رواية ثنايا الروح "الريح والغيامة" الفصل الثاني والثلاثون 32 - بقلم رانيا الخولي

 رواية ثنايا الروح "الريح والغيامة" الفصل الثاني والثلاثون 32 - بقلم رانيا الخولي 

ثنايا الروح 
رانيا الخولي 
الثاني والثلاثون 
........................
لم تكن الأشهر الستة الماضية سهلة على صبر لكنها كانت ضرورية
لقد عاشت في شقة صديقتها ليان التي فتحت لها بيتها وقلبها دون تردد 
كانت هذه الشقة هي ملجأها الآمن، شاهدة على دموعها في الليالي الأولى، ثم على صمودها وقوتها التي بدأت تنمو يوماً بعد يوم. 
وشهدت الشقة أيضاً على فرحة ليان التي لا توصف عندما تصالحت أخيراً مع زوجها حازم الذي أثبت حبه لها وعاد ليحتويها ويحتوي صديقتها معها، مقدماً لهما كل الدعم.
في إحدى الأمسيات عادت صبر إلى الشقة وخطواتها أصبحت أبطأ وأثقل من المعتاد كانت تعمل بدوام جزئي في أتيليه صغير لتصميم الأزياء، عملاً وجدته لها ليان لتساعدها على تغطية مصاريفها وتشغل وقتها. 
كان العمل يرهقها خاصة وأنها الآن في شهرها السابع من الحمل، وبطنها المستديرة أصبحت دليلاً واضحاً على السر الذي تحمله بداخلها. 
كان الإجهاد والتعب قد بدآ يتركان بصماتهما الواضحة على وجهها الشاحب.
دخلت لتجد ليان تضع اللمسات الأخيرة على حقيبة سفرها استعداداً للانتقال والعودة إلى منزلها مع حازم بشكل نهائي. 
ما إن رأت ليان حالة صبر حتى تركت ما في يدها واقتربت منها بقلق.
_ صبر! وشك أصفر كده ليه؟ أنا مش قولتلك مية مرة بلاش شغل النهاردة؟ امتحاناتك آخر الأسبوع والمفروض تكوني مرتاحة.
جلست صبر على الأريكة بتعب، ووضعت يدها على ظهرها لتخفف الألم.
_ أنا كويسة يا ليان متجلجيش شوية إرهاق وهيروحوا وبعدين الشغل على الأجل بيشغلني شوية عن التفكير.
نظرت إليها ليان بعتاب.
_ بيشغلك عن التفكير ولا عشان الفلوس؟ أنا مش قلتلك إن حازم بيبعت فلوس زيادة كل شهر بتكفينا وتفيض، ليه مصممة تتعبي نفسك كده؟
قالت صبر بهدوء وإصرار.
_ عشان مش رايدة أبجى تجيلة على حدا يا ليان. 
كفاية جوي إنك فتحتيلي بيتك واستحملتيني كل الفترة دي لازم أعتمد على نفسي.
تنهدت ليان بيأس من عناد صديقتها.
_ طيب قومي دلوقتي ارتاحي في أوضتك وأنا هحضرلك العشا وأجيبهولك لحد عندك.
_ لأ خليكي إنتي كملي حاجتك أنا هجوم أعمل أي حاچة خفيفة إكده..
قالت ليان بحزم
_ مفيش قومان واللي انتي متعرفهوش إن حازم بعتلنا أكل جاهز وبزيادة كمان، قومي يلا اسمعي الكلام وارتاحي عشان خاطر اللي في بطنك ده على الاقل.
استسلمت صبر ونهضت ببطء لتتجه إلى غرفتها جلست ليان بجانبها على السرير وهي تشعر بالقلق عليها 
قالت بحنان
_ أنا قلقانة عليكي أوي يا صبر لما أمشي هتعملي إيه لوحدك؟ الشقة دي هتبقى كبيرة وفاضية عليكي.
ردت صبر وهي تمسك بيدها
_ متجلجيش عليا أنا هبجى زينه وبعدين إنتي مش هتسيبيني، هتفضلي تزوريني وتطمني عليا.
_ طبعاً هجيلك ومش هسيبك 
بس... 
ترددت ليان فيما تود قوله
لكن صبر كانت تعلم ما تود التحدث بها فقالت برفض
_مبسش..أكمل خلاص خرچ نفسه من حياتي، مينفعش اروح له وأفرض نفسي عليه، ابسط ما فيها هيجول إني عملت إكدة عشان استعطفه بابنه وده اللي مستحيل اجبله عليا وعلى ابني.
_بس ده حقه...من حقه يعرف بابنه.
تغيرت ملامح صبر وظهر عليها الحزن.
_عايزاني أجوله إيه يا ليان؟ أجوله إني حامل منه وهو طردني من بيته وجالي إنه بيكرهني؟ 
هو نسيني وعايش حياته في القاهرة 
أنا وابني هنعيش لوحدنا، بكرامتنا مش محتاجين شفجة من حد.
قالت ليان بروية
_بس هو معذور أي حد مكانه كان هيعمل كدة..
ردت صبر بوجع
_كان على الاجل واجهني...كان اتأكد مني وسمعني وبعدها مكنتش هلومه  او أعتب عليه لو رماني في الشارع، بس كان اداني فرصة ادافع عن نفسي.
انتهى حديثها بنحيب ثم تابعت 
_مش محتاچة شفجة منيه مش محتاچة يا ليان
احتضنتها ليان بقوة.
_ إنتي مش محتاجة شفقة من حد يا حبيبتي، وانا معاكي ومش هسيبك..
ابعدتها عنها قليلاً ومسحت دموعها بابتسامة داعمة
_إنتي أقوى ست أنا عرفتها يا صبر بس كل الحكاية إني خايفة عليكي من اللي جاي.
الولادة والمسؤولية... الموضوع مش سهل.
قالت صبر بيقين هادئ
_ ربنا معايا زي ما كان معايا الست شهور اللي فاتوا، هيبجى معايا في اللي چاي.
ابتعدت صبر قليلاً لتمسح دموعها.
