رواية بنت البئر الفصل الثاني 2 - بقلم حور طه
«البارت 2من روايه بـــنت البئـــر»
«الكــاتبــه حــور طــه»
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
«في منتصف الليل \عند الغجر»
الأنوار الخافتة بتتلألأ حوالين الخيام
والمزيكا شغالة من الدفوف والمزامير
والدخان طالع من الشيشة متداخل مع
ريحة البخور اللي ماليه المكان.
جابر كان قاعد جوه خيمة كبيرة
مرسومة بقماش ملون
مفرود ف نصها سجاد غجري تقيل
وكانت رئيسه الغازية بترقص قدامه
وسطها بيتمايل بشطاره
جابر قاعد، بيشيش، وصوته ساكت
بس دماغه... في عالم تاني.
رئيسه خلصت الرقصة
وفكت حزامها الحرير ببطء
قعدت جنبه، رمت الحزام على الأرض
وقالت بصوت فيه دلال غجري:
ــ اتوحشتك يا سي جابر...
بجى لك كتير ما بتعديش علينا.
جابر نفخ دخان الشيشة، عينه ناعسة من السكر:
ــ وأنا قمان اتوحشتك، يا رئيسه.
رئيسه ضحكت، وضحكتها فيها أنوثة سكرانة
قربت وحطت إيدها على كتفه، وعنيها بتلمع:
ــ بتحبني يا سي جابر؟
جابر ما جاوبش فورا، سحب نفس تاني
وقال بصوت شبه هامس:
ــ يا بت...
انتي الوحيدة اللي بتعرفي تعدلي دماغي.
وسطك الحرير ده... هو اللي بيرجعلي روحي.
رئيسه ضحكت، ضحكة الغوازي... فيها فتنة
ضحكة مافيهاش براءة، لكنها تسحر اللي يسمعها.
المزيكا عليت، والليل اسود من فوق
لكن في عتمة في عين جابر...
فيه حاجة تانية خالص.
كأنه بيهرب من عفريت بيجري وراه
وكل نفس بيشربه من الشيشة...
ما بيطفيش النار اللي في صدره.
رئيسه قربت منه أكتر، عنيها متسائلة
وصوتها ناعم كنسمة ليل:
ــ إيه اللي شاغل بالك يا نن عيني؟
جابر سحب نفس طويل من الشيشة
وصدره ارتفع وانخفض
وبنظره فيها شر مخفي، قال:
ــ موضوع...
لو خلص، هتنجل نجله كبيرة جوي يا رئيسه.
رئيسه رقت حواجبها بدهشة:
ــ موضوع إيه يا سي جابر؟
ولا هتعمل زي كل مرة تيجي
تسيبلي الكلام ناجص وتخليني ألف وراك؟
جابر قرص خدها بخفة، وهو بيضحك:
ــ ادعيلي انتي بس...
إنه يخلص زي ما برتبله.
وقف للحظة، وصوته واطي لكنه واثق:
ــ هنجولك معايا لفوج... جوي.
رئيسه ضحكت، ضحكة فيها دلع ولهفة:
ــ ماشي يا سيد الرجاله...
ندعيلك بس تفتكر هتستجاب مني؟
جابر انفجر من الضحك
ونفخ دخان الشيشة وقال بسخرية:
ــ أيوه يا بت...
تستجاب، هو ربنا مش بيستجيب لدعوة عباده؟
وانتي...غازيـة، مش شيطان!
رئيسه تضحك وترد بخفة دم:
ــ والغازيه مالها يا سي جابر؟
دي أصدق من الشيــ ـوخ... بس بترجص.
المزيكا تعلى، وجابر يرخي ضهره ويمد رجليه
لكنه في قلبه بيجهز لليلة سوده...
والضحك اللي مالي الخيمة
مش كفاية يسكت الصوت اللي جواه!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
«صباح اليوم التاني/ قدام دار جابر»
الشمس لسه طالعة، والدنيا هاديه إلا من همسات أهل النجع اللي اتجمعوا من غير ميعاد، حسوا إن في مصيبة.
