رواية ثنايا الروح "الريح والغيامة" الفصل التاسع والثلاثون 39 - بقلم رانيا الخولي

 رواية ثنايا الروح "الريح والغيامة" الفصل التاسع والثلاثون 39 - بقلم رانيا الخولي 

ثنايا الروح
رانيا الخولي 
التاسع  والثلاثون 
.......................
كانت نغم تقف أمام المرآة الطويلة في غرفة النوم، تضع اللمسات الأخيرة على حجابها. 
كانت تحاول بتركيز أن تضبطه بشكل مثالي، فاليوم يوم مهم ولا تريد أي شيء أن يشتت انتباهها. 
كانت قد ارتدت ملابس بسيطة ومحتشمة لكنها كانت تشعر بأنها مختلفة، كأن هالة من السعادة تحيط بها.
في تلك اللحظة انفتح باب الحمام وخرج جاسر. 
كان قد انتهى لتوه من حمامه ويرتدي فقط مئزار الحمام الداكن الذي كان بالكاد يغطي جسده الرياضي، وشعره مبلل قليلاً.
سار بهدوء وثقة وتوقف بجانبها تماماً أمام المرآة لم يقل شيئاً فقط أخذ مشطاً من على منضدة الزينة، وبدأ يمرره في شعره بحركة بطيئة ومدروسة متظاهراً بالانهماك التام في تسريح شعره لكن نغم التي أصبحت تحفظ حركاته، شعرت بنظراته الجانبية تلتهمها من خلال انعكاس المرآة.
رفعت عينيها لتلتقي بعينيه في المرآة، فوجدته يبتسم لها تلك الابتسامة الجانبية الماكرة ثم وبحركة سريعة وخاطفة، غمز لها بعينه اليمنى.
لم تستطع نغم أن تمنع نفسها انفجرت في ضحكة خافتة ضحكة صافية خرجت رغماً عنها لقد كان هذا وجهاً جديداً تماماً لجاسر وجهاً لم تكن لتتخيل وجوده جاسر القاسي الشامخ، يغمز لها بمرح كالمراهقين.
فهمت على الفور ما وراء نظرته، فتصنعت الجدية وقالت بنبرة تحمل تحذيراً مصطنعاً وهي لا تزال تنظر إلى انعكاسه في المرآة.
_ لأ مش هيحصل.
ترك جاسر المشط ومال نحوها قليلاً متظاهراً بالحيرة والدهشة.
_ مش هيحصل إيه؟
_ اللي في دماغك ده أنا خلاص لبست ومش هغير تاني.
قالتها وهي تحاول أن تبدو حازمة لكن ابتسامة خفيفة كانت تهدد بالظهور على شفتيها.
اقترب منها أكثر ويداه الآن تستندان على منضدة الزينة على جانبيها، حاصراً إياها بينه وبين المرآة.
_ وأنا إيه اللي في دماغي؟ أنا مش فاهم حاولي تفهميني اكده، يمكن أكون تجيل في الفهم شوية.
كان صوته هامساً ومشاكساً وأنفاسه الدافئة تلفح عنقها مما جعلها تشعر بارتباك لذيذ.
أدركت أنها لو استمرت في هذه اللعبة ستخسر بالتأكيد. 
فقررت أن تستخدم سلاحها الوحيد.
_ جاسر لو اتأخرت على الامتحان، أو روحت وأنا مش مركزة هتبقى أنت السبب.
عندما سمع كلمة "الامتحان"، تغيرت ملامحه قليلاً تنهد تنهيدة طويلة تحمل يأساً مصطنعاً وابتعد عنها ببطء رافعاً يديه في حركة استسلام مسرحية.
_ خلاص خلاص الامتحان أهم، عادي تتعوض.
اتجه نحو خزانة الملابس ليختار ملابسه وهو يقول بصوت مسموع، وكأنه يكلم نفسه لكنه كان يقصدها هي.
_ وأنا اللي كان قصدي شريف كنت بس بتأكد إن الحجاب مظبوط ولا لأ.
لم تعد تستطع التحمل فانفجرت في الضحك مرة أخرى التفت إليها وهو يخرج قميصاً، وعلى وجهه ابتسامة انتصار، لأنه نجح في إضحاكها مرة أخرى لقد اكتشفت فيه شخصية جديدة اليوم شخصية مرحة تعرف كيف تداعبها وتجعلها تضحك من قلبها، وأدركت أن كل يوم تقضيه معه، هو رحلة جديدة لاكتشاف رجل لم تكن تعرف بوجوده.
ارتدى ملابسه بسرعة، ثم وقف أمامها مرة أخرى وقد أصبح بكامل أناقته المعهودة، لكن عينيه لم تكن عليه بل كانت مثبتة عليها بالكامل.
_جاهزة؟
أومأت برأسها وهي تلتقط حقيبتها محاولة تجاهل النبض المتسارع في قلبها تحت وطأة نظرته.
_جاهزة.
سارا معاً نحو الباب لكن قبل أن تلمس يدها المقبض تحرك هو ووقف أمامها مانعاً طريقها بجسده. 
توقف فجأة واستدار نحوها
تغيرت نظراته المرحة إلى شيء آخر تماماً شيء أعمق وأكثر كثافة، كانت نظرة رجل يقف على حافة الهاوية ويرى خلاصه أمامه.
_نغم.
نطق اسمها كأنه الكلمة الوحيدة التي يعرفها.
_نعم؟
لم يجب فقط ظل ينظر إليها يتفحص كل تفصيل في وجهها، كأنه يحاول أن يحفر صورتها في ذاكرته أن يختزنها في روحه لتكون وقوده لبقية اليوم. 
ثم وكأنه لم يعد يحتمل قال بصوتٍ أجش ومبحوح صوت رجل يصارع نفسه
_مش هجدر.