_ ربنا ما يحرمني منيكى يا ليان.
ابتسمت ليان بحب
_ولا يحرمني منك يا صبر وهفضل دايمًا جانبك وفي ضهرك.
ابتسمت صبر بامتنان.
_احنا جلبناها حزن ليه إنتي لازم تفرحي دلوجت عشان هتروحي لبنتك ولچوزك.
أنا هبجى زينه بوعدك.
كان وعداً نطقت به لسانها، لكن قلبها كان يعلم أن الطريق أمامها لا يزال طويلاً وشاقاً، وأن قوتها ستُختبر مرات ومرات.
❈-❈-❈
عاد أكمل إلى حياته القديمة، أو على الأقل هذا ما كان يحاول إقناع نفسه والجميع به.
ارتدى قناع وكيل النيابة البارد والعملي وعاد ليظهر في المناسبات الاجتماعية بجانب خطيبته السابقة ليلى التي استقبلت عودته بانتصار لم تحاول إخفاءه.
كان يجلس في أحد المطاعم الفاخرة مع مالك الذي كان في زيارة عمل سريعة للقاهرة
كانت ليلى قد غادرت لتوها بعد عشاء ممل لم يتبادلا فيه سوى كلمات قليلة ومجاملات باردة.
نظر إليه مالك مباشرة، لم يكن من النوع الذي يدور حول الموضوع.
_ ليه رجعتلها يا أكمل؟
رفع أكمل عينيه عن فنجان قهوته، وكانت نظرته فارغة.
_ رجعت لمين؟
قال مالك بوضوح.
_ لـ ليلى إنت خابر زين جوي هي عايزة منيك إيه. 
خابر إنها مش بتبص لشخصك، جد ما بتبص لمنصبك للواجهة الاجتماعية اللي بتاخدها من وچودها جنبك، ليه رچعتلها تاني بعد كل اللي حو صل؟
أخذ أكمل نفساً عميقاً، وأشعل سيجارة وهي عادة لم  يمارسها إلا عندما يشعر بالاختناق.
وقال بمرارة واضحة
_ عشان مبقاش عندي ثقة في أي حد يا مالك، على الأقل ليلى واضحة
أنا عارف هي عايزة إيه، وعارف نواياها
مفيش مفاجآت مفيش أقنعة ممكن تقع
يعني اللي أعرفه... بقى أحسن من اللي معرفوش.
صمت مالك مدركاً حجم الجرح الذي لم يندمل بعد في قلب صديقه.
كانت هذه هي حياة أكمل الجديدة
نهاراً، كان وكيل النيابة الذي لا يرحم يغرق نفسه في أكوام القضايا، يعمل بضراوة لساعات طويلة يتخذ من العمل درعاً يحتمي به من ذكرياته. 
ومساءً كان يؤدي دوره الاجتماعي، يظهر مع ليلى في المناسبات ويصافح الناس لكن عينيه كانتا ميتتين.
لكن الكابوس الحقيقي كان يبدأ عندما يختلي بنفسه.
عندما يعود إلى غرفته الفارغة ويجلس وحيداً في الظلام، كانت كل دفاعاته تنهار
كان يغمض عينيه فيرى وجه صبر
يرى خجلها ابتسامتها، نظرة الحب في عينيها
يتذكر ملمس شعرها دفء جسدها بجانبه صوت ضحكتها
يتذكر كيف كانت تشاركه شغفه بالكتب، وكيف كانت تستمع إليه باهتمام وهو يتحدث عن عمله
ثم كالعادة تأتي الطعنة.
يتذكر صوت والدها وهو يبتزها في ظلام الفجر. 
يتذكر اعترافه بأنه هو من دبر كل شيء
يتذكر نظرة الصدمة والرعب على وجهها عندما رأته. 
هذه الصورة الأخيرة كانت تمحو كل الذكريات الجميلة، وتحولها إلى سم يسري في عروقه.
كان أحياناً ينزل الصعيد لأشياء ضرورية يجلس على حافة سريره، نفس السرير الذي شهد على حبهما، ويمسك رأسه بين يديه يشعر بأنه سيفقد عقله. 
كيف يمكن للحب أن يكون بهذا القدر من الخداع؟ كيف يمكن للبراءة أن تخفي كل هذا القدر من الدهاء؟
في إحدى الليالي وبينما كان يقلب في أوراقه سقطت عينه على قضية نصب واحتيال، بطلتها فتاة استغلت ثقة رجل أعمال وأخذت منه أمواله
وجد نفسه يقرأ تفاصيل القضية بغضب شخصي وكأن كل قضية خيانة تمر عليه هي قضية صبر. 
أصبح أكثر قسوة في أحكامه، وأكثر تشككاً في نوايا الجميع.
لقد بنى أكمل سجناً حول قلبه وألقى بمفتاحه بعيداً. 
كان يعيش، يتنفس، ويعمل، لكنه في الحقيقة لم يكن حياً كان مجرد رجل يؤدي دوره في الحياة بينما روحه لا تزال عالقة هناك في تلك اللحظة المظلمة عند باب بيته في البلدة، اللحظة التي تحطمت فيها ثقته في الحب... وفي كل شيء.
❈-❈-❈
كانت حقائب ليان تقف عند الباب، شاهدة صامتة على نهاية فصل وبداية آخر. 
وقفت الصديقتان في بهو الشقة الصغير تتعانقان في وداع أخير كان كل منهما يؤجله طوال الصباح كانت صبر تبكي بصمت، دموعها تنزل بغزارة على كتف صديقتها، بينما كانت ليان نفسها تكافح لحبس دموعها، تشعر بقلبها يتمزق وهي تترك صبر في هذه الحالة.
قالت ليان بصوت مختنق وهي تربت على ظهرها.
_ خلاص بقى يا صبر هتقطعيلي قلبي والله ما كنتيش عايزة أسيبك، بس إنتي عارفة... حازم جهز كل حاجة ومينفعش أفضل بعيد عن بيتي أكتر من كده.
