رواية ثنايا الروح "الريح والغيامة" الفصل الرابع والثلاثون 34 - بقلم رانيا الخولي

 رواية ثنايا الروح "الريح والغيامة" الفصل الرابع والثلاثون 34 - بقلم رانيا الخولي 

ثنايا الروح 
رانيا الخولي 
الرابع والثلاثون 
........................
كانت الغرفة هادئة إلا من صوت طي الملابس الذي كان يصدر عن مالك وهو يضعها بعناية في حقيبة سفره. 
كل قطعة يضعها كانت تبدو وكأنها حجر يلقيه في قلب روح التي كانت تجلس على حافة السرير، تراقبه في صمت وعيناها معلقتان بكل حركة من حركاته.
لم تعد قادرة على التحمل أكثر. انهمرت دموعها بصمت وخرج صوتها مخنوقاً ومبحوحاً من البكاء المكتوم.
_ يعني لازم تسافر برضك يا مالك؟
توقف مالك عن ترتيب الحقيبة فور سماعه لصوتها المنهار، استدار نحوها ببطء وقلبه يعتصر ألماً لرؤية دموعها التي كانت أغلى شيء عنده اقترب وجلس القرفصاء أمامها ومسح دموعها بأطراف أصابعه بحنان بالغ.
_ حبيبتي إنتي عارفة إنه ضروري لازم أروح أخلص كل أوراجي وحاچتي اللي هناك ده مجرد إجراء، وهكون هنا جنبك جبل ما تاخدي بالك إني مشيت.
نظرت إليه بعينين متوسلتين وتشبثت بيده كغريق يتعلق بقشة نجاة.
_ طب خدني معاك مجدرش أجعد إهنه لى حاللى من غيرك.
ابتسم مالك ابتسامة حنونة وهز رأسه برفق.
_ يا روح جلبي إزاي بس؟ السفر دلوجت متعب وخطر عليكي وعلى اللي في بطنك أنا مجدرش أخاطر بيكوا أبداً كلها يومين واعاود وهتلاجيني جدامك أوعدك.
لكن كلماته لم تهدئها بل زادت من بكائها شعرت بالخوف من فكرة ابتعاده عنها حتى لو لساعات.
_ لاه... متسبنيش أنا بخاف وأنت مش چارى.
هنا لم يعد مالك قادراً على المقاومة ضعف أمام دموعها كما يضعف دائماً ترك الحقيبة المفتوحة وكل ما كان يفعله ونهض ليجلس بجانبها على السرير، سحبها برفق إلى حضنه وضمها بقوة كأنه يريد أن يخبئها عن العالم كله داخل ضلوعه.
دفن وجهه في شعرها يستنشق رائحتها التي أصبحت إدمانه وهمس في أذنها بصوتٍ عميق ودافئ
_ ششش... اهدي يا عمري أنا جارك أهه ومستحيل أهملك إنتي فاهمة؟ كل دجة جلب فيا بتنادي باسمك كل نفس باخده عشانك، السفر ده مچرد خطوة عشان نجفل صفحة جديمة، ونبتدي صفحتنا إحنا على أرضنا ووسط أهلنا.
رفع وجهها بيديه وجعلها تنظر في عينيه مباشرة كانت نظراته بحراً من العشق والحنان، نظرات قادرة على إغراقها في عالم من الأمان.
_ كل يوم بيعدي حبي ليكي بيكبر أكتر، بجيت مش بس بحبك، أنا بتنفس حبك إنتي الهوا اللي بعيش بيه.
لم تستطع روح أن تنطق بكلمة كانت غارقة في عينيه في صدق مشاعره التي لم تعد الكلمات قادرة على وصفها.
انحنى مالك ببطء وقبّلها. 
لم تكن قبلة عادية كانت وعداً بالأمان وعهداً بالبقاء. 
كانت قبلة طويلة عميقة ورومانسية، تحمل كل الشوق الذي يشعر به وكل الخوف من أن يفقدها. 
نسي أمر السفر ونسي الحقيبة ونسي العالم الخارجي لم يعد في عالمه سوى هي.
بين ذراعيه شعرت روح بأنها في حصنها المنيع، وأن كل مخاوفها تذوب وتتلاشى استسلمت لمشاعره الجارفة وبادلته قبلته بنفس الشغف، مدركةً في تلك اللحظة أن حب مالك أصبح هو وطنها الذي لا يمكن أن تبتعد عنه أبداً.
❈-❈-❈
كانت الشمس قد بدأت تميل نحو الغروب تلقي بظلال طويلة على الأرض الزراعية الخصبة وقف جاسر هناك، متكئاً على سيارته ينتظر في المكان المتفق عليه مكان محايد بعيد عن أعين العائلتين لم يطل انتظاره فقد ظهرت سيارة مالك من بعيد، تقترب بسرعة ثم تتوقف على بعد أمتار قليلة مثيرة سحابة من الغبار.
ترجل مالك من سيارته ووجهه متجهم كصخرة صوان.
سار نحو جاسر بخطوات ثابتة، وكل خطوة كانت تنضح بالرفض المسبق.
بدأ مالك الحديث مباشرة دون مقدمات وصوته جاف كأرض عطشى.
_خير يا جاسر؟
وقف جاسر مستقيماً وتحدث بقوة
_كل خير ان شاء الله، عايزك تساعدني أرچع مرتي.
قطب مالك جبينه بصدمة كأنه لم يسمع جيداً.
_ أساعدك في إيه؟
_ أخطفها.
قالها جاسر ببرود تام كأنه يطلب كوباً من الماء.
هنا انفجر مالك ولم يعد يستطيع التحكم باعصابه التي يثيرها ذلك الرجل
تقدم خطوة بغضب وصاح في وجهه بصوت لا يصدق صوت ممزوج بالاشمئزاز والغضب.