وقبل أن تفهم ما يعنيه كان قد قطع المسافة بينهما، لم تكن حركة سريعة أو عنيفة كانت حركة رجل ينجذب إلى مغناطيسه الوحيد رغماً عنه. 
وضع يده برفق خلف عنقها وأمال رأسها قليلاً ثم انحنى وقبلها.
لم تكن قبلة مشاكسة أو مرحة ولم تكن قبلة شهوة، كانت قبلة ارتواء قبلة رجل كان يتضور جوعاً وعطشاً، ووجد أخيراً مصدر الحياة كانت قبلة عميقة طويلة، وبطيئة تحمل كل حبه وشوقه وكل خوفه من فقدانها. 
كانت قبلة رجل شعر بأنه لو تركها تذهب دون أن يذوق طعم شفتيها، فإن روحه ستظل ناقصة معلقة بين السماء والأرض، كانت قبلة يختم بها على قلبه يؤكد لنفسه أنها حقيقية أنها ملكه، أنها هنا.
ابتعد عنها ببطء شديد وأسند جبينه على جبينها وأنفاسهما تتلاحق وتختلط، أغمض عينيه كأنه يستجمع شتات نفسه بعد تلك اللحظة التي فقد فيها السيطرة.
_آسف بس كان لازم.
أغمضت عينيها هي الأخرى وشعرت بقلبها يذوب تماماً، لم تعد قادرة على الغضب منه لم تعد قادرة على أي شيء سوى الاستسلام لهذا الشعور الجارف. 
همست بصوتٍ بالكاد يُسمع صوت امرأة استسلمت تماماً
_احنا اكدة هنتأخر على الطيارة وعلى الامتحان.
ابتسم ابتسامة تحمل كل الحب والرضا في العالم ابتعد قليلاً وقبلها قبلة خفيفة على وجنتها
_متجلجيش هوصلك في معاده بالظبط بس المرة الچاية... مفيش امتحانات.
ثم أمسك بيدها وشابك أصابعه بأصابعها بقوة، كأنه يخشى أن تضيع منه في المسافة القصيرة إلى السيارة. 
فتح الباب وخرجا معاً تاركين وراءهما غرفة مشبعة بالضحك والحب وبداية يوم جديد في رحلة اكتشافهما لبعضهما البعض.
........
كانت السيارة تشق طريقها بهدوء وسلاسة على الطريق السريع المؤدي إلى البلدة
في الخارج كانت المناظر الطبيعية تتغير تدريجياً من صخب المدينة إلى هدوء الأراضي الزراعية أما في الداخل فكان هناك عالم آخر عالم خاص بنغم وجاسر.
كانت نغم تحاول جاهدة أن تركز الكتاب مفتوح وعيناها مثبتتان على السطور، لكن عقلها كان في مكان آخر تماماً
كانت الكلمات تتراقص أمامها بلا معنى والحروف تفقد قدرتها على تشكيل جمل مفهومة. 
كل ما كانت تفكر فيه هو الأيام القليلة الماضية ذلك التحول الدراماتيكي في حياتها وفي شخصية الرجل الذي يجلس بجانبها الآن، ويقود السيارة بيد واحدة بمنتهى الثقة والهدوء.
تنهدت بيأس وأغلقت الكتاب بقوة أكبر من اللازم مما لفت انتباهه.
_ مش فاهمة حاچة.
قالتها بصوت خافت يرتجف من الإحباط.
_ كل اللي ذاكرته... حاسة إنه اتمسح من دماغي أنا هدخل الامتحان أسجط.
بدأت الدموع تتجمع في عينيها دموع القلق والعجز لم يلتفت إليها جاسر على الفور، بل ظل ينظر إلى الطريق أمامه لكن يده الأخرى تركت عجلة القيادة لتجد يدها وتضغط عليها برفق وقوة في آن واحد.
_ بصيلي.
قالها بنبرة هادئة وحاسمة، نبرة لا تحتمل الشك.
رفعت نغم عينيها المبللتين نحوه ابتسم لها ابتسامة جانبية واثقة، تلك الابتسامة التي كانت تملك قدرة غريبة على إعادة ضبط عالمها.
_ مفيش حاچة اسمها هتسجطي أنتِ تعبتي وذاكرتي، والمعلومات دي كلها موچودة چوه دماغك بس الجلج عامل عليها غيامة أول ما هتمسكي ورجة الأسئلة، كل حاچة هتفتكريها أنا واثق فيكي.
لم تكن كلماته مجرد تشجيع عابر، بل كانت كإصدار حكم نهائي لقد أصدر قراره بأنها ستنجح، وبطريقته جعلها تصدق ذلك شعرت بموجة من الطمأنينة تسري في جسدها تمحو القلق الذي كان يسيطر عليها هذا هو تأثيره تأثير قوته التي أصبحت الآن مصدر أمانها.
سحبت يدها بهدوء ومسحت دموعها، لكنها لم تبعد عينيها عنه ظلت تتأمل ملامحه الجانبية خط فكه الحاد الطريقة التي تتركز بها عيناه على الطريق، وذلك الشموخ الذي لم يفارقه حتى وهو يطمئنها.
لاحظ نظراتها الطويلة فألقى عليها نظرة خاطفة قبل أن يعود للنظر إلى الطريق.
_ بتبصيلي كده ليه؟
تنهدت نغم تنهيدة طويلة، كأنها تخرج معها كل حيرتها ودهشتها.
_ مش مصدجة.
_ مش مصدجة إيه؟
_ مش مصدجة إنك أنت هو جاسر
جاسر اللي خطفني وعذبني، اللي كان كل همه يكسرني مش متخيلة إننا هنا دلوجت مع بعض، وكأن كل الظروف اللي حوالينا دي مش موچودة وحبينا بعض عادي.
صمت جاسر للحظات وكأنه يسترجع شريط حياته هو الآخر. 
تغيرت ملامحه قليلاً، وأصبحت أكثر عمقاً.
_ وأنا كمان متخيلتش حاچة زي دي.
