رواية ثنايا الروح "الريح والغيامة" الفصل التاسع والعشرون 29 - بقلم رانيا الخولي

 رواية ثنايا الروح "الريح والغيامة" الفصل التاسع والعشرون 29 - بقلم رانيا الخولي 

ثنايا الروح 
الفصل التاسع والعشرين 
رانيا الخولي 
❈-❈-❈
باتت نغم ليلتها غارقة في دموع صامتة، دموع حارقة تنزل على خديها وتحفر مسارات من اللهب على بشرتها. 
لم تكن دموع ندم بقدر ما كانت دموع حيرة وألم وخزي، كانت تنظر إلى السقف المظلم وكل حاسة فيها متيقظة، تستمع إلى أنفاسه العميقة والمنتظمة بجانبها.
كيف فعلت ذلك؟ كيف استسلمت له بهذه السهولة؟ 
وكيف...
وهذا هو السؤال الأكثر رعباً، كيف استطاع هو أن يوقظ بداخلها كل هذه المشاعر التي حاربتها طويلاً؟ تلك المشاعر التي دفنتها بعمق منذ أن رأته أول مرة، منذ ذلك اليوم الذي سقطت فيها بين ذراعيه وهي تهرب من السائق والآمان الذي لفها به حينها. 
لقد شعرت في حضنه الليلة بشيء يشبه الانتماء بذلك العشق الذي رأته واضحاً بعينيه، وهذا ما كان يخيفها أكثر من أي شيء آخر. 
لم يكن مجرد استسلام جسدي، بل كان استسلاماً روحياً لم تكن مستعدة له أبداً.
بينما كان جاسر ينام بجانبها نوماً عميقاً، نوم رجل ألقى بكل همومه واستراح أخيراً، كانت هي في قلب العاصفة. 
كانت تعاتب نفسها بجنون، تصرخ في صمت داخل رأسها
"غبية! غبية! سلمتي حالك له بسهولة... بكلمتين منه نسيتي كل حاچة... نسيتي التار والدم والكره... نسيتي عدي... بجيتي ضعيفة جدامه للدرچة دي؟ كيف هتجابليه بكرة؟ كيف هتبصي في وشه بعد ما شافك بالضعف ده، بعد ما امتلكك بالكامل؟"
كانت الأسئلة تدور في رأسها كدوامة لا تتوقف. 
هل ستكون مجرد امرأة في فراشه، يلجأ إليها عندما يضيق به العالم ثم يعود في الصباح إلى قسوته وجبروته؟ أم أن هذه الليلة كانت بداية لشيء مختلف؟
الخوف الأكبر كان من قلبها، قلبها الذي خانها، الذي وجد الأمان في حضن عدوها، لقد أصبح هو نقطة ضعفها الوحيدة، وهو بالتأكيد يعرف ذلك الآن.
تسللت بنظرها إليه في الظلام كانت ملامحه هادئة، خالية من القسوة والصرامة التي تغلفها نهاراً، بدا وكأنه شخص آخر، شخص يمكن الوثوق به شخص يمكن حبه وهذا ما كان يرعبها.
تنهدت بيأس وأدارت ظهرها له محاولة أن تخلق مسافة وهمية بينهما، لكن قربه كان طاغياً، ورائحة عطره الممزوجة برائحته هو كانت تملأ الهواء، تملأ رئتيها وتذكرها بكل تفاصيل الليلة الماضية.
وفي وسط هذا الصراع وفي سكون الليل انتبهت فجأة إلى ضوء خافت انبعث من هاتفه الموضوع على المنضدة بجانب السرير. 
كان ضوء إشعار وصول رسالة جديدة.
في العادة لم تكن لتهتم، لكن في هذه اللحظة، وفي ظل كل هذه الأسئلة والحيرة، شعرت بأن هذه الرسالة قد تحمل إجابة ما. 
ربما تكون مفتاحاً لفهم عالمه الغامض، أو ربما تكون... الخنجر الذي سيقتلها نهائياً.
ترددت للحظات هل من حقها؟ هل تتجرأ؟ لكن الفضول الممزوج بالخوف والشك كان أقوى من أي تردد. 
بحركة بطيئة وحذرة كأنها تسرق سراً مقدساً مدت يدها المرتجفة في الظلام والتقطت الهاتف وقلبها يدق بعنف كأنه سيقفز من صدرها.
فتحت الرسالة، وتجمدت الدماء في عروقها.
كانت من شروق.
والكلمات كانت واضحة كالشمس، حادة كالزجاج المكسور:
"عامل إيه يا حبيبي لسة مش مصدقة إننا اتجوزنا أخيراً"
"بحبك."