ابتعدت صبر عنها ومسحت دموعها بكف يدها محاولة أن تبدو قوية.
_ أنا... أنا خابره متجلجيش عليا أنا بس...
لم تستطع إكمال الجملة، فقد خانها صوتها.
أمسكت ليان بوجهها بين يديها ونظرت في عينيها بحنان.
_ اسمعيني كويس الشقة دي إيجارها مدفوع لأربع شهور قدام بعتلك مبلغ كويس حطيته في الدولاب عشان مصاريفك ومصاريف الولادة.
رفضت صبر بإصرار 
_لأ مش هاخدهم انا عاملة حساب كل حاچة.
_أرجوكي يا صبر ريحيني وخليهم معاكي احتياطي، وبعدين انا مش هسيبك هجيلك على طول ووقت الولادة مش هسيبك لحظة واحدة
متفكريش في أي حاجة غير نفسك واللي في بطنك وأنا كل يومين هتلاقيني عندك، مش هسيبك ده وعد.
هزت صبر رأسها عاجزة عن الكلام كانت تعلم أن ليان لن تتخلى عنها، لكن فكرة البقاء وحيدة في هذه الشقة كانت ترعبها.
دق بوق سيارة حازم في الأسفل معلناً أن وقت الرحيل قد حان.
احتضنت ليان صديقتها مرة أخيرة قبلة سريعة على جبينها، ثم التقطت حقيبتها وخرجت بسرعة قبل أن تنهار هي الأخرى.
أغلقت صبر الباب خلفها واستندت عليه بظهرها. 
وفجأة، سقط عليها صمت المنزل كغطاء ثقيل
لم يعد هناك صوت ضحكات ليان، لم يعد هناك صوت التلفاز لم يعد هناك صوت خطواتها وهي تتحرك في الشقة
فقط صمت
صمت وموحش.
تجولت في الشقة الفارغة كل ركن فيها يذكرها بصديقتها التي رحلت
ثم، وكأن بوابات الذاكرة قد فُتحت على مصراعيها بدأت ذكرياتها مع أكمل تهاجمها بلا رحمة.
وقفت في المطبخ فتذكرت وقفته خلفها وهو يراقبها، نظراته الجائعة التي كانت ترعبها وتسعدها في آن واحد. 
مرت بجانب طاولة الطعام فتذكرت جلوسها للمذاكرة وفستانها القصير ونظرته المصدومة التي تحولت إلى رغبة. 
تذكرت كيف جذبها إليه، واعترافها الذي خرج رغماً عنها: "عايزة قلبك".
صعدت إلى غرفة نومها وجلست على حافة السرير. 
السرير الذي شهد على استسلامها له، على حنانه غير المتوقع، على لياليهما التي كانت تمحو كل ألم النهار. 
تذكرت كيف كان يحتضنها، وكيف كان يشرح لها دروسها بصبر وكيف كان يغار عليها من نسمة الهواء.
وضعت يدها على بطنها وبدأت تحدث نفسها بصوت مسموع، كأنها تحاول طرد الصمت.
_ ليه يا أكمل؟ ليه عملت فيا إكده؟ 
همست والدموع تعود لتغرق وجهها. 
_ أنا حبيتك... والله حبيتك من قبل ما تعرفني حبيتك وإنت وكيل النيابة الجاسي اللي البلد كلايتها بتخاف منيه، حبيتك وإنت الراجل الحنين اللي مكنش حد يعرفه غيري.
نظرت إلى بطنها مرة أخرى، وتحدثت إلى جنينها.
_ سابنا ومسألش فينا بس أنا مش هسيبك أنا هبجى ليك الأب والأم
وهربيك أحسن تربية، وهخليك تفتخر بيا مش هنحتاچله... مش هنحتاچ لحد.
كانت تقول الكلمات لتقوي نفسها، لكن في داخلها كان هناك فراغ كبير فراغ على شكل "أكمل"، فراغ كانت تعلم أنه لن يمتلئ أبداً. 
لقد أدركت في تلك اللحظة وهي وحيدة في شقة فارغة، أنها لم تخسر زوجها فقط بل خسرت حب حياتها، وخسرت الأمان وخسرت الحلم الذي عاشته لأشهر قليلة، قبل أن تستيقظ على هذا الواقع المؤلم.
❈-❈-❈
كانت روح تقف أمام خزانة ملابسها المفتوحة وقد تحولت الغرفة إلى معرض صغير من الفساتين الملقاة على السرير والكرسي. 
كانت تقف أمام المرآة الطويلة تمسك بفستان أزرق رقيق وتقارنه بجسدها، ثم تعيده إلى كومة "المرفوضات" بتجهم.
تنهدت بعمق وشعرت بأن الدموع بدأت تتجمع في عينيها
لم يعد أي شيء يناسبها. 
كل الفساتين التي كانت تحبها أصبحت ضيقة وتلك التي تناسبها تجعلها تشعر بأنها ضخمة وغير جميلة
شعرت بالاختناق ليس فقط من تغير جسدها بل من فكرة أنها فقدت نفسها القديمة.
كان مالك يراقبها وهو مستلقي بأريحية على السرير وابتسامة سعيدة وهادئة مرسومة على شفتيه. 
كان يستمتع بحيرتها الطفولية ويرى في هذا التغير جمالاً لم تره هي بعد منذ أن طلب منها أن يخرجا لتناول الغداء في مطعم هادئ بالخارج، وهي في هذه الدوامة لأكثر من نصف ساعة.
رأى كتفيها يرتجفان قليلاً، وأدرك أنها على وشك البكاء. 
نهض بهدوء واقترب منها من الخلف، ثم أحاطها بذراعيه برفق، واضعاً يديه على بطنها المنتفخة بحنان. 
أسند ذقنه على كتفها ونظر إلى انعكاسهما معًا في المرآة.
همس في أذنها بصوت دافئ
_ زعلانة ليه ياأجمل واحدة في الدنيا؟
قالت بصوت مخنوق وهي تشير بيدها إلى الفساتين
_ مفيش حاجة راضية تيجي على مجاسي بجيت شبه البالونة وكل اللبس شكله وحش عليا.