قال بصوت هادئ يحمل صدقاً نادراً.
_ أنا اتربيت على إن الحب ضعف، وإن الحنية قلة حيلة اتربيت على إن الجوة هي كل حاچة، وإن تارنا هو اللي بيحدد جيمتنا.
كنت ماشي في طريج كله سواد وكنت فاكر إن ده هو النور.
أدار رأسه ونظر في عينيها مباشرة للحظة نظرة اخترقت روحها.
_ لحد ما ظهرتي أنتِ، أنتِ الوحيدة اللي جدرتِ تروضِي الشر اللي كان چوايا الشر اللي اتربيت عليه بعنادك، بجوتك، وحتى بدموعك كنتِ بتخبطي في الجدار اللي أنا بانيه حوالين جلبي، لحد ما هديتيه أنتِ مسحتي كل السواد ده من حياتي، وخليتيني أشوف الدنيا بشكل مختلف.
عجزت نغم عن الكلام كانت كلماته اعترافاً كاملاً، شهادة ميلاد جديدة له كان الفضل فيها لها.
_ أنا حبيتك يا نغم مش "حبيتك عادي" أنا حبيتك كأني كنت غرقان ولجيت طوج النجاة الوحيد بتاعي عشان اكده مستحيل أسيبك تاني.
أعاد يده ليمسك بيدها مرة أخرى، وشبك أصابعه بأصابعها بقوة في تلك اللحظة، على ذلك الطريق السريع، لم يكونا مجرد رجل وامرأة، بل كانا عالمين اصطدما وبدلاً من أن يدمرا بعضهما البعض، اندمجا ليخلقا عالماً جديداً خاصاً بهما وحدها عالماً لا مكان فيه للماضي بل للمستقبل الذي سيبنيانه معاً.
❈-❈-❈
كان أكمل يقف في صالة الشقة كامل الأناقة في بدلته، لكن هدوءه الخارجي كان يخفي قلقاً ونفاد صبر، كان يلقي نظرة على ساعة يده كل عشر ثواني ثم ينظر نحو باب غرفة النوم المغلق لقد تأخر عن عمله لكن الأهم من ذلك أنه لا يريد لصبر أن تتأخر عن امتحانها.
أخيراً انفتح الباب ببطء خرجت صبر ترتدي ملابس بسيطة ومريحة ويبدو على وجهها الإرهاق الممزوج بالإصرار، كانت والدته تسندها بذراعها، وتساعدها على المشي بخطوات بطيئة وحذرة.
ما إن رآهما حتى أطلق زفيراً طويلاً وارتسمت على وجهه ابتسامة ارتياح
_ أخيراً، أنا قلت هتطلعوا على صلاة الضهر.
نظرت إليه نسرين نظرة عتاب أمومية، وهي تواصل السير بصبر نحو باب الشقة.
_ ما أنا قولتلك من الصبح روح شغلك وأنا وباباك كنا هنوصله ونجبها مكنش له لازمة تعطل نفسك.
اقترب أكمل منهما وتناول يد صبر الأخرى برفق كأنهما يسلمان مهمة ثمينة.
_ لأ أنا اللي عايز أوديها بنفسي.
قالها بنبرة حاسمة لا تقبل الجدال لكن عينيه كانتا تنظران إلى صبر بحنان فضح كل قلقه.
وقفت نسرين أمامهما عند الباب وتحولت فجأة من الأم الحنون إلى الطبيبة الصارمة التي تعطي تعليماتها
_ اسمعني كويس يا أكمل أولاً، هتسوق براحة مش عايزة مطبات ولا فرامل مفاجئة ثانياً مش هتجهدها بالكلام الكتير، سيبها تراجع في دماغها بهدوء ثالثاً، أول ما توصل هتنزل معاها لحد باب اللجنة مش هتسيبها لوحدها مفهوم
أومأ أكمل برأسه كالتلميذ المطيع وهو يبتسم لوالدته التي أصبحت حامية حمى زوجته وحفيدها.
_ مفهوم يا دكتورة نسرين أي أوامر تانية؟
_ أيوه خلي بالك منها.
قالتها بنبرة عادت فيها حنية الأم ثم انحنت وقبلت جبين صبر.
_ ربنا معاكي يا بنتي.
أخذ أكمل صبر ونزل بها إلى السيارة فتح لها الباب وانتظر حتى جلست بشكل مريح ثم أغلقه برفق ودار ليجلس في مقعده.
بمجرد أن انطلقت السيارة، ساد صمت مريح التزاماً بتعليمات والدته لكن أكمل لم يستطع كان يختلس النظر إليها كل بضع ثوانٍ كانت تبدو شاحبة، لكن في عينيها بريق قوة لم يره من قبل.
مد يده وأمسك بيدها التي كانت تستقر على ساقيها.
_ خايفة؟
سألها بصوت هامس.
هزت رأسها بنفي وابتسمت له.
_ مش وأنت معايا.
ضغط على يدها برفق وشعر بقلبه يمتلئ بحب لم يكن ليتخيل أنه قادر عليه.
_ أنا فخور بيكي أوي يا صبر فخور بقوتك وإصرارك.
تورد خداها من كلماته وشعرت بدفء يسري في جسدها.
_ الفضل ليك أنت اللي اديتني القوة دي.
عندما وصلا إلى الجامعة، لم يكتفِ بإنزالها عند البوابة أوقف السيارة ونزل معها وسار بجانبها، ذراعه حول خصرها يسندها، غير مهتم بنظرات الطلاب الفضولية. 
كان يمشي ببطء يتناسب مع خطواتها، كأنه حارسها الشخصي.
ظهرت ليان وهي تقول بمرح
_فعلا من لقى أحبابه.
ابتسم أكمل لها بامتنان
_لأ ازاي انا اللي بسلمها ليكي اهه، بس دي أمانه
_ماشي يا سيدي واحنا قدها.
