رواية ثنايا الروح "الريح والغيامة" الفصل الثامن والثلاثون 38 - بقلم رانيا الخولي
استيقظ مالك على ألم حاد يخترق جسده وجد نفسه مستلقياً في وضع غير مريح على الأريكة الجلدية القاسية في مكتبه، وقد شعر بتيبس في كل عضلة من عضلاته لكن ألم جسده لم يكن شيئاً يذكر أمام الألم الذي كان يعتصر روحه.
عادت إليه ذكريات الليلة الماضية بكل قسوتها، كشريط سينمائي مرعب يُعاد عرضه في ذهنه كلماتها، نظراتها، صرختها...
"لو راجل... تطلقني"
كانت تلك الكلمات تتردد في أذنيه كطنين مؤذي، تذبحه ببطء هل تستطيع حقاً فعلها؟ هل يمكن أن تتركه وتطلب الخلع وتنفذ تهديدها؟ أم كان ذلك مجرد انفجار لكرامتها المجروحة، صرخة ألم ستهدئ مع الوقت؟
شعر بعالمه ينهار كل أحلامه الهانئة التي بناها معها، كل لحظة سعادة سرقها من الزمن تحولت في ليلة واحدة إلى كابوس أسود لم يعد يدري ماذا يفعل هل يذهب إليها ويعتذر مرة أخرى؟ لكن كبرياءه كان لا يزال ينزف من جرح كلماتها.
كيف يعود إليها وقد اتهمته بالخيانة والغش، وساوته بأخيه الذي لم يحبها يوماً؟
ظل حائراً، ممزقاً بين حبه وخوفه من فقدانها وبين كبريائه الجريح.
لكن الخوف انتصر في النهاية قرر أن يصعد إليها، أن يواجهها أن يعرف ما تود فعله حقاً.
خرج من المكتب فتفاجئ بوالدته ورد تنزل على الدرج.
اندهشت عندما وجدته يخرج في هذا الوقت المبكر من المكتب، ويبدو عليه بوضوح أنه قضى ليلته فيه.
_ مالك؟ أنت كنت بايت في المكتب؟
حاول مالك أن يرسم ابتسامة على وجهه كي لا يقلقها، وقال بكذبة واهية.
_ لأ يا أمي بس في حاجة كنت ناسيها ونازل أجيبها وهطلع تاني.
لم تقتنع ورد بإجابته خاصة عندما لاحظت أنه ما زال يرتدي نفس الملابس التي صعد بها إلى غرفته بالأمس.
نظرت إليه بعيني الأم الخبيرة التي تقرأ ما تخفيه القلوب.
_ في حاجة يا عمري؟ أنت زعلان مع روح؟
هز رأسه بنفي متجنباً النظر في عينيها.
_ لأ صدقيني مفيش حاجة زي ما قولتلك، نزلت أتأكد من حاجة وطالع تاني بعد إذنك.
صعد الدرج بسرعة تاركاً خلفه والدته التي كانت تراقبه بعينين قلقين حتى اختفى في الرواق.
دلف إلى غرفته بهدوء، فوجدها كما تركها بالأمس كانت تجلس على الفراش ظهرها مستند إلى اللوح الأمامي وعيناها حمراوان متورمتان من شدة البكاء الذي لم يتوقف طوال الليل.
عندما رآها بهذه الحالة رق قلبه لها ونسي كل شيء في لحظة.
نسي كبرياءه ونسي كلماتها الجارحة ولم يعد يرى أمامه سوى حبيبته التي تتألم بسببه.
ساقته قدماه نحوها، وجلس على ركبتيه بجوار الفراش، وتطلع إليها بألم وحب وندم.
_ روح... أنا آسف.
بدأ حديثه بصوت مكسور وهو يحاول أن يجد الكلمات التي قد تداوي جرحها.
_ زي ما جولتلك كنت ضايع في الوجت ده كنت بدور على أي شيء يخفف عني الألم بس وحياتك عندي، وحياة بنتي، ما في حد دخل جلبي غيرك ولا عمري سمحتلها تتعدى الحدود اللي سمحتلك أنتِ تتعديها.
أنا كنت وحيد بمعنى الكلمة، وكل مكالمة بيني وبينك كانت نار بتكوي جلبي ومشاعري، وهي... هي لجتها جدامي بتجدملي كل حاچة، بسطتلي كل شيء، وجلت يمكن تكون مهدئ، يمكن مع الوجت تجدر تنسيني...
كلما نطق بحرف يذكرها به، كانت روح تغمض عينيها بألم وكأن كلماته سكاكين صغيرة تغرس في جسدها.
كانت تتخيل حياته معها هل كان يقبلها كما يقبلها هي؟ هل كان يبتسم لها في لحظاتهما معاً كما يبتسم لها؟ هل كان يقبلها بذلك الشغف الذي يمحو العالم بعد كل مرة كما يفعل معها؟
لم تعد تحتمل وضعت يديها على أذنيها وهي تبكي بقهر، تهز رأسها بعنف.
_ مش عايزة أسمع حاجة مش عايزة أسمع أنت دمرتني يا مالك... دمرتني
أمسك يديها برفق ورجاء يمنعها من إغلاق أذنيها ويجبرها على سماعه.
_ والله يا روح علاقتنا كانت باردة كانت زي صفقة، زي بيزنس مكنش فيها الدفا اللي بينا، ولا الحنية اللي في حضنك لا عمري حبيتها، ولا هي حبتني، صحيح حاولت اجاريها بس مقدرتش، حاولت اقرب منها بس صورتك كانت بتبعدني
جوازي منها كان جواز مصلحة مش أكتر.
قرب يديها من فمه وقبّلهما بحرارة، وتابع برجاء يذيب الصخر.
_ أرجوكي يا روح... عشان خاطر بنتنا... عشان خاطر كل يوم حلو عشناه مع بعض اطوي معايا الصفحة دي وننساها.
خلينا نبدأ من جديد.
لكن روح سحبت يديها منه ونظرت إليه بعينين فارغتين من كل شيء إلا الألم.