جابر واقف قدام باب الدار، جنبه أمه جبريه
ووشها مرسوم عليه الشر
وقدامه واقف مختار، ماسك إيد أبوه الشيخ زكريا الكفيف، والهم تقيل فوق راسه.
جابر بصوت عالي، متعمد يخلي كل الدنيا تسمع:
ــ خيتك طفشت يا مختار!
وانت جاي تسألني وديتها وين؟!
مختار صوته اتخنق بالغضب، ودمه فار:
ــ الزم أدبك يا جابر!
خيتي كانت في دارك، في حماك!
جابر يمثل الحزن، وبص حواليه كأنه بيتألم:
ــ وطفشت...
طفشت مع عشيقها، الفــ ـاجرة!
الشيخ زكريا مد إيده ووقف مختار:
ــ عيب يا ولدي...
تجول علي مرتك الحديد ده، ما تجولش عليها اكده!
جبريه خرجت التليفون من جلابيتها
ورفعته في الهوا:
ــ العيبة طلعت من دارك يا شيخ زكريا
وهاي تليفونها!
مشيعة رسالة غرام لراجل غريب
كاتبة فيها...هستناك علي أول السكة الجبلية!
مختار بإيد مرتجفة خد التليفون، وقرا الرسالة بعينه
والدم في عروقه اتجمد، ولسانه اتربط.
فـ الوقت ده، كانت بدور واقفة ورا شباك أوضتها
محبوسه، عاجزة حتى تنطق بحرف
دموعها بتنزل، وصوتها مش لاقي منفذ يخرج منه
الشيخ زكريا حاول يرفع راسه
الدموع نزلت من عينه
وصوته مخنوق:
ــ لع...
بتي مش خــ ــاطية
ما تعملش العيبة دي واصل!
جابر صرخ:
ــ بتك طالج يا شيخ زكريا!
طالج بالتلاتة
بس أنا مش ههملها...
أنا هاعطر عليها
وهغسل عــ ـارها بإيدي!
جبريه بصوت أعلى، علشان تكمل المشهد:
ــ لع يا ولدي!
انت...أطلجتها، خلاص...
اللي يشيل عـ ــارها أبوها وخيه!
روح يا شيخ زكريا، دور على بتك
واغسل عــ ــارك بعيد عنا!
الشيخ زكريا اتكسـ ــر
وقف ساكت، عاجز، مغلوب على أمره.
جابر رجع يبص لمختار، باستفزاز:
ــ عامل فيها سبع الليل؟
روح ضب خيتك الفــ ــاجرة
ولو ما جتــ ـلتهاش انت...
أنا هاعرف ألاجيها وأطاويها
وأغسل شرفي اللي لوثته!
مختار رفع المسـ ــدس في وش جابر:
ــ لو نطجت حرف قمان عن خيتي...
أنا اللي هاجتـ ــلك، يا جابر!
وفجأة... صوت جامد من وراهم:
ــ نزل ســ ـلاحك يا واد
لسه ما جابتوش أمه اللي يرفع الســ ـلاح
في وش أخو صالح العرباوي وهو عايش!
صالح دخل، واقف قدام المســ ـدس
عينه نار، وصوته سكــ ـينة.
مختار بانفعال، نزل ســ ــلاحه:
ــ خيك بيتهم خيتي إنها طفشت
وهي مش اكده...
خيتي متربية زين! اسال خيك وده خيتي وين؟
جابر يتنفس بصوت عالي:
ــ لأ راجل يا واد...
انا هخلي الغفر يرموك انت والعجوز ده برا!
روح دور على الفـــ ـاجرة خيتك!
واجتـــ ـلها بدل ماتجتـ ــلني
صالح لف عليه، ونظراته كانت كأنها بتجلد:
ــ اسكت
ورجع يبص للشيخ زكريا:
ــ خد ولدك
ورجع دارك يا شيخ زكريا.
الشيخ زكريا بصوت مبحوح:
ــ حسبي الله ونعم الوكيل...
