رواية ثنايا الروح "الريح والغيامة" الفصل السادس والثلاثون 36 - بقلم رانيا الخولي
ثنايا الروح
السادس والثلاثون
.........................
لم يستطع مالك أن ينطق بالحقيقة كلما حاول أن يفتح فمه ليعترف كانت الكلمات تموت في حلقه رأى في عيني روح ثقة مطلقة وحباً لا حدود له، فكيف يجرؤ على تحطيم هذه الصورة؟ كيف يلوث نقاءها بقذارة ماضيه؟ اكتشف في تلك اللحظة أنه يفتقر إلى الشجاعة الكافية للمجازفة، فآثر الصمت والهروب، واختلق عذراً آخر يتعلق بضغوط العمل وقضية قديمة عادت للظهور.
استسلمت روح في النهاية، وإن لم تقتنع تماماً قررت أن تمنحه مساحته، وأن تثق به، مؤمنة بأنه سيبوح لها بما يثقل كاهله عندما يكون مستعداً.
بعد يومين، كانت أجواء السرايا هادئة كانت العائلة مجتمعة في الصالة الكبيرة بعد العشاء، يتبادلون أطراف الحديث في محاولة لاستعادة شيء من الحياة الطبيعية التي فقدوها. كانت روح تجلس بجانب مالك، تشاركه ابتسامة باهتة، بينما كان هو يمسك بيدها بقوة، كأنه يستمد منها الأمان الذي يفتقده.
اهتز هاتفها الذي كان بجانبها على الأريكة معلناً عن وصول رسالة.
التقطته بلامبالاة، متوقعة أن تكون رسالة من إحدى صديقاتها كان الإشعار من تطبيق الواتساب من رقم غريب، رقم دولي لم تره من قبل.
فتحت الرسالة بفضول، فتجمدت الدماء في عروقها.
لم تكن هناك كلمات فقط ثلاث صور، أُرسلت في تتابع سريع، كأنها طلقات رصاص اخترقت قلبها بصمت.
الصورة الأولى: كانت لمالك بدا أصغر سناً بملامح أقل نضجاً، لكنه هو بلا شك وبجانبه، كانت تقف امرأة فاتنة الجمال، بشعر اشقر طويل وعينين جريئتين.
كانت تبتسم للكاميرا بثقة، وذراعها يلتف حول خصره بألفة شديدة.
الصورة الثانية:
كانت أكثر قسوة وأشد إيلاماً كانت صورة "سيلفي" على ما يبدو، التقطت في غرفة نوم مالك كان مستلقياً على السرير، عاري الصدر، ويبدو عليه النعاس والمرأة نفسها كانت بجانبه، رأسها مستند على كتفه تنظر إلى الكاميرا بابتسامة منتصرة، ابتسامة امرأة تملك الرجل الذي بجانبها.
الصورة الثالثة: لم تكن صورة شخصية بل كانت صورة لوثيقة ورقة مكتوبة بخط اليد، كلماتها واضحة وحادة كشفرة سكين.
"عقد زواج عرفي"
وكان اسم "مالك سالم الرفاعي" موقعاً في الأسفل، بجانب توقيع آخر باسم "سيدرا رضوان".
شعرت روح بأن قلبها قد توقف عن النبض.
توقف الزمن وتجمدت الأصوات من حولها لم تعد تسمع ضحكات عائلتها، ولا تشعر بيد مالك التي لا تزال تمسك بيدها كل ما كانت تراه هو تلك الصور، تلك الحقيقة البشعة التي صفعها بها هذا الرقم المجهول.
إذن هذا هو السر.
هذا هو الحمل الثقيل الذي كان يخفيه لم يكن مجرد علاقة عابرة، بل كان زواجاً.
شعرت بموجة من الغثيان والبرد تجتاح جسدها.
أرادت أن تصرخ، أن تواجهه، أن تلقي بالهاتف في وجهه وتسأله عن هذه الخيانة.
لكنها كانت محاطة بالجميع لا يمكنها أن تنهار هنا
بقوة لم تكن تعرف أنها تمتلكها، تحاملت على نفسها أخذت نفساً عميقاً، بطيئاً وكأنها تسحب كل الهواء من الغرفة لتمنع نفسها من الاختناق. أغلقت شاشة الهاتف بهدوء تام، ووضعته بجانبها وكأن شيئاً لم يكن.
نظرت إلى مالك، الذي كان لا يزال يبتسم ويتحدث مع عمه.
نظرت إلى يده التي تمسك بيدها وشعرت فجأة بقذارة لمسته.
سحبت يدها منه بهدوء متذرعة بأنها تريد أن تشرب الماء.
نهضت وشعرت بأن ساقيها بالكاد تحملانها تحركت بخطوات ثابتة ومدروسة نحو المطبخ، وظهرها مستقيم، ورأسها مرفوع لم يشك أحد في شيء لم يلاحظ أحد البركان الذي انفجر بداخلها، والحطام الذي أصبحت عليه روحها.
لقد أصبحت خبيرة في إخفاء ألمها، وهذه المرة كان الألم أعمق من أي وقت مضى.
دلفت المطبخ وحينها سمحت لنفسها بالانهيار.
وكأن صدمة واحدة لا تكفي فتأتي ما هي اشد وأقوى.
خيانة أخرى لكن اشد وأقسى مما قبلها
خيانة كسرت روحها قبل ان تكسر قلبها.
لم تستطيع البقاء في المطبخ واسرعت إلى غرفتها كي تنهار بحرية أكثر
شعر مالك بغيابها وتوجه مباشرة إلى المطبخ فلم يجدها
توجه إلى غرفتهما فوجدها جالسة على الأريكة تنظر إلى الفراغ أمامها في صمت مطبق.