_ أنسى؟ أنسى كيف؟ كل ما هتبصلي كل ما هتلمسني هفتكر إن فيه واحدة غيري كانت في مكانى هفتكر إنك كنت معاها وإنك كدبت عليا.
هزت رأسها ببطء وقد اتخذت قرارها.
_ أنا مجدرش أعيش معاك دلوجت يا مالك مجدرش.
تطلع إليها برعب خوفاً من أن تنطق بالكلمة التي يخشاها.
_ عايزة إيه يا روح؟
_ عايزك تسبني، مش تطلجني... بس تسبني تسبني لوحدي لحد ما أجدر أستوعب اللي حصل لحد ما أقرر إذا كنت هجدر أكمل معاك ولا لأ.
ومتخافش محدش هيعرف حاجة، برة الاوضة دي احنا سعده ومبسوطين
جوه الاوضة كل واحد فينا في مكان.
كان طلبها بمثابة حكم مؤبد بالوحدة عليه، لكنه كان أفضل من حكم الإعدام بالطلاق رأى في عينيها إصراراً لا يمكن كسره.
أومأ برأسه ببطء وقلبه يتمزق.
_ حاضر يا روح اللي أنتِ عايزاه هيكون، هسيبك... بس مش هبعد هفضل جريب وهنفضل مع بعض في نفس الاوضة مستنيكي تسامحيني.
❈-❈-❈
كانت صبر تجلس على حافة السرير تمسك بأحد كتبها الجامعية لكن عينيها كانتا تائهتين، لا تقرأ الكلمات حقاً.
كان جسدها لا يزال ضعيفاً لكن عقلها كان مشغولاً بمستقبلها الذي شعرت بأنه يضيع منها.
نظر إليها أكمل الذي كان قد دخل للتو إلى الغرفة حاملاً لها كوباً من عصير الفواكه الطازج.
_ بتفكري في إيه؟
سألها برفق وهو يضع الكوب على المنضدة بجانبها.
تنهدت بعمق وأغلقت الكتاب ووضعته جانباً.
_ الامتحان بكرة يا أكمل.
نظر إليها بقلق وقد فهم على الفور ما ترمي إليه.
_ امتحان إيه يا صبر؟ أنتِ لسه تعبانة، والدكتور قال مفيش حركة خالص.
_ بس ده امتحان الترم، ولو مرحتوش السنة كلها هتروح عليا أنا ذاكرت وتعبت عشان أوصل.
قالته بصوت خافت لكنه يحمل إصراراً.
تصلبت ملامح أكمل وظهرت عليه لهجة وكيل النيابة الحازمة التي لا تقبل الجدال.
_مستحيل صحتك وصحة ابننا أهم من ألف امتحان وسنة دراسية الموضوع ده منتهي.
عندما سمعت كلمة "مستحيل"، شعرت بأن آخر خيط من الأمل قد انقطع.
لم تعد قادرة على التحمل، فانفجرت في بكاء صامت دموعها تنهمر على خديها في صمت وهو بكاء كان أشد إيلاماً من أي صراخ.
كانت تبكي على أحلامها التي تتبخر، وعلى تعبها الذي سيذهب هباءً.
عندما رآها تبكي بهذا الشكل، شعر بأن قلبه يتمزق
ضعف أمامها ونسي كل حزمه وقراراته لم يعد يحتمل رؤية دمعة واحدة تنزل من عينيها.
_بتعيطي ليه دلوقت؟
قالت بحزن
_مش هجدر يا أكمل، ده حلم عشت عمري كله احلم به.
تنهد بتعب وجلس بجوارها يمسك يدها ويقول بروية
_انا عارف بس احنا لسة قدامنا حياة طويلة لو السنة دي مقدرتيش هتقدري السنة الجاية وانا معاكي.
اشاحت بوجهها بعيدًا عنه لا تتقبل إصراره
_يعني مش خايفة على نفسك وعلى ابننا؟
التفتت إليه بسرعة
_لأ طبعا خايفة عليه بس في نفس مش عايزة السنة دي تضيع مني، وانا الحمد لله اتحسنت كتير عن الأول.
تنهد بيأس
_ خلاص... خلاص يا صبر متعيطيش خليني اسأل دكتور مجدي الأول لو قال مفيش خطر، هوصلك بنفسي.
اتصل بالطبيب وشرح له الموقف بالتفصيل، وبعد نقاش قصير، جاء الرد الذي كانت تتمناه صبر.
_ الدكتور وافق بس بشرط.
تروحي الامتحان وأول ما ترجعي تنامي على ضهرك فوراً، ومتبذليش أي مجهود تاني خالص لبقية اليوم فاهمة؟
أومأت برأسها بسعادة ومسحت دموعها بسرعة، وابتسامة صغيرة شقت طريقها إلى شفتيها.
❈-❈-❈
استيقظت نغم على صمت غير معتاد فتحت عينيها ببطء، وشعرت بثقل لذيذ في أطرافها لم تجد جاسر في الغرفة نظرت في ساعة هاتفها، فاتسعت عيناها بصدمة عندما وجدت أن الساعة قد تجاوزت الثانية ظهراً لم تنم هكذا منذ زمن بعيد.
نهضت من الفراش وشعرت بألم خفيف في جسدها، ألم لم يكن مزعجاً بل كان تذكيراً حياً بكل ما حدث
توجهت إلى المرحاض ودخلت تحت الماء الدافئ، وأغمضت عينيها لتترك ذكريات الليلة الماضية تجتاحها بلا مقاومة لم تكن مجرد صور، بل كانت أحاسيس، لمسات، همسات.
كانت تتذكر قسوته الأولى التي ذابت لتتحول إلى لهفة، وخوفه من فقدانها الذي تحول إلى شغف وحنانه الذي غلف كل لمسة وقبلة.
لم تكن تصدق أن الرجل القاسي الذي حاول كسرها وإخضاعها بكل الطرق، هو نفس الشخص الذي كان يغدقها بحبه وحنانه الليلة الماضية، كأنه يروي أرضاً عطشى.