_ إنت اتهبلت في نفوخك ياك ؟! عايزني أساعدك توخطف بت عمي؟! بت الرفاعي؟!
لم يهتز جاسر رد بفتوره المعتاد وكأن ما يطلبه حق مكتسب لا نقاش فيه.
_ مبجتش بنت عمك وبس هى كمان بجت مرتي.
رد مالك بحدة وعيناه تقدحان شرراً.
_ بالجوة مش بالرضا
جوازك منيها كان غصبت عنيها وخطفك ليها مش برضاها ولا برضا أهلها!
رد جاسر بلهجة يشوبها بعض من الهدوء المنطقي، كمعلم يشرح لتلميذ غاضب
_ بس ده ميمنعش إنها بجت مرتي شرعاً وقانوناً ومن حجي أطالب بيها.
تابع بمغزى
_ واللي حوصل بينا يخليني أجولك أنها قولاً وفعلاً مرتي.
قطب مالك جبينه بصدمة أشد محاولاً فهم التلميح الخفي في كلمات جاسر.
_ كيف يعني؟ جصدك إيه؟
اقترب جاسر خطوة وعيناه الباردتان تحدقان مباشرة في عيني مالك المشتعلتين.
_ يعني زي ما فهمتها أو زي ما مش رايد تفهمها، أنا ونغم... زوجين عاديين.
كانت هذه هي القشة التي قصمت ظهر البعير لم يستطع مالك تحمل هذه الإهانة، هذه الصورة التي رسمها جاسر بكلماته. 
اندفع بغيرة عمياء على شرف ابنة عمه، ورفع قبضته ليوجهها بكل قوته إلى وجه جاسر البارد.
لكن جاسر كان أسرع وبحركة خاطفة أمسك بقبضة مالك في الهواء، قبل أن تصيبه بسنتيمترات كانت قبضته فولاذية، أوقفت اندفاع مالك تماماً اشتد الصراع بينهما للحظات، كل منهما يختبر قوة الآخر في صمت.
فقط قوة النظرات 
قال جاسر بشدة ونبرته تحمل تحذيراً واضحاً وهو مازال ممسكاً بقبضة مالك
_ مش هحاسبك على اللي عملته ده لإني مجدر غيرتك على بنت عمك.
ثم وبقوة مفاجئة دفع يد مالك بعيداً عنه، وتقدم منه خطوة أخرى ليصبح صدره يكاد يلامس صدر مالك وقال بثقة وهدوء قاتل
_ بس الغيرة دي مش من چوزها
فاهم حاچة زي دي؟ 
أنا جلبي جاسي صحيح واتربيت على الجسوة بس في نفس الوجت اتربيت على الأصول ومرتي... خط أحمر.
تطلع إليه مالك بازدراء ونفض يده من قبضته وهو يقول باتهام
_وهي الأصول برضك تخليك تسمح تتعدى عليها.
_انا متعدتش عليها ولا انا ممكن أجبر واحدة على حاچة زي دي، الموضوع ده كان برضى بينا.
وبما انك السبب فانت مجبر تساعدني.
قطب مالك جبينه بدهشة
_أني السبب في ايه؟
رفع جاسر حاجبيه بسخرية
_انت خابر زين اني أجصد ايه، نغم سابت البيت لما عرفت بچوازي من بت عمي...مين بجا كان السبب في الچوازة دي.
علم مالك أن ذلك الرجل يملك من الذكاء ما لا يستهان به وعليه أن يكون حذر معه.
_حتى لو، مينفعش تطلب مني اساعدك تخطفها.
تحدث جاسر بثقة
_ورد التهامي، هديها حقها في أملاك چدي وحتى في السرايا اللي جاعدين فيها، وهجبر عمي يعلن مسامحته لها جدام البلد كلايتها، وهمحي تهديده لها، يعني هتجدر تعيش بأمان بعد النهاردة، بالنسبة لنغم
أني هأمنلها حياتها معايا زين وكل شروطها هنفذها أيا كانت 
ده كل اللي أجدر اجدمه دلوجت، فكر زين ورد عليا.
فتح جاسر باب سيارته واستقل بها ثم تحدث بثقة
_اني جد كلمتي وانت خابر إكدة زين.
انطلق جاسر بسيارته تاركاً مالك يفكر في عرضه.
❈-❈-❈
بدأت نغم تخرج من قوقعتها شيئاً فشيئاً أصبحت تحمل عدي الصغير معظم الوقت كأنه تعويذة تحميها من أفكارها ومرساة تربطها بالحاضر كانت رائحته، أنفاسه الصغيرة، دفء جسده بين ذراعيها كل ذلك كان يمنحها شعوراً بالسلام لم تعرفه منذ زمن.
بدأت تنزل وتجلس مع جدها وعمها تتبادل معهم كلمات قليلة لكن عينيها كانتا تحملان دائماً ذلك العتاب الصامت، عتاب من شعر بأنه تُرك وحيداً في مواجهة مصيره.
مهما برروا مواقفهم
سيظل ما حدث نقطة سوداء في حياتها
لذلك تصغط على جاسر كي ترى إلى متى هيستكر في تمسكه بها 
لاحظ سالم هذا العتاب كان يراقبها كل يوم يرى كيف تحاول أن تكون قوية ويرى أيضاً كيف ينكسر هذا القناع عندما تظن أن لا أحد يراها.
وفي إحدى الأمسيات بعد أن صعدت إلى غرفتها، قرر أن الوقت قد حان لكسر هذا الحاجز الجليدي
صعد خلفها وطرق على باب غرفتها طرقاً خفيفاً
_ نغم ممكن أتكلم معاكي شوية
فتحت الباب وهي لا تزال تحمل عدي الذي كان يغفو بين ذراعيها رحبت به بالطبع، فعمها سالم كان دائماً الأقرب إلى قلبها هو الذي رباها بعد وفاة والدها وله مكانة خاصة لا ينازعه فيها أحد.