رمشت روح بعينيها وشعرت بطعنة حادة باردة تخترق جدار قلبها الذي بنته حولهما وجدته يخفض عينيه أمامها يهرب بنظره من نظراتها المتهمة، وكيف له أن ينكر وقد وضعت كل الدلائل التي تثبت جريمته في حقها أمامه؟ صور، رسائل، تواريخ... ماضٍ كامل كان يجهله، وعاد ليصفعها على وجهها بمنتهى القسوة.
استطاعت بمهارة وقوة لم تكن تعرف أنها تمتلكها، أن تحبس تلك الدموع الخائنة التي تجمعت في عينيها وهددت بالانهيار.
لا لن تضعف أمامه لا يجب أن يرى ضعفها وذلك الجرح الغائر الذي كان هو سبباً به عليها أن تداويه وحدها، بعيداً عن نظرات شفقته الكاذبة.
تطلعت إليه وكل جزء في كيانها يصرخ من الألم، لكن صوتها خرج ثابتاً، حاداً كشفرة.
_ ليه؟
قالتها وهي تتطلع إليه باتهام مباشر، وشعور مرير بالغدر والخيانة يغمر روحها، وهي تتابع جلدها له بكلمات كانت تخرج من جرحها المفتوح.
_ عملتلكم إيه عشان تغدروا بيا إكده؟ عملت إيه عشان كل واحد فيكم يطعني في ظهري بالشكل ده؟
اقتربت منه خطوة، ثم أخرى كي تجبره على النظر إليها كي لا يهرب من مواجهة حطامها الذي تسبب فيه. صاحت به وقد بدأ صوتها يرتجف من فرط القهر.
_ جولي ليه؟ بص في عيني وجاوبني!
قطبت جبينها بحيرة، وكأن عقلها يرفض أن يستوعب هذا الكم من الخذلان، وتابعت بصوت ضائع.
_ في الأول أخوك... ودلوجت أنت، ليه؟ أنا عملت فيكم إيه؟
قالت كلمتها الأخيرة بصوت عالي، صرخة ممزوجة بالقهر والعجز والألم.
حاول مالك أن يشرح، أن يبرر، لكن ماذا يقول وقد علمت كل شيء؟ حاول يائساً أن يجد أي سبب أي عذر، يخفف به وطأة جريمته أمامها.
_ روح... أنا... أنا كنت وحيد سنين طويلة في الغربة.
وكنت في الوجت ده بعاني من حبك لأخويا، وبتعذب ليل نهار وأنا شايفك بعيدة عني.
وبعدين... أنا مهما كان بشر، وليا متطلبات، ولجيتها جدامي بتجدملي كل حاچة بدون مقابل.
ومكنش عندي أمل واحد في المية إنك ممكن في يوم تكوني ليا عشان أصبر.
تقدم منها خطوة وما إن مد يده ليمسك بكتفها، في محاولة يائسة لتهدئتها، حتى صرخت به صرخة خرجت من أعماق روحها المجروحة.
_ متلمسنيش!
تراجع على الفور وأومأ لها برأسه كي لا تنفعل أكثر من ذلك ويعاد ما حدث من قبل، فتمتم بعذاب حقيقي.
_ حاضر... حاضر مش هلمسك بس أرجوكي اسمعيني يا عمري.
قطبت جبينها بعذاب وضحكت ضحكة ساخرة خالية من أي فرح.
_ عمري؟!
تطلعت إليه بابتسامة مغمسة بالمرارة، ابتسامة كانت أشد إيلاماً من ألف دمعة.
_ للأسف... مبجتش بصدجك مبجتش بصدج أي كلمة بتطلع منك.
نظرت إليه، وعيناها تحملان برودة لم يرها فيهما من قبل.
_ أنت زيك زي عدي، مفيش بينكم فرج بس الفرج الوحيد إنه كان صريح من البداية، ومغشنيش، من يوم ما اتچوزني وهو بيحسسني إني شيء مفروض عليه، شيء تجيل على جلبه.
تطلعت إليه بمرارة، وكأنها تبصق الحقيقة في وجهه.
_ إنما أنت... أنت طلعتني لسابع سما، خليتني أصدق إن فيه حب حجيجي، وإن فيه حد ممكن يحبني بجد.
هزت رأسها بألم ووضعت يدها على جوفها الممتلئ وتابعت بقهر.
_ وفجأة... نزلتني سابع أرض، أنا عاملة زي إنسانة مثيرة للشفقة أخوك اتچوزني غصب عنه عشان جدي فرضني عليه.
وبعدها أنت... عشان أنا مرات أخوك اللي اتجتل، واللي يا عيني مات وساب مراته اللي لسه عروسة مكملتش شهور، فأخدتني برضه غصب عنك، شفقة وواجب.
قاطعها مالك بلهفة
_لأ يا روح، انا بحبك وانتِ خابرة إكدة زين.
انتي روحي يا روح، ودي والله ما لمستها وعمري ما لمست حد غيرك، منكرش اني فكرت لاني كنت بموت من غيرك بس والله ما قدرت، وجوازنا كان على أمل إن ممكن أحبها وأكمل حياتي معها بي والله ما قدرت.
أغمضت عينيها بقهر وهي تضع يدها على بطنها كأنها تحمي طفلها من هذا العالم القاسي.
_ مبجتش مصدجة شيء، مبجتش خابرة مين بيحبني ومين لاه.
لولا بنتي... لولا اللي في بطني دي، أنا كنت ريحتكم مني وموتت حالي بس لأ، لازماً أعيش عشانها والحل الوحيد دلوجت... إنك تخلصني منك، زي ما ربنا خلصني من أخوك.
تطلعت إليه بنظرات محملة بالحقد، حقد لم يره في عينيها من قبل وهي تتابع ببطء وقسوة.
_ يعني لو راچل، وعندك ذرة كرامة... تطلجني.
