Ads by Google X

رواية ثنايا الروح "الريح والغيامة" الفصل الثلاثون 30 - بقلم رانيا الخولي

الصفحة الرئيسية

 رواية ثنايا الروح "الريح والغيامة" الفصل الثلاثون 30 - بقلم رانيا الخولي 

ثنايا الروح 
رانيا الخولي 
الفصل الثلاثون
........................
في الحديقة، وبعد لحظات من الصمت المشحون الذي كان أثقل من الرصاص، والذي لم يكن يقطعه سوى حفيف الريح الباردة وهمس الأوراق المتساقطة، تراجع جاسر خطوة واحدة إلى الوراء
 لم تكن خطوة ضعف أو تراجع، بل كانت خطوة استراتيجية، خطوة محارب متمرس يغير تكتيكه في ساحة المعركة. 
خفت نبرة تهديده لكنها لم تفقد حدتها، بل تحولت من لهيب غاضب إلى جمرة متقدة أكثر خطورة وعمقاً، حل محلها رجاء مرير رجاء يخرج من قلب رجل اعتاد أن يأمر فيُطاع، لا أن يطلب. 
لكنه الآن يطلب لا من ضعف بل من قوة حب جامح لا يعرف التنازل.
صوته كان لا يزال يحمل ذلك الرنين المعدني القاسي، لكن هذه المرة كان ممزوجاً بصدق يكاد يمزق الروح، صدق رجل مستعد للتخلي عن كبريائه للحظة من أجل ما يريد.
_ طيب... أنا همشي بس على الأجل... خلوني اتحدت معاها خمس دجايج خمس دجايج بس. 
أسمع منها هي مش منكم.
نظر الرجال المحيطون به إلى بعضهم البعض في حيرة، كانت هذه مفاجأة لم يتوقعوها أبداً من جاسر التهامي، الصقر الذي لا يحني رأسه
 توقعوا عناداً تهديداً، ربما حتى عنفاً لكن لم يتوقعوا هذا الطلب الذي يحمل في طياته اعترافاً ضمنياً بأن رأيها هو الأهم.
لكن وهدان كبير عائلة الرفاعي الذي كان يقف كشجرة عتيقة، يراقب الموقف بصمت وحكمة، وبعينين رأتا الكثير من صراعات الرجال وحماقاتهم، تحدث أخيراً صوته خرج هادئاً ورزيناً، لكن كل كلمة فيه كانت تحمل ثقل السنين وحكمة الشيوخ، وتقع على مسامع الحاضرين كضربات مطرقة.
_ لو كنت دخلت السرايا دي جبل سابج، وجتها مكنتش هتطلع منيها على رچليك.
صمت وهدان للحظة، وترك كلماته تترسخ في عقول الجميع، ثم أكمل وهو ينظر مباشرة في عيني جاسر، نظرة تخترق الروح وتقرأ ما وراءها.
_ بس حظك خدمك، حظك إنك چيت في وجت جررت فيه أدفن الماضي بإيدي. 
چيت في وجت جررت فيه إن دم ولادي وأحفادي اللي فاضلين أغلى من أي تار وأي أرض.
كانت كلمات وهدان تحمل ألماً عميقاً، ألم رجل رأى عائلته تنزف جيلاً بعد جيل رأى ابنه يُقتل، وحفيدته تُخطف، وحفيده الآخر يموت في حريق أشعله بنفسه. 
لقد اكتفى.
تابع وهدان وصوته أصبح أكثر حدة، كأنه يضع الشروط الأخيرة في معاهدة سلام مريرة.
_ أنت خطفت حفيدتي، وكسرتها واتجوزتها غصب عنها، وكنت السبب في موت حفيد كان دمه بيغلي من القهرة، لو على اللي فات، فحجك عندي طلجة فجابك، بس أني عاهدت ربنا إني أحافظ على اللي باجي من عيلتي.
اقترب من جاسر خطوة، ووقف أمامه مباشرة رجلان من عالمين مختلفين، يمثل كل منهما جيلاً وفكراً
شموخ الشباب وقوته، في مواجهة حكمة الشيخوخة وقسوتها.
_ عشان إكده، هخليك تشوفها مش عشانك، هخليك تشوفها عشان دي حفيدتي أني، وبنت الرفاعي ومحدش يجبرها بعد النهاردة على حاجة واصل، حتى لو كان جدها. 
هي اللي هتجرر لو جالت عايزة ترچع معاك هسيبها، ولو جالت لأ يبجى من اللحظة دي تنساها، وتنسى إنك عرفتها في يوم من الأيام.
كانت كلمات وهدان نهائية، كحكم قاضيا لا استئناف بعده. 
لم يكن يستجدي بل كان يفرض شروطه من موقع قوة جديدة، قوة من اختار السلام عن وعي، لا عن ضعف.
نظر جاسر إلى الشيخ العجوز، ولأول مرة، شعر بشيء من الاحترام تجاه هذا الرجل لقد رأى فيه صلابة من نوع مختلف، صلابة الحكمة التي تأتي بعد عواصف الحياة، رأى ترابط لم يراه في عائلته التي لا تعرف سوى الحقد والكره. 
أومأ برأسه إيماءة خفيفة، موافقاً على الشروط وعيناه تلمعان بترقب وقلق فهو الآن سيواجه أصعب معركة في حياته: معركة الفوز بقلب امرأة، أمام خصم عنيد هو كبرياؤها الجريح.
_خلوه يتكلم معاها.
حاول سند المعارضة فغضبه كان لا يزال يشتعل لكن وهدان أوقفه بنظرة واحدة نظرة لا تقبل الجدال
_قلت خليه يتحدت إمعاها.
تفاهم سالم موقف والده وصعد إلى غرفة نغم، التي كانت لا تزال منهارة، والخوف واضحًا على وجهها كوشم 
كان يشعر بالخزي منها لتخليه عنها لكنه سيأتي إليها ويخبرها بموقفه.
دلف الغرفة فوجدها بينهم تنظر إليه من النافذة تستند على روح.
_نغم..