دخل سالم وجلس على طرف الأريكة، بينما جلست هي أمامه تعدل من وضع عدي في حضنها بحنان أمومي فطري، نظر إليها سالم بابتسامة حانية وهو يرى كيف تتعلق بالصغير
_ شايفك خدتي الواد من أمه وأبوه، عقبالك يا بنت الغالي لما أشيل ولدك إكده.
سقطت الكلمة على قلب نغم كقطعة جمر "عقبالك" أي عقبال هذا؟ لقد انتهى كل شيء.
شعرت بغصة حارقة في حلقها وانكسرت نظرتها وهربت عيناها إلى وجه الرضيع النائم لتخفي حزناً عميقاً مر في ملامحها.
كيف لها أن تتزوج أو تنجب بعد أن سلمت نفسها لجاسر، لقد حكمت على نفسها بالوحدة الأبدية.
لم يفت هذا الانكسار على سالم لقد رآه بوضوح وتأثر قلبه لألمها الذي تحاول إخفاءه تنهد تنهيدة طويلة وقرر أن يفتح قلبه ويكشف كل الأوراق.
_ نغم بصيلي.
رفعت عينيها إليه بتردد
قال بنبرة جادة وحنونة 
_ أنا خابر إنتي بتفكري كيف
وخابر إنك شايلة في جلبك مني ومن جدك، حاسه إننا اتخلينا عنيكى بس وحياة الغالي اللي راح ده ماحوصول.
صمت للحظة يجمع كلماته
_كل الحكاية يا بنتي إننا كنا في موقف صعب كان لازم أطاطي في الوقت ده، لو كنت دخلت معاه في تحدي وجتها كان صخر هياخدها حجة ويشهر بالموضوع في البلد كلايتها، كان هيعند وكان هيخلي سيرتك على كل لسان، عشان يكسرنا بيكي.
كان لازمن نهدي اللعب عشان أنا عارف جاسر وعارف تفكيره، كنت عامل حساب يوم زي ده يوم هيرد فيه اللي حصله زمان، بس كنت فاكر إنه هيترد لوعد مش ليكي إنتي يا بنت الغالي، عشان إكده كنت موصي وعد ومفهمها إنه مش هيسكت إلا لما يردها.
أكمل بصوت يملؤه الأسف
_ خوفي كان عليكم كلكم مكنتش بخلي واحدة منكم تخرچ من باب السرايا من غير ما يكون حد من الرچالة معاها، واليوم الوحيد اللي رچعتي فيه لوحدك من الچامعة حوصل اللي حوصل كان ممكن لو چيتي وحكتيلي، كنت عملتلك حراسة تدخل معاكي جلب الچامعة لو لزم الأمر بس.
بس بنرجع نجول نصيب
أنا متخلتش عنك بمزاجي وإنتي خابرة غلاوتك عندي جد إيه، غلاوتك أكتر حتى من ولادي متفتكريش إن الأيام اللي عدت عليا وإنتي بعيدة كانت سهلة، ولا اللحظة اللي سبتك فيها لوحدك معاه ورچعت كانت هينة.
دي كسرت جلبي عليكي ألف حتة بس الحمد لله دعواتي ودعوات جدك ربنا استجاب ليها ورجعتي تاني لحضني.
كانت نغم تستمع ودموعها تتجمع في عينيها، لم تكن تعرف بكل هذه التفاصيل.
قال سالم وهو يغير نبرته إلى الجدية.
_ بس فيه كلمتين رايد أجولهم في حج جاسر، التهامية صحيح جلبهم جاسي وميعرفوش الرحمة بس جاسر غيرهم، جاسر راچل بجد ودي حاچة محدش يجدر ينكرها والدليل على إكده إنه رفض يدي الفرصة لعمه إنه يشهر بينا، ووجف جصاده بنفسه.
هو الوحيد فيهم اللي ممكن أآمن عليكي معاه.
انحنى سالم قليلاً ونظر في عينيها مباشرة
_ عارفة إنه بعد ما رچعتي! چاه تاني  چاني وعرض عليا ينهي التار ويتنازل عن الأرض كلها في مجابل إنك ترچعيله ودي حاچة مش بالساهل عليه أبداً.
عارفة ده معناه إيه؟ معناه إنه هيفتح على نفسه نار چهنم مع عمه ومش بعيد صخر يجتله فيها.
شهقت نغم بخوف حقيقي ووضعت يدها على فمها وعيناها اتسعتا بصدمة.
_كان ممكن أوافق على نصيبنا من الأرض اللي جدنا شقي وتعب فيها، بس رفضت عشان خفت عليه.
صحيح غولط في حجنا كتير، بس هو اللي كان ضاغط على عمه يوجف التار.
تنهد سالم وهو يتابع
_وكفاية جوي انه تغاضى عن اللي عمله عدي، كان ممكن ياخدها فرصة ويكمل اللي بدأه واللي عمه سجاه له سنين طويلة، ورفض يبهدل عدي وأصر انه يتنازل.
لازمن زي ما بنفتكر العيوب نفتكر المواجف الزينة يا نغم.
لاحظ سالم التردد بعينيها
هنا في هذه اللحظة تأكد سالم من شكوكه، لقد رأى الحب والخوف الصادق على جاسر في عينيها
ابتسم سالم ابتسامة حزينة وتابع كي يتأكد أكثر
_ صخر بيستخدم جاسر يا نغم، بيستخدمه وسيلة عشان ينتجم مننا بيه عشان يخليه هو اللي في وش المدفع لو جاسر اتجتل في التار صخر هياخد كل حاجة، ولو عاش هيچوزه بته شروق وبرضك هياخد كل حاچة، ويبجى ضمن إن جاسر تحت چناحه.