جرحته كلمتها الأخيرة "لو راجل" كخنجر مسموم لكنه أقنع نفسه بأنها مجروحة، وأنها لا تعي ما تقول لذا تحدث بهدوء مصطنع، رغم أن بركاناً من الغضب بدأ يثور بداخله.
_ روح... أنا هعدي اللي جولتيه ده عشان مجروحة...
قاطعته صارخة، وقد نفد صبرها تماماً.
_ بس أنا مش مچروحة! أنا مدبوحة ومعنديش استعداد أكمل حياتي ثانية واحدة مع واحد حقير وخاين زيك ولو رست إني أخلعك في المحاكم وأفضحك، مش هتردد ثانية واحدة فأشرفلك إنك تطلجني دلوجت.
هنا، انقطع آخر خيط من خيوط صبره توحشت نظراته، وبدا له كل شيء أسود.
شعر بها تضيع من بين يديه تصر على اتهامه بالخيانة، وتهدد بتركه لن يسمح بذلك لن يتركها تفلت من بين يديه بعد أن أصبحت له، بعد أن أصبحت روحه وملكه عاد التملك ليرأس علاقتهما من جديد، وظهرت لهجته الحادة التي لا تظهر إلا في أقصى درجات الغضب.
جذبها من ذراعها بقوة، يهزها بدون وعي، وهو يغمغم من بين أسنانه.
_ مستحيل أطلجك، ولو السما انطبجت على الأرض مش هنولهالك، ولو رست إني مخرجكيش من الاوضة دي وأحبسك جواه هعملها يا... بنت عمي.
قال كلمته الأخيرة بسخرية وخرج من الغرفة صافقًا الباب خلفه بعنف أغمضت عينيها بانهيار وشعرت بالغرفة تضيق بها.
ارتمت على الفراش وسمحت لتفسها بالانهيار...
❈-❈-❈
خرج أكمل من المرحاض، وقد ترك خلفه تحت الماء الساخن بعضاً من توتر يومه لكنه لم يستطع أن يغسل قلقه العميق أو ندمه اللاذع
كان يرتدي منامة قطنية بسيطة، وقد تجرد من كل ألقاب ومناصب العالم الخارجي ليصبح مجرد رجل خائف على زوجته وطفله.
تقدم نحو السرير بخطوات خافتة كاللصوص واستلقى بجوارها بروية شديدة حريصاً على ألا يصدر أي صوت قد يزعج نومها الهش.
بمجرد أن استقر جسده بجانبها، شعر بقلبه ينبض بعنف ليس من الشوق بل من شدة الخوف عليها.
كانت قريبة منه تفصلهما سنتيمترات قليلة، لكنه شعر بأنها كانت على وشك أن تضيع منه إلى الأبد.
عاتب نفسه بقسوة لم يعاتب بها متهماً في قاعة محكمة منذ أن ذهب إلى شقة ليان، واستمع منها إلى كل تفاصيل معاناة صبر وهو يشعر بأنه شخص آخر شخص لا يعرفه.
متى كان بتلك القسوة؟ هو وكيل النيابة الذي عُرف عنه بأنه لا يصدر حكماً إلا بعد أن يستمع إلى كل الأطراف، ويمنح المتهم فرصة تلو الأخرى ليدافع عن نفسه.
هو نفسه لم يمنح أقرب الناس إلى قلبه، شريكة حياته حتى فرصة واحدة لتشرح أو تبرر.
لقد طردها من منزله، من جنتها الصغيرة وتخلى عنها في العراء، ظناً منه أنها عادت لذلك القلب المتيبس، والدها الذي كان هو نفسه يحتقره.
تطلع إليها بلوعة وعيناه تجوبان ملامحها الشاحبة باشتياق موجع. كانت نائمة لكن أثر الألم كان محفوراً على وجهها الهادئ.
رأى الهالات الخفيفة تحت عينيها، وشحوب شفتيها وشعر وكأن كل علامة من علامات إرهاقها هي طعنة في ضميره.
في صمت بدأ يعتذر لها ليس بلسانه، بل بقلبه وروحه، يعتذر عن كل كلمة قاسية، وعن كل نظرة اتهام وعن كل ليلة تركها فيها تواجه الخوف والوحدة بمفردها.
ووعدها وعداً صامتاً ومقدساً بأنه سيعيد لها الأمان الذي حرمها منه بعد أن جعلها تتذوق حلاوته.
لم يستطع المقاومة أكثر رفع أنامله المرتجفة قليلاً، وتحسس وجنتها برقة لا متناهية كأنه يلمس شيئاً ثميناً قابلاً للكسر.
جالت الذكريات الجميلة بخلده، تلك الفترة القصيرة التي عاشاها معاً ضحكاتها الخجولة، نظراتها المليئة بالحب أحلامها البسيطة التي كانت تتمحور حوله فقط.
كيف استطاع أن يدمر كل هذا بيده؟
شعرت صبر بلمسته الحانية تلك اللمسة التي كانت تعرفها جيداً، والتي طالما اشتاقت إليها في ليالي وحدتها.
تسللت اللمسة عبر طبقات نومها المتعب وفتحت عينيها بتثاقل
في البداية كانت الصورة ضبابية، لكنها سرعان ما اتضحت رأت أكمل، حب حياتها مستلقياً بجانبها، يتطلع إليها بتلك النظرة العميقة المليئة بالشوق واللهفة النظرة التي كانت تذيبها وتجعلها تنسى العالم بين يديه.
تمتمت بصوت خافت، صوت حالم لا يصدق ما يراه.
_ أنا بحلم؟... ولا أنا مت وأحلامي بتتحقق؟
أغمض أكمل عينيه بألم وشعر وكأن كلماتها سكين حاد يغرس في قلبه.
يا الله إلى أي درجة من اليأس أوصلها؟
قال بصوت متحشرج وهو يقرب وجهه منها أكثر.