التفت الجميع إليه معدا نغم التي ظلت عينيها مصلبتان على ذلك الذي دلف لتوه لداخل المنزل.
تقدم منها ووضع يده على كتفها بحنان أبوي حنان يبعث الدفء في قلبها المتجمد. 
_هو تحت دلوجت ومصر انه  يتحدت معاكي.
ما إن سمعت اسمه حتى تشبثت بروح أكثر وكأنها تحاول أن تختبئ من شبح يطاردها، وظنت أنهم وافقوا مرة أخرى على التخلي عنها
لاحظ سالم خوفها فقال بصوت مطمئن وقوي صوت يبعث الشجاعة في أوصالها
_متخافيش يا بنت الغالي إنتي دلوجت في موجف جوة مش ضعف، إنتي في دارك ووسط أهلك ورچالتك
كلنا في ضهرك واللي حوصل جبل إكدة مش هيتكرر تاني. 
انزلي اسمعي منه وجولي اللي في جلبك من غير خوف، قراره وقرارنا كلنا في الكلمة اللي هتطلع منك
إنتي اللي هتحكمي.
أخذت نغم نفسًا عميقًا كأنها تستمد القوة من أعماق روحها مسحت دموعها بكبرياء، كبرياء فتاة قررت أن تواجه مصيرها، ثم 
وافقت على مقابلته 
نزلت الدرج خطوة بخطوة، وكل خطوة كانت تتطلب منها كل ما تملكه من قوة وكأنها تنزل من أعلى جبلًا شاهقًا. 
كانت تتظاهر بالصلابة ترسم قناعًا من الجمود على وجهها، قناعًا يخفي وراءه عاصفة من المشاعر المتضاربة. 
لكنها من الداخل كانت مجرد حطام، فتاة ضعيفة ترتجف من مواجهة جلادها وحبيبها في آن واحد. 
كانت تعلم أن هذه المواجهة ستكون حاسمة، وأن كلماتها ستحدد مصيرها، ومصيره ومصير كل من حولها.
❈-❈-❈
كان جاسر ينتظر في المضيفة الواسعة، لكن المكان الفسيح كان يضيق عليه كأنه زنزانة، كان يطوف في الغرفة ذهاباً وإياباً كوحش حبيس ينتظر مصيره 
خطواته الثقيلة تدق على الأرضية الرخامية بإيقاع متوتر يعكس العاصفة التي تدور في صدره.
ما إن انفتح الباب ودخلت، حتى توقف فجأة
تجمد كل شيء حوله، اختفى الرجال الذين يراقبون من على بعد، واختفى أثاث الغرفة الفخم، واختفى العالم كله لم يبقى في الكون سوى هي.
كانت تقف أمامه شامخة رغم انكسارها الواضح كانت كشجرة ضربتها صاعقة لا تزال واقفة لكن آثار الحريق بادية على أغصانها. 
نظر إليها وهذه المرة لم تكن عيناه تحملان الغضب أو البرود أو الحدة. 
كانت مرآة لروحه المعذبة؛ مليئة بالحزن بالرجاء وبضعف مهيب لم يظهره لأحد من قبل. 
لكن نغم قررت ألا تنخدع مرة أخرى لقد رأت هذا الضعف من قبل، وكان فخاً سقطت فيه ولن تسمح لنفسها بالسقوط مرة أخرى.
كان جاسر واقفاً بنفس قوته وهيبته المعتادة، لكن عينيه كانتا تفضحانه، كانتا ضعيفتين ومتوسلتين أمامها، كجنديين استسلما بعد معركة خاسرة.
_ نغم...
نطق اسمها بصوت أجش، كأنه يختبر ما إذا كانت حقيقية أم مجرد طيف آخر من الأطياف التي تطارده.
_ ارچعي معايا.
قالت بصوت حاولت جاهدة أن تجعله ثابتاً وقوياً، لكنه خرج مرتعشاً قليلاً كوتر مشدود على وشك الانقطاع.
_ أرچع فين؟ مفيش مكان أرچعله معاك اللي بينا انكسر يا جاسر، واللي بينكسر عمره ما بيتصلح.
اقترب منها خطوة، خطوة محسوبة وهادئة، لكنها تراجعت في المقابل خطوة سريعة، محافظة على المسافة بينهما كأنها خط أحمر لا يجب تجاوزه.
بدأ حواراً طويلاً لم يكن توسلاً ذليلاً، بل كان دفاع رجل قوي عن قضيته الوحيدة الخاسرة كل كلمة فيه كانت رجاءً مغلفاً بالشموخ، كل جملة كانت اعتذاراً يحمل كبرياءً مجروحاً.
_ أنا آسف.
قالها وهو ينظر مباشرة في عينيها، لا يتهرب. 
_ جوازي من شروق كان غصب عني عمي حطني جدام الأمر الواقع، جدام العيلة كلها مكنش عندي حل تاني غير إني أوافج عشان أخرس كلام الناس، عشان أحافظ على اسم العيلة اللي شايله على كتافي. 
كنت هجولك، بس كنت خايف... خايف أكسرك أكتر.
قاطعته بمرارة، وصوتها يقطر سخرية موجعة.
_ فجررت تكسرني بطريجتك الخاصة لول؟ عشان يكون وجعه أخف؟
قال بلهفة وصوته ارتفع قليلاً بيأس كأنه يحاول أن يجعلها تفهم المستحيل.
_ لأ! اللي حوصل بينا... ده ملوش علاجة بأي شيء تاني، ده كان أنا وإنتي وبس كان جلبي اللي بيطلبك، روحي اللي كانت عطشانة ليكي.
اغمضت عينيها بألم لا تريد أن تصدقه
_كداب، مش حجيجي.
حاول أن يوقظ فيها أي شعور قد يشفع له، أن يذكرها باللحظات التي كانت فيها ملكه، وكان هو ملكها.
_ هفكرك بالليلة اللي فاتت؟ هفكرك وإنتي في حضني؟ وإنتي بتهمسي باسمي؟ مجدرش أصدج ومش هصدج إن كل ده مكنش حجيجي بالنسبالك.