في كل ظالم!
لله الأمر... من قبل ومن بعد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
«داخل الدار»
جابر فتح دراعاته
وحضن صالح بحرارة تمثيل مفضوح:
ــ حمدالله على سلامتك يا خوي...نورت دارك.
جبريه وقفت، ومسحت بإيدها على طرحتها
والخبث ساكن في صوتها:
ــ كيف حالك يا ولدي؟
غيبتك طولت، خلعت جلبي عليك
صالح ابتسم ابتسامة خفيفة:
ــ زين يا خاله جبريه...
وين بدور؟ عايز أشوفها.
جبريه فركت إيديها ببطء
وقالت بابتسامة فيها دس السم في العسل:
ــ فوج يا ولدي...
هنديلك عليها، اجعد بس ريح ضهرك.
طلعت على السلم بخطا بطيئة
وجابر قال وهو بيحاول يبين إنه هادي:
ــ ما جلتليش إنك جاي يا خوي...
كنت استنيتك في مطار لقصر!
صالح قعد بهدوء
لكنه كان مركز مع كل حركة في وش جابر:
ــ إيه حكاية مراتك اللي طفشت!دي؟
النجع كله مقلوب، والناس بتتحاكى بيها.
جابر شد نفس عميق، وبانفعاله المعتاد:
ــ ماتجبليش سيرت الفــ ـاجرة دي يا خوي...
الله يحرجها، مرمطت شرفي في الطين!
صالح بص له بعيون مش مصدقة بسهولة:
ــ بس اللي أنا عارفه إن مراتك بنت الشيخ زكريا...
والشيخ معروف، وبنته متربية
إزاي تعمل العامله دي؟
جابر خرج التليفون، ومدهوله بإيد بتتهز كأنه مكسور:
ــ استغلت طيبتي...
وخانتني!
دي كانت بتتحدد مع راجل من البندر
ولها شهور بتراسل فيه
وفي الآخر... هربت معاه!
صالح خد التليفون، بص في الرسالة
ورجع يربت على كتف جابر:
ــ ولا يهمك يا خوي...
اللي يبيعك بيعة
متستهلكش.
جابر تلمع عينه، مش بالدمع... لا
بالفوز! لأن صالح صدقه:
ــ أنا خلاص طلجتها...
بس عملتها السوده دي كسـ ــرتني يا خوي
النجع كله مالهوش سيرة غير هروب هنادي
مرت جابر العرباوي!
صالح مسك نفسه بصعوبه:
ــ إهدى يا خوي...
أهل النجع! كله يومين ويلاقوا حكاية جديدة
وينسوا القديمة.
جابر هز راسه وقال وهو يحك في دقنه
كأنه بيفتكر وجع دفين:
ــ عارف يا خوي...
أنا كنت مفكر إن هنادي دي رزقي
ست تصون الدار، وتخاف ربها
بس طلعت تعبانه!
صالح بتركيز:
ــ تعبانة إزاي؟
جابر بص حواليه، وكأنه بيتأكد إن محدش سامع وقرب من صالح وهمس بصوت مخنوق بالحزن:
ــ أنا كنت بشتغل ،وجلبي مطمن إنها فـ الدار
بس كانت تطلع من ورا ضهري
وتحط منوم للغفر وتخرج تتصرمح على كيفها
وتضحك ف وشي... وهي بتطعنني ف ضهري!
صالح عينه بدأت تلمع بالغضب:
ــ تقصد إنها كانت بتخونك وبتقابل رجاله غريبه؟!
جابر ضرب على صدره:
ــ دي حتى كتبت لواحد من البندر رسالة فيها
اتوحشتك... هستناك في دارنا القديمه
يعني لا راعت جوزها ولا حتى ابوها الراجل العجوز
كنت ناوي أسترها
بس لما هربت...والله جلبي اتحرج!
جبريه دخلت وهي عاملة فيها الضحيه:
ــ وهي تستاهل الستر؟
دي عار يا ولدي
ربنا نجانا منها جبل ما تخلف وتورث عارها لعيالنا!