_ لأ ده ولا ده أنتِ في حضني، ومش هسيبك تبعدي عني تاني أبداً.
تجمعت العبرات في عينيها وقد علمت بفطنتها أنه عرف الحقيقة، لا بد أنه ذهب إلى ليان قالت بعتاب رقيق يقطر ألماً.
_ تعبت أوي من غيرك يا أكمل كل يوم بعيد عنك كان بيقربني للموت أكتر كنت بخاف أنام وبخاف أصحى كنت خايفة على نفسي، وخايفة على اللي في بطني.
وضع أنامله على شفتيها برقة، يمنعها من مواصلة تلك الكلمات التي كانت تمزق روحه إرباً.
_ هششش... خلاص رجعت، ومش هسيبك تاني وهمحي كل الألم اللي سببتهولك، همحي كل دمعة نزلت منك، وكل لحظة خوف عشتيها، همحي كل الحزن اللي كنت أنا السبب فيه، أو غيري.
عند تلك النقطة لم يعد يستطيع الابتعاد ومال عليها
ليوثّق وعده بقبلة عميقة على شفتيها الذابلتين، قبلة كانت تحمل كل ندمه وكل شوقه وكل وعوده.
كانت قبلة يقسم فيها أن يعيد إليها الحياة التي سلبت منها وأن يلون عالمها الرمادي بكل ألوان الفرح.
ابتعد عنها بصعوبة وقد تذكر تحذير والدته بألا يرهقها أو يقترب منها بحميمية في هذه الفترة الحرجة.
كان الأمر أصعب قرار اتخذه في حياته أن يبتعد عنها وهي بين يديه بهذا الشكل، لكن صحتها وصحة طفلهما كانت الأهم.
تطلع إليها بابتسامة دافئة ابتسامة طمأنتها ومسحت كل مخاوفها.
_ نامي يا صبر نامي وارتاحي وأوعدك إن بكرة، وكل السنين اللي جاية هتكون أحلى.
أغمضت عينيها وهي تشعر بالأمان يغمرها لأول مرة منذ شهور، بينما ظل هو مستيقظاً طوال الليل، يراقبها وهي نائمة كحارس أمين يقف على حدود مملكته التي استعادها أخيراً.
❈-❈-❈
لم تستطع نغم النوم تلك الليلة كانت عيناها مفتوحتين في الظلام، تراقبان خيوط الفجر الأولى وهي تتسلل خجولة من بين ستائر الغرفة لم يكن الأرق بسبب التعب بل بسبب العاصفة التي تدور في رأسها وقلبها كلما أغمضت عينيها، كانت تعود إليها تفاصيل الليلة الماضية لمساته قبلاته همساته، واستسلامها الكامل الذي لم تكن تتوقعه من نفسها.
لا تعرف هل ما فعلته كان صحيحاً أم خطأ
جزء منها الجزء العقلاني الذي تغذى على الكراهية والثأر لأشهر، كان يصرخ فيها بأنها خانت نفسها خانت مبادئها وخانت ذكرى كل من تأذى بسبب عائلته كان يجلدها بسياط الذنب، ويذكرها بأنها كانت مجرد لحظة ضعف أمام ذلك الحب الذي يغدقها به، حصار من الحنان والصبر نجح أخيراً في اختراق دفاعاتها.
لكن شيئاً آخر بداخلها صوت أعمق وأكثر صدقاً كان يهمس بحقيقة مختلفة داخل قلبها الذي وصفته بالخائن، كان هناك اعتراف مرير وحلو في آن واحد
اعتراف بأن استسلامها لم يكن بدافع الضعف، بل كان تتويجاً حتمياً لذلك الحب الذي كانت تحاول كبته ودفنه حياً تحت ركام من العناد والغضب لقد كان حباً عنيداً، نبت في أرض من الكراهية، لكنه تشبث بالحياة وأزهر رغماً عنها.
تطلعت إليه بجانبها كان نائماً بعمق، يحيطها بذراعيه بقوة حتى في نومه كأنه يخشى أن تكون مجرد حلم جميل سيهرب منه مع أول ضوء للنهار.
كان نومه هادئاً وقد اختفت تلك القسوة التي كانت ترتسم على ملامحه وهو مستيقظ لتحل محلها سكينة وراحة جعلته يبدو كرجل آخر، رجل لا يعرف سوى السلام مدت يدها بتردد ومسحت على شعره برقة، وشعرت بوخزة من الحنان تجتاحها من هذا الرجل؟
السجان أم الحبيب؟
الشيطان أم الملاك الحارس؟
أم أنه كلاهما معاً؟
لقد أصبح هو عالمها وهذا ما كان يرعبها.
حبها له لم يعد مجرد شعور بل أصبح إدماناً تعلقاً يخلع الروح، فكرة الابتعاد عنه لم تعد ممكنة بل أصبحت مرادفة للموت.
وهذا التعلق الجنوني هو ما كان يخيفها أكثر من أي شيء آخر.
شعرت بالاختناق كانت بحاجة إلى الهواء بحاجة إلى مساحة لتفكر لتتنفس بعيداً عن تأثيره الساح
تسللت من بين ذراعيه بهدوء وبطء شديدين حابسة أنفاسها مع كل حركة أخذت هاتفها من على المنضدة وخرجت من الغرفة وأغلقت الباب خلفها بصوت خافت بالكاد يكون مسموعاً.
وقفت في منتصف الصالة المظلمة، وشعرت بأنها وحيدة بشكل مؤلم.
كانت تشعر برغبة عارمة في التحدث إلى أي شخص، أي شخص يمكن أن يفهم هذا التشابك المعقد من المشاعر الذي يمزقها.
لم تجد أمامها سوى اسم واحد، وملاذ واحد.
روح...