هزت رأسها بقوة، والدموع التي كانت تحاربها بدأت تهدد بالنزول.
_ كان حجيجي.
اعترفت بها بصوتٍ مخنوق. 
_ كان حجيجي لدرجة إنه جتلني لما عرفت حجيجتك. 
إنت كدبت عليا بنيت للحظة معايا حلم، وفي نفس الوجت كنت بتبني سجني مع واحدة تانية.
عندما رأى أن كل محاولاته، كل صدقه، كل رجائه، يصطدم بجدار من الرفض الصلب لم يجد أمامه سوى سلاحه الأخير. 
سلاح قاسي يعرف أنه سيؤلمها، لكنه كان طوق نجاته الوحيد. 
تغيرت نبرته، اختفى الرجاء وعادت إليها تلك القسوة الباردة التي تعرفها جيداً.
_ طيب... فكرتي لو حصل حمل؟
تجمدت نغم في مكانها كانت الكلمات كصفعة جليدية على وجهها.
وأكمل جاسر ببرود قاصداً الضغط على أعمق مخاوفها، وهو يراقب أثر كلماته عليها.
_ لو طلعتي حامل بابني، وجتها متفتكريش إنك هتجعدي هنا يوم واحد. 
هجلب الدنيا دي فوجاني تحتاني. هستخدم كل أساليب القانون والعرف عشان آخد ابني منك. 
ابن جاسر التهامي ميترباش بعيد عن أبوه. 
وقتها هتشوفيني بعمل حاجات عمرك ما تخيلتي إني ممكن أعملها.
لم يكن تهديداً فارغاً، بل كان وعداً قاطعاً كان يخيرها بين أن تعود إليه بإرادتها، أو أن تعود إليه في معركة ستخسر فيها كل شيء، حتى نفسها كان هذا هو جاسر حتى في حبه، كان شرساً ومتملكاً.
رغم كلماته قاسية، لكنها لم تعد تؤثر فيها كما كان يتوقع، استخدم طريقة خاطئة للضغط عليها كسرتها أكثر وعلمت أنه لن يتغير مهما حاول.
لقد وصلت إلى أقصى درجات الألم، ولم يعد هناك ما تخسره.
لم يكن لديها أمل في شيء كهذا فكل ما حدث كان مجرد كابوس.
نظرت إليه بعينين فارغتين من أي شعور سوى الإرهاق، وأصرت على رأيها بكلمات نهائية
_ حتى لو... مش هرچعلك، اللي حوصل بينا ده وبتضغط عليا بيه كان غلطة كبيرة محدش عيدفع تمنها غيري، سيبني لحالي وخليني أدويها بهدوء..
آلمته بأن وصفتها بغلطة لكنه لن يستسلم فقال برجاء
_سيبيني انا اداويها
هطلب ايدك جدام البلد كلها، وهعملك فرح العالم كله يتحاكي عنيه، بس وافجي.
أخذ نفس عميق بمحاولة فاشلة في تهدئة نيرانه
_انا مجردش اعمل إكدة معاكي، انا بجيت جدامك ضعيف جوي.
أخذت نفس عميق بمحاولة فاشلة للتحكم في دموعها
_صدجني خلاص مبجاش ينفع.......
صاح بها بغضب ناتج عن عجزه
_هينفع...انا واثق انه هينفع...بس تعالي معايا.....
في هذه اللحظة دخل مالك إلى المضيفة وقد رأى أن الحديث قد وصل إلى طريق مسدود، وأن جاسر بدأ في استخدام أساليبه القديمة. وقف بجانب نغم كدرع يحميها.
_ كفاية ياجاسر انت جلت اللي عندك اديها فرصة تفكر على الأجل.
نظرة أخرى وجهها جاسر إليها كانت نظرة رآها مالك فتور لكن من فهمت لغة العيون كانت أدرى بها
كانت تحمل مزيجاً من الرجاء الحزن الانكسار
انكسار الروح
_نغم..
قالها بعينيه وروحه الذي شعر بها ستفارقه إن فارقها
اشاحت بوجهها بعيدًا عنه بدعوة صريحة للرفض.
شعر بطعنه حادة في كبرياءه ولم يعد يستطيع البقاء
خرج من المنزل صافقًا الباب خلفه بعنف أغمضت نغم عينيها على اثره
❈-❈-❈
_ يعني خطتك نجحت.
قالها أكمل في الهاتف لـمالك، وهو جالس على طاولة السفرة. 
كانت عيناه تتبعان صبر التي تتحرك في المطبخ، ما زال الخجل يغلف حركاتها بعد ليلتهما الأولى. 
كانت تضع أطباق الإفطار أمامه دون أن تجرؤ على النظر إليه مباشرة.
رد مالك على الطرف الآخر، فأكمل أكمل حديثه
_ على العموم، حمد لله على سلامتها حاولوا تعوضوها عن اللي شافته، واقفلوا الصفحة دي من حياتكم.
أنهى المكالمة ووضع الهاتف جانباً متفرغاً تماماً لمراقبة زوجته التي أصبحت عالمه الجديد. 
كانت مشاعره قد تبدلت في ثانية، في ليلة واحدة.
لم يكن يفهم كيف تعلق بها بهذه السرعة وبهذا العمق. 
هي معه منذ اربعة أشهر تقريباً، وهذه ليست مدة كافية أبداً لتعلقه بامرأة بهذا الشكل هو أكمل الحازم، العقلاني.
كان يعلم أنها تظن أن حركاتها الأخيرة وفساتينها هي ما جذبته إليها، لكنه ابتسم في سره. 
هو لم يكن يوماً سطحياً وجمال الشكل لم يكن ليحركه. 
الدليل الأكبر كان خطيبته السابقة ليلى؛ كانت أجمل من صبر بمقاييس الجمال المتعارف عليها، واهتمامها بنفسها كان أشد وأقوى ورغم ذلك، لم يتحرك قلبه لها كما يتحرك الآن.
ما أسره في صبر كان شيئاً أعمق
لقد شاركته كل ما يحبه بصمت
أحبت هدوءه احترمت عمله، تعلمت كيف تعد له قهوته كما يحبها تماماً دون أن يسأل. 