من هو جاسر الحقيقي؟ هل هو الذئب الشرس، أم الحمل الوديع؟ أم أن حبه لها قد روّض الوحش الكامن بداخله؟
خرجت من المرحاض وهي تلف جسدها بمنشفة ثم ارتدت مئزره (روب الحمام) الأسود الذي كان معلق جانباً وشعرت برائحته تحيط بها، مما أرسل قشعريرة خفيفة في جسدها توجهت إلى خزانة الملابس الضخمة لتختار شيئاً ترتديه.
فتحت الجانب الذي اعتادت أن تأخذ منه ملابسها، لكن عينها وقعت على جانب آخر من الخزانة لم تكن قد انتبهت له من قبل.
دفعها الفضول لفتحه فتجمدت في مكانها
كان الجانب ممتلئاً عن آخره بملابس نسائية جديدة، بيجامات حريرية بألوان زاهية منامات قصيرة من الدانتيل، وأرواب شفافة كانت تجهيزات عروس كاملة تنتظر بصمت من يرتديها.
أدركت أنه قد اشترى كل هذا من أجلها تحسباً للحظة كهذه.
شعرت بمزيج من الغيظ والخجل لقد كان واثقاً إلى هذا الحد من أنه سينتصر في النهاية.
أغلقت الجانب بعنف مكتوم، وعادت إلى ملابسها العادية.
لكنها توقفت هل ستظل خانقة نفسها بهذه الملابس الثقيلة؟ لقد تغير كل شيء.
وهو فكر جيداً ولم يترك لها شيئاً وسطاً يمكن أن ترتديه، كأنه يجبرها على الاختيار بين العناد والاستسلام الكامل.
تنهدت باستسلام وعادت لتفتح الجانب "الجديد" مرة أخرى
غصباً عنها بدأت يداها تبحث بين الملابس حتى استقرت على بيجامة حريرية بسيطة وأنيقة، لونها زهري هادئ، لون بدا لها مناسباً مع بشرتها البيضاء.
ارتدتها وشعرت بنعومة الحرير تداعب بشرتها تركت شعرها الأسود الطويل منسدلاً على كتفيها ليجف في الهواء، ووقفت أمام المرآة الطويلة تمشك خصلاتها وتتأمل انعكاسها.
فجأة ضربها سؤال حاد.
معقول؟ هل نسيت كل شيء بهذه السرعة؟ هل نسيت الثأر، والدم، والكرامة التي أقسمت أن تستعيدها؟ هل مشت وراء قلبها بهذه السهولة مستسلمة لسحر سجّانها؟ شعرت بحيرة تمزقها.
هل تكمل في هذا الطريق الذي يبدو حلواً بشكل خطير، أم تتراجع وتعود إلى قلعتها الحصينة؟
وبينما كانت غارقة في أفكارها انفتح باب الغرفة بهدوء دخل جاسر وفي عينيه نظرة لم ترها من قبل، نظرة رجل منتصر وراضٍ.
كان يرتدي بنطالاً منزلياً مريحاً وقميصاً (تيشيرت) أبيض يبرز عضلات صدره ابتسم لها ابتسامة جانبية ساحرة عندما رآها ترتدي إحدى "هداياه".
اقترب منها بخطوات واثقة، خطوات الأسد في عرينه ووقف خلفها، وعيناهما تلتقيان في المرآة لم يقل شيئاً، فقط انحنى ببطء وقبّل عنقها قبلة دافئة وعميقة جعلت ساقيها ترتجفان.
_ ينفع القمر ده كله يكون نايم وأنا واقف بحضرلها الأكل لوحدي في المطبخ؟
قالها بصوت أجش يحمل مشاكسة رجولية وشموخاً لم يقلل اهتمامه بها من قوته وهيبته.
أمام نظرته الواثقة وحنانه الذي لم يعد يخفيه لم تستطع أن تقاوم.
ذاب كل صراعها الداخلي ووجدت نفسها تبادله الابتسامة في المرآة.
كان فيه شيء غريب، مزيج من القوة والحنان من التملك والاهتمام، يجعلها ترضخ أمامه بإرادتها الكاملة.
لقد أدركت في تلك اللحظة أنها لم تعد تريد المقاومة.
استدارت نغم بين ذراعيه لتواجهه مباشرة، وقد تورد خداها حمرة خفيفة من الخجل والغيظ معاً.
نظر جاسر إلى البيجامة الحريرية التي كانت تلتصق بجسدها بأناقة، ثم رفع عينيه إلى عينيها وابتسامة ماكرة ارتسمت على شفتيه.
وقالها بصوت هامس وعميق.
_ أخيراً.
أخيراً فتحتي الضلفة دي أنا كنت ابتديت أيأس إنك ممكن تفتحيها.
شعرت بالغيظ من ثقته الزائدة فقالت بتحدي خافت.
_ وأنت كنت واثق أوي إن اللحظة دي هتاچي؟
أومأ لها برأسه ببطء دون أن يزيح عينيه عن عينيها وفي نظرته جدية وحب عميقان.
_ اتأكدت إنها مسيرها تاچي من أول يوم شفتك فيه في بيت جدك بعد ما هربتي مني
شفت في عنيكي التردد، شوفت فيهم حيرة.
حسيت كأنك بتجوليلي
"الدنيا كلها اتخلت عني، ومحدش حارب عشاني... حارب أنت عشاني"
اقترب منها خطوة أخرى حتى لم يعد يفصلهما شيء وأكمل بصوت أصبح أكثر حناناً.
_ ووجتها جررت إني احارب عشانك ولما كل الطرج اتجفلت في وشي، ومجدرتش أوصلك خطفتك تاني
بس المرة دي كانت مختلفة
المرة دي خطفتك عشان أحميكي، عشان أغرجك في حبي وعشقي واهتمامي، عشان أعوضك عن كل اللي فات.
كانت كلماته كفيلة بإذابة آخر ذرة من المقاومة بداخلها.