جلست على الأريكة، وفتحت قائمة الاتصال، وإصبعها يحوم فوق اسم أختها.
كانت مترددة.
ماذا ستقول لها؟ كيف ستشرح لها أنها استسلمت للرجل الذي خطفها؟ كيف ستعترف بأنها... تحبه؟ لكنها كانت في أمس الحاجة إلى صوت يفهمها دون أن يحكم عليها، صوت يعرف معنى الحب الذي يولد من رحم الألم ضغطت على زر الاتصال، ووضعت الهاتف على أذنها وقلبها يخفق بقوة، منتظرة صوت أختها الذي أصبح طوق النجاة الوحيد لها في هذا البحر المتلاطم من الحيرة.
...
لم تجف عيناها للحظة واحدة ظلت طوال الليل جالسة على الفراش، تحتضن ركبتيها، وتنظر إلى نقطة لا شيء في الظلام، تتمنى أن يكون كل ما حدث مجرد كابوس مزعج ستستيقظ منه في أي لحظة.
لكن شاشة هاتفها التي كانت تضيء من وقت لآخر بالصور المشؤومة، كانت تؤكد لها أن هذا واقع، واقع أقسى من أي كابوس.
رن هاتفها فلم تلتفت إليه لا تريد التحدث مع أحد لا تريد أن تضطر لتزييف صوتها أو إخفاء ألمها.
وعندما عاد الرنين بإصرار، تطلعت إليه بضيق فتحول ضيقها إلى نحيب مكتوم عندما وجدت اسم "نغم" يضيء الشاشة.
أختها، صديقتها، ورفيقتها في الألم.
أمسكت الهاتف بيد مرتعشة، وضغطت على زر الإجابة وخرج صوتها عبارة عن بكاء متهدج.
_ نغم...
ارتعبت نغم على الطرف الآخر من الخط عندما سمعت صوت بكائها الذي مزق هدوء الليل.
_ في إيه يا روح؟ مالك؟ صوتك ماله؟
أغمضت روح عينيها بقوة، تحاول أن تهدئ من روعها أن تستجمع شتات نفسها كي تستطيع التحدث، لكن كل محاولاتها باءت بالفشل.
_ روح حد في البيت چراله حاچة؟ جدي كويس؟ عمي؟
أخذت نفساً عميقاً شهقة مؤلمة خرجت من صدرها المثقل، وردت بصوت يقطر ألماً.
_ مالك يا نغم... مالك طلع متجوز.
ساد صمت قصير على الطرف الآخر صمت الصدمة وعدم الاستيعاب.
_ إيه؟
قالتها نغم بعدم تصديق.
_ كيف ده؟ وإمتى؟
تمتمت روح بألم وكأنها تنطق بحكم إعدامها.
_ لما كان في السفر... من سنتين تقريباً.
لم تعرف نغم ماذا تقول هي نفسها تعيش في جحيم مشابه، وتعرف جيداً مدى قسوة هذا الشعور شعور الخيانة والخذلان لكنها أيضاً، بعقليتها التي صقلتها المحن رأت الموقف من زاوية أخرى.
رأت الظروف التي كان يمر بها مالك في تلك الفترة.
_ روح... اسمعيني لو عايزة تسمعي رأي سليم من غير تزييف ولا مچاملة، أنا موچودة، مش عايزة خلاص يا روح أنتِ حرة وده حجك.
كانت روح في أمس الحاجة لأي شيء لأي قشة تتعلق بها.
_ جولي... جولي أي حاچة المهم انها تهدي ناري.
تنهدت نغم تنهيدة طويلة تنهيدة تحمل ثقل تجربتها الخاصة.
_ أنتِ دلوجت بتجولي اللي حصل ده من سنتين يعني مالك وجتها مكنش عنده أي أمل في إنه يتچوزك.
أنتِ كنتي مخطوبة لأخوه، يعني كنتي محرمة عليه دنيا ودين.
وهو كان وحيد في غربة، والغربة دي كربة يا روح بتكسر أجوى الرچالة.
صمتت نغم للحظة ترتب أفكارها لتصل إلى قلب أختها الجريح.
_ فكري فيها بالعقل البنت اللي اتچوزها دي، يا إما مصرية زيه وشغالة معاه، وهي كمان في غربة وشافته لقطة زي ما بيجولوا وطبعا لجيت الطريج اللي تمشيله منه ولفت حواليه.
يا إما واحدة من أهل البلد اللي كان فيها، وقدمتله كل الراحة والدفء اللي كان محروم منه في غربته، بعيد عن أهله وناسه.
وهو في الأول والآخر راجل وبشر بيضعف.
كانت روح تستمع ودموعها لا تزال تنهمر لكنها بدأت تستمع حقاً كانت كلمات نغم كالمشرط الذي يجرح ليخرج الصديد.
_ أنا مش ببررله الخيانة يا روح بس بحاول أفهم معاكي.
هو غلط وغلطته كبيرة إنه خبى عليكي.
بس يمكن... يمكن خاف خاف يخسرك بعد ما ربنا أداكي له هدية مكنش يحلم بيها، يمكن اعتبر إن ده ماضي ومات، ومش عايز ينبش فيه عشان ميچرحكيش.
توقفت روح عن النحيب وبدأت تتنفس بعمق أكبر.
كانت كلماتها منطقية بشكل مؤلم.
_ بس... بس الصور يا نغم... شكلهم كان...
قاطعتها نغم بحكمة.
_ الصور معمولة عشان تچرحك، وعشان توصلك بالشكل ده، اللي بعتتهم عايزة توصلك رسالة إنها كانت في حياته وإنها كانت جريبة منيه.