وعندما أحبته لم تستسلم لليأس، بل حاربت من أجله. 
فعلت كل شيء لتلفت نظره، لكن ضمن حدودها ضمن مبادئها. 
لم تتجاوز بل حاولت أن تكون جميلة من أجله هو فقط. 
هذا المزيج من البراءة والقوة هو ما هز كيانه.
وضعت آخر طبق على الطاولة، وجاءت لتذهب كعادتها لكنه هذه المرة لم يسمح لها.
مد يده وأمسك بمعصمها برفق، ثم سحبها إليه بقوة محسوبة، فوجدت نفسها فجأة تجلس على قدميه، محاصرة بينه وبين الطاولة.
شهقت بخفة وحاولت النهوض لكنه شدد من احتضانه لها.
همس في أذنها بصوت دافئ. 
_ على فين؟  معقول يوم صباحيتنا وهتسيبيني أفطر لوحدي؟
احمر وجهها بالكامل ولم تعرف ماذا تقول.
_ أنا... أنا لازم أروح الجامعة.
قال وهو يأخذ قطعة من الخبز والجبن.
_ الجامعة مش هتطير بس إنتي ممكن تطيري مني لو سبتك.
أخذ لقمة صغيرة، وقربها من فمها.
_خليني أأكلك بإيدي.
هزت رأسها بالرفض وهي في قمة خجلها.
_ لأ... أنا هفطر بعدين.
نظر إليها بابتسامة ماكرة.
_ لأ هتفطري معايا دلوقتي خلينا نقلد بتوع الروايات دول ونعمل زيهم بيقولوا بيبقى طعمه أحلى.
فتحت فمها على مضض، فوضع اللقمة فيه برفق. 
كانت نظراته لا تفارق وجهها، يراقبها وهي تمضغ ببطء ويستمتع بكل تفصيل من تفاصيل ارتباكها.
لاحظت نظراته لها بذلك الشكل والذي زاد من خجلها وكأنها داخل حلم جميل لا تريد العودة منه لكن نظراته لا ترحمها وأصابعه التي تلامس شفتيها عن عمد وهو يطعمها كانت تزيد من خجلها المحبب له
اندهشت من تلك المعاملة وخشيت أن تكون مشاعره بدافع رغبة وليس حب لذا سألته بصوت خافت.
_ بتعمل اكده ليه؟ 
علم ما يدور بخلدها لذا سألها بلوع
_ بعمل إيه؟
لم تملك الجرئة لتسأله عن ماهية مشاعره لذا تمتمت بتهرب 
_ بتبصلي اكده... وبتحرچني.
ضحك ضحكة خفيفة ضحكة لم تسمعها منه من قبل.
_ عشان عايزك تتعودي عايزك تعرفي إنك مراتي وإن ده مكانك الطبيعي، في حضني مش عايز الخجل ده بينا تاني عايزك تبقي على طبيعتك معايا.
قالت بصدق
_ مجدراش... لسه مش مصدقة.
قال بنبرة واثقة وحنونة.
_ هتصدقي أنا هخليكي تصدقي كل يوم.
مال عليها وقبلها قبلة رقيقة على خدها ثم على طرف شفتيها، قبلة قصيرة لكنها كانت كافية لتجعل قلبها يطرق بعنف. 
كان يفعل كل شيء ليمحو هذا الخجل، ليبني جسراً من الألفة والثقة بينهما، وكان ينجح في ذلك، خطوة بخطوة.
❈-❈-❈
دخلت وعد غرفتهما في وقت متأخر من الليل، بعد أن اطمأنت على نغم وتركتها مع والدتها. 
كانت تشعر بإرهاق عاطفي شديد وجدت سند مستيقظاً، يجلس على حافة السرير في انتظارها، وفي عينيه نظرة قلقة.
ما إن رآها، حتى نهض واقترب منها، وأخذها في حضنه الدافئ.
_ وحشتيني.
استندت برأسها على صدره وتنهدت بعمق. 
لاحظ سند على الفور أنها ليست على طبيعتها. 
كان هناك قلق وخوف في طريقة تنفسها، في تصلب جسدها الخفيف بين ذراعيه فهم من أين يأتي هذا القلق، لكنه أراد أن يسمعه منها أن يجعلها تخرجه بنفسها لترتاح.
أبعدها عنه برفق، وأجلسها على السرير ثم جلس بجوارها وامسك بيديها.
_ مالك يا حبيبتي؟ فيه إيه شاغل بالك؟
ترددت وعد قليلاً، ثم نظرت في عينيه مباشرة، وسألته السؤال الذي كان يؤرقها بصوت خافت
_ رجوع نغم... هيغير حاجة بينا؟
ابتسم سند ابتسامة حنونة ودافئة، ابتسامة أذابت جزءاً من جليد خوفها رفع يده إلى شفتيها وقبلها برقة.
_ هيغير حاجة واحدة بس.
اتسعت عيناها بقلق.
وقال بحب صادق
_ هيغير إن بيتنا هيبقى فيه فرحة زيادة برجوعها لينا، لكن أنا وإنتي؟ مفيش أي قوة في الدنيا تقدر تغير اللي بينا.
شد على يديها وأكمل بنبرة عميقة وصادقة
_ أنا جلتلك قبل إكده وهجولك تاني حبي ليكي مختلف حبي ليكي هو اللي خلاني أعرف معنى الحب الحقيقي
لما رجعت نغم، قلبي فرح عشان أختي رجعت، عشان حتة من روحي كانت ضايعة ورجعت مكانها لكن حبي ليكي، مقلش ذرة واحدة وده أكبر دليل على إن حبي ليها كان حب أخوي، حب العشرة والطفولة إنتي اللي علمتيني إزاي أحب كراجل مش كأخ.
ارتاحت ملامح وعد، وشعرت بالخجل من شكوكها.
_ أنا آسفة... بس غصبت عني.
قال وهو يمسح على خدها. 