أخذت يد صبر وقالت 
_انا معها متقلقش.
أومأ أكمل بثقة 
_عارف وواثق
نظر لصبر وقال
_ اول ما تخلصي رني عليا آجي أروحك.
انحنى وقبل جبينها قبلة طويلة دافئة تحمل كل دعواته وأمنياته لها.
_ بالتوفيق يا قلبي.
دخلت صبر إلى القاعة وشعرت بأنها ليست وحدها شعرت بقوته تحيط بها، وبحبه يمنحها الأمان.
❈-❈-❈
كان المكتب الفخم غارقاً في دخان السيجار الكوبي باهظ الثمن
جلس "هاشم عزامي" رجل في أواخر الخمسينيات من عمره يرتدي بدلة أنيقة تفوح منها رائحة الثروة والنفوذ وجهه هادئ لكن عينيه تحملان برودة قادرة على تجميد الجحيم.
يجلس صخر التهامي امامه لكنه على غير عادته لم يكن في موضع القوة كان يبدو متوتراً وعيناه تتحركان بقلق أمامه على المقعد الوثير 
ضرب هاشم بكف يده على المكتب ضربة خفيفة لكنها كانت كصوت طلقة في سكون المكتب.
_ ازاي الأرض دي مش عارف تخلصها لحد دلوقتي؟!
قالها بانفعال بارد ومحسوب انفعال رجل لا يطيق الانتظار.
_ أنا صبري نفد يا صخر بقالنا سنين بنخطط للموضوع ده
حاول صخر الحفاظ على رباطة جأشه أمام هذا الرجل.
_ يا هشام بيه الأمور اتعجدت. 
أنا عملت كل اللي عليا عيلة الرفاعي خلاص اتنازلوا عن حجهم في الأرض بعد اللي حصل ومبجاش ليهم صوت.
نظر إليه هاشم بسخرية وأطلق نفخة من دخان سيجاره.
_ ومين اللي له صوت دلوقتي؟
قال صخر بتوتر واضح
_ جاسر... ابن أخويا هو اللي متحكم في كل حاجة، الأرض باسمه بعجد عرفي من أبويا وهو اللي رافض يبيعها بيجول إنها أرض وضع يد من أيام جدي، وإن كرامة العيلة متسمحش إنها تتباع.
انفجر هاشم ضاحكاً ضحكة عالية لم تكن تحمل أي مرح، بل كانت تحمل استهزاءً عميقاً.
_ كرامة العيلة؟
قالها وهو يميل بجسده إلى الأمام، وعيناه مثبتتان على صخر كعيني صقر يوشك أن ينقض على فريسته.
_ أنت لسه بتتكلم عن الكرامة يا صخر؟ الكرامة دي أنا اللي دفنتها لك بإيدي يوم ما حطيت في دماغك فكرة التار.
تجمد الدم في عروق صخر نظر إلى هاشم بعدم تصديق.
_ قصدك إيه؟
نهض هاشم من مكانه وبدأ يسير ببطء في أرجاء المكتب.
وقف أمام صخر مباشرة وانحنى عليه وصوته أصبح كالهمس السام.
_ أنا اللي كملت التار ده كله بعد ما اتوقف... عشان في الآخر نخلص من عمك وبعدها أخوك وتضعفوا وتيجي أنت في الآخر تقدملي نص الأرض التاني على طبق من دهب
النص ده لوحده مبقاش جايب همه وخلاص مهمته انتهت كل اللي يهمني انك تسلمني الجزء التاني بتاع الرفاعية.
كانت كل كلمة سكيناً يغوص في كبرياء صخر ويدمره 
لكنه مجبر على تحمله لأجل المكاسب التي وعده بها ذلك الرجل
_ ودلوقتي...
أكمل هاشم وهو يعود إلى مقعده ببرود.
_ ابن أخوك هو اللي واقف في طريقي بس ده مش هيدوم كتير. 
زي ما عرفت أزرع التار، هعرف أزرع الرصاصة اللي هتخلصني منه.
نظر إلى صخر وتابع
_ قدامك حل من اتنين يا صخر، يا تقنعه يبيع الأرض دي خلال أسبوع باسمي عشان اعرف اتصرف فيها، يا إما هعتبرك أنت كمان عقبة في طريقي. 
وأنت عارف كويس أنا بعمل إيه في العقبات اللي بتقف قدامي.
أطفأ هاشم سيجاره في المنفضة الكريستالية بحركة عنيفة ونهائية، ثم نهض ونفض سترته وغادر المكتب تاركاً صخر وحيداً، يفكر في تهديد هاشم.
❈-❈-❈
كانت آخر دقيقة في وقت الامتحان هي الأطول في حياة نغم ما إن أعلن المراقب عن انتهاء الوقت حتى سلمت ورقتها وشعرت بجبل من القلق قد أزيح عن صدرها خرجت من القاعة بخطوات سريعة وعيناها تبحثان عنه في لهفة بين جموع الطلاب.
ورأته.
كان واقفاً مستنداً إلى سيارته مكتوف الذراعين يرتدي نظارته الشمسية التي تخفي عينيه لكنها لا تخفي هيبته الطاغية، كان كجزيرة من الهدوء والقوة في خضم فوضى الطلاب الصاخبة ما إن رآها تقترب حتى اعتدل في وقفته، وخلع نظارته وارتسمت على شفتيه تلك الابتسامة الواثقة والجميلة التي أصبحت تذيب كل دفاعاتها.
سارعت بخطواتها نحوه وبمجرد أن أصبحت أمامه لم تنتظر منه أن يسأل.
_ حليت كويس أوي.
قالتها بفرحة طفولية وعيناها تلمعان
فتح لها باب السيارة كالأمراء.
_ كنت عارف.
قالها ببساطة وثقة كأنه لم يشك في ذلك للحظة.
ركبت السيارة وركب هو بجانبها قبل أن يدير المحرك التفت إليها ورفع يده ليمسح خصلة شعر صغيرة تمردت على حجابها.