دي حرب نفسية يا روح، وأنتِ لازم تكوني أجوى منيها السؤال المهم مش هو عمل إيه زمان، السؤال المهم هو عمل إيه دلوجت هل هو لسه معاها؟ هل لسه بيحبها؟ ولا هو معاكي أنتِ بجلبه وروحه؟
شعرت روح بأنها تريد أن تصدق كلام أختها تريد أن تلتمس له أي عذر.
_ هو... هو متغير بجاله فترة من وجت ما رچع من السفر باين عليه الهم والقلق يمكن... يمكن عشان الموضوع ده.
_ شفتي؟ يبجى هو كمان بيتعذب يمكن هي اللي رجعت تطارده وتهدده.
يا روح مالك بيعشق التراب اللي بتمشي عليه أنا شفت ده في عينيه.
متخليش واحدة من الماضي تدمر كل حاچة حلوة بنيتوها.
واجهيه، اسمعي منه، بس اسمعي بجلبك جبل عقلك اديله فرصة يدافع عن نفسه ده حج المتهم، ومالك دلوجت متهم في نظرك.
قالت نغم بقهر
_جالي وحلفلي انه ملمسهاش.
_طيب يا روح عايزة ايه تاني، وانتي خابرة زين إن مالك عمره ما كان كداب
يعني لو لمسها كان هيجولك، وده في حد ذاته قمة الوفاء
دي واحدة جدامه مجدماله كل شيء ومع ذلك رفضها، وده اكبر دليل إن مالك بيحبك ورغم ان كل حاچة كانت متاحة جدامه ورفضها يبجى ده حب هتندمي عمرك كله لو سيبتيه
فكري زين يا روح وبلاش تخسري مالك.
أغلقت روح المكالمة وهي تشعر بأن عاصفة الغضب بدأت تهدأ قليلاً لتحل محلها عاصفة أخرى من الحيرة والألم.
لقد أعطتها نغم خيطاً رفيعاً من الأمل، ومنطقاً لتتشبث به، لم يختفِ الجرح، لكنها على الأقل أصبحت تعرف كيف ستبدأ في تضميده: بالمواجهة.
❈-❈-❈
استيقظ جاسر على إحساس بالخواء لم يكن صوتاً أو حركة ما أيقظه، بل كان غياباً مفاجئاً للدفء.
ذلك الدفء الذي كان يحيط به طوال الليل، والذي تشبث به حتى في نومه قد اختفى، وحل محله برودة الفراش الفارغ.
فتح عينيه بلهفة، قلبه يخفق بعنف يتأكد من أن ما عاشه لم يكن مجرد حلم آخر من تلك الأحلام التي طالما عذبته.
لكن سقط قلبه في قدميه عندما لم يجدها بجواره، الفراش بجانبه كان فارغاً لا تزال عليه بصمة جسدها لكنها لم تكن هناك.
هز رأسه بنفي همساً لنفسه
"لأ... مش ممكن"
محال أن يكون ذلك الاستسلام، تلك القبلات، ذلك الاتحاد الكامل بينهما، مجرد حلم آخر
اعتدل في فراشه بسرعة وعيناه تجوبان الغرفة المظلمة بجنون.
ثم رأى الدليل.
فستانها الذي كانت ترتديه ملقى بإهمال على كرسي، دليلاً ملموساً على أن ما حدث كان حقيقة.
لكن هذا الدليل أتى معه بصدمة أخرى، أكثر رعباً.
إذا كانت الليلة حقيقية وغيابها الآن حقيقي أيضاً... فهل هربت؟ هل استغلت نومه العميق وهربت منه بعد ما عاشاه معا؟ الفكرة كانت كالصعقة الكهربائية التي ضربت جسده كله.
ازدرد لعابه بصعوبة، وشعر بمرارة الخوف تجفف حلقه.
أزاح عنه الغطاء بعنف ونهض لم يهتم حتى بارتداء شيء فوق بنطاله، كل ما كان يهمه هو أن يجدها.
خرج من الغرفة كالإعصار الصامت، قلبه يدق في أذنيه مستعداً للأسوأ حتى رآها.
كانت واقفة أمام الشرفة الزجاجية الكبيرة في الصالة ترتدي مئزاره الفضفاض، وشعرها البني مسترسلا كشلال من العسل البري يتلألأ مع كل حركة
كانت تتأمل خيوط الفجر الأولى وهي تشق الظلام ولم تشعر بوجوده.
عندما رآها أغمض جاسر عينيه وأطلق زفيراً طويلاً حارقاً وشعر بأن روحه التي كانت معلقة في السماء قد عادت لجسده لم تهرب لم تتركه كانت هنا حقيقية.
لم يعي بنفسه وهو يقترب منها بخطوات شغوفة خطوات رجل تائه في الصحراء وجد واحة حياته، لم يعد قادراً على التحكم في نفسه، وصل إليها واحتضنها من الخلف محيطاً خصرها بذراعيه بقوة ضاماً إياها إلى صدره العاري بلهفة وشوق وحنين، وفوق كل ذلك بارتياح عميق كاد أن يجعله ينهار.
دفن وجهه في شعرها يستنشق رائحتها التي أصبحت إدمانه وسبب بقائه، وهمس بصوت متحشرج صوت رجل كان على حافة الهاوية، صوت أقرب للتوسل.
_ متعمليش فيا كدة تاني متبعديش عن حضني أبداً.
اندهشت نغم من حالته من قوة احتضانه التي كانت تحمل يأساً وخوفاً لم تفهمه، استدارت بين ذراعيه كي تسأله عن سبب هذا الهجوم المفاجئ لكن ما إن التفتت حتى وجدت شفتيه تطبق على شفتيها بقبلة متلهفة، متطلبة تكاد تكون عنيفة.
لم تكن قبلة حنونة كتلك التي كانت في الليلة الماضية بل كانت قبلة رجل كان على وشك أن يفقد كل شيء، قبلة يؤكد بها لنفسه ولملكيته بأن ما يعيشه حقيقة وليس حلماً، كانت قبلة تحمل كل رعبه من فقدانها كل جنونه بها.