_ متتأسفيش، من حقك تخافي وتغيري وده بيفرحني على فكرة بس أنا عايزك تطمني، إنتي وبس اللي في القلب ده ودلوق، لازم كلايتنا نقف جار نغم.
لازم نساندها ونرجعها نغم القوية اللي بتضحك وتهزر اللي نعرفها. 
الموضوع مش هيكون سهل عليها زي ما صعب عليها انها تسامح حد فينا.
_للاسف يا سند الحالة اللي شوفت فيها نغم لما سمعت صوته يأكدلي انها عانت كتير معاه
تنهد سند 
_خابر بس اللي شوفته في عينيهم هما الاتنين النهاردة أكدلي انهم حبوا بعض، وقفت جاسر النهاردة زي الأسد عشانها
ودموعها هي الاي حبساها قدامه كأنها بتقاوم مشاعرها 
نظراتها كان كلها عتاب وقتها فهمت إنها هربت منه لما عرفت بجوازه من بنت عمه.
جاسر...  حبها بجد يا وعد وللأسف مش هيسبها
نظرت إليه وعد باستغراب.
_ حبها؟ كيف بعد كل اللي عمله فيها؟
_ اللي زي جاسر لما بيحب بيبجى حبه مدمر لنفسه وللي حواليه هو أذاها بس أذى نفسه أكتر وصدجيني، هو مش هيستسلم بسهولة هيعمل المستحيل عشان ترچعله. 
ودورنا إننا نجوي نغم عشان تجدر تواچه ده، وتجرر هي عايزة إيه.
كانت كلماته منطقية وحنونة، وقد أزاحت كل المخاوف من قلب وعد شعرت بالأمان الكامل معه، وبأنها محظوظة بهذا الرجل الذي يفهمها ويحتويها بهذا الشكل.
نظرت إليه بحب وامتنان، وقالت
_ بحبك.
_ وأنا بموت فيكي. 
رد عليها، وقد رأى أن الوقت قد حان ليطمئنها بطريقته الخاصة.
مال نحوها ببطء وقبلها لم تكن قبلة عادية، بل كانت قبلة تحمل كل الطمأنينة كل الحب وكل الشغف الذي يكنه لها. 
كانت قبلة طويلة وعميقة بدأت هادئة ثم اشتعلت، لتأخذ عقلها وعقله معاً إلى عالمهما الخاص، عالم لا وجود فيه للشكوك أو المخاوف، فقط حب صافي وقوي يجمعهما.
❈-❈-❈
عاد جاسر إلى جناحه في وقت متأخر من الليل، خطواته ثقيلة وروحه منهكة وجد والدته تنتظره في الصالة، والقلق يرتسم على وجهها. 
ما إن رأته يدخل وحيداً، حتى فهمت كل شيء.
سألته بصوت خافت تخشى من إجابته.
_ مرجعتش وياك؟ 
هز جاسر رأسه بالنفي ثم ألقى بجسده على أقرب أريكة وأرجع رأسه للخلف وأغمض عينيه بتعب.
قال بصوت أجش ومبحوح.
_ عرفت...... عرفت بچوازي من شروق، رفضت ترجع.
#جروب نسائم روائيه رانيا الخولى 
لأول مرة في حياتها رأت والدته هذا الكم من الحزن والهزيمة في عينيه
لم يكن جاسر القوي الجبل الذي لا يهتز كان مجرد رجل محطم، قلبه ينزف
لقد وصل إلى أقصى درجات التحمل، لكنه كعادته كان يحاول أن يبني جداراً من القوة حول نفسه، قناعاً من الجمود يخفي وراءه حطامه.
_ طب وهتعمل إيه يا  ولدي ؟
بعد صمت دام للحظات
_ هعمل اللي لازم يتعمل. 
قالها بنبرة غامضة ثم نهض دون أن يضيف كلمة أخرى، واتجه إلى جناحه.
دخل إلى عالمه الذي عاد بارداً وفارغاً 
كل شيء فيه يذكره بها. 
رائحتها التي لا تزال عالقة في الهواء، لمسة يدها على الأثاث، وجودها الذي ملأ كل زاوية. 
اتجه مباشرة إلى غرفتها، المكان الذي شهد على أسعد وأقصر لحظات حياته.
وقف في وسط الغرفة وأغلق عينيه، فمرت تفاصيل ليلتهما الوحيدة أمامه كشريط سينمائي حي.
تذكر قبلتهما الأولى الحقيقية قبلة جائعة ومتلهفة، وكيف حاول أن يمتلكها بالكامل في تلك اللحظة. 
تذكر مقاومتها الضعيفة، وكيف كان جسدها يرتجف بين يديه.
تذكر كل خطوة كان يخطوها نحوها في تلك الليلة، وكيف كانت تصده بنظراتها الخائفة، لكنه كان يجبرها على الاستسلام بنظراته هو التي كانت مليئة بالرجاء والألم والحب.
تذكر همسها المرتعش وهي بين ذراعيه على السرير: "متعملش فيا إكده... أرجوك".
وكيف رد عليها بصوت متحشرج من فرط الرغبة: "متعمليش فيا إنتي إكده...أرجوكي"
وفي النهاية استسلامها. 
تلك اللحظة التي تلاشت فيها كل مقاومتها، وفتحت له أبواب روحها قبل جسدها.
في تلك اللحظة شعر وكأنه في الجنة
لم تكن مجرد امرأة بين ذراعيه، بل كانت حورية كائناً من نور ونقاء، أُرسلت لتطهره من كل ظلامه.
كان حنانها ورقتها يتناقضان بشكل صارخ مع قسوته وعالمه المليء بالدم لقد شعر معها بأنه إنسان حقيقي لأول مرة، إنسان قادر على الحب، قادر على الشعور.
فتح عينيه على الواقع المؤلم
الغرفة فارغة، وهي ليست هنا
لقد ذاق طعم الجنة لليلة واحدة، ثم طُرد منها. 
شعر بألم حاد يعتصر قلبه، ألم لم يكن يعرف أنه قادر على الشعور به. 
لقد أدرك في تلك اللحظة أنها لم تأخذ جسدها وترحل، بل أخذت روحه معها، وتركته مجرد جسد فارغ في عالم لا معنى له بدونها.