ابتسم مالك وقبّل خدها برقة.
_ بالعكس أني شايف إنك بجيتي بطايه أحلى من الاول وشك نور أكتر، وبجيتي شايلة چواكي أغلى حاچة في حياتنا إزاي متكونيش حلوة؟
أدارها برفق لتواجهه ومسح دمعة هاربة من عينها بإبهامه.
_ الفساتين دي هي اللي مبجتش تليج عليكي مش العكس إنتِ اللي كبرتي وبجيتي أحلى منيهم.
تركها للحظة واتجه نحو الخزانة وبدأ يقلب في الملابس بثقة وهدوء. 
سحب فستانًا بسيطًا بلون أخضر فاتح، مصنوعًا من قماش ناعم ومنسدل، بقصة واسعة تبدأ من تحت الصدر.
قدمه لها وهو يقول
_ جربي ده هيخليكي زي الأميرات.
نظرت إلى الفستان بتردد، لكنها أخذته منه وقامت بارتداءه
بعد الانتهاء نظرت إلى نفسها في المرآة بدهشة. 
كان الفستان مثالياً لقد أبرز جمال وجهها، وانسدل بنعومة على بطنها دون أن يجعلها تبدو ضخمة، بل أعطاها مظهراً أنثوياً حالماً.
التفتت إليه بابتسامة حقيقية هي الأولى منذ بدأت معركتها مع الملابس.
_ إزاي عرفت؟
اقترب منها مرة أخرى ومرر يده على شعرها.
_ لأني بشوفك بجلبي يا روح  جلبى مش بعيني بس.
ثم أضاف بمرح
_ وبعدين متنسيش إن عندي خبرة في اختيار الهدايا ليكي من وإحنا صغيرين.
ضحكت بخفة وشعرت بأن كل الضيق قد تبخر.
أمسك بيدها وهو يقول
_ وعشان متتعبيش نفسيكى تاني، بعد الغدا هنروح على محل كبير، وهنختار مع بعض أحلى فستان عشان تحضري بيه فرح أكمل وليلى عايزك يومها تكوني أجمل واحدة في الفرح كله.
نظرت إليه بحب وامتنان وأدركت أنها محظوظة ليس فقط لأنه زوجها، بل لأنه الرجل الذي يفهمها ويحتويها ويرى الجمال فيها حتى عندما تعجز هي عن رؤيته.
❈-❈-❈
كان الفجر قد بدأ يزيح ستائر الليل عن سماء الصعيد، عندما خرج جاسر من بيت الجبل
لم يتجه نحو سيارته، بل سار بخطوات ثابتة نحو الإسطبل الصغير الذي أقامه خصيصًا هنا
كانت هذه عادته كل صباح عادة لم يغيرها حتى بعد كل ما حدث.
عندما فتح باب الإسطبل استقبله صهيل خافت صهيل يحمل في طياته قوة مكبوتة. 
كان بركان الحصان الأسود الفاحم الذي كان ذات يوم رمزًا للقوة والجمال الجامح، والذي كاد أن يفقده في تلك الليلة المشؤومة
اقترب جاسر منه ببطء، ومد يده ليلمس عنقه القوي كانت الندوب واضحة على جسد بركان، خطوط حمراء داكنة تشوه لمعان فرائه الأسود ندوب الحريق الذي كاد أن يلتهمه ندوب تشبه تلك التي يحملها جاسر في روحه وإن كانت غير مرئية.
تذكر جاسر كلمات الأطباء البيطريين في تلك الليلة. "الشفاء منه ميؤوس منه يا جاسر بيه الحروق عميقة، والتهابات شديدة الأفضل إننا نريحه." 
كانت كلماتهم باردة، عملية، خالية من أي أمل. 
لكن جاسر لم يستسلم لم يكن يعرف الاستسلام.
بعد إن وافق عاد إليهم 
"مفيش حاجة اسمها ميؤوس منيه."
قالها لهم بصوتٍ حازم وهو ينظر إلى بركان الذي كان يئن من الألم.
"هتجيبوا لي أحسن دكتور بيطري في البلد دي كلها وهتعملوا كل اللي تجدروا عليه لو محتاچين تچيبوا دكاترة من بره، هتچيبوا
بركان هيرچع يجف على رچليه تاني."
وبالفعل لم يدخر جاسر جهدًا ولا مالًا أحضر أفضل الأطباء وأشرف بنفسه على علاجه. 
كان يقضي ساعات طويلة في الإسطبل، يتحدث إلى بركان يمسح على فرائه يهمس له بكلمات التشجيع كان يرى في بركان انعكاسًا لنفسه؛ كلاهما أصيب بجروح عميقة، وكلاهما كان يرفض الانكسار.
 جروب نسائم روائية جروب رانيا الخولي 
كانت العلاقة بينهما تجاوزت علاقة فارس بحصانة. 
بركان لم يكن مجرد حيوان، بل كان رفيقًا، شاهدًا صامتًا على قسوة الحياة، وعلى إصرار جاسر على البقاء شامخًا. 
كان بركان يمثل جزءًا من روحه جزءًا من كبريائه الذي رفض أن ينحني.
اليوم وبعد أشهر من العلاج المكثف والرعاية المستمرة، عاد بركان. 
الندوب كانت لا تزال موجودة تذكيرًا دائمًا بما حدث لكنه عاد بنفس القوة بنفس الروح الجامحة.
وضع جاسر السرج على ظهر بركان وامتطاه بخفة. 
شعر بقوة الحصان تحت جسده، بقوة العضلات التي عادت لتنبض بالحياة، انطلق به في الصحراء الواسعة وصهيل بركان يمزق سكون الفجر. 
كان يركض بأقصى سرعة، يشعر بالرياح تصفع وجهه وبقوة بركان تندمج مع قوته.
في تلك اللحظات كان جاسر ينسى كل شيء ينسى نغم ينسى الثأر ينسى كل الأعباء. 