قالت نغم بحرقة كأنها تدافع عن نفسها من أمل بدأ يتسلل إليها.
_ بس هو فعلاً اتچوزها.
هز سالم رأسه
_ ده مش چواز يا بنيتي، ده ورج على يد مأذون عشان يسكتوا بيه الناس، واللي عرفته من فرح هناك إن كل واحد منهم في أوضة ولما عمه معجبوش الحال بجى بينام على الكنبايه، الراجل بجاله شهور متجوزها على الورج ومهوبش نواحيها، وده في عرفنا إحنا قمة الوفاء ليكي.
صمتت نغم تماماً وعقلها يدور يحاول استيعاب كل هذه الحقائق الجديدة، لقد تغيرت الصورة تماماً، الرجل الذي ظنته جلادها كان في الحقيقة سجينها وسجين حبه لها، وكان يحارب معارك لم تكن تعرف عنها شيئاً
_بس أني مستحيل أرچع على ضرة.
ابتسم سالم وهنا شكه أصبح يقين
نهض سالم وهو يقول
_حجك يابنيتى، بس اتكلمي معاه وافرضى شروطك، وافج عليها كان بها، موافجش يبجى هو اللي أختار، فكري زين جبل ما تخطي اي خطوة.
خرج سالم وتركها في حيرة من أمرها..
غدا اول امتحاناتها بعد عودتها من الامتحان ستطلب مقابلته وستضع شروطها..
❈-❈-❈
بعد ليلة طويلة من التردد والصراع الداخلي، وجدت نغم نفسها تحدق في اسم "جاسر" على شاشة هاتفها مع أولى خيوط الفجر. 
كان الاسم يضيء في الظلام كأنه منارة تدعوها أو جمرة توشك أن تحرقها، لا تعرف إذا كان ما تنوي فعله خطأً أم صواباً.
قلبها كان يتوسل إليها:
"اتصلي به، كلمة واحدة ستنهي هذا العذاب اسمعي صوته، اشعري بوجوده هو أمانك هو وطنك، مهما حدث، لم يتخلى الدا ويظل يسعى خلفك يتمنى نظرة واحدة منكِ، كفى عذاب"
وعقلها كان يصرخ بغضب:
"إياكي! هل نسيتِ؟ هل نسيتِ الخوف، الإهانة، السيطرة؟ هل نسيتِ أنه استخدم ألمك ورعبك كسلاح ضدك؟ الاتصال به هو استسلام، هو عودة إلى القفص الذهبي الذي كدتِ تموتين فيه."
ألقت الهاتف على الفراش بجوارها بعنف، كأنها تلقي بثعبان سام
لقد غلبها عقلها في هذه الجولة،
نهضت من الفراش وشعرت بأن الغرفة تضيق عليها، بأن الجدران تقترب لتهرسها توجهت إلى الشرفة، تبحث عن نسمة هواء عن أي شيء يزيح هذا الثقل الجاثم على صدرها.
وقفت في هواء الفجر البارد، الذي لف جسدها لكنه لم يستطع أن يبرد نيران روحها. 
نظرت إلى الحديقة الشاسعة بالأسفل، التي كانت لا تزال نائمة تحت طبقة خفيفة من الندى. 
وفجأة ودون سابق إنذار قفزت بها ذاكرتها إلى ذلك اليوم.
اليوم الذي جاء فيه إلى هنا، إلى هذا القصر ليرجوها أن تعود.
تخيلته واقفاً هناك بالأسفل بكامل هيبته وشموخه، لكن عينيه كانتا تحملان انكساراً لم تره إلا لها. 
تذكرت كلماته صوته الأجش وهو يتوسلها وكيف كان كل حرف ينطقه يهدم جزءاً من جدار كبريائه
ثم تذكرت اللحظة الأقسى لحظة رحيله.
رأته في المرة الثانية
رأته في ذاكرتها وهو يتجه إلى سيارته بخطوات ثقيلة، خطوات رجل خسر معركته الأخيرة وقبل أن يركب، توقف ورفع رأسه ببطء كأنه كان يعرف أنها تراقبه من هذه الشرفة بالذات. 
التقت أعينهما عبر المسافة وفي تلك اللحظة، شعرت بأن الزمن قد توقف.
لم تكن نظراته غاضبة لم تكن قاسية. 
كانت مزيجاً قاتلاً من العتاب والرجاء
عتاب صامت يسألها: 
"لماذا؟ كيف لقلبك أن يقسو هكذا؟ ألا ترين روحي وهي تحترق أمامك؟"
ورجاء يائس يتوسلها: 
"لا تتركيني لا تفعلي هذا بنا نظرة واحدة منكِ، كلمة واحدة وسأعود لأحارب العالم كله من أجلك."
كانت نظرات عارية تماماً، تكشف عن روح رجل قوي فخور لا ينحني لأحد، لكنه الآن جاثٍ على ركبتيه أمام حبها، متجرداً من كل أسلحته إلا من صدق مشاعره.
والأهم من كل ذلك إنه ليس بقاتل
لم يقتل السائق كما أخبرها 
أغمضت نغم عينيها بقوة، كأنها تحاول طرد هذه الذكرى، لكنها كانت محفورة في ذاكرتها كوشم من نار. 
هذه النظرات بالذات هي التي تطاردها كل ليلة، هي التي تجعل الصراع بداخلها لا يطاق.
قلبها يهمس بحنان:
"لقد رأيتِ روحه رأيتِ الرجل الحقيقي خلف قناع القسوة، هذا الرجل يحبك لدرجة الألم هل ستتركينه يتعذب هكذا؟"
وعقلها يرد بقسوة:
"وهل نسيتِ عذابك؟ هذه النظرات هي سلاحه الجديد يستخدم ضعفه ليثير شفقتك ويعيدك إلى سيطرته لا تكوني ساذجة!"