❈-❈-❈
في إحدى الأمسيات الهادئة، دخلت وعد إلى غرفة نغم بتردد. 
وجدتها تجلس على الشرفة، شاردة في الأفق منذ عودتها، ورغم كل محاولات الجميع، كانت وعد تشعر بحاجز خفي بينها وبين نغم، حاجز من صنع إحساسها بالذنب.
قالت بصوت خافت.
_نغم..
التفتت نغم وابتسمت لها ابتسامة باهتة.
_ تعالي يا وعد اجعدي جارى.
جلست وعد على الفراش بجوارها لكنها لم تستطع النظر في عينيها مباشرة. 
فركت يديها بتوتر ثم قررت أخيراً أن تواجه ما في صدرها.
_ أنا... أنا كنت رايدة اتحدت معاكي في حاچة.
نظرت إليها نغم باهتمام، وشعرت بترددها.
_ اتكلمي يا حبيبتي، فيه إيه؟
أخذت وعد نفساً عميقاً وقالت بسرعة كأنها تريد أن تتخلص من عبء الكلمات
_ أنا وسند... أنا خابرة إنك ممكن تكوني زعلانة مني. 
عارفة إني أخدت مكانك في حياته بس والله العظيم... الموضوع كان مفروض علينا في الأول، مكنش باختيارنا. 
جدك هو اللي أصر وبعدين... بعدين لما عشنا مع بعض كزوجين... رضينا بالأمر الواقع... أنا آسفة لو كنت جرحتك أو...
قاطعتها نغم بهدوء، ومدت يدها وأمسكت بيد وعد المرتجفة.
_ بصيلي يا وعد.
رفعت وعد عينيها الممتلئتين بالدموع لتجد في عيني نغم صفاءً وحناناً، لا عتاباً أو لوماً.
قالت نغم بصدق
_ إنتي عمرك ما أخدتي مكاني، عشان أنا أصلاً مكنش ليا مكان في حياة سند غير مكان الأخت. 
أنا وسند عمرنا ما حبينا بعض حب الراجل للست
اللي كان بينا كان تعود كان أُلفة كان عشرة عمر كنا زي التوأم بنخاف على بعض وبنحمي بعض بس إكده  وده مش حب جواز يا وعد.
شعرت وعد بالدهشة والراحة معاً.
_ يعني... يعني إنتي مش زمقانه مني؟
ضحكت نغم ضحكة حقيقية ربما للمرة الأولى منذ فترة طويلة.
_ أزعل منك ليه يا عبيطة؟ عشان لجيتي نصك التاني؟ عشان حبيتي واتحبيتي؟ بالعكس أنا فرحانة ليكوا جوي. 
سند ده أطيب جلب في الدنيا، ومفيش واحدة في الدنيا دي تستاهله غيرك
وإنتي... إنتي تستاهلي كل السعادة اللي في الدنيا.
ابتسمت نغم لها ثم أخذتها في حضن دافئ وقوي.
_ إنتي أختي الصغيرة وفرحتك من فرحتي إوعي تفكري في الموضوع ده تاني أبداً.
ابتعدت عنها قليلاً ونظرت إلى بطنها التي بدأت تظهر بوضوح ووضعت يدها عليها بحنان.
_ وبعدين، لازم أباركلك على الكتكوت اللي چاي ده.
مبروك يا حبيبتي ألف مبروك.
انفجرت وعد في البكاء لكنها هذه المرة كانت دموع راحة وفرح.
_ الله يبارك فيكي يا نغم.
جلستا مرة أخرى لكن هذه المرة كصديقتين مقربتين، لا تحملان أي ضغينة.
وبدأت تحكي لها كل شيء وفي تلك اللحظة انكسر الحاجز تماماً، وعادت علاقتهما أقوى مما كانت عليه، علاقة مبنية على الحب الصادق والدعم غير المشروط.
❈-❈-❈
مرت الأيام وتحولت سرايا الرفاعي إلى خلية نحل هدفها الوحيد هو إعادة البسمة إلى وجه نغم. 
كان الجميع يحيطونها بالحب والرعاية التي حُرمت منها طويلاً
 ليل لا تفارقها، تعد لها أكلاتها المفضلة وسالم يجلس معها ويحكي لها نوادر من طفولتها رغم التحفظ الذي تبديه
ومالك يتعامل معها بحنان أخوي، يسألها عن احتياجاتها دون أن يضغط عليها.
لكنها لا تقبل ان تتناول طعامها معهم
مازالت ترفض الخروج من غرفتها ومواجهة جدها الذي حاول مراراً التحدث معها لكنها ترفض بشكل قاطع.
في أحد الأيام كانت نغم تجلس في الحديقة مع روح ووعد بعد أن اقنعاها بمعجزة
كانت وعد في قمة سعادتها وبطنها قد بدأت في البروز قليلاً.
قالت وعد وهي تضحك وتنظر إلى نغم وروح.
_ شايفين؟ بيقولوا اللي بطنها بتكبر بسرعة كده بتبقى حامل في ولد 
ضحكت روح وقالت
_ يا رب يطلع هادي زي سند عشان نعرف نسيطر عليه وميطلعش زي أمه.
نظرت إليها وعد بحنق
_يا سلام، على أساس إن سند بعرف اسيطر عليه.
وبعدين اتشطري إنتي كمان واعملي زيي، وهاتي لـمالك بنوتة حلوة إكده، عشان اجوزها للولد
تجمدت نغم للحظة، ونظرت إلى وعد ثم إلى روح بحيرة وارتباك.
_ مالك؟ بنوتة لـمالك؟ هو... هو إنتي ومالك اتچوزتوا؟
تبادلت روح ووعد النظرات، وأدركتا أنه في خضم كل الأحداث، لم يعرف أحد كيف يخبر نغم بهذا التطور السعيد في حياة روح.
اقتربت روح من نغم وأمسكت بيدها برفق.
_ أيوه يا نغم... أنا ومالك اتچوزنا.