لم يكن هناك سوى هو وبركان، روحان جامحتان ترفضان الانكسار وتصران على الحياة مهما كانت الندوب عميقة كان بركان دليلاً حيًا على أن الإرادة، إرادة جاسر يمكنها أن تصنع المعجزات.
❈-❈-❈
كان المطعم هادئًا وأنيقًا يطل على حديقة خضراء صغيرة بعيدًا عن صخب القاهرة. 
جلس مالك وروح على طاولة في زاوية منعزلة يستمتعان بوجبة الغداء وبصحبة بعضهما البعض
كان الجو بينهما مريحًا ودافئًا كأنهما في فقاعة خاصة بهما.
قطعت روح قطعة صغيرة من طعامها، ثم رفعت عينيها إلى مالك الذي كان يراقبها بابتسامة حانية.
_ الأكل هنا حلو جوي يا مالك شكرًا إنك خرجتني.
مد يده عبر الطاولة وأمسك بيدها برفق.
_ المهم إنك مبسوطة مفيش حاچة في الدنيا تهمني أكتر من راحتك.
شعرت بالدفء يسري في أوصالها من لمسته وكلماته تنهدت بارتياح ثم سألته السؤال الذي كان يدور في ذهنها.
_ هنرچع الصعيد ميتى يا مالك؟ إتوحشت أمي جوي.
نظر إليها بقلق خفيف.
_ عارف انها وحشتك بس مش عايز أتعبك في السفر وإنتِ في حالتك دي خلينا نحضر فرح أكمل وليلى الأول وبعدها بيومين تلاتة نرجع على طول، عشان تاخدي راحتك و متتعبيش من الطريق.
أومأت برأسها في تفهم وشعرت بالامتنان لاهتمامه الزائد بها.
_ اللي تشوفه يا حبيبي.
بعد لحظات من الصمت الرومانسي وتبادل النظرات التي كانت تحمل كل معاني الحب، أنهيا طعامهما
قال مالك وهو يمسح فمه بالمنديل
_ ودلوجت جه وقت الجزء التاني من الخروجة.
نظرت إليه بحيرة.
_ جزء تاني؟
ابتسم بمكر.
_ طبعًا مش معجول هتروحي فرح صاحب عمري من غير ما تكوني لابسة أحلى فستان في الدنيا يلا بينا.
❈-❈-❈
كانت صبر تجلس على المقعد في عيادة الطبيبة تفرك يديها بتوتر وهي تنتظر دورها. 
حين نادتها الممرضة دخلت بقلبٍ مقبوض تحمل هموم الدنيا فوق كتفيها. 
استقبلتها الطبيبة بابتسامة هادئة حاولت أن تبث بها بعض الطمأنينة
_ إزيك يا صبر، أخبارك إيه النهاردة؟ تعالي اتفضلي.
جلست صبر على المقعد أمام الطبيبة 
_الحمد لله يا دكتورة رغد.
سألتها 
_الحمل عامل ايه معاكي؟
ردت صبر بقلق
_بقالي فترة بيجيني وجع بيستمر فترة ويروح، وصداع ودوخة مستمرين.
طلبت منها الطبيبة ان تصعد على السرير
استلقت صبر على السرير المخصص للفحص وبدأت الطبيبة تمرر جهاز الأشعة على بطنها المنتفخة. 
كانت عينا صبر معلقتين بالشاشة تترقب رؤية طفلها، وأيضاً تتابع ملامح الطبيبة القلقة التي تمرر جهاز الأشعة 
الصمت في الغرفة كان ثقيلاً ومخيفاً تقطعه فقط أصوات الأجهزة الطبية، لم تعد صبر تحتمل هذا التوتر فسألت بصوت حاولت جاهدة أن تجعله ثابتاً
_فيه حاجة يا دكتورة؟ حضرتك ساكتة ليه؟
رفعت الطبيبة عينيها من على الشاشة ونظرت إلى صبر نظرة جادة زادت من خفقان قلبها.
_هو جوزك فين يا صبر؟ ليه كل مرة بتيجي لوحدك؟ أنا محتاجة أشوفه ضروري.
ابتلعت صبر ريقها بصعوبة وردت بصوت خفيض كأنها تعترف بسر مؤلم
_بس إحنا منفصلين يا دكتورة بقالنا فترة.
عقدت الطبيبة حاجبيها وقالت بحزم
_ولو منفصلين لازم يكون موجود معاكي الفترة الجاية الوضع مش بسيط وده ابنه برضه.
أنهت الطبيبة الفحص وساعدت صبر على النهوض ثم جلست خلف مكتبها وقالت بنبرة لا تحتمل الجدال
_اسمعيني كويس يا صبر انا مش هخبي عليكي لأن مفيش حد معاكي اعرفه، بصراحة حالتك صعبة أوي 
ضغطك عالي جداً ودي حاجة متطمنش أبداً في المرحلة دي من الحمل. 
الألم اللي بتحسي بيه ده ممكن يكون مؤشر خطر.
شعرت صبر بأن الأرض تميد بها وحاولت أن تكتم دموعها التي تجمعت في عينيها بقوة.
أكملت الطبيبة وهي تكتب في ورقة العلاج
_أنتِ لازم ترتاحي راحة تامة ومفيش أي مجهود نهائي لو الضغط فضل عالي بالشكل ده ممكن تدخلي في ولادة مبكرة وساعتها البيبي هيحتاج حضانة واحتمالات الخطر هتكون كبيرة.
أخذت صبر ورقة العلاج بيد مرتعشة بالكاد ترى الكلمات من خلال غشاوة الدموع التي أبت إلا أن تنزل على خديها بصمت.
نبهت عليها الطبيبة بصرامة أخيرة
_الأدوية دي تتاخد في مواعيدها والراحة أهم من أي حاجة تانية حياتك وحياة ابنك متوقفين على ده.
خرجت صبر من عيادة الطبيبة وهي تشعر بأن قدميها بالكاد تحملانها كانت الكلمات القاسية والمقلقة تتردد في أذنيها كطنين لا يتوقف "ولادة مبكرة" "حضانة" "خطر". 