جابر بكمل التمثيلية، نزل راسه وقال بنبرة موجوعة:
ــ كنت ناوي أصبر عليها...
بس لما عرفت إنها حامل
خفت يكون العيل ده مش من صلبي!
هو أنا استاهل يا صالح؟
استاهل يتجال عليا راجل بيتهاون في عرضه؟
صالح وشه شد، والنار ولعت في عينه:
ــ لو الكلام ده صحيح...
فـ هي متستاهلش حتى الرحمة.
جابر تمتم وهو حاطط إيده على قلبه
وعينيه بتلمع بدهاء مغلف بالحزن الكذاب:
ــ علشان اكده... طلجتها.
وغسلت عاري
صالح وقف، جسمه مشدود، وعيونه متجمدة:
ــ اللي تبيعك يا خوي...
بيعها، وارميها ورا ضهرك.
لف وشه ناحيه جبريه
وقال بصوت ساكن:
ــ فين بدور يا خاله جبريه؟
جابر لمح جبريه بطرف عينه
وهي ردت عليه بنظره كلها اطمئنان مريب
ثم التفتت
جابر شدها من شعرها بقسوة، وجذبها ناحيته:
ــ اسمعي يابت!
لو طلع حرف واحد من خشمك... هجتلك
انتي أول، وبعدين خيك صالح!
عتفهمي يابت؟!
بدور تصرخ من الوجع
وتبص لـجبريه بدموع وعشم:
ــ أما انتي ساكته ليه؟!
ده ولدك! صالح ولدك يا جبريه!
جبريه تقرب منهم بخطوات باردة
وتشد بدور من إيدها وتبعدها عن جابر:
ــ صالح ولد ضرتي مش ولدي
لو صالح عرف أي حاجه عن اللي حصل
جابر هينهي عليك، وهينهي عليه.
لو خايفه عليه...
اجفلي خشمك وانسي كل اللي سمعتيه
بدور تبص لهم برعب، دموعها سايحة على خدها:
ــ إنتوا ازاي اكدا؟!
وحوش! جبتوا الشر ده كله من وين؟!
ربنا فوج... هينتقم! منكم
جبريه عينها اتغيرت
ورفعت إيدها وضربتها بالقلم:
ــ اخرسي يابت!
لو نطجتي بحرف وحده
هتاويكي مطرحك
فاهمه ولا أعيد؟!
بدور تحط إيدها على خدها
وتنزل دموعها وهي بتتهز من الخوف...
تسحب نفسها وتطلع تجري على السلم
وجابر يبص وراها، صوته متوحش:
ــ البت دي مش مضمونه يا ياما...
جبريه بعزم:
ــ وأنا عارفة هتصرف معها كيف.
جبريه اتلفتت ناحية باب الدار
نظرتها غامقة، وملامحها ساكنة
بس عقلها... شغال زي النار..
كانت بترسم كل خطوة بعين التعبان
تحسب لكل نفس، لكل حركة، لكل كلمة...
وهي عارفة إن جابر هو دمها ولحمها
أما صالح وبدور؟
دول أولاد جوزها اللي عمرها ما شافتهم من قلبها
وبينها وبين نفسها...
كانت بتحضر لمصيبة
مصيبة لو اتنفذت
هتولع النجع كله...
وهتخلي صالح وبدور... مجرد رماد تحت رجليها؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
داخل دار الشيخ زكريا...
مختار بيمشي في الدار زي السبع المحبوس
عيونه بتولع شرار،صوته بيزلزل الجدران:
ــ بتك يا بوي وطت راسنا... جابت لنا العار
حطت وشنا في الطين!
الشيخ زكريا، قاعد على الكنبة
ظهره محني وعصاه جنب رجليه
صوته هادي لكن قلبه بيصرخ:
ــ ما تصدقهمش يا ولدي...
خيتك مرباية، ما تعملش اللعيبه واصل.