_ مبروك مقدماً
قالها بمشاكسة ثم انحنى وقبل جبينها قبلة سريعة لكنها كانت عميقة الأثر.
_ دلوجت نستاهل نحتفل.
أدار المحرك وبينما كان يستعد للانطلاق وقبل أن تسأله حتى عن طبيعة هذا الاحتفال حدث ما لم يكن في الحسبان.
طرقات حادة ومفاجئة على زجاج نافذة السيارة بجانبها جعلتها تنتفض في مكانها التفتت بفزع لتجد مالك واقفاً هناك
تجمدت نغم في مكانها واتسعت عيناها بصدمة 
مالك؟ 
هنا؟ 
كيف؟ 
ولماذا ينظر بهذه الطريقة؟ 
نظرت إلى جاسر باستفهام فوجدته هادئاً بشكل مقلق وكأنه كان يتوقع حدوث ذلك.
أنزل جاسر زجاج النافذة.
_ خلصت؟
سأل مالك جاسر مباشرة متجاهلاً وجود نغم تماماً بشكل اقلقها
أومأ جاسر برأسه.
التفت جاسر إلى نغم وتغيرت نبرته إلى الحنان الهادئ، لكن عينيه كانتا تحملان جدية لا تخطئها عين.
_ نغم... انزلي وروحي مع مالك.
كانت كلماته كالصاعقة.
_ إيه؟! أروح معاه فين؟ وليه؟
قالتها بصوت بدأ يرتجف من الخوف كل سيناريوهات الرعب التي عاشتها بدأت تعود إلى ذهنها.
أمسك جاسر بيدها وضغط عليها بقوة مطمئنة.
_ اسمعيني كل حاچة هتبجى زينة بس لازم تروحي معاه دلوجت.
_ مش فاهمة حاچة! أنت هتوديني فين يا جاسر؟
بدأت نبرتها تعلو والهلع يتسلل إليها.
_ لما تروحي هتعرفي.
قالها بهدوء حاسم ثم نظر في عينيها مباشرة.
_ ثقي فيا.
كانت كلمة "ثقي فيا" هي نقطة ضعفها أمامه. 
رغم أن قلبها كان ينبض بعنف من الرعب ورغم أن عقلها كان يصرخ بها ألا تفعل إلا أن نظرة عينيه الصادقة جعلتها تتجمد.
أومأت برأسها ببطء وهي لا تزال في حالة صدمة فتحت باب السيارة، ونزلت منها وساقاها تكادان لا تحملانها نظر إليها مالك بجدية وفتح لها باب سيارته.
_ اركبي يا نغم.
ركبت نغم وشعرت بأنها تدخل إلى المجهول مرة أخرى حاولت أن تسأل مالك الذي جلس في مقعد السائق.
_ مالك فيه إيه؟ جاسر كويس؟
أدار مالك المحرك دون أن ينظر إليها.
_ كل حاچة هتبجى تمام اهدى بس.
انطلقت سيارة مالك ونظرت نغم من النافذة الخلفية لترى جاسر لا يزال واقفاً يراقبها وهي تبتعد ثم ركب سيارته وانطلق في اتجاه معاكس. شعرت بقلبها ينقبض لقد طمأنها لكن كل شيء في هذا الموقف كان يصرخ بالخطر.
❈-❈-❈
كانت الرحلة من الجامعة إلى السرايا هي الأطول والأكثر صمتاً في حياة نغم كل سؤال كانت تطرحه على مالك كان يُقابل بجواب غامض ومقتضب: "لما نوصل هتعرفي كل حاچة". 
كان قلبها يخفق بعنف مزيجاً من الخوف على جاسر والقلق من هذا المجهول الذي تساق إليه.
عندما انحرفت سيارة مالك لتدخل الطريق المؤدي إلى بوابة السرايا، اتسعت عينا نغم بصدمة. 
لم تكن هذه السرايا الهادئة التي تركتها كانت البوابة الضخمة مزينة بأفرع الزينة وأضواء صغيرة تلمع حتى في وضح النهار
وفي الداخل كانت حديقة السرايا تعج بالحركة ورايات ملونة ترفرف في الهواء.
توقفت السيارة ونظرت نغم إلى مالك بعينين تملؤهما الحيرة والرعب.
_ مالك... إيه كل ده؟ فيه إيه هنا؟
لم يجبها اكتفى بابتسامة خفيفة وغامضة ثم قال
_ انزلي وهتعرفي.
نزلت من السيارة وساقاها تكادان لا تحملانها. 
كل خطوة كانت تخطوها نحو باب السرايا كانت تزيد من ارتباكها كانت تسمع أصوات نساء وضوضاء فرح قادمة من الداخل، وهو ما زاد من حيرتها هل يعقل أن يكون هناك فرح في السرايا وهي لا تعلم؟
وقفت عند عتبة الباب مترددة في الدخول وضع مالك يده على ذراعها برفق ودفعها إلى الداخل.
وما إن خطت بقدمها الأولى داخل بهو السرايا الواسع حتى انطلقت زغرودة حادة وقوية، تبعتها زغرودة أخرى ثم أخرى، حتى تحول المكان إلى عرس من الأصوات الفرحة التي اخترقت أذنيها وقلبها.
رفعت عينيها المصدومتين لتجد المشهد الذي لم تكن لتتخيله في أجرأ أحلامها. 
كانت أمها تقف في المنتصف، ودموع الفرح تترقرق في عينيها وبجانبها وقفت زوجات عمها، وروح ووعد وكل نساء العائلة، يرتدين ملابس زاهية ووجوههن تفيض بالسعادة والترحاب.
تجمدت نغم في مكانها عاجزة عن الحركة أو الكلام كانت تنتقل بنظرها بين وجوههن المبتسمة والزينة التي تملأ المكان ثم التفتت إلى مالك الذي كان يقف خلفها، وكأنها تسأله بعينيها: "ماذا يحدث؟".