لقد فهمها فهم صراعها الصامت، ورأى ما وراء قناع العناد الذي كانت ترتديه شعرت بقلبها يخفق بعنف، وبدفء يسري في أوصالها لم يكن سببه فقط قربه الجسدي، بل قربه من روحها.
رفع يده وتحسس وجنتها برقة ثم انحنى ليقبلها.
كانت قبلة مختلفة عن كل ما سبق
لم تكن قبلة لهفة أو شغف جامح، بل كانت قبلة حنونة، بطيئة، تحمل في طياتها كل وعوده الصامتة.
قبلة تقول "أنتِ في أمان الآن". تجاوبت معه وذابت بين ذراعيه مستسلمة تماماً لهذا الشعور الذي لم تعد تريد محاربته.
بدأت القبلة تتعمق، وتتحول من الحنان إلى الشغف مرة أخرى وبدأت يداه تجذبانها إليه بقوة أكبر شعرت بأنه سيكمل ما بدأه وأنها على وشك أن تضيع في عالمه مرة أخرى.
لكن في تلك اللحظة، أصدرت معدتها صوتاً خفيفاً مذكرة إياها بأنها لم تأكل شيئاً منذ الأمس.
ابتعدت عنه فجأة وهي تضحك بخجل ووضعت يدها على شفتيه لتمنعه.
_ جاسر... استنى.
نظر إليها بعينين ضبابيتين من فرط الرغبة ولم يفهم سبب توقفها.
_ أنا جعانة.
قالتها ببراءة طفولية جعلته يضحك بصوت عالي، ضحكة رجولية صادقة هزت أركان الغرفة
غصباً عنه ابتعد عنها، وأخذ نفساً عميقاً يحاول به أن يهدي من ثورة أنفاسه ومشاعره.
_ جعانة؟ بتفصلينا في اللحظة دي عشان جعانة؟
هز رأسه بيأس مصطنع ثم انحنى فجأة وحملها بين ذراعيه.
شهقت نغم وتشبثت بعنقه.
_ بتعمل إيه؟
نظر إليها بمكر وعيناه تلمعان بمشاكسة.
_ مش أنتِ جعانة؟ يبقى لازم أتصرف وهأكلك بنفسي كمان، عشان أضمن إن مفيش حاجة تانية تعطّلنا بعد كده.
سار بها خارج الغرفة وهي تضحك من قلبها على طريقته في تدليلها، وقد أدركت أنها وقعت في حبه بلا رجعة، وأن هذا الشموخ الذي يغلفه بحنان، هو الفخ الذي استسلمت له بكل رضا.
وصل بها إلى طاولة الطعام التي كانت قد أُعدت بعناية فائقة.
لم يكن مجرد طعام لصنع يده كما أخبرها لكنه هو من حضره على السفرة بكل حب واهتمام
كان وليمة صغيرة لشخصين.
أطباق متنوعة، عصائر طازجة، ووردة حمراء وحيدة موضوعة في كأس زجاجي صغير في منتصف الطاولة.
أنزلها برفق بجوار السفرة، لكنه لم يبتعد.
ظل واقفاً أمامها وانحنى ليصبح وجهه في مستوى وجهها، ويداه تستندان على السفرة حاصراً إياها في عالمه الخاص.
همس بصوت عميق، وعيناه لم تفارقا شفتيها.
_ جبل الأكل... في حاچة أهم.
سألته بخجل يشوبه بعض الدلال الفطري.
_ايه هو؟
لم يجيب بل انحنى مرة أخرى وقبلها، قبلة بطيئة متذوقة، كأنه يريد أن يطبع طعمها في ذاكرته قبل طعم أي شيء آخر.
كانت قبلة تحمل حلاوة الانتصار ولذة الاستسلام.
شعرت نغم بأنفاسها تتسارع ووضعت يديها على كتفيه تستمد منه القوة التي كان يسلبها إياها.
ابتعد عنها ببطء شديد تاركاً شفتيه تلامسان شفتيها بالكاد.
_ دلوجت نجدر ناكل.
قالها بابتسامة ساحرة ثم جلس على المقعد المقابل لها بدأ يضع لها الطعام في طبقها بنفسه قطعة من كل صنف، عيناه تراقبان كل رد فعل على وجهها.
لم يكن مجرد اهتمام بل كان طقساً من طقوس التملك الحنون.
_ كلي ولا تحبي أأكلك بإيدي، بصراحة انا كمان جعان.
ابتسمت بحنو
_لأ انا هاكل لوحدي.
قالتها بنبرة أمر لطيفة، ثم بدأ يأكل هو الآخر.
كان الصمت بينهما مختلفاً هذه المرة لم يكن صمت التحدي أو الحنق
بل كان صمت الرضا والألفة كانا يتبادلان النظرات من فوق الأطباق، نظرات تحمل كل الكلمات التي لم تُقل بعد.
كانت ترى في عينيه حباً لم تكن لتتخيل وجوده، وكان يرى في عينيها بداية الثقة والاستسلام الذي حارب من أجله طويلاً بعد أن انتهت من تناول الطعام.
_هثواني هعملك القهوة.
رد بمزاح
_وانا اشيل الاطباق مش كدة؟
_تؤ أنا اللي هشيلها واعمل القهوة كمان، وبعد كدة مفيش أكل جاهز، مش بفضله..
قالتها وهي تحمل الاطباق للمطبخ فنهض هو بدوره
_وانا هعمل مكالمة مهمة لحد ما تخلصي.
❈-❈-❈
كانت أجواء الهدوء تخيم على شقة أكمل، لكنه كان هدوءاً دافئاً ومفعماً بالحياة.
كانت صبر مستلقية على الفراش محاطة بالوسائد التي وضعها أكمل لضمان راحتها، وأمامها أحد كتبها الجامعية المفتوحة.
كانت تحاول التركيز في المراجعة، لكن الألم الخفيف والمستمر في ظهرها كان يشتت انتباهها.