مختار يمسك القله ويكسرها
على الأرض بصوت عالي:
ــ لساك بتدافع عنيها بعد اللي اتجال؟!
النجع كله ما بجاش له سيرة غير بت الشيخ زكريا اللي هربت مع عشيجها!
الشيخ زكريا عيونه بتدمع
رغم العمى اللي ساكنها، بيهز راسه
صوته بيترعش لكن ثابت:
ــ جلبي عمره ما خاب في ولادي...
هنادي مظلومة، وجابر ورا اللي حصل...
لازم تفتح عينك يا مختار. وتدور على خيتك
مختار يقرب منه، أنفاسه سريعة
بيقوله بأسى ممزوج بغضب:
ــ هدور عليها يا بوي... هدور
بس مش علشان أرجعها...لع!
علشان أجرها من شعرها وسط النجع كله
وأخلي سريخها يرن ف ودانك،يا بوي
جبل مرميها تحت رجليك
وأدبحها بإيديا زي الذبيحة...
علشان أغسل عاري!
الشيخ زكريا ينتفض، العكاز يقع من إيده
وهو بيمسك بإيده التانية في كتف ولده:
ــ لــع يا ولدي!
همل شيطانك، خيتك مظلومه
وأنا جلبي عيجول لي...
دي ما خانتكش، ما طعنتش شرفك.
مختار صوته يعلى من شدة الغضب:
ــ خلاص يا بوي...
أنا اللي هطهر شرفنا من عارها
حتى لو كانت خيتي!الوحيده
ما ههملهاش تحط رسنا في الطين
الشيخ زكريا يقع على ركبته
صوته يطلع مكسور لكن فيه رجاء بيقطع القلب:
ــ عتهون عليك خيتك يا مختار؟
عتهون عليك هنادي؟
هتهدر دم خيتك على عتبة دارنا
وإحنا لسه مش خبرين الحجيجة،وين؟!
مختار يلف وشه، أنفاسه تقيلة...
وللحظة، قلبه بيرتجف...
بس الغضب لسه ماسك سكينه:
ــ هلاجيها يا بوي...
وهطهر دارنا جدام النجع كله من عارها!
مختار بعد ما صرخ بكلامه...
رجع خطوة، وعيونه مليانة نار
مسك عمته من على المسند
ولفها على راسه وهو بيقول بصوت قاطع:
ــ أنا خارج يا بوي...
هدور عليها، ولو تحت الأرض... هطلعها
واللي عملته... مش هيفوت بالساهل.
فتح باب الدار بعنف
وصوت خشب الباب وهو بيخبط في الحيطة
ضرب في قلب الشيخ زكريا زي الطعنة.
مختار خرج، وخطواته بتغرس في الأرض
زي خطوات حد رايح لمعركة.
الشيخ زكريا كان لسه قاعد
لكن جسمه بيرتعش...
كأن روحه بتنزع منه قطعة قطعة.
مد إيده بتتهز، يحاول يجيب عصاه
لكن صوته هو اللي سبق دموعه:
ــ ضاعت هنادي...
وضاع مختار...
ضاعت البت والولد...
انت اللي عملت كل ده يا بدير يا عرباوي؟
حسبي الله ونعم الوكيل...!
عينه المطفية بكت...
بس قلبه هو اللي كان بينزف.
وبين أنين صدره...
وصوت الباب اللي لسه بيترج
اتكسر الشيخ زكريا على فقدان عياله الاتنين
وما بقالوش غير الدعاء،والحسرة...!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
«سراية صالح العرباوي / بلليل»
الجو هادي،والسرايا القديمة رغم عزلتها
فيها روح راجعة للحياة.
ضوء أصفر دافئ طالع من قنديل قديم على الحيطة
والصمت حوالين هنادي وصالح مش مرعب... لا
صمت فيه أمان.
هنادي قاعدة على الكنبة، لابسة جلابية قطن بيضا ناعمة! وطرحه علي شعرها، مش متزوق
بس جمالها طبيعي ومكسوف
وفي عيونها لسه أثر خوف الأيام اللي فاتت.