مرة أخرى استسلمت نغم لكن هذه المرة كان استسلاماً واعياً بإرادتها الكاملة لقد رأت في هجومه هذا كل خوفه، وأدركت في تلك اللحظة أنها لن تقوى على أن تقسو عليه أكثر من ذلك. لقد أصبح قلبه مكشوفاً أمامها وهي الوحيدة التي تملك القدرة على حمايته أو تدميره.
تجاوبت معه وذراعاها التفتا حول عنقه بينما تعمقت قبلته أكثر، أصبحت أكثر جرأة وحرارة تحمل كل لهفته التي كادت أن تقتله قبل لحظات حملها من خصرها دون أن يفصل القبلة، وجعلها تجلس على الطاولة الرخامية الباردة خلفها، تعمقت صدمة البرودة مع حرارة جسده الملتصق بها مما جعلها تطلق تنهيدة طويلة داخل فمه تنهيدة استسلام لذيذ.
ابتعد عنها ليلتقط أنفاسه وعيناه الحارقتان تحدقان في عينيها كأنهما تريدان أن تحرقا صورتهما داخل روحها.
_ افتكرتك هربتي.
قالها بصوت أجش متحشرج، يفضح كل الرعب الذي شعر به.
هزت رأسها بنفي وعيناها تلمعان بمشاعر جديدة لم تعد تقاومها.
لم يمنحها فرصة للكلام عاد ليقبلها مرة أخرى، وهذه المرة كانت قبلاته تستكشف عنقها وكتفها وهو يهمس بكلمات متقطعة كأنها قسم أبدي.
_ أنا ملكك وأنتِ ملكي... فاهمة؟ مستحيل أجدر أعيش من غيرك تاني مستحيل أسيبك تهربي مني، لإن هروبك والموت واحد لو ضعتي مني... روحي هتضيع معاكي.
كانت كلماته تحمل تملكاً مطلقاً لكنها لم تعد تخافه لقد أصبح تملكه هو الأمان الذي كانت تبحث عنه هو القيد الذي يمنحها الحرية.
ترك عنقها ليعود إلى شفتيها مرة أخرى في قبلة لا نهاية لها في منتصف الصالة، ومع بزوغ الفجر الذي كان شاهداً على نهاية حرب طويلة وبداية استسلام لذيذ لا يريدان له أن ينتهي لقد أدركت في تلك اللحظة أن هذا الرجل القوي، الجبار الذي يهابه الجميع، هو في الحقيقة أضعف الخلق أمامها وأن حبه لها هو نقطة ضعفه وقوته في آن واحد وهذا بالضبط ما جعلها تهيم به عشقاً.
❈-❈-❈
كان الليل قد أسدل ستائره على حديقة القصر، وضوء القمر الفضي يرسم ظلالاً طويلة للأشجار جلس مالك وحيداً على مقعد حجري بارد يداه متشابكتان أمامه، وعيناه تائهتان في الفراغ
لم يكن يشعر بالغضب من روح بل على العكس كان يشعر بغضب عارم تجاه نفسه.
كان مقدراً تماماً لحالتها أي امرأة مكانها تكتشف أن زوجها الذي تحبه كان متزوجاً من أخرى حتى لو كان زواجاً صورياً، سيكون هذا هو رد فعلها الطبيعي.
الألم، الخيانة، الصدمة... كل ذلك كان حقها
لو كان يعلم لو كان يملك ذرة من علم الغيب بأن روح ستكون يوماً ما زوجته وحبيبته لما كان أقدم على تلك الخطوة الطائشة أبداً.
لقد كانت محاولة يائسة لنسيان حب مستحيل لكنها الآن عادت لتطارده كشبح في أسعد لحظات حياته.
شعر باختناق بحاجة ماسة للتحدث مع شخص يفهمه شخص مر بظروف مشابهة وعرف معنى القرارات المعقدة.
لم يكن هناك في العالم كله من يمكن أن يفهمه في هذه اللحظة سوى أكمل.
تردد قليلاً ثم أخرج هاتفه وضغط على اسمه.
......
في شقة أكمل كان الهدوء يلف المكان. كان مستلقيا على الفراش، وصبر نائمة بعمق رأسها مستند على كتفه وأنفاسها منتظمة وهادئة، كان يمرر يده على شعرها بحنان مستمتعاً بلحظات السلام النادرة هذه.
فجأة أضاءت شاشة هاتفه الموضوعة على الطاولة أمامه معلنة عن اتصال من "مالك".
بأقصى درجات الحرص، انحنى قليلاً ووضع وسادة مكان كتفه تحت رأس صبر دون أن يوقظها.
نهض بهدوء وتوجه إلى الشرفة وأغلق الباب الزجاجي خلفه قبل أن يجيب.
_ أيوة يا مالك.
جاء صوت مالك متعباً ومبحوحاً من الطرف الآخر.
_ عامل إيه يا أكمل آسف لو بصحيك في وجت متأخر.
_ لا أبداً أنا صاحي خير؟ صوتك مش عاجبني.
تنهد مالك تنهيدة طويلة.
_ هي عاملة إيه دلوجت؟
فهم أكمل أنه يسأل عن صبر.
_ كويسة أمي طمنتني عليها النهاردة لولا ستر ربنا وإنك شوفتها ودليتني عليها كان زمانها...
صمت أكمل لا يريد إكمال الجملة.
شعر أكمل بأن الأمر أعمق من مجرد الاطمئنان على صبر.
_ مالك فيه إيه؟
صمت مالك للحظات كأنه يجمع شتات نفسه ليعترف بكارثته.
_ روح... عرفت.
شعر أكمل بالصدمة تجمد أطرافه.