جلست على أقرب مقعد في ممر المستشفى، تحاول أن تستجمع أنفاسها وتسيطر على الانهيار الذي يوشك أن يبتلعها.
في تلك اللحظة، أضاءت شاشة هاتفها باسم "ليان" ورن الهاتف بصوت عالٍ اخترق صمتها الحزين، مسحت دموعها بسرعة وحاولت تعديل نبرة صوتها قبل أن تجيب.
_ألو.
جاءها صوت ليان المبهج والقلق في آن واحد
_صبر! إيه يا حبيبتي طمنيني، الدكتورة قالتلك إيه؟ أنا قلبي واكلني عليكي من الصبح.
أغمضت صبر عينيها بقوة تأخذ نفسًا عميقًا لتمنع صوتها من الارتجاف وقالت بكذبة بيضاء
_جالتلي كله تمام الحمد لله شوية إرهاق عادي يعني عشان الحمل وكدة.
ردت ليان بارتياح واضح
_الحمد لله يا حبيبتي، طمنتيني كنت مرعوبة يكون فيه حاجة، طيب محتاجة أجيلك أو أعملك حاجة؟
أجابت صبر بسرعة وهي تنهض لتغادر المكان الذي شهد على مخاوفها
_لا لا يا ليان متجلجيش خالص، أنا زينة وهروح على البيت أرتاح شوية متشيليش هم.
أنهت المكالمة وأعادت الهاتف إلى حقيبتها وبمجرد أن تأكدت أن الخط قد أُغلق سمحت لدموعها بالهطول مرة أخرى وهي تسير وحيدة في الممر الطويل، تشعر بعبء العالم كله فوق كتفيها.
❈-❈-❈
عاد جاسر إلى السرايا في وقت متأخر من الليل، كعادته منذ أن أُجبر على إتمام زواجه من شروق
كان يهرب من هذا البيت من هذا الجناح ومن هذه المرأة التي أصبحت زوجته على الورق فقط. 
كل ليلة كان يأمل أن يجدها نائمه ليتسلل إلى الأريكة في غرفة المعيشة وينام هناك لكنها كانت دائماً تنتظره.
في تلك الليلة ما إن فتح باب غرفة النوم حتى تجمد في مكانه. 
لم تكن تنتظره كالعادة بملابسها العادية بل كانت تقف أمام المرآة، وقد أعدت له فخاً متقناً. 
كانت ترتدي قميص نوم من الحرير الأسود، يكشف أكثر مما يستر وشعرها منسدل على كتفيها بطريقة مدروسة، ورائحة عطرها القوية تملأ المكان.
استدارت إليه ببطء وعلى شفتيها ابتسامة إغراء واثقة.
_ حمد لله على السلامة يا حبيبي اتأخرت النهاردة.
لم يرد جاسر بل أغلق الباب خلفه بهدوء وظل واقفاً في مكانه، ينظر إليها بنظرة باردة لم تستطع اختراقها.
_صاحية ليه؟
اقتربت منه بخطوات متمايلة ووضعت يديها على صدره.
_ كنت مستنياك معجولة حبيبي يرچع ومكنش في انتظاره؟
أبعد يديها عنه ببرود.
_ جولتلك ميت مرة متستنينيش روحي نامي.
لكن شروق لم تكن تنوي الاستسلام هذه الليلة بعد حديثها مع والدتها
قالت بصوت هامس ومغناج.
_ ولحد ميتى يا جاسر؟ 
لحد ميتى هنفضل إكده؟ إحنا متچوزين وأنا مرتك، وده حجي وإنت... إنت كمان ليك حج.
مررت أصابعها على صدره مرة أخرى، ثم على رقبته وهي تقترب منه أكثر.
_ إنت واحشني جوي.
في العادة، كان سيدفعها بعيداً ويخرج من الغرفة. 
لكن هذه المرة كان مرهقاً ومحطماً ومشتاقاً. 
عندما أغمض عينيه للحظة ليهرب من نظراتها، لم يعد يرى شروق
لقد حلت محلها صورة أخرى... صورة "نغم".
فتح عينيه ببطء
رأى نغم أمامه ببرائتها، بخجلها، بنظرة الحب التي رآها في عينيها في تلك الليلة الوحيدة. 
شعر بنفس اللهفة، بنفس الشوق الجارف الذي يشعر به كلما تذكرها عقله كان يعلم أنها شروق، لكن قلبه وروحه كانا يصرخان باسم "نغم".
دون وعي منه، استجاب لجسده الخائن. 
رفع يديه المرتعشتين ووضعهما على خصرها وجذبها إليه بقوة. 
شهقت شروق بانتصار معتقدة أنها نجحت أخيراً.
دفن جاسر وجهه في عنقها، يستنشق رائحة عطرها، لكنه كان يتخيل رائحة "نغم" الطبيعية.
همس بصوت متحشرج لكن الكلمة لم تكن موجهة لها.
_ وحشتيني...
احتضنها بقوة كأنه يحتضن طيفاً يخشى أن يختفي شعرت شروق بقوة مشاعره، فتشبثت به أكثر وظنت أنها امتلكته.
بدأ جاسر يقبل عنقها بلهفة، قبلات ضائعة تبحث عن صاحبتها الحقيقية كان في عالم آخر، عالم لا وجود فيه لـ شروق عالم يسكنه هو و"نغم" فقط.
رفع رأسه ببطء وعيناه نصف مغمضتين، وقد استبد به الشوق
مال نحو شفتيها كان على وشك أن يقبلها أن يختم هذه اللحظة الخائنة بقبلة.
لكنه في الثانية الأخيرة، فتح عينيه بالكامل.
الصورة تبددت
الحلم تلاشى، لم تكن "نغم" هي التي بين ذراعيه كانت شروق تنظر إليه بلهفة وانتصار.
شعر بصدمة عنيفة كمن أفاق من كابوس ليجد نفسه في حقيقه
شعر بالاشمئزاز من نفسه ومنها، ومن ضعفه.