وضعت يديها على رأسها، وشعرت بأنها على وشك الجنون كانت ممزقة بين حقيقتين: حقيقة قسوته التي جربتها، وحقيقة حبه الذي رأته في عينيه. 
كانت تقف في المنتصف تماماً، في منطقة رمادية مؤلمة، لا هي قادرة على التقدم نحوه، ولا هي قادرة على التراجع والنسيان.
عادت إلى الغرفة، ونظرت إلى الهاتف الذي لا يزال ملقى على الفراش كان يبدو الآن كصندوق إما أن تفتحه لتجد الأمل، أو لتطلق العنان لمزيد من الألم.
والسؤال الذي كان يقتلها هو: أيهما ستجد لو اتصلت؟
أخذت نفساً عميقاً بأصابع مرتعشة ضغطت على زر الاتصال، في تلك اللحظة لم يعد هناك مجال للتراجع مع كل رنة للهاتف في أذنها، كانت تشعر بضربات قلبها تنبض بقوة وعنف كأنها تريد أن تخرج من صدرها.
في غرفة جاسر اخترق رنين الهاتف الصمت الثقيل في الغرفة مما أزعج شروق النائمة على الفراش، بينما عقلها مستيقظ تماماً نهضت ببطء تبحث عنه بعينيها فلم تجده في الغرفة، صوت الماء الخافت القادم من الحمام أكد لها أنه بالداخل.
استمر الرنين حاداً ومصراً كان هذا هو الدافع الذي تحتاجه نهضت من الفراش وقد عقدت العزم على معرفة من المتصل في هذا الوقت المبكر لتكون لها حجة للحديث معه. 
تناولت الهاتف الذي كان يضيء وينطفئ على الطاولة وعندما وقعت عيناها على اسم نغم الذي يزين الشاشة شعرت بنيران الغيرة تشتعل في صدرها وتحرق كل شيء كيف تجرؤ على الاتصال به وبدون تفكير وبدافع من غريزة حاقدة فتحت الخط. 
لكنها لم تتحدث فيه مباشرة بدلاً من ذلك أدارت ظهرها لباب الحمام ورفعت صوتها قليلاً متظاهرة بأنها تتحدث مع جاسر بالداخل بصوتٍ حمل كل معاني الدلال المصطنع.
_ حبيبي تليفونك بيرن........ أرد؟....... طيب يا روحي هرد أقولهم إنك مشغول....... آه طبعاً الشاور بعد ليلة زي دي بيفوق.
كل كلمة كانت سماً مقصوداً سكيناً تغرسه في قلب المستمعة على الطرف الآخر، ثم وبعد أن ألقت بقنبلتها وضعت الهاتف على أذنها وتحدثت بنبرة باردة ومتسائلة كأنها لا تعرف هوية المتصلة.
_ ألو مين معايا.
على الطرف الآخر شعرت نغم وكأن صفعة جليدية قد أصابت وجهها سمعت كل كلمة قالتها شروق وشعرت بالغيرة تجتاحها كالسيل، لكنها تماسكت أدركت أنها مسلسل رخيص وقررت ألا تمنحها متعة رؤية انكسارها قالت بصوتٍ ثابت رغم العاصفة التي بداخلها
_ أنا اللي بسأل مين معايا، وهل من عادتك تردي على تليفون جاسر.
ضحكت شروق ضحكة خبيثة.
_ أنا مراته وبعدين هو اللي طلب مني أرد أصله بياخد شاور ميعرفش إنها إنتي وإلا مكنش خلى حد يرد خالص، خير عايزة إيه.
تجاهلت نغم استفزازها وأجابت بحسم
_ عايزة أكلمه.
قالت شروق بغيرة واضحة وقد شعرت بحركة خلف باب الحمام
_ لأ مش هينفع، هو مشغول دلوجت في الحمام.
لم تستطيع نغم السيطرة على غيرتها رغم معرفتها بكذب شروق، تواجدها فقط وحده كافي بإشعال نيرانها 
وهنا بدأت روح التحدي بداخلها
_خلاص لما يخرج خليه يكلمني ضروري.
غيرة بين الاثنين شنت حربها فقالت شروق بسخط
_بصفتك ايه؟
ردت نغم بهدوء
_بصفتي مراته....مراته مش مجرد حبر على ورق..
ضغطت نغم على جملتها الأخيرة بتحد جعلت شروق لا تستطيع السيطرة على غضبها
في تلك اللحظة خرج جاسر من الحمام وهو يرتدي بنطاله فقط وينشف شعره بمنشفة ظناً منه انها مازالت نائمة
رأى شروق ممسكة بهاتفه فارتسمت على وجهه علامات الاستغراب والغضب.
_ إنتي بتعملي إيه؟
عندما رأته ارتبكت شروق تظاهرت برؤية ساعة الهاتف 
_مفيش انا بس كنت بشوف الساعة.
اقترب منها جاسر وخطواته ثقيلة بالغضب وسحب الهاتف من يدها بقوة.
_ كنتي بتكلمي مين بتليفوني؟
حاولت التهرب قائلة بتوتر
_ دي دي زي ما جولتلك بشوف الساعة.
لم يصدقها فتح سجل المكالمات فتجمد الدم في عروقه وهو يرى اسم نغم في قائمة المكالمات، مكالمة واردة تم الرد عليها لمدة دقيقة.
انفجر الغضب الذي كان يتجمع بداخله أمسك ذراعها بقوة وعيناه تقدحان شرراً.
_ رديتي عليها؟ رديتي وجولتلها إيه اونطقجي.