_ عرفت؟ عرفت إيه بالظبط؟
_ كل حاجة عرفت بجوازي من سيدرا.
أغمض أكمل عينيه وشعر بغصة.
كان يريد أن يعاتبه أن يصرخ فيه ويقول له "مش ده اللي حذرتك منه؟ مش قلتلك الماضي مسيره يظهر"
لكنه سمع الانهزام في صوت صديقه وأدرك أن هذا ليس وقت العتاب أبداً الآن هو وقت الدعم.
سأل بهدوء، محاولاً فهم حجم الكارثة.
_ عرفت إزاي؟
_ سيدرا بعتتلها كل حاچة على الواتساب صورنا مع بعض وصورة عقد الجواز العرفي.
تنهد أكمل بألم على حال صديقه.
_ اسمعني يا مالك اللي حصل حصل سيبها دلوقتي، متضغطش عليها سيبها تطلع كل اللي جواها، تصرخ، تعيط، تعمل أي حاجة ده حقها.
_ بس هي مش عايزة تشوف وشي.
_ وده طبيعي برضه سيبها تهدى لحد الصبح، وبعدين اتكلم معاها بس لما تتكلم متدافعش عن نفسك اسمع وبس لازم تتحمل كسرتها دي يا مالك، وتستوعبها هي دلوقتي مش شايفة غير إنك خدعتها، وإنها كانت مجرد بديل لواحدة تانية لازم تراعي كسرتها دي وتفضل جانبها لحد ما هي اللي تسمحلك تقرب وتداويها لله الموضوع هياخد وقت، بس أنت لازم تكون أقوى عشانها.
❈-❈-❈
بدأت خيوط الفجر الأولى تتسلل إلى الغرفة، ترسم ظلالاً ناعمة على الجدران.
فتحت نغم عينيها ببطء وشعرت بدفء غير معتاد يحيط بها، استدارت برأسها لتجد نفسها وجهاً لوجه مع جاسر.
لم يكن نائماً كان مستنداً على مرفقه يراقبها في صمت، وفي عينيه نظرة لم ترها من قبل بهذا الوضوح.
كانت نظرة حب خالصة نظرة رجل وجد كنزه المفقود، نظرة مليئة بحب كثيف وعميق لدرجة أنه بدا غير واقعي.
كان يمرر إبهامه برقة شديدة على خدها كأنه يتأكد أنها حقيقية وليست طيفاً سيختفي مع أول ضوء.
شعرت بالخجل يغزوها وتوردت وجنتاها لم تعتد على هذا القرب، على هذه النظرة التي تجعلها تشعر بأنها مركز الكون.
همست بصوتٍ ناعم بالكاد يُسمع
_صاحي ليه؟
ابتسم ابتسامة خفيفة ابتسامة لم تصل إلى شفتيه فقط بل أضاءت عينيه المتعبتين.
_خايف.
عقدت حاجبيها باستغراب.
_خايف؟ خايف من إيه؟
اقترب أكثر حتى كادت أنفاسه الدافئة تلفح وجهها.
_خايف أنام وأصحى أكتشف إن كل ده كان حلم وإنك مش هنا، وإن البعد اللي بينا لسة مخلصش فجولت... أشبع من الحلم ده على أد ما أجدر، جبل ما يخلص.
لمست كلماته وتراً حساساً في قلبها هذا هو جاسر القوي، الجبار يعترف بخوفه من أن يفقدها.
سألت بتردد كأنها لا تصدق ما تسمعه
_للدرجة دي؟ معجول بتحبني جوي إكدة؟
ضحك ضحكة خافتة وعميقة ضحكة هزت صدره الذي تستند عليه.
_وأكتر أكتر ما ممكن تتخيلي.
صمت للحظة وعيناه تغوصان في عينيها، كأنه يقرأ روحها.
_يمكن في البداية مكنتش شايفك كنتي مجرد بنت من عيلة عدوي بس بعد اللي حوصل... بعد ما هربتي، وبعد ما عدي مات وهو بيحاول يرچعك... بجيت عايز أعرف مين دي؟ مين الإنسانة اللي ممكن حد يعرض نفسه للخطر والموت عشانها؟
مرر يده من خدها إلى شعرها يزيح خصلة شاردة برفق.
_وبعدين... اكتشفت ده بنفسي اكتشفت إن الواحد ممكن يتخلى عن حياته وعمره كله عشانك، اكتشفت إنك مش بس تستاهلي حد يموت عشانك... لأ، أنتي تستاهلي حد يعيش عشانك.
كانت كلماته قوية صادقة تتدفق منه كشلال لم يعد قادراً على حبسه، شعرت نغم بأنها تذوب تحت وطأة هذا الحب، حب أسطوري لم تقرأ عنه إلا في الروايات.
هل يمكن لشخص أن يحب بهذه القوة وبهذا العمق؟
رأى الحيرة والدهشة في عينيها فاقترب أكثر وقبّل جبينها قبلة طويلة ودافئة.
_متفكريش كتير مفيش منطق في اللي بحسه ليكي، كل اللي أعرفه إنك هنا في حضني، وده المكان الوحيد الصح في الدنيا كلها.
ثم بجرأة خفيفة ومعهودة انحنى وهمس في أذنها بصوتٍ أجش، صوت جعل رعشة تسري في جسدها بالكامل.
_والفجر لسة مجاش... والعالم كله نايم... وده وجتنا إحنا لوحدنا.
لم يمنحها فرصة للرد أو التفكير سحبها إليه برفق، وأنهى المسافة الأخيرة بينهما آخذاً إياها معه إلى عالمه الخاص، عالم لا وجود فيه للماضي أو المستقبل، لا وجود فيه إلا لهما، ولفجر جديد يولد من رحم حبهما.
•تابع الفصل التالي "رواية ثنايا الروح" الريح والغيامة" اضغط على اسم الرواية