ابتسم مالك ابتسامة عريضة ورفع يديه في حركة استسلام مسرحية
_ مهمتي انتهت لحد هنا الباجي عندهم هما يفهموكي.
لم تكد كلماته تنتهي حتى انطلقت روح نحوها ورغم الألم الذي كانت تخفيه في أعماقها إلا أن فرحتها الصادقة لأختها كانت هي الطاغية. 
احتضنت نغم بقوة وهمست في أذنها بصوت يملؤه الفرح
_ مبروك يا نغم مبروك يا حبيبتي النهاردة حنتك
"حنتك"
ترددت الكلمة في رأس نغم مرة واثنتين وثلاث، لم تستوعبها في البداية ثم ببطء بدأت الصورة تتضح الزينة والنساء والزغاريد وابتسامة جاسر الغامضة، ووجود مالك... كل شيء اجتمع في لحظة واحدة ليصنع معنى واحداً.
لم تعد قادرة على النطق شعرت بساقيها تخونها وبفرحة عارمة فرحة نقية وقوية تجتاح كيانها وتغسل كل الخوف والقلق الذي شعرت به، لم تجد ما تفعله سوى أن تترك نفسها، وتندفع نحو حضن أمها ترتمي فيه بكل ما أوتيت من قوة وتنفجر في بكاء لكنه هذه المرة لم يكن بكاء القهر أو الحزن، بل كان بكاء الفرح الذي طال انتظاره، بكاء العروس التي عادت أخيراً إلى أهلها لتُزف إلى حبيبها كما ينبغي.
❈-❈-❈
كانت الأجواء في جناح صخر التهامي مشحونة بالكهرباء سقط الخبر عليهم كالصاعقة ليس من جاسر مباشرة، بل من الخدم الذين كانوا يتناقلون همساً أوامر التحضير لحفل كبير، ومن ثم تأكد الأمر عندما رأوا الزينة تملأ السرايا.
وقفت شروق في منتصف الغرفة، وجهها مخطوف اللون، وعيناها تقدحان شرراً كانت ترتجف من الغصة والغضب وكأنها على وشك الانفجار. 
والدتها، امرأة تشبهها في الكبرياء والغطرسة كانت تسير ذهاباً وإياباً تفرك يديها بعصبية أما صخر فكان يجلس على مقعد ضخم وجهه متجهم كصخرة صوان وصمته أشد خطراً من أي صراخ.
صرخت شروق بصوت حاد كسر الصمت الثقيل
_ يعني إيه؟! يعني إيه هيعملها فرح؟!
نظرت إلى والدها بنظرات اتهام وكأنها تحمله المسؤولية كاملة.
_ أنت ساكت ليه؟! هتسيبه يعمل فيا كده؟! هتخليه يفضحني في البلد كلها؟!
تقدمت منه ودموع الغيظ والحقد تلمع في عينيها.
_ الناس هتقول إيه؟! هيقولوا جاسر التهامي ابن عمها، رماها واتجوز عليها بنت الرفاعية بنت أعدائنا! أنا بقيت ملطشة، كرامتي اتمسحت في الأرض
ضرب صخر بقبضته على ذراع المقعد بقوة مما جعل والدتها وابنته تنتفضان.
نهض واقفاً وتحرك نحو النافذة التي تطل على الحديقة حيث بدأت مظاهر الفرح تتضح أكثر.
_ الواد ده زودها أوي زودها ونسي نفسه ونسي إنه بيتحدى مين.
التفتت إليه زوجته وقالت بنبرة سامة
_ وأنت اللي سايبله الحبل على الغارب من الأول من يوم ما جاب البنت دي هنا وأنا بقولك ارميها بره، بس أنت كنت مبسوط بيها عشان تكسر بيها الرفاعية. 
أهي دلوقتي كسرت بنتك أنت!
لم يرد صخر على زوجته، بل ظل ينظر إلى الخارج وعيناه تضيقان حتى أصبحتا مجرد شقين يلمعان بالحقد.
_ كان فاكر إني لما سكتله يبجى خلاص هيعمل اللي هو رايده، كان فاكر إن الموضوع خلص.
عادت شروق لتقول بصوت باكي يملؤه التوعد
_ لازم توجف الچوازة دي، لازم تمنع الفضيحة دي بأي شكل
روحله هدده اكسره خليه يعرف هو بيلعب مع مين أنا مستحيل أجبل بالمهانة دي مستحيل أخليها تتهنى بيه يوم واحد!
استدار صخر ببطء وارتسمت على وجهه ابتسامة باردة ومخيفة ابتسامة لا تبشر بأي خير.
_ محدش جال إنها هتتهنى ومحدش جال إني هسكت، هو فتح النار على نفسه 
نظر إلى ابنته التي توقفت عن البكاء وتطلعت إليه بأمل، ثم إلى زوجته.
_ جاسر فتح على نفسه باب جهنم بإيده هو اللي اختار كان فاكر إنه كبر وبجى يجدر يجف في وشي بس أنا هعرفه مجامه زين.
هعرفه إن صخر التهامي لسه ممتش.
سار نحو باب الجناح بخطوات ثقيلة ومدروسة خطوات رجل اتخذ قراره.
خرج صخر وأغلق الباب خلفه تاركاً شروق وأمها تنظران إلى بعضهما البعض بابتسامة خبيثة لقد أشعل الأب فتيل الحرب وهما ستستمتعان بمشاهدة كل شيء يحترق، طالما أن النار ستبدأ من فستان فرح نغم.
❈-❈-❈
صعدت نغم الدرج إلى غرفتها القديمة، وقلبها يرقص على إيقاع الزغاريد التي لم تهدأ في الأسفل. 
كانت روح تسندها من ذراع ووعد من الذراع الأخرى وكأنهما حارستان شخصيتان تقودان أميرة إلى مملكتها.