بجوارها كان أكمل يجلس على الفراش
كان غارقاً في أوراق قضية معقدة، يقلب صفحاتها بتركيز، لكن حواسه كلها كانت معها.
كان يرفع عينيه بين الحين والآخر، يراقبها من فوق نظارته الطبية التي لا يرتديها إلا للقراءة.
لاحظ أنها تضغط على شفتيها بين الفينة والأخرى وتتململ في جلستها بشكل خفيف كأنها تحاول الهروب من إزعاج ما.
_ صبر... أنتِ كويسة؟
سألها للمرة الثالثة خلال ساعة، بصوت هادئ كي لا يفزعها.
رفعت عينيها عن الكتاب وابتسمت له ابتسامة باهتة.
_ أيوه زينة بس المذاكرة مملة شوية.
لم يقتنع بإجابتها لكنه لم يرد أن يضغط عليها فتزداد توتراً.
عاد إلى أوراقه لكنه قرر أن يظل متيقظاً.
بعد فترة شعرت صبر بأنها بحاجة إلى حمام دافئ، ربما يساعد على إرخاء عضلاتها المتشنجة ويخفف من ألم ظهرها.
أغلقت كتابها بهدوء وقررت أن تقوم بأسرع ما يمكن حتى لا يلحظها ويقلق
لكنها استهانت بعينيه الصقرتين.
كانت تحاول أن تخفي الألم الخفيف الذي شعرت به في ظهرها وهي تنهض، لكن جسدها خانها.
صدرت عنها آهة مكتومة ولاحظ هو تلك الارتعاشة الخفيفة في ساقيها وهي تحاول أن تستقيم.
_رايحة فين؟
حاولت إخفاء الألم
_هدخل أخد شاور يمكن يفوقني شوية.
في لحظة ألقى بملف القضية جانباً دون اكتراث وكان بجانبها.
_طيب استني.
قالها بنبرة حازمة لا تقبل النقاش نبرة وكيل النيابة التي تعرفها جيداً.
وقبل أن تنطق بكلمة أو تحاول أن تجادله انحنى وحملها بين ذراعيه بسهولة.
شهقت بخجل ومفاجأة وتشبثت بكتفه بشكل لا إرادي.
_ أكمل نزلني أنا تجيلة عليك.
نظر إليها بابتسامة جانبية ماكرة وغمز لها وهو يتجه بها نحو الحمام كأنه لم يسمع احتجاجها.
_ تقيلة إيه بس؟ ده أنتِ باللي في بطنك ده كله أخف من ملف قضية بايخة بقعد أقرأ فيه طول الليل.
ضحكت صبر من قلبها لأول مرة منذ فترة طويلة، ضحكة صافية ورنانة ضحكة أعادت الحياة إلى جدران الشقة الصامتة، وكانت بالنسبة لأكمل أجمل من أي موسيقى في العالم.
أدخلها الحمام وساعدها على الجلوس برفق على المقعد المخصص لم يكتفي بذلك بل انحنى وفتح الماء ليتأكد من درجة حرارته، ووضع لها المنشفة في متناول يدها وجهز لها كل شيء كأنه خادم مخلص في محراب ملكته.
_ نادي عليا أول ما تخلصي، لإني لو فضلت مضمنش نفسي والدكتورة نسرين تطين عشتي لو حصل حاجة.
ضحكت صبر
_انا بجول اكدة برضك..
خرج وهو يغلق الباب بهدوء ثم وقف خارجه متكئاً على الحائط لا كحارس، بل كرجل عاشق وجد كنزه ومستعد أن يفعل أي شيء حتى لو كان سخيفاً أو مبالغاً فيه، فقط ليرى تلك الضحكة مرة أخرى وليتأكد أن مملكته الصغيرة التي كاد أن يفقدها، آمنة وسعيدة بين يديه.
❈-❈-❈
كانت غرفة نومهما التي شهدت أجمل لحظاتهما قد تحولت إلى ساحة حرب باردة لم يكن هناك صراخ أو جدال بل كان هناك ما هو أسوأ: صمت ثقيل مشحون بالكلمات التي لم تُقل وبالجروح التي لم تندمل كان كل واحد منهما في وادي معزول، تفصلهما عن الآخر مسافة لا تُقاس بالأمتار بل بعمق الخذلان.
كانت روح تجلس على حافة السرير، ظهرها له تمشط شعرها ببطء وعيناها شاخصتان في انعكاسها الباهت في المرآة لم تكن ترى نفسها حقاً بل كانت ترى امرأة غريبة، متعبة خُدعت مرتين من أقرب الناس إليها
لم تعد قادرة على مسامحته كلما حاولت، كانت صور تلك المرأة تقتحم عقلها، وتخيلاتهما معاً تحرق روحها
لقد أصبح وجوده بجانبها تذكيراً دائماً بالخيانة ولمسته التي كانت جنتها أصبحت الآن ناراً تكويها.
على الجانب الآخر من الغرفة كان مالك يقف عند الشرفة وظهره للغرفة، ينظر إلى ظلام الليل دون أن يراه.
كان يشعر بالعجز لقد اعتذر توسل، شرح وبرر حتى جفت الكلمات في حلقه لم يعد قادراً على التوسل أكثر من ذلك.
كبرياؤه كرجل الذي سحقه تحت قدميه من أجلها بدأ يتمرد.
لقد أخطأ يعترف بذلك، لكنه لم يخنها.
كان ماضياً وقد انتهى ألا يستحق فرصة؟ ألا يشفع له حبه الصادق الذي يملأ قلبه الآن؟
الصمت كان سيد الموقف يقطعه فقط صوت فرشاة الشعر وهي تمر في خصلات شعر روح الطويلة.
أخيراً لم يعد مالك يحتمل استدار ببطء ونظر إليها كانت تبدو هشة وبعيدة.
_ لحد إمتى يا روح؟
قالها بصوت هادئ لكنه يحمل بحة من الإرهاق واليأس.
لم ترد لم تتوقف حتى عن تمشيط شعرها كأنها لم تسمعه.