ارتعش جسدها من الخوف من هيئته الغاضبة لكنها لم تجب دفعها بعيداً عنه باشمئزاز وأخذ هاتفه وتوجه إلى الغرفة الأخرى صافقاً الباب خلفه بقوة كادت تخلعه من مكانه. 
وقف أمام الشرفة وقلبه يخفق بقوة وضغط على زر إعادة الاتصال. عندما ردت نغم قال بصوتٍ لاهث ومتوتر
_ نغم أنا...
قاطعته بصوتٍ بارد كالثلج يخفي خلفه ألماً عظيماً قبل أن تمنحه فرصة للرد أو التبرير
_ مش عايزة أعرف أي حاجة عن اللي حوصل من شوية أنا دلوجت رايحة امتحاني ولما أرجع عايزاك تاچي تاخدني عشان نتكلم
صمت جاسر للحظة يستوعب طلبها المفاجئ وقوتها غير المتوقعة ثم أجاب على الفور بلهفة
_ حاضر يا نغم حاضر هاچي طبعاً، طب خليني أوصلك أنا دلوجت.
_ لأ مالك هيوصلني عشان هو مسافر بعد الضهر
قالتها بهدوء لكنها كانت كافية لتشعل نار الغيرة في قلبه من جديد كيف لمالك أن يكون معها الآن وهو بعيد لكنه كتم غيرته وأجبرها على الخروج في صوته.
_ ماشي يا نغم اللي يريحك، المهم تاخدي بالك من نفسك.
أغلقت الخط دون كلمة أخرى تاركة إياه يحدق في الهاتف كأنه طوق النجاة الوحيد له في هذه الدنيا. 
لم يكد يلتقط أنفاسه حتى فُتح باب الغرفة بعنف ودخلت شروق ووجهها يتطاير منه الشرار.
قالت بصوتٍ عالي متحدية
_ وبعدين في العيشة دي، أنا لحد ميتى هفضل عايشة معاك إكده زي ضيفة الشرف، أنا برضك مرتك وليا حجوج وبطالب بيها.
نظر إليها جاسر باستغراب حقيقي، لم يكن يتخيل أنها تملك هذه الجرأة، وهو في هذه الحالة من الغضب بالكاد يطيق النظر في وجهها.
_ حجوج إيه اللي بتتكلمي عنيها
علت نبرة صوتها أكثر وهي تقترب منه
_ حجي كزوجة، حجي إنك تعاملني زي أي واحدة متچوزة مش ترميني في الأوضة  إكده زي  زى حتة الانتيكه .
هنا فقد جاسر آخر ذرة من صبره هب واقفاً وفي لحظة كان وجه قريب من وجهها بغضب جحيمي وعيناه تنذران بالهلاك.
_صوتك، صوتك ميعلاش عليا تاني لأي سبب من الأسباب إنتي فاهمة، لو فكرتي بس تعلي صوتك عليا مرة تانية هرميكي بره الچناح ده ومطلجة من غير ما أفكر لحظة واحدة.
صرخت بألم وهي تحاول رفض ذلك الذل
_وان جولت لا.
تشنج فكه وقد وصل غضبه لزروته فقام بجذبها من خصلاتها 
قائلاً وهو يشد بقوة أكبر ويقرب وجهه من وجهها
_ إنتي اللي جبتيه لنفسك، دي كانت شروطي من الول وإنتي وافجتي عليها بمزاجك، عشان تلبسي فستان أبيض وتتجوزي جاسر التهامي، يبجى تبلعي لسانك فى خشمك وتتحملي نتيجة اختيارك.
ثم دفعها بعيداً عنه بقوة حتى كادت تسقط أرضاً وتركها وهي تلهث من الألم والصدمة وخرج من الغرفة صافعاً الباب خلفه بقوة أكبر من ذي قبل تاركاً إياها وحيدة مع هزيمتها ومرارها.
❈-❈-❈
كانت حقيبة سفره تقف بجوار الباب كشاهد صامت على رحيل وشيك.
ارتدى مالك  حذاءه ببطء، يشعر بثقل اللحظة في كل حركة. 
حين نهض وجد والدته وروح واقفتين أمامه والدموع تترقرق في أعينهن، تحاولان حبسها لكنها تخونهما وتسيل على وجوههن بصمت مؤلم.
تقدمت والدته أولاً ووضعت يديها المرتعشتين على وجهه، تتأمله كأنها تريد أن تخزن ملامحه في ذاكرتها.
_ هتوحشني يا قلب أمك خلي بالك من نفسك يا ابني، وكُل كويس.
أخذ مالك يديها وقبّلهما بحب عميق، محاولاً أن يرسم ابتسامة مطمئنة على وجهه.
_ متخافيش عليا يا أمي، كلها يومين بالظبط وهتلاجيني جدامك ادعيلي بس.
احتضنته بقوة وسمع شهقات بكائها المكتوم عند كتفه، فشعر بغصة حارقة في حلقه. 
ربت على ظهرها بحنان ثم ابتعد عنها برفق ليتجه نحو روح التي كانت تقف جانباً، والدموع ترسم خطوطاً لامعة على خديها.
فتح لها ذراعيه فلم تتردد لحظة وارتمت في حضنه، وانفجرت في بكاءٍ صريح كالأطفال.
_متهملنيش يا مالك.
شدد جاسر من احتضانها، ودفن وجهه في شعرها مغمضاً عينيه ليمنع دموعه من النزول.
_ هسيبك لقلبي يا روح قلبي عدي بالظبط 48 ساعة وهتلاجيني جدامك انا مش مسافر المره ديتى عشان اهروب انا هخلص مستحجاتى وورجى .
ابتعدت عنه قليلاً ومسحت دموعها بكف يدها.
_ هتوحشك جوي.
