تتدفق إليها عبر هذه القبلة كل حبه وكل خوفه من فقدانها 
في البداية تصلب جسدها من المفاجأة، لكنها لثانية واحدة فقط بعدها ذابت كل دفاعاتها، وانهار جدارها الجليدي بالكامل. 
لفت ذراعيها حول رقبته وبادلته القبلة بنفس العمق واللهفة معلنة استسلامها الكامل.
ابتعد عنها قليلاً فقط ليأخذ نفساً وجبينه ملتصق بجبينها وعيناه مغمضتان.
_ متجوليش حاچة...
همس بصوت مبحوح يرتجف من العاطفة.
_ متجوليش أي حاچة ممكن تخليني أبعد عنك تاني أنا تعبت يا روح تعبت وأنا جنبك ومش جادر ألمسك.
فتحت عينيها الدامعتين ومدت يدها لتتحسس وجهه.
_ أنا اللي آسفة أنا اللي جسيت عليك أنا اللي...
قاطعها بقبلة أخرى أرق هذه المرة، لكنها لا تقل عمقاً ثم ابتعد عنه شفتيها وهو يلهث
_ إحنا الاتنين غلطنا أنا غلطت لما خبيت وأنتِ غلطتي لما حكمتي عليا بس خلاص كفاية خلينا ننسى كل ده.
حملها بين ذراعيه فجأة، فشهقت بخفة وتشبثت به.
_ مالك!
_ مش هسيبك تبعدي عني لحظة واحدة تاني.
قالها وهو يتجه بها إلى الداخل إلى سريرهما.
وضعها على الفراش برفق واستلقى بجانبها، وسحبها إلى حضنه الدافئ.
_ النهاردة هننهي الخلاف ده للأبد هنسامح بعض، ونوعد بعض إن مفيش حاچة في الدنيا هتفرجنا تاني.
دفنت وجهها في صدره، مستنشقة رائحته التي اشتاقت إليها حد الألم.
_ بوعدك.
أغمض عينيه، وشعر براحة وسلام لم يشعر بهما منذ أيام لقد عادت روحه إليه وفي تلك الليلة لم تكن هناك كلمات أخرى فقط لغة الأجساد التي تعتذر وتسامح، وتتوحد لتنهي كل الخلافات وتبدأ صفحة جديدة نقية، لا مكان فيها إلا للحب.
❈-❈-❈
دخلت وعد إلى غرفة نومهما بهدوء وقد أخذ منها التعب مبلغه بعد يوم طويل وحافل بالمشاعر. 
وجدته مستلقيا على السرير يتصفح هاتفه لكن من الواضح أن عقله لم يكن مع الهاتف. 
ما إن شعر بوجودها حتى رفع رأسه وابتسم ابتسامة أزالت كل تعبها.
اقتربت منه واستلقت بجانبه وأسندت رأسها على كتفه.
_لسة صاحي؟
أغلق الهاتف ووضعه جانباً ثم أحاطها بذراعه وقربها إليه أكثر.
_وإنتي خابرة إني بيچيني نوم وإنتي بعيدة عني؟ كنت مستني روحي ترچعلي.
تنهدت بارتياح وهي تستنشق عطره المألوف.
_اليوم كان متعب جوي... بس فرحتي بنغم تستاهل كل التعب ده، مش مصدجة إنها أخيراً خدت فرحتها.
نظر سند إلى الفراغ أمامه وعلى وجهه تعابير راضية وحكيمة.
_ربنا دايماً بيعمل اللي فيه الصالح لينا، حتى لو مكناش فاهمين حكمته في وجتها.
التفتت إليه تنتظر منه أن يكمل فتابع بصوت هادئ وعميق
_لو كان جاسر مظهرش... لو كنت أني اتجوزت نغم... مكنش حد فينا هيكون مبسوط زي ما إحنا دلوجت. 
هي لجت جاسر اللي برغم كل اللي عمله فيها بس أثبت في الآخر إنه راچل وحبها بجد. 
ونغم رغم كل اللي حصلها اتحدت كل شيء وسمحت لجلبها يرچعله.
صمت للحظة كأنه يسترجع ذكريات بعيدة.
_أني كنت خابر إن نغم حبته، شفت ده في عينيها يوم ما روحت أخدها من المستشفى بعد الحادثة، وتأكدت أكتر يوم ما روحنا بيتهم عشان نرچعها... نظرتها ليه مكنتش نظرة كره كانت نظرة عتاب. 
عتاب عشان انها طلعت لابع شما وهو نزلها سابع أرض، عشان إكدة أني انسحبت، لأني لو كنت خدتها بالقوة مكنتش هتكون سعيدة معايا أبداً، وكان عندي أمل صغير... إن حبها ده ممكن يغير جاسر والحمد لله أملي طلع في محله.
نظرت إليه وعد بحب عميق معجبة بحكمته وقدرته على رؤية الأمور بهذا الوضوح.
_وأنت... أنت مبسوط؟
ابتسم سند وقبّل جبينها
_مبسوط؟ يا وعد أني مكتفي مكتفي بيكي إنتي وابننا عن الدنيا كلها. 
أني لما بصحى وأشوفك نايمة چمبي ولما بسمع صوت ضحكة "عدي" في البيت... بحس إني ملكت كل حاچة ممكن راجل يتمناها. 
أنتي مش بس مراتي أنتي الأمان بتاعي.
شعرت بالدموع تترقرق في عينيها من جمال كلماته لقد بنيا معاً حباً هادئاً قوياً وعميقاً، حباً لا يحتاج إلى عواصف ليثبت وجوده.
انحنى وهمس في أذنها بصوتٍ دافئ صوت يحمل وعداً بليلة من العشق الهادئ
_والليلة... شكلك تعبانة بس شكلك حلو جوي وإنتي تعبانة إيه رأيك ناخد چولة من چولاتنا الجميلة اللي بتنسينا تعب الدنيا كلها؟
لم تجب بل اكتفت بابتسامة خجولة وأومأت برأسها لم تكن بحاجة للكلمات سحبها برفق وأنهى المسافة بينهما، آخذاً إياها معه إلى عالمهما الخاص عالم من السكينة والحب، حيث لا يوجد سوى زوج وزوجة وجدا سعادتهما في اكتفاء كل منهما بالآخر.
..

•تابع الفصل التالي "رواية ثنايا الروح" الريح والغيامة" اضغط على اسم الرواية 

تعليقات