دفعها بعيداً عنه فجأة وبقوة، حتى أنها ترنحت وكادت تسقط.
_ إنتِ...
نظر إليها باشمئزاز وقرف، كأنه ينظر إلى حشرة سامة. 
لم يستطع حتى أن يكمل جملته استدار بسرعة وخرج من الغرفة، وصفق الباب خلفه بقوة هزت أركان الجناح.
تركها واقفة في منتصف الغرفة، ترتجف من الصدمة والغضب والإهانة، وقد أدركت للتو أنها مهما فعلت فإنها لن تستطيع أبداً أن تمحو طيف "نغم" من قلبه.
❈-❈-❈
في شرفة مكتبه الواسعة وقف جاسر كصقر جريح، لم يعد يرى الحديقة أو أضواء المدينة البعيدة كل ما كان يراه هو وجهها وهي تبتعد، وصدى كلماتها الأخيرة يتردد في أذنيه: 
"اخرج من حياتي".
أمسك هاتفه بيد ترتجف قليلاً وهو الذي لم ترتجف يده يوماً حتى وهو يواجه الموت بحث عن اسمها الذي استطاع الوصول إليه بعد عناء "نغم"، وضغط على زر الاتصال.
رنة... اثنتان... ثلاث... ثم انقطع الخط لقد رفضت المكالمة.
شعر بطعنة باردة في صدره لكنه لم يستسلم ضغط مرة أخرى نفس النتيجة
رفض 
ومرة ثالثة، ورابعة كل رفض كان كصفعة على وجهه تذكره بالمسافة الهائلة التي أصبحت تفصلهما.
أغمض عينيه بقوة وأخذ نفساً عميقاً محاولاً السيطرة على الإعصار الذي يعصف بداخله الاتصال لن يجدي هي تعلم أنه هو ولن تسمح لصوته بأن يخترق دفاعاتها مرة أخرى. 
لم يبقى أمامه سوى الكلمات المكتوبة.
فتح نافذة الرسائل وبدأ يكتب ثم يمسح ثم يكتب مرة أخرى. 
كيف يمكن أن يختصر ستة أشهر من الجحيم في بضعة أسطر؟ كيف يعبر عن حبه دون أن يبدو ضعيفاً، وعن ألمه دون أن يبدو مهزوماً؟
أخيراً استقر على كلمات تجمع بين شموخه كـ "جاسر التهامي" وضعفه كـ "رجل يحب". 
كلمات لا تطلب بل تعلن لا تتوسل بل تضع الحقيقة أمامهما.
في غرفة نغم
كانت نغم تجلس على سريرها تضم وسادة بقوة ودموعها قد جفت تاركة وراءها شعوراً بالفراغ. 
كان هاتفها يهتز بجانبها مرة بعد مرة ورقمه الاي تحفظه جيداً يضيء الشاشة في كل مرة. 
مع كل اهتزاز كان قلبها ينقبض وجزء منها يصرخ بها لترد، وجزء آخر أقوى كان يضغط على زر الرفض بقسوة.
بعد أن توقفت المكالمات تنهدت بارتياح ممزوج بالخسارة. 
لكن بعد لحظات أضاءت الشاشة مرة أخرى معلنة وصول رسالة.
ترددت 
كانت تعلم أن قراءة هذه الرسالة ستكون خطأ كانت تعلم أنها ستفتح جرحاً بدأ للتو في الالتئام لكنها لم تستطع المقاومة.
بحذر فتحت الرسالة وبالفعل كانت منه.
قرأت الكلمات ببطء وكل كلمة كانت تخترق درعها الواهي:
"رفضك لمكالماتي مش هيغير الحقيقة، صوتي ممكن تحجبيه لكن وجودي محفور في روحك زي ما هو محفور في روحي، أنتي بتكدبي على نفسك لو فاكرة إنك تقدري تمحيني. 
أنا مش جزء من ماضيكي يا نغم، أنا قدرك، كل يوم بيمر وإنتي بعيدة هو يوم ضايع من عمرنا مش من عمري لوحدي، لسة عندي أمل... مش إنك تسامحيني، الأمل إنك تبطلي تحاربي الحقيقة الوحيدة اللي بيننا لما تتعبي من الهروب... أنا موجود."
لم تكن رسالة اعتذار لم تكن رسالة توسل، كانت إعلاناً صارخاً بالملكية ليس ملكية جسد بل ملكية قدر مشترك. 
لم يقل "ارجعيلي" بل قال "أنا موجود" واضعاً الكرة في ملعبها ومؤكداً لها أنه لن يذهب إلى أي مكان. 
لقد ذكّرها بأنها ليست مجرد ضحية بل هي الطرف الآخر في معادلة حبهما وأن هروبها هو هروب من نفسها أيضاً.
أغلقت الهاتف ووضعته بعيداً عنها كأنه قطعة من الجمر ثم انفجرت في بكاء مرير، لم تكن تبكي من كلماته بل كانت تبكي من صدقها كانت تبكي لأنها تعلم أنه على حق كانت تبكي لأنها ورغم كل شيء كانت تتمنى أن تكون لديها الشجاعة لتتوقف عن الهروب.
❈-❈-❈
كان صخر التهامي يجلس في مكتبه الفخم، لكن فخامة المكان لم تكن تعكس العاصفة التي تدور في عقله لقد أصبح جاسر لغزاً، قوة لا يمكن السيطرة عليها وهذا ما كان يقلقه أكثر من أي شيء آخر.
انفتح الباب ودخلت ابنته شروق لم تكن تلك الفتاة المتكبرة التي يعرفها الجميع
كانت ملامحها تحمل مرارة الهزيمة، وعيناها محمرتان من بكاء مكبوت. أغلقت الباب خلفها ووقفت أمامه كطفلة تائهة
قال صخر بصوت أجش دون أن يرفع عينيه عن الأوراق التي يتظاهر بقراءتها
_خير؟ 
انفجرت شروق ولم تعد قادرة على التحمل.
_لحد ميتى يا بوي؟ لحد ميتى هفضل في الإهانة دي؟
رفع صخر نظره ببطء ونظراته الباردة كانت تحمل سؤالاً صامتاً.