صالح بيقرب منها بهدوء
شايل صينية فيها كوبايتين شاي بنعناع
وبصوته الهادي، قال وهو بيقعد جنبها:
ــ قلت أعمل لنا شاي بالنعناع!
يمكن يدفي الكلام اللي مش قادر يطلع!
هنادي ابتسمت ابتسامة باهتة
خدت الكوباية بإيد مرتعشة
وشربت رشفة، وبعدها بصت له:
ــ متشكرة يا صالح... على كل حاجه.
صالح بص في عينيها بثبات
وقال بصوت فيه حنية وعشم:
ــ متشكره على ايه!
اي راجل عنده نخوه وشهامه كان هيعمل اللي انا عملته واكتر! وبعدين انا اللي لازم اشكرك انك نورتي سرايتي المتواضعه وبتمنى انك تكوني مرتاحه فيها
سكت لحظة، وبص للكوباية اللي في إيده
كأنه بيجمع كلامه جواها:
ــ من أول ما شوفتك...
حسيت إني ما ينفعش أسيبك.
هنادي حاولت ترد، بس صوتها ما طلعش
بس نظرتها قالت كتير...
قالت إنها حاسة بيه
ومرعوبة من مشاعرها في نفس الوقت.
صالح كمل بصوته الدافي:
ــ أنا مش طالب منك أي حاجه
بس عايزك تعرفي إنك أمانة ف رقبتي
وإنك مش لوحدك.
هنادي بصت في الأرض، صوتها واطي:
ــ أنا... متعودة أكون لوحدي.
صالح ابتسم، بس ابتسامته فيها وجع:
ــ وأنا متعود أكون وسط ناس كتير...
بس عمري ما حسيت إني مش لوحدي إلا لما قعدت معاك
هنادي وقفت قصاد الشباك المفتوح
والهوا بيحرك طرف طرحتها بلطف
صالح شاف في ملامحها هدوء، بس عنيها فيها دوشة،قرب شوية، وقف على بعد، ومد إيده بالشال:
ــ الجو بيبرد على الفجر... خدي ده، يدفيكي.
هنادي خدت الشال بهدوء
بصت له ثواني قبل ما تقول:
ــ مشكره ، بس هو انت ليه مهتم بيا للدرجه دي؟
صالح ابتسم، ابتسامة صغيرة لكنها طالعة من جواه:
ــ مش عارف! بس يمكن عيني هي اللي بتاخد بالها من احتياجاتك
سكتوا شوية
والهوا دخل من الشباك زي رسالة ما بينهم.
صالح كسر الصمت بصوت منخفض:
ــ من ساعة ما شوفتك وإنتي طالعة من البير
وانا حاسس إن ربنا بعتك لي علشان اعيش حاجه كنت ناسيها.
هنادي رفعت عينيها له، والشك باين
والدمع ساكن تحت الرموش:
ــ أنا؟
إحنا ما نعرفش بعض.
صالح بهدوء، من غير استعجال:
ــ أيوه... بس في حاجات مش محتاجه معرفه
في حاجات بتحسيها، مش بتشوفيها.
لف وشه ناحية الشباك، وكمل:
ــ عمري ما حسيت إن الهدوء له طعم... إلا دلوقتي.
فيكي حاجه ساكنة، بس مش ضعيفة...
فيكي وجع، بس مش مكسورة!
هنادي حست بكلامه بيوجعها ويداويها في نفس اللحظة،بصت للأرض، وبصوت واطي:
ــ أنا مش متعودة حد يسمعني الحديد ده
صالح رجع يبص لها، وهو واقف زي الجبل
ثابت بس فيه حنية:
ــ وأنا مش متعود أتكلم كده...
بس الكلام خرج لوحده، لما قعدت معاك
ابتسمت هنادي، أول ابتسامة حقيقية
فيها خجل ومفاجأة.
لفت الشال على كتفها، ووقفت:
ــ أنا هارجع أوضتي... شكلي طولت في السهر.