ما إن فتحت روح باب الغرفة حتى شهقت نغم شهقة طويلة، ووضعت يدها على فمها من فرط الدهشة.
لم تكن هذه غرفتها التي تركتها لقد تحولت، كانت مزينة بالورود البيضاء والشموع، وفي منتصف الغرفة على تمثال عرض أنيق كان يقف "هو".
فستان يخطف الأنفاس.
كان فستاناً للحنة لكنه بجمال فساتين الزفاف لونه "أوف وايت" هادئ وراقي، مصنوع من قماش فاخر ينسدل بنعومة ومطرز بخيوط ذهبية لامعة ولآلئ صغيرة تتلألأ تحت أضواء الغرفة. 
كان تصميمه يجمع بين الأصالة والعصرية، قصة ملكية تليق بأميرة.
تقدمت نغم نحوه بخطوات بطيئة، كأنها مسحورة. 
لم تكن تصدق عينيها مدت يدها المرتجفة لتلمس القماش الناعم.
_ الله...
همست بصوت خافت، يملؤه الانبهار.
_ ده... ده عشاني أنا؟
ابتسمت روح بسعادة.
_ عشان مين يعني يا عروسة؟
التفتت نغم إليهما وعيناها تلمعان بدموع الفرح.
_ بس... إزاي عرفتوا إني بحب اللون ده أوي؟
ضحكت وعد بمرح وهي تقترب منها.
_ دي أسئلة تسأليها لجوزك بعدين الظاهر إنه مش سايب حاچة للصدفة.
ثم غمزت لها وأضافت
_ ده فستان الحنة بس، أومال لو شفتي فستان الفرح هتعملي إيه؟
اتسعت عينا نغم بلهفة طفولية.
_ بجد؟ هو هنا؟ عايزة أشوفه أرجوكي يا روح خليني أشوفه
هزت روح رأسها بنفي مصطنع وهي تبتسم.
_ ممنوع ودي أوامر عليا.
قلدت نبرة عسكرية وهي تضيف
_ الأستاذ جاسر بيه بنفسه موصي محدش يشوفه وأنتِ بالذات متشوفيهوش غير في وجته بالظبط جال مش عايز الانبهار يكون مرة واحدة.
عبست نغم شفتيها بتذمر لطيف مما جعل روح ووعد تضحكان.
_ يا سلام على العروسة اللي بتسمع الكلام.
قالت وعد وهي تحتضنها.
_ يلا عشان نچهزك الكوافيرة زمانها على وصول.
وبالفعل لم تكد وعد تنهي جملتها، حتى طُرق الباب ودخلت سيدة أنيقة تحمل حقائبها ومعداتها تبعتها مساعدتان لها. 
كانت الكوافيرة التي ستحول نغم إلى أيقونة من الجمال في ليلتها.
جلست نغم على المقعد المخصص أمام مرآة كبيرة مضاءة وشعرت بأنها تعيش حلماً. 
كل لمسة من يد الكوافيرة كل ضحكة من روح كل تعليق مرح من وعد، كان يغمر قلبها بسعادة صافية ونقية.
نظرت إلى انعكاسها في المرآة ورأت فتاة لم تكن تعرفها لم تكن نغم المكسورة، ولا نغم الخائفة، ولا حتى نغم العنيدة. 
كانت نغم العروس فتاة على وشك أن تبدأ حياة جديدة، محاطة بالحب من كل جانب. 
ولأول مرة منذ وقت طويل استسلمت لهذه السعادة بالكامل وتركت نفسها للحلم الجميل الذي أصبح حقيقة.
❈-❈-❈
لم يدخل جاسر السرايا كضيف أو كابن أخ عائد بل دخلها كسيّد للموقف كانت خطواته ثابتة وواثقة وهو يشق طريقه عبر البهو الذي يعج بالاستعدادات متجاهلاً النظرات المترددة من الخدم والهمسات التي تتبعه كان هدفه واحداً: مكتب عمه.
لم ينتظر أن يُستدعى فتح الباب دون طرق ودخل ليجد صخر واقفاً في انتظاره، كوحش كاسر محبوس في قفص. 
كان وجه صخر أحمر من الغضب المكتوم وعيناه تقدحان شرراً.
ما إن رأى جاسر حتى أشار له صخر برأسه نحو الباب وأغلقه خلفه جاسر بقوة
سار جاسر ببرود وجلس على المقعد المقابل لمكتب عمه ووضع ساقاً فوق الأخرى في حركة تدل على استرخاء تام، وهو ما زاد من غضب صخر.
_اهلا يا عمي خير.
وقف صخر أمامه، شامخاً كالجبل لكنه جبل يوشك على الانفجار.
_ أنت اتچنيت؟!
صرخ بها صخر ولم يعد قادراً على كبت غضبه.
_ كيف تعمل اكده من ورايا؟! إزاي تچهز لفرح وتچيب بنت الرفاعية هنا تاني، وتكسر بنتي جدام البلد كلها؟!
لم يهتز جاسر ظل على هدوئه المستفز، ورفع عينيه ببطء ليواجه عاصفة غضب عمه.
_ أنا معملتش حاجة غلط أنا بعلن چوازي على مراتي جدام الناس كلها ده حجي، وحجها.
_ مراتك؟!
قالها صخر باستهزاء.
_ مراتك اللي چبتها عشان تكسر بيها عدوينك؟! ولا نسيت؟!
اعتدل جاسر في جلسته واختفت ابتسامته الباردة وحل محلها جدية قاطعة كحد السيف.
_ لأ منسيتش ومنسيتش كمان إنك أنت اللي أچبرتني أتچوز بنتك عشان تضمن صفقة أرض، وأنت خابر زين إن جلبي وعجلي مع واحدة تانية. 
أنت اللي حطيت بنتك في الموجف ده مش أنا.
تراجع صخر خطوة للوراء مذهولاً من جرأة جاسر ووقاحته في مواجهته. 