ابتسم لها ابتسامة حقيقة هذه المرة، ومسح دمعة هاربة من عينها بإبهامه.
_ وإنتي كمان هتوحشيني.
ألقى نظرة أخيرة عليهما، على والدته التي تدعو له بصوتٍ خافت، وعلى أخته التي تحاول أن تبتسم رغم دموعها فقال بمزاح
_وبعدين معاكم عاد  جلبتوها دراما إكدة ليه.
ابتسم الجميع رغماً عنهم 
فحمل حقيبته، وقال بصوتٍ حاول أن يجعله ثابتاً
_ استودعكم الله.
❈-❈-❈
كانت قاعة الامتحان هادئة إلا من صوت أقلام الطلاب وهي تخدش الأوراق وصوت أنفاسهم المتوترة.
جلست نغم أمام ورقة أسئلتها وعقلها في مكان آخر تماماً. 
كانت تحاول جاهدة أن تركز في الكلمات المطبوعة أمامها لكن كل ما كانت تراه هو صورة جاسر ونبرة صوته عبر الهاتف.
ماذا ستقول له؟ ولماذا طلبت مقابلته أصلاً؟ هل تريد أن تواجهه؟ أن تعاتبه؟ أم أنها تريد أن تسمع منه الحقيقة التي قد تغير كل شيء؟ لم تكن تعرف. 
كانت مشاعرها متضاربة كسفينة تتقاذفها الأمواج في ليلة عاصفة. 
جزء منها يشعر بالغضب والخيانة وجزء آخر بدأ يتسلل إليه الشك والأمل بعد حديث عمها سالم.
فجأة انتبهت لصوت المراقبة وهي تعلن عن مرور نصف الوقت
نظرت إلى ساعتها ثم إلى ورقتها التي كانت شبه فارغة. 
شعرت بالذعر لا يمكن أن تفشل هذه السنة أيضاً كفى سنة ضاعت من عمرها بسبب ما حدث. 
استجمعت كل قوتها وطردت كل الأفكار من رأسها وأجبرت نفسها على التركيز في الإجابة.
بعد انتهاء الوقت سلمت ورقتها وخرجت مع الطلاب وهي تشعر بالإرهاق الذهني والجسدي. 
كانت تسير وسط الزحام وعيناها تبحثان عنه بترقب وقلق.
وفجأة رأته.
كان يقف بعيداً بعض الشيء مستنداً بجاذبية على سيارته وقد عقد ذراعيه أمام صدره. 
كان يرتدي قميصاً أسود يبرز قوة جسده وبنطالاً من الجينز كانت نظراته ثابتة عليها وحدها لم تلتفت لغيرها وكأنه لا يرى سواها في هذا الكون المزدحم.
لأول مرة تدقق نغم في ملامحه بهذا الشكل لأول مرة تراه بعين مختلفة ليست عين الفتاة الخائفة أو الأسيرة رأته كرجل. 
وسيم بقوة، ملامحه حادة رجولية نظرته ثاقبة وقامته توحي بالقوة والثقة. 
كان مزيجاً خطيراً من الهيبة والجاذبية.
لم تكن هي الوحيدة التي لاحظت ذلك. 
لمحت بطرف عينها مجموعة من الفتيات يقفن غير بعيد يتهامسن وينظرن إليه بإعجاب واضح وصريح. 
شعرت بوخزة غيرة حادة ومفاجئة لم تتوقعها. 
غيرة تملكية جعلتها تسرع خطواتها نحوه دون وعي.
عندما أصبحت أمامه لم تبتسم ولم تتحدث كل ما فعلته هو أنها قالت بنبرة آمرة خافتة لم تكن تعرف أنها تملكها
_ يلا نمشي من هنا.
ابتسم جاسر ابتسامة خفيفة كأنه فهم سبب استعجالها المفاجئ. 
فتح لها باب السيارة دون أن ينطق بكلمة ثم استقل مقعده وانطلق بها بعيداً عن الأنظار وعن العيون المعجبة.
❈-❈-❈
كانت ليلى تجلس في مقعدها بجوار أكمل، وذراعاها معقودتان أمام صدرها بعناد واضح.
_ أنا مش فاهمة إيه الإصرار ده يا أكمل؟ ما فيه ألف محل غيره، وأحسن منه كمان ليه نروح المحل الصغير ده بالذات؟
رد أكمل بهدوء وعيناه على الطريق محاولاً امتصاص غضبها.
_ يا ليلى افهميني دي هدية من مالك هو اللي دفع تمن الفستان مقدماً، وقالي أجي هنا بالذات قالي إن ذوقهم مميز وإن روح مراته اشترت من عندهم عيب أوي أرفض هديته، أو أروح مكان تاني هتبقى قلة ذوق.
قالت بتأفف وهي تنظر من النافذة بملل.
_ طيب ما ياخد فلوسه وأنا أشتري من المكان اللي يعجبني أنا مش بحب حد يفرض عليا ذوقه.
تنهد أكمل بصبر أوشك على النفاد.
_ الموضوع مش فرض ذوق الموضوع أصول، خلاص اعتبريها مجاملة انزلي اختاري أي حاجة حتى لو مش هتلبسيها في الحنة المهم منكسرش بخاطر الراجل.
بعد نقاش طويل ومتوتر، توقفت السيارة أخيراً أمام الواجهة الزجاجية الأنيقة للمحل لم تكن ليلى تريد النزول لكن نظرة أكمل الحازمة جعلتها تفتح الباب على مضض وترجلت وهي تتمتم بكلمات غير مفهومة.
دخل أكمل خلفها، وما إن عبر عتبة المحل حتى شعر بشيء غريب شيء لا يمكن وصفه رائحة خفيفة لكنها مألوفة بشكل مؤلم رائحة تشبه رائحة الياسمين الهادئ الذي كان يفوح من ملابسها، رائحة يعرفها جيدًا رائحة حُفرت في ذاكرته رغم كل محاولاته لدفنها.