صالح بهدوء:
ــ ملك...ممكن أسألك سؤال؟
هنادي بصت له، بتردد، بس هزت راسها بـاسأل
صالح بصوت فيه دفء:
ــ انتي قلتيلي إنك وقعت ف البير...
بس ماقلتيليش إزاي؟
ولا إيه اللي وداكي هناك أصلا؟!
هنادي عضت شفايفها، عنيها بعدت عنه
وبصت على الأرض،فضلت ساكته لحظات
قبل ما تقول بصوت واطي:
ــ ساعات... الناس اللي مفروض يحبوك
هما أول ناس يرموك في الضلمة.
وساعات... الدنيا تظلم جوي لدرجة تحس إنك ماشي لحالك، حتى لو حواليك ألف واحد.
صالح ساب الكوبايه على الترابيزة
وركز معاها، من غير ما يقاطعها.
هنادي تكمل بصوت فيه غصة:
ــ أنا ماوقعتش... أنا اندفعت.
بس مش بإيدي؟
صالح بصدمه:
ــ يعني حد...
هنادي قاطعته بهزة راس
وعيونها بتلمع بدموع حابسة نفسها:
ــ متسألنيش أكتر من اكده يا صالح.
صالح سكت شوية، وبعدين قال بهدوء فيه حنان:
ــ مش هضغط عليكي...
بس لما تبقي جاهزة، أنا سامعك...
مش علشان أحقق معاك،علشان أعرفك وأفهمك،واساعدك
هنادي بصت له
وعيونها مليانة امتنان وارتباك في نفس الوقت.
صوتها طلع واطي، لكنه صادق:
ــ أنا...
أنا عمري ما لجيت حد يسمعني اكده
من غير ما يخوفني أو يحاسبني...
بس وجودك جنبي...بيهون!
سكتت لحظة
وبعدين كملت بنظرة فيها ضعف وراحة:
ــ يمكن لسه مش جاهزة أتحدد عن كل حاجة...
بس وجودك، بيخليني أحس إني مش لوحدي...
متشكره يا صالح... علشان أول مرة في حياتي..
أحس إني بأمان... وأنا بجول إني مش جاهزة!
صالح بص في عيونها وقال بهمس:
ــ اللي بيننا مش سباق يا ملك...
كل خطوة ليكي هفضل مستنيها، مهما كانت بطيئة...
الأمان الحقيقي مش في الكلام الكتير...
الأمان إنك تلاقي حد يسندك وإنتي ساكتة… ويفهمك من غير ما تحكي...
وأنا جنبك، لحد ما تكوني مش بس جاهزة...
لحد ما تكوني حره....
هنادي لمحت في عينيه أمان كانت مفتقداه!
نظرتها بين وجع عمره سنين،وبين راحة خجولة..
لسه بتتعلم تمشي جواها من جديد...
لفت تمشي بخطوات هادية..
وقبل ما تسيب المكان،همست بصوت شبه نفس:
ــ تصبح على خير... يا صالح!
كانت الجملة بسيطة...
لكن فيها عمر من الحزن...
وبداية لحب ممكن يطهر كل اللي فات!
وصالح، من مكانه، كان بيتابعها بعين فيها صبر وحنان، وعارف إنها مش بس طالعه اوضتها
دي طالعه تسكن حكايتها من تاني،وقال:
ــ كأنك وردة... ما ارتوتش من سنين...
كأن كل يوم في عمرك كان صبر...
وكل لحظة... كانت نجاة...
عنيكي جميلة، آه… بس مطفية..
وصوتك… هادي، بس جواه صرخة مكتومة...
وجمال ملامحك مش مداري حزنك…
كأنك بتضحكي علشان ما تبكيش...
وبتسكني علشان الهوجة ما تفضحش اللي جواكي..
بس انا هفضل جمبك يا ملاكي…
لحد ما عنيكي تضحك… من قلبك...
وتعيشي… مش بس تنجي!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
•تابع الفصل التالي "رواية بنت البئر " اضغط على اسم الرواية