اتسعت عينا نغم بصدمة ودهشة.
_ ميتى؟ وكيف؟ أنا... أنا مش فاهمة حاچة.
بدأت روح تحكي لها كل شيء بهدوء حكت لها كيف كان مالك يحبها منذ سنوات، وكيف انتظرها وكيف تقدم لجدها بعد وفاة عدي، وكيف انتظر حتى انتهت عدتها وطلبها للزواج.
_ هو كان بيحبني طول الوجت ده يا نغم... وأنا كنت عميا
كنت بدور على حاچة تانية خالص
بس الحمد لله، ربنا أراد إننا نكون لبعض في الآخر.
كانت نغم تستمع، وعقلها يحاول استيعاب تدفق الزمن الذي فاتها.
حسبت في رأسها... عدة روح... ثم خطبتها وزواجها... حمل وعد... كل هذه الأحداث السعيدة التي شكلت حياة جديدة لأخواتها، مرت وهي حبيسة في جحيمها الخاص.
سألت بصوت خافت كأنها تخشى الإجابة.
_ هو انا غبت جد ايه؟
نظرت إليها روح بحنان.
_ حوالي أربع شهور ونص يا حبيبتي.
سقطت الكلمات على نغم كالصخر. أربعة أشهر ونصف.
لقد مر كل هذا الوقت وهي هناك
كانت تظن أنها أيام أو أسابيع، لكنها لم تتخيل أبداً أنها قاربت على النصف عام أربعة أشهر ونصف من حياتها ضاعت في الكراهية، ثم الوهم، ثم الخيانة.
بدأ الحزن يعود ليلفها من جديد
شعرت بأنها كانت في غيبوبة واستيقظت لتجد العالم قد تغير من حولها، وأنها الوحيدة التي ظلت عالقة في نفس النقطة المؤلمة. 
ابتسامتها التي بدأت ترتسم على وجهها في الأيام الأخيرة تلاشت، وعاد إلى عينيها ذلك الظل الحزين، ظل امرأة أدركت للتو حجم ما خسرته من وقت ومن حياة.
❈-❈-❈
كانت صبر تستريح في حضن أكمل على الفراش رأسها على صدره، تستمع إلى دقات قلبه المنتظمة التي أصبحت لحنها المفضل. 
لم تكن نائمة بل كان عقلها يموج بالأسئلة بالشكوك، وبمخاوف المستقبل كانت تشعر بالأمان في حضنه، لكنها كانت تخشى ما هو خارج جدران هذه الغرفة.
شعر أكمل بأسئلتها الصامتة شعر بتوترها الخفيف رغم استسلامها بين ذراعيه
مرر يده على شعرها برفق وقال بصوت هادئ وعميق
_ اللي بيدور في راسك ده، اسأليه متخبيش حاجة.
رفعت رأسها ونظرت إليه بدهشة.
_ إنت... إنت إزاي بتحس بيا من غير ما أتكلم؟
ابتسم ابتسامة خفيفة.
_ عشان بقيتي حتة مني بقيت بحس بيكي زي ما بحس بنفسي يلا، اسألي.
أخذت نفساً عميقاً، وقررت أن تواجهه بكل مخاوفها.
_ ليلى...
نطقت اسمها بتردد ففهم هو على الفور
وقال دون مقدمات كي يطمئنها
_ ليلى موضوع وانتهى من زمان يا صبر. 
حتى قبل ما أعرفك علاقتنا كانت غلطة من الأول، كانت مجرد ترتيبات عائلية مفيهاش أي مشاعر حقيقية الموضوع اتقفل نهائي.
ارتاحت قليلاً، لكن السؤال الأهم كان لا يزال ينتظر.
_ وحياتك... حياتك في القاهرة؟ شغلك هناك لما ترجع... أنا... أنا هعمل إيه؟ إيه هيكون وضعى في حياتك هناك؟
تنهد أكمل تنهيدة طويلة، فهذا هو السؤال الأصعب. 
شدد من احتضانه لها، كأنه يريد أن يحميها من إجابته القادمة.
_ وأهلك... هل... هل ممكن يقبلوا بيا؟
هنا، قرر أن يكون صريحاً تماماً معها
لم يعد هناك مجال للكذب أو التجميل.
_ بصي يا صبر، أنا مش هكدب عليكي وأقولك إن اللي جاي سهل. 
لأ مش هيكون سهل أبداً. 
أهلي... وبالذات أمي... مستحيل يقبلوكي بسهولة هما ليهم حسابات تانية، وتفكير مختلف تماماً
هيشفوكي بنت فقيرة من بلد منسية، وهيشوفوا بكذا اتجاه معاكس
شعرت صبر بوخزة ألم من كلماته لكنها قدرت صراحته.
أكمل بنبرة جادة وحنونة في نفس الوقت
_ هيحاربوكي، وهيتكلموا كلام يوجع وهيعملوا كل اللي يقدروا عليه عشان يخلوني أسيبك بس أنا عايزك تعرفي حاجة مهمة قرارهم ده مش هيغير حاجة عندي أنا اخترتك، وإنتي مراتي وهتفضلي مراتي بس عشان نعدي المرحلة دي، لازم تبقي قوية لازم تتحملي معايا مهما حصل. 
متضعفيش قدامهم، ومتسمحيش لكلامهم يكسرك لو ضعفتي، هنخسر إحنا الاتنين.
نظرت إليه بعينين دامعتين، وقد تأثرت بصدقه وبثقته فيها.
_ يعني... إنت مش هتسيبني؟
ضحك بسخرية من سؤالها.
_ أسيبك؟ بعد ما لقيتك؟ أنا كنت ميت وإنتي اللي صحيتيني يا صبر أنا مستحيل أتخلى عنك هنواجههم مع بعض، وهنتعب شوية في الأول، بس في الآخر هيضطروا يوافقوا.
كانت كلماته هي كل ما احتاجت أن تسمعه. 
شعرت بأن جبلاً من القلق قد أزيح عن صدرها. 
لم تعد تخشى شيئاً ما دام هو بجانبها، يواجه معها.