لم يعتد أن يرد عليه أحد بهذه الطريقة.
_ أنت بترمي غلطك عليا يا ولد؟!
نهض جاسر واقفاً وأصبح الآن يواجه عمه وجهاً لوجه، الند بالند، القوة بالقوة. 
ولأول مرة شعر صخر أن الشاب الذي يقف أمامه لم يعد ابن أخيه الذي رباه، بل أصبح رجلاً آخر رجلاً لا يعرف الخوف.
_ أنا مش برمي حاچة على حد أنا بجول الحجيجة اللي أنت بتهرب منها. 
جصة جوازي من شروق كانت صفقة وأنت خابر ده زين. 
لكن نغم مراتي وحبيبتي وأم لاولادي ان شاء الله 
والبلد كلها لازم تعرف ده. 
لازم يعرفوا إنها ست البيت ده، وملكة السرايا دي.
صمت صخر وهو ينظر إلى جاسر الذي تحول إلى نسخة أكثر قوة وشراسة منه أدرك في تلك اللحظة أنه فقد السيطرة. 
جبروته الذي كان يخضع له الجميع، لم يعد قادراً على إخضاع هذا الشاب الذي صنعته يداه.
_ اللي عملته ده مش هيعدي على خير يا جاسر.
قالها صخر بصوت يشبه فحيح الأفعى، صوت يحمل تهديداً مبطناً.
ابتسم جاسر ابتسامة جانبية، ابتسامة رجل لا يخشى التهديدات.
_ أنا مبجاش يهمني يعدي على خير ولا لأ. 
اللي يهمني مراتي، وأي حد هيفكر بس مجرد تفكير إنه يجرب منها أو يأذيها... هنسفه من على وش الأرض، حتى لو كان اجرب الناس ليا.
كانت الكلمات الأخيرة بمثابة إعلان حرب صريح لم يقل جاسر شيئاً آخر
استدار بهدوء وسار نحو الباب وفتحه، ثم خرج تاركاً صخر واقفاً في مكانه، يرتجف من الغضب والعجز.
نظر صخر إلى الباب المغلق، وشعر لأول مرة في حياته بالهزيمة. 
لقد خسر المعركة لكن الحرب... الحرب لم تنته بعد وتوعد في نفسه أن جاسر سيدفع ثمن هذا التحدي غالياً غالياً جداً.
❈-❈-❈
خرجت نغم من الحمام ورائحة العطور المنعشة تفوح منها، كانت ترتدي روباً حريرياً ناعماً، وعلى وجهها ابتسامة هادئة وسعيدة، لم تتفاجئ بالمشهد أمامها بل استقبلته بقلبٍ ممتلئ بالترقب.
كانت غرفتها قد تحولت إلى جناح ملكي للعروس روح ووعد تضعان اللمسات الأخيرة على فستان الحنة المعلق في منتصف الغرفة يبدو كأنه حلم تم نسجه من ضوء القمر. 
والدتها ليل كانت تقف بجانبهما وعيناها تلمعان بدموع الفرح وهي تلمس قماش الفستان برقة. 
وفي زاوية أخرى كانت خبيرة التجميل الشهيرة التي طلبها جاسر بالاسم تضع أدواتها بترتيب دقيق استعداداً لبدء عملها.
اقتربت روح منها بفرح وهي تقول
_يلا يا عروسة مفيش وجت.
احتضنتها وعد بحب.
_مستعدة لأحلى ليلة في عمرك؟
أومأت نغم برأسها وعيناها معلقتان على الفستان همست بصوتٍ يملؤه الامتنان
_أجمل مما تخيلت.
تقدمت منها خبيرة التجميل بابتسامة إعجاب صادقة.
_ما شاء الله العروسة مش محتاجة أي مجهود جمالك طبيعي ومريح للعين أنا هحط لمسات خفيفة خالص تبرز جمالك مش أكتر.
جلست نغم على الكرسي أمام المرآة، وسلمت نفسها للأجواء السعيدة
وبدأت خبيرة التجميل عملها، ثم سألت باحترافية
_هنلبس حجاب مع الفستان ولا لأ؟ عشان أعمل حسابي في تسريحة الشعر.
هنا ردت وعد بسرعة وحماس
_لأ مش لازم الحفلة هتكون مجتصرة علينا بس مفيش رچالة هتدخل الجاعة بتاعتنا.
لكن نغم عبست قليلاً بقلق وقالت بهدوء
_لأ... خايفة جاسر يزعل لو عرف أكيد مالك وسند هيدخلوا يباركولي، وجدي كمان.
شعرت بالارتباك هي تريد أن تشعر بالحرية في ليلتها، لكنها لا تريد أن تفعل شيئاً قد يزعج جاسر أو يسبب أي حرج.
وهنا تدخلت روح بحلها العملي كعادتها وهي تبتسم لتهدئتها.
_بسيطة هي هتعملك تسريحة حلوة وهنحط طرحة خفيفة چمبك لو أي حد من الرچالة دخل، هترميها على شعرك بسرعة وخلاص. 
إكدة نبجى رضينا كل الأطراف.
ارتاحت ملامح نغم، وأومأت برأسها موافقة لقد كانت فكرة مثالية.
نظرت إلى انعكاسها في المرآة، ورأت خلفها وجوه أختيها وأمها المبتسمة شعرت بدفء يغمر قلبها لقد كانت هذه هي اللحظة التي حلمت بها دائماً: أن تكون محاطة بأحبائها في يومها المميز صحيح أن الطريق إلى هذه اللحظة كان مليئاً بالألم والدموع، لكنها الآن هنا على وشك أن تعيش حلمها، مع الرجل الذي تحبه وبطريقة لم تكن لتتخيلها أبداً.
..

•تابع الفصل التالي "رواية ثنايا الروح" الريح والغيامة" اضغط على اسم الرواية 

تعليقات