اقترب منها خطوة ثم توقف، كأن هناك جداراً غير مرئي يمنعه من الاقتراب أكثر.
_ لحد إمتى هنفضل اكده؟ عايشين في بيت واحد زي الأغراب أنا عارف إني غلطت، وچرحتك بس أنا كمان بتعذب صمتك ده بيجتلني كل يوم.
هنا توقفت يدها عن الحركة وضعت الفرشاة على منضدة الزينة بهدوء تام، ثم التفتت إليه.
لم تكن في عينيها دموع بل كانت هناك برودة قاسية برودة شخص قرر أن يغلق قلبه.
_ عايزني أعمل إيه يا مالك؟ أمثل إني نسيت؟ أمثل إني مش موجوعة؟
قالتها بصوت خالٍ من أي تعبير.
_ عايزني كل ما تلمسني أعمل نفسي مش فاكرة إن نفس الإيدين دي لمست واحدة غيري؟ عايزني كل ما تبصلي أعمل نفسي مش شايفة في عنيك ذكرياتك معاها؟ أنا مقدرش.
قاطعها بيأس مطلق
_اقسملك إني ملمستهاش، اثبتلك كيف يعني.
وبعدين ده كان ماضي يا روح ماضي وراح لحاله أنتِ الحاضر والمستقبل.
قالها بصوت بدأ يفقد هدوءه.
نهضت من مكانها وتجنبت النظر إليه واتجهت نحو الأريكة في زاوية الغرفة، حاملة معها وسادة وغطاء.
_ أنت هتنامي هنا؟
سألها بعدم تصديق.
_ مقدرش أنام جنبك.
قالتها ببساطة قاطعة دون أن تلتفت إليه.
وقف مالك في منتصف الغرفة ينظر إلى ظهرها وهي تستعد للنوم على الأريكة وشعر بأن المسافة بينهما قد أصبحت محيطاً لا يمكن عبوره لقد بنى معها قصراً من الحب وفي ليلة واحدة، تحول هذا القصر إلى زنزانتين متجاورتين كل منهما سجين في وحدته وألمه، لا يرى الآخر ولا يسمعه.
❈-❈-❈
كان الليل قد انتصف، والغرفة غارقة في ضوء خافت يأتي من مصباح جانبي صغير، يلقي بظلال دافئة وناعمة على الجدران ويخلق جواً من الحميمية المطلقة.
خرجت نغم من الحمام تلف جسدها بمنشفة قطنية ناعمة، وشعرها المبلل ينسدل على كتفيها.
مدت يدها بشكل عفوي إلى المنضدة بجانبها باحثة عن أي شيء لترطيب بشرتها فتجمدت في مكانها.
لم يكن هناك عبوة واحدة بل كانت مجموعة متكاملة من مستحضرات التجميل مرتبة بأناقة فائقة كأنها في واجهة عرض لأرقى المتاجر.
أمسكت بإحدى العبوات الزجاجية الثقيلة وفتحتها، ففاحت منها رائحة زكية وهادئة، رائحة الياسمين والمسك الأبيض رائحة أنثوية ورقيقة.
استغربت بشدة وشعرت بقشعريرة تسري في جسدها
كيف؟ كيف يمكن لرجل مثل جاسر بكل قسوته وصرامته أن يفكر في تفاصيل دقيقة كهذه؟ تفاصيل لا يفكر فيها إلا رجل عاشق ومتيم.
في تلك اللحظة انفتح باب الحمام، وخرج جاسر كان كعادته، حضوراً طاغياً لا يمكن تجاهله يرتدي بنطالاً منزلياً داكناً فقط تاركاً صدره العريض عارياً وقطرات الماء لا تزال تتلألأ على كتفيه وصدره تحت الضوء الخافت.
توقف عندما رآها واقفة هناك تمسك بالعبوة وفي عينيها نظرة حيرة ودهشة لا تخطئها عين.
تقدم نحوها بخطوات واثقة خطوات الأسد الذي يتفقد مملكته وجلس بجانبها على الفراش مقترباً منها وشعرت هي بحرارة جسده.
_ عجبتك؟
سألها بصوته العميق والأجش، وهو ينظر إلى العبوة في يدها ثم رفع عينيه ليتفحص تعابير وجهها.
نظرت إليه نغم وتجاهلت سؤاله لتسأل ما يجول في خاطرها بصوت يرتجف قليلاً من فرط المشاعر.
_ كيف؟ كيف جدرت تچمع كل الحاچات دي؟ الهدوم... والكريمات... كل التفاصيل الصغيرة دي اللي أنا نفسي ممكن أنساها.
ابتسم جاسر ابتسامة هادئة، ابتسامة رجل يستمتع برؤية تأثير خططه المحكمة.
لم تكن ابتسامة حب ساذجة، بل كانت ابتسامة المنتصر الذي يرى خصمه وقد وقع في أسره بالكامل.
قال ببساطة كأنها معلومة عادية لا تستحق كل هذه الدهشة.
_ الشجة دي أنا اشتريتها عشانك وكتبتها باسمك.
اتسعت عينا نغم بصدمة حقيقية هذه المرة، وفتحت فمها لتقول شيئاً لكن لم تخرج أي كلمات لقد نزع عنها كل أسلحتها حتى سلاح الشعور بأنها سجينة في ممتلكاته قبل أن تستوعب المفاجأة الأولى، أكمل هو ببرود محسوب.
_ أما الحاچات دي فكلفت بنت شغالة في مول كبير مديرة قسم المشتريات الشخصية، إنها تچهز كل حاچة جولت لها إني بعمل مفاجأة لمرتي وعايز كل حاچة ممكن تحتاچها في الشجة الچديدة بحيث متحتاجش تخرچ تشتري أي حاچة وهي متأخرتش.
صمت للحظة ثم أضاف ببطء وعيناه تلمعان بمكر وهو يستمتع بتأثير كلماته عليها.
_ أما الحاچات التانية دي فأنا وريتها صورتك عشان تعرف المجاس اللي هتچيب عليه.