تجاهل الشعور معتبراً إياه مجرد وهم لكنه ظل هناك يداعب حواسه، ويوقظ شيئًا نائمًا في أعماقه.
كانت هناك فتاة تقف مع زبونة، ظهرها لهما كانت تتحدث بهدوء وثقة عن تفاصيل أحد الفساتين لم يكن وجهها ظاهرًا بالكامل، لكن أكمل عرفها استحال عليه أن يخطئ. 
تلك القامة، تلك الطريقة التي تحرك بها يديها وهي تتحدث، تلك الخصلة الشاردة من شعرها التي هربت من حجابها المربوط بإحكام.
إنها هي صبر.
تجمد في مكانه توقف الزمن، واختفى صوت ليلى التي كانت تتحدث بجانبه عن تصميمات المحل. 
لم يعد يرى أو يسمع أي شيء سواها
آلاف الأسئلة انفجرت في رأسه. 
كيف؟ متى جاءت إلى هنا؟ ماذا تفعل في مكان كهذا؟ هل كل ما حدث كان كذبة؟
تسمر مكانه وعيناه مثبتتان عليها، وقلبه يدق بعنف مزيج من الغضب والشوق والصدمة. 
ثم وبشكل لا إرادي نزلت عيناه من وجهها إلى جسدها.
وهنا توقف كل شيء. 
توقف قلبه توقفت أنفاسه توقف العالم من حوله.
رأى انتفاخة بطنها الواضحة. 
انتفاخة لا يمكن أن يخطئها أحد انتفاخة شهور الحمل المتقدمة.
اتسعت عيناه بصدمة مطلقة، صدمة شلت كل أطرافه. 
لم يكن يتخيل ما يراه لم يكن عقله قادرًا على استيعاب هذه الصورة المستحيلة.
في تلك اللحظة أنهت صبر حديثها مع الزبونة واستدارت بابتسامة مهنية لترحب بالزبائن الجدد الواقفين عند الباب.
وقعت عيناها عليه.
اختفت الابتسامة من على وجهها، وحل محلها رعب نقي، شحب وجهها حتى أصبح بلون الموتى. 
تجمدت الدماء في عروقها، وسقط الفستان الذي كانت تحمله من يدها المرتجفة على الأرض دون أن تشعر.
لقد حست بأن الدنيا توقفت بها. 
الرجل الذي هربت منه، الرجل الذي تحمل ابنه في أحشائها دون أن يدري، الرجل الذي كان كابوسها وحلمها في آن واحد يقف الآن أمامها، وعيناه تحملان نظرة واحدة... نظرة رجل رأى شبحًا، شبحًا يحمل سرًا سيقلب حياته رأسًا على عقب.
❈-❈-❈
كانت شقة مالك في دبي، التي وفرتها له الشركة، تقع في أحد الأبراج الشاهقة التي تلامس السحاب كانت شقة أنيقة عملية وباردة تمامًا مثل حياة المغترب التي عاشها لسنوات
ما إن أغلق الباب خلفه حتى ألقى بحقيبة سفره الصغيرة جانبًا وتنهد بإرهاق لم يكن إرهاق السفر، بل إرهاق القرارات المصيرية التي اتخذها.
لم يمنح نفسه لحظة للراحة بدأ مباشرة في لملمة أغراضه تحرك في الشقة كشبح، يجمع ملابسه من الخزانة أوراقه من على المكتب كل ما يخصه في حقائب سفر كبيرة. 
كان يعمل بسرعة وكفاءة، كمن يريد أن يمحو كل أثر لوجوده في هذا المكان، ويغلق هذا الفصل من حياته إلى الأبد.
بعد أن فرغ من جمع كل شيء تقريبًا، توقف في منتصف الغرفة، وألقى نظرة أخيرة. 
ثم اتجه إلى درج صغير في منضدة جانبية، وأخرج منه مفتاحًا فضيًا وحيدًا، يختلف عن بقية مفاتيحه.
تقدم بهدوء نحو باب جانبي في غرفة المعيشة، باب كان يبدو كجزء من الجدار لا يلفت الانتباه أدخل المفتاح في قفله الذي كان مخفيًا بعناية، وأداره. 
انفتح الباب ليكشف عن جناح آخر،
كان هذا الجناح مختلفًا تمامًا. 
لم يكن باردًا وعمليًا بل كان دافئًا وشخصيًا أثاثه فاخر، ألوانه هادئة وتنتشر في أرجائه لمسات أنثوية رقيقة. 
كانت هنا حياته الحقيقية، حياته التي لم يكن يعرف عنها أحد أي شيء.
بدأ في لملمة أغراضه من هذا الجناح أيضًا، لكن بحذر أكبر وبمشاعر أكثر تعقيدًا. 
فتح خزانة ملابس وأخرج منها بعض الملابس الرجالية التي كان يتركها هنا ثم اقترب من منضدة زينة أنيقة، وفتح أحد أدراجها أخرج من داخله ورقة مطوية بعناية، بدت قديمة بعض الشيء.
فتح الورقة، وعيناه تتفحصان ما بداخلها. 
وقبل أن يطبقها ليعيدها إلى جيبه، شعر بحركة خفيفة خلفه لم يكد يلتفت، حتى أحاطت بذراعين ناعمتين خصره من الخلف، ودفنت صاحبتها وجهها في ظهره. 
ثم جاء صوت أنثوي ناعم، صوت مليء بالشوق والدفء يهمس باسمه.
_ أخيراً رجعت يا مالك... وحشتني أوي...

•تابع الفصل التالي "رواية ثنايا الروح" الريح والغيامة" اضغط على اسم الرواية 

تعليقات