مالت إليه وقبلته قبلة رقيقة على شفتيه لكنها خجلة، قبلة تحمل كل امتنانها وحبها.
_ أنا معاك وهتحمل أي حاجة عشانك.
نظر إليها بعينين تلمعان بالحب والرغبة وقد أثارتها هذه القوة الجديدة التي رآها فيها.
_ بتعرفي إيه أكتر حاجة بحبها فيكي دلوقتي؟
هزت رأسها بالنفي.
فهمس وهو يقترب منها أكثر.
_ قوتك دي، قوتك وإنتي ضعيفة في حضني كده.
لم يمنحها فرصة للرد جذبها إليه في قبلة جريئة وعميقة، من تلك القبلات التي اعتادتها منه، قبلة تمحو كل المخاوف، وتؤكد لها في كل مرة أنها في مكانها الصحيح وأنها ملكه وهو ملكها، وأن حبهما يستحق أن يحاربا من أجله.
مال بها يأخذها إلى عامله الذي لن يسمح بغيرها دخوله.
❈-❈-❈
في اليوم التالي
كانت صبر تستلقي على السرير، تسند رأسها على صدر أكمل العريض، وهو يمسك بكتابها الجامعي ويشرح لها بهدوء إحدى النقاط المعقدة. 
كان المشهد يبدو طبيعياً، لكنه لم يكن كذلك بالنسبة لـأكمل. 
كان يشرح بعقله لكن كل حواسه كانت معها مع رائحة شعرها، مع دفء جسدها بجانبه.
كان يشتاق إليها بجنون حتى وهي في حضنه.
كل بضع دقائق كان يترك الكتاب جانباً، ويحاول أن يأخذها إلى عالمه الخاص يميل ليقبلها أو يشدد من احتضانه لها
لكن في كل مرة، كانت تبتعد عنه برقة وتمنعه.
قالت بصوت جاد مصطنع
_ أكمل، أرجوك... ركز معايا عندي امتحان بكرة ولازم أفهم الجزء ده.
تنهد أكمل وحاول مرة أخرى.
_ والامتحان ده أهم مني؟
قالت وهي تبتسم بخفة
_ لأ طبعاً...... بس لو سجطت، شكلي هيبقى وحش جوي جدامك.
همس وهو يحاول تقبيل عنقها.
_ شكلك حلو في كل حالاتك.
أبعدته مرة أخرى وهي تضحك.
_ بطل بجى! خلينا نخلص.
استمرت هذه المحاولات لبعض الوقت، هو يحاول إغواءها وهي تقاوم بدلال 
لكن صبر أكمل بدأ ينفد.
في النهاية، لم يعد قادراً على التحمل أغلق الكتاب ورماه بعيداً على الأرضية، ثم جذبها إليه بقوة، متجاهلاً احتجاجاتها الضاحكة.
_ كفاية مذاكرة لحد كده.
_ لأ يا أكمل الامتحان صعب
صرخت وهي تضحك وتحاول الإفلات من قبضته.
لكنه لم يستمع، وأخذها إلى عالمه رغماً عنها.
............
في وقت لاحق من الليل، قُبيل الفجر، استيقظ أكمل مد يده إلى جانبه كعادته، لكنه لم يجدها
فتح عينيه على الفور السرير كان فارغاً.
_ صبر؟
نادى عليها بهدوء لكن لم يأتي رد
شعر بقلق فوري. 
نهض من السرير وارتدى بنطاله وقميصه بسرعة، وخرج من الغرفة يبحث عنها.
نزل إلى الطابق السفلي، وقلبه يخفق بقلق.
وفجأة سمع صوت الباب الأمامي يُفتح بهدوء. 
وقف في الظلام ورآها تدخل من الباب، تتلفت حولها بحذر. 
ما إن رأته واقفاً أمامها كالشبح، حتى تجمدت في مكانها، وظهرت على وجهها صدمة حقيقية.
رددت اسمه بصوت مذهول، وكأنها ضُبطت متلبسة.
_أكمل 
اقترب منها ببطء وعيناه تضيقان بحيرة وشك.
_ كنتي فين؟
ارتبكت بوضوح وتلجلجت للحظة لكنها حاولت أن تبدو طبيعية.
_ أنا... أنا كنت... كنت ناسية كتابي في الچنينة من امبارح. 
افتكرته دلوجت، فجلت أنزل أچيبه جبل ما الفجر يأذن لازم أراجعه جبل ما أروح الچامعة السواج زمانه جاي.
نظر إليها طويلاً يدرس ملامحها، يحاول أن يرى أي أثر للكذب
كانت تبدو مرتبكة لكن قصتها كانت منطقية. 
قرر أن يصدقها أو على الأقل أن يتظاهر بذلك في الوقت الحالي.
تنهد وقال بنبرة تحمل تحذيراً واضحاً
_ تاني مرة متخرجيش من البيت في وقت زي ده لوحدك
لو كنتي عايزة حاجة، كنتي صحيتيني مفهوم؟
أومأت برأسها بسرعة.
_ مفهوم أنا آسفة.
تقدم نحوها، ووضع ذراعه حول خصرها، وأخذها معه عائداً إلى السلم
_ يلا نطلع مفيش داعي تراجعي دلوقتي، شكلك مرهق نامي ساعتين كمان قبل ما السواق يوصل.
صعدا معاً إلى غرفتهما وهو يحتضنها بقوة، لكن عقله كان لا يزال يعمل هل كانت تقول الحقيقة؟ أم أن هناك سراً تخفيه عنه في جوف الليل؟

•تابع الفصل التالي "رواية ثنايا الروح" الريح والغيامة" اضغط على اسم الرواية 

الروايات كاملة عبر التلجرام

ملحوظة

يرجى التنبية: حقوق الملكية محفوظة لدى المؤلفون ولم تسمح مدونة دليل الروايات pdf نسب الأعمال الروائية لها أو لشخص غير للكاتب الأصلي للرواية، وإذا نشرت رواية مخالفة لحقوق الملكية يرجى أبلغنا عبر صفحة الفيسبوك
google-playkhamsatmostaqltradent