شعرت نغم بالغيظ يختلط بالخجل وبشعور غريب من السعادة التي لم ترد الاعتراف بها لقد خطط لكل شيء، لقد كان يجهز عشهما حتى قبل أن يصطادها إليه.
هذا الرجل كان يفكر بعقل استراتيجي حتى في الحب نظرت إليه بشيء من التحدي، محاولة استعادة رباطة جأشها.
_وهي برضه اللي اختارت الضلفة إياها؟
قصدت بذلك جانب الخزانة المليء بالملابس الجريئة، والذي كان بمثابة إعلان نوايا صريح.
ضحك جاسر ضحكة رجولية عميقة وجعلتها تشعر بارتجافها.
اقترب منها أكثر حتى أصبح يهمس في أذنها وأنفاسه الدافئة تلفح بشرتها.
_ كل حاچة هي اللي اختارتها... إلا الضلفة دي.
صمت للحظة ثم أكمل بصوت أجش، صوت حميمي وخاص أذاب آخر ذرة من مقاومتها.
_ دي بالذات... أنا اللي اخترتها جطعة جطعة بس اونلاين كنت بتفرچ على كل واحدة فيهم وأتخيلك لابساها، كنت بختار اللون اللي هيليق على لون بشرتك، والجماشة اللي هحب ألمسها وهي عليكي.
لم تعد قادرة على التحمل هذا المزيج الفتاك من القوة والتملك والاهتمام الصريح كان أكثر مما تستطيع مقاومته.
استدارت إليه لتنظر لعينيه كي ترى فيها ذلك البريق الذي خصه لها وحدها لكن ووجدت شفتيه في انتظارها.
انحنى وقبلها قبلة تحمل كل شيء، القوة والحنان، الشغف والسكين قبلة رجل يأخذ وقته، لأنه يعرف أن ما بين شفتيه ملكه، ولن يذهب إلى أي مكان.
ابتعد عنها قليلاً، وعيناه لا تزالان مثبتتين في عينيها، تدرسان أثر كلماته وقبلاته عليها.
_ من بكرة مفيش حبس في الأوضة دي تاني.
قالها كأنه يصدر قراراً سيادياً.
_ البيت ده كله بتاعك تتحركي فيه براحتك بس بشرط واحد.
_ إيه هو؟
سألت بصوت هامس وقد استسلمت تماماً لسلطته.
ارتسمت على شفتيه ابتسامة جانبية تحمل كل معاني القوة والمكر والرجولة.
_ إنك متنسيش أبداً، في كل خطوة تخطيها وفي كل نفس تاخديه بين الحيطان دي... أنتِ ملك مين.
ثم عاد ليقبلها مرة أخرى وفي هذه المرة لم يكن هناك مجال للكلمات، فقط لغة الجسد التي كانت تؤكد على حقيقة واحدة حقيقة أصبحت هي نفسها مقتنعة بها: أنها ملك لجاسر، وهو لن يتنازل عن مملكته أو عن ملكته أبداً.
بعد وقت طويل وضع رأسها على كتفه بتملك
وبدأ يمرر أصابعه في خصلات شعرها الطويلة، بينما كانت هي تستمع إلى دقات قلبه المنتظمة والقوية تحت أذنها والتي كانت تبعث في نفسها شعوراً متناقضاً بالأمان والخضوع.
_ شعرك جميل.
قالها فجأة بصوته العميق والأجش، الذي كان يرسل موجات من الدفء عبر جسدها لم تكن مجاملة رقيقة بل كانت ملاحظة تقريراً لحقيقة يملكها هو.
رفعت رأسها قليلاً لتنظر إليه كانت ملامحه هادئة تحت الضوء الخافت، لكن عينيه كانتا حادتين تدرسان وجهها بتركيز شديد.
_ أنتِ جميلة يا نغم.
أكمل بنفس النبرة الواثقة.
_ جميلة لدرجة تخلي الواحد مستعد يحرق الدنيا عشان يحتفظ بيكي لنفسه، مش بس جمال الشكل وبرضه جمال الروح
لم تكن كلماته مجرد غزل بل كانت إعلاناً تذكيراً بما فعله، وبما هو مستعد لفعله من أجلها هذا هو شموخه حتى في أوج لحظاتهما الرومانسية كان يذكرها بقوته وبأنه هو من يسيطر على هذا العالم الذي صنعه لهما.
......
كان المطبخ مضاءً بضوء دافئ ورائحة الطعام تملأ الهواء.
وقفت نغم أمام الموقد تقلب الخضروات في مقلاة، بينما كان جاسر يقف متكئاً على الطاولة المقابلة يراقبها بذراعين مكتوفتين وملامح متجهمة عن قصد.
كان يقطع الخضار ببطء شديد وبطريقة بدائية، وكأنه يعاقبها على إجباره على المشاركة.
_مكانش ليه لزمة كل ده كنت طلبت عشا من مطعم وخلاص، وكان وصل لحد اهنه في دجايج.
لم تلتفت إليه بل ابتسمت ابتسامة خفيفة وهي تواصل الطهي.
_وأني مبحبش أكل برة بحب أعمل أكلي بإيدي.
أنهت تقليب الخضروات، ووضعتها في صينية ثم استدارت لتضعها في الفرن وعندما وقفت مرة أخرى، واجهته مباشرة، وقالت بجرأة لم تكن تعرف كيف امتلكتها، وعيناها تلمعان بتحدي لطيف
_ولا إيه... يعني مش عايز تاكل من إيدي؟
رفع جاسر حاجبيه، وتلاشت ملامح الغيظ لتحل محلها نظرة ماكرة وخطيرة.
ترك الخضرة التي كان يعذبها واقترب منها ببطء كذئب يقترب من فريسته التي يحبها.
لم يتوقف حتى أصبح يفصلهما شبر واحد فقط.
انحنى قليلاً وهمس بصوتٍ أجش وعميق، صوت جعل قلبها يخفق بقوة.
_هو أني أطول؟ المشكلة إن أي حاچة إيدك بتلمسها... بتسرج حلاوتها كلها لنفسها.