أكملت شروق بصوت يرتجف من القهر
_جاسر... بيعاملني كأني هوا كأني حتة من أثاث الأوضة مبيكلمنيش، ولو بصلي بيبصلي بجرف، لسة بيحبها يا بوي... لسة بيحب بت الرفاعي دي! أني بسمعه بالليل بينادي اسمها وهو نايم.
كانت كل كلمة من كلماتها تزيد من اشتعال النار في صدر صخر، لم يكن الأمر يتعلق بمشاعر ابنته بقدر ما يتعلق بسلطته هو التي تتآكل جاسر لم يتحدى نفوذه في العمل فقط بل تحدى قراره الشخصي بزواجه من ابنته، وجعل من هذا الزواج إهانة علنية له.
قال صخر بصوت هادئ ومخيف هدوء يسبق العاصفة
_انتي اتچوزتيه عشان تكسريها وتملكي جاسر، مش عشان تعيطي كيف الولاية إكدة.
ردت شروق بيأس
_وأني أعمل إيه؟ هو مش شايفني واصل، كل تفكيره معاها من يوم ما هربت وهو ميت بالحيا، بيدور عليها زي المجنون ولو لجاها اني واثقة انه هيرچعها له.... 
أني خايفة يرجعها ويرميني.
هنا طرح صخر السؤال الحاسم السؤال الذي سيحدد كل شيء نظر في عينيها مباشرة وبنبرة لا تحتمل الكذب سأل
_لمسك؟
تجمدت شروق في مكانها وشعرت بالدم يندفع إلى وجهها لم تكن إهانة فقط، بل كانت تأكيداً لفشلها كامرأة وكزوجة. 
أطرقت رأسها وقالت بصوتٍ خافت، صوت مليء بالخجل والإحراج.
_لا.
سقطت كلمة "لا" في صمت المكتب كصخرة
لم يصرخ صخر ولم يغضب بل على العكس ارتسمت على وجهه ابتسامة باردة ومخيفة لقد تأكد الآن
جاسر لم يعد مجرد شاب متمرد بل أصبح عدواً داخل الجدران. 
لقد عصى أمره الأهم وتحدى رجولته وسلطته ككبير للعائلة. 
لقد أعلن الحرب عليه دون أن ينطق بكلمة
أدرك صخر في تلك اللحظة أن جاسر قد خرج عن طوعه تماماً، لم تعد هناك سيطرة عليه، لقد بنى مملكته الخاصة وأصبح هو الملك ولم يعد يعترف بسلطة أحد فوقه.
قال صخر بهدوء وهو ينهض من كرسيه ويقف أمام النافذة ينظر إلى ممتلكاته الشاسعة.
_خلاص.
نظرت إليه شروق بحيرة
_خلاص إيه يا بوي؟
استدار نحوها وفي عينيه كانت هناك قسوة لا تعرف الرحمة
_خلاص، جاسر اختار طريقه وجه الوقت اللي يعرف فيه إن كل طريق وليه نهاية
وإن اللي بيعصى صخر التهامي... بيكتب نهايته بإيده.
لم تكن كلماته تهديداً بل كانت حكماً قد صدر، لقد قرر صخر أن يقتلع هذا التمرد من جذوره، حتى لو كان هذا الجذر هو ابن أخيه الذي رباه بنفسه. 
المعركة القادمة لن تكون ضد عائلة الرفاعي، بل ستكون داخل جدران هذا البيت.
❈-❈-❈
قاد مالك سيارته في شوارع القاهرة الراقية، حتى توقف أمام واجهة زجاجية أنيقة لمحل صغير لا يحمل اسمًا كبيرًا، لكنه كان يبدو فخمًا وذوقه رفيع. 
كانت الفساتين المعروضة في الواجهة قليلة لكن كل قطعة منها كانت تبدو كتحفة فنية.
ترجل مالك وفتح لها الباب.
_ إيه رأيك؟ المحل ده حاچته كلها مستوردة ومميزة.
نظرت روح إلى المكان بإعجاب.
_ شكله يجنن.
دخلا معًا 
كان المحل من الداخل أكثر جمالاً، ديكوره بسيط ودافئ، والملابس معلقة بعناية فائقة.
كانت هناك سيدة أنيقة تتفحص فستانًا، وتقف أمامها فتاة تساعدها ظهرها لهما. 
كانت الفتاة تتحدث بهدوء وثقة
_ اللون ده يا فندم هيليج جدًا على حضرتك، وقصته جديدة ومختلفة.
تجمد مالك في مكانه هذا الصوت... هو يعرفه جيدًا.
في تلك اللحظة استدارت الفتاة لتضع الفستان على الشماعة مرة أخرى فوقعت عيناها على مالك وروح الواقفين عند الباب.
اتسعت عيناها بصدمة، وتوقفت الكلمات في حلقها.
لم تكن سوى صبر.
صبر الفتاة التي كانت زوجة لى أكمل صديقه، تقف الآن في قلب القاهرة في محل راقي ترتدي ملابس بسيطة، وتتعامل مع الزبائن بمهارة وثقة لم يعهدها فيها من قبل.
انصدم مالك تمامًا لم يكن يتوقع أبدًا أن يراها هنا. 
كيف؟ ومتى؟ ولماذا؟ آلاف الأسئلة دارت في رأسه في لحظة واحدة
نظر إلى روح التي كانت تنظر إليه باستغراب، ثم عادت ونظرت إلى الفتاة التي تجمدت في مكانها، ولم تفهم سبب هذه الصدمة المتبادلة.
لقد جاء ليشتري فستانًا لزوجته، فوجد نفسه وجهًا لوجه مع الفتاة التي كسرت قلب صديقه لقد أصبح العالم فجأة... صغيرًا جدًا.
لكن ما صدمه أكثر هو جوفها الممتلئ
_حامل؟!

•تابع الفصل التالي "رواية ثنايا الروح" الريح والغيامة" اضغط على اسم الرواية 

تعليقات