وأني بخاف أدوج الأكل، ألاجي طعمه كله إنتي.
شعرت بالخجل يغزوها من قوة كلماته، وحاولت أن تبتعد، لكنه وضع يديه على الطاولة خلفها، حاصراً إياها برفق.
_رايحة فين؟ لسة مساعدتي مخلصتش.
_خلاص... الأكل في الفرن.
_لأ مخلصتش.
مد يده ومسح بقعة كاتشب صغيرة جداً كانت على خدها بإبهامه، لكنه لم يبعد يده بل تركها تستقر على بشرتها الدافئة.
_لسة فاضل أهم حاچة.
وقبل أن تسأل انحنى وقبلها قبلة رقيقة وناعمة، قبلة بنكهة التوابل ورائحة المنزل الدافئ.
كانت قبلة قصيرة لكنها كانت كافية لتجعل ساقيها ترتجفان.
ابتعد عنها قليلاً وعيناه لم تفارقا عينيها.
_إكدة... الطبج الرئيسي بجى چاهز.
بعد فترة وضعا الأطباق على الطاولة الصغيرة في منتصف المطبخ.
جلسوا متقابلين وأضواء المطبخ الخافتة تخلق جواً من الألفة والحميمية.
لم يكن هناك خدم لم يكن هناك بروتوكول فقط هما الاثنان.
كان جاسر يأكل ببطء، وعيناه عليها أكثر من طبقه.
_تسلم إيدك.
قالت بخجل
_بالهنا.
_لأ بجد أني كنت بكدب لما جولت نطلب أكل من برة مفيش حاچة في الدنيا طعمها أحلى من إكدة.
لم يكن يتحدث عن الطعام فقط، بل كان يتحدث عن اللحظة كلها.
عن وجودها معه في مساحتهما الخاصة، عن شعوره بأنه في "بيت" حقيقي لأول مرة.
مد يده عبر الطاولة وأمسك بيدها تشابكت أصابعهما فوق الطاولة، بين الأطباق وفي صمت أكملوا عشاءهما يتحدثان بلغة العيون واللمسات، في مشهد بسيط ورومانسي، كان أغلى من كل كنوز العالم.
❈-❈-❈
كانت طاولة العشاء في قصر الرفاعي عامرة كعادتها تجمع أفراد العائلة في مشهد يبدو مثالياً للدفء والسكينة.
الضحكات الهادئة، الأحاديث الجانبية، وصوت الملاعق وهي تلامس الأطباق، كل ذلك كان يرسم لوحة من السلام الأسري الذي طال انتظاره.
لكن تحت هذا السطح الهادئ كان هناك بركان صامت على وشك الانفجار.
جلس مالك بجوار روح كلاهما يمثلان دورهما بإتقان تام.
هو يضع لها الطعام في طبقها، وهي تبتسم له ابتسامة باهتة من يراهم من بعيد يظن أنهما زوجان متحابان كالعادة، لكن من يدقق النظر يرى الفجوة الجليدية بينهما.
كانت روح تأكل ببطء، كل لقمة تنزل بصعوبة وعيناها مثبتتان على طبقها، تهرب من النظر إليه، أما هو فكان يشعر بنظراتها الخاطفة المليئة بالألم والعتاب، وكانت كل نظرة منها كسهم يخترق قلبه لكنه حافظ على هدوئه وصلابته أمام الجميع.
كسر الحاج وهدان الصمت العام بسؤاله الموجه إلى ليل
_ اتصلتي على نغم يا ليل؟ طمنيني عليها.
ابتسمت ليل ابتسامة رضا صادقة، وهي ترى السلام يعود لعائلتها أخيراً.
_ أيوه يا عمي لسة جافلة معاها جبل العشا، الحمد لله ربنا هداها وهدى جوزها، مبسوطة ومرتاحة.
تهلل وجه وهدان بسعادة حقيقية
_ الحمد لله... الحمد لله، كدة اطمنت عليها.
على الجانب الآخر من الطاولة كان سند يراقب وعد التي كانت تحاول أن تأكل بيد واحدة بينما تحتضن ابنها الصغير "عدي" باليد الأخرى.
كان الصغير يتململ قليلاً مما يجعل مهمتها صعبة.
مال سند نحوها وهمس بحنان.
_ هاتيه عنك يا وعد عشان تعرفي تاكلي براحتك.
ابتسمت له وعد ابتسامة متعبة ولكنها مليئة بالحب.
_ خليه يا سند مش مانعني ولا حاچة اتعودت خلاص.
لكن نادية والدة سند التي كانت قد انتهت من طعامها، لم تقبل بذلك
نهضت من مكانها واتجهت نحوهما بحنان الجدة الفخورة
_ لاه هاته يا وعد أنا خلصت شعبت سيبيهولي بجا أشبع منه شوية.
أخذت نادية حفيدها بسعادة غامرة وبدأت تداعبه وتناغيه، بينما تفرغت وعد أخيراً لطعامها نظر إليها سند بابتسامة دافئة، ومد يده تحت الطاولة ليمسك بيدها، في لفتة صامتة تقول لها "أنا هنا".
وسط كل هذا الدفء العائلي شعر مالك بوخزة حادة من الغيرة والألم.
رأى حب سند لوعد وسعادة جده باستقرار نغم وشعر وكأنه هو الوحيد الذي يقف في قلب العاصفة.
نظر إلى روح فرآها تنظر إلى سند ووعد بابتسامة حزينة
ابتسامة امرأة اهتزت مكانتها
في تلك اللحظة التقت أعينهما لثانية واحدة، لم تكن هناك كلمات لكن عينيه قالت "سامحيني" وعيناها ردت بوضوح "كيف؟".
أشاحت بوجهها سريعاً وعادت إلى طبقها تاركة مالك وحيداً مع إحساسه بالذنب، في وليمة من السعادة لم يكن له نصيب فيها.
•تابع الفصل التالي "رواية ثنايا الروح" الريح والغيامة" اضغط على اسم الرواية