للحظة توقف كل شيء، توقف قلبها عن النبض، توقف عقلها عن التفكير، توقف العالم عن الدوران. 
قرأت الرسالة مرة ومرتين وثلاث كل مرة كانت كصفعة أقوى من التي قبلها.
"حبيبي... اتجوزنا... بحبك."
شعرت بغصة حارقة في حلقها، وببرودة جليدية تزحف في جسدها كله. 
 كلمة كانت خنجرًا يغوص أعمق في قلبها لم تكن مجرد صدمة بل كانت عملية سلخ بطيئة لروحها،
شعرت وكأن الهواء قد سُحب من رئتيها وأن العالم كله قد توقف عن الدوران.
نظرت إلى وجهه النائم بجانبها وجه الرجل الذي استسلمت له قبل ساعات، وجه الرجل الذي رأت فيه ضعفًا وحبًا ورجاءً، ورأت الآن وحشًا مخادعًا محتالًا بارعًا.
إذن كل شيء كان كذبة أخرى كذبة متقنة ومحسوبة. 
حنانه، رجاؤه، اعترافه بالحب، دموعه... كلها كانت مجرد تمثيلية طريقة جديدة ليكسرها، ليهينها بأبشع طريقة ممكنة 
لقد أخذ منها أغلى ما تملك، وهو في نفس الوقت زوج لامرأة أخرى
لقد جعل منها عشيقة في فراش زوجيته دون أن تدري
الإهانة كانت أعمق من الخيانة، كانت تدنيسًا لكل لحظة صدق شعرت بها معه.
بعد لحظات من الشلل التام، تحركت كإنسان آلي لم تعد تشعر بشيء سوى برودة جليدية تنتشر في جسدها. 
قامت من الفراش بهدوء، بهدوء الموتى. 
ارتدت ملابسها بصورة آلية دون أن تصدر صوتًا، يداها تتحركان من تلقاء نفسيهما بينما عقلها وروحها في مكان آخر مكان مظلم وبارد.
خرجت من الغرفة ومن الجناح، ومن البيت كله، كأنها تهرب من حريق،
لم تكن تهرب منه فقط، بل كانت تهرب من نفسها من سذاجتها، من قلبها الذي خانها وعاد ينبض له من جديد.
أرادت أن تنتزع ذلك القلب وتلقيه في غيابة الچب لأنه عشق من لا أهل لذلك.
كانت تركض في شوارع الفجر الخالية، والهواء البارد يلفح وجهها لكنه لا يطفئ النار المشتعلة في صدرها.
كانت ترغب في الخروج من الدنيا كلها، لكن كيف؟ إلى أين تذهب؟ فكرة العودة لأهلها كانت مؤلمة، كيف ستواجههم؟ بأي وجه؟ لكن في نفس الوقت، لم يعد لها غيرهم. 
أرادت أن تصرخ
أن تسمح لنفسها بالانهيار 
لكن حتى تلك تعد رفاهية لا تملكها.
سقطت على ركبتيها تبكي بقهر
تبكي بكل الألم الذي تحمله بداخلها.
تبكي عدي الذي خانت تضحيته
تبكي أبيها الذي رحل وتركها لقسوة الزمان
تبكي لسند لم يعد موجود
فليس لها سند في تلك الحياة.
بكت حتى نفذت قوتها وهي وحيدة في ذلكالمكان المنعزل عن قريتهم.
لم يرهبها عويل الذئاب 
فبعد خروجها من عرين الأسد وزئيره لم تعد تخشى شيء.
في لحظة يأس مطلق، أخرجت هاتفها بيدين ترتجفان بعنف وبحثت عن الرقم الوحيد الذي شعرت أنه قد يكون طوق النجاة، الرقم الذي يمثل العقل والحكمة والأمان.
انتظرت بقلق، وكل رنة كانت كقرع مطرقة على رأسها، حتى جاءها الرد بصوت مالك النعس والقلق.
_نغم......؟ 
لم تستطع أن تقول أكثر من كلمة واحدة، كلمة خرجت من حنجرتها بصوت مبحوح ومختنق بالدموع، صوت امرأة تحطمت تمامًا.
_مالك... محتچالك.
أغلقت الخط فوراً كلمة واحدة كانت كافية. 
شعر مالك بالخطر في نبرتها، فنهض من سريره مفزوعاً.
شعرت روح بحركته وسألته بقلق وهي تستيقظ
_ مالك؟ فيه إيه؟ رايح فين في وجت زي ده؟
قال وهو يرتدي ملابسه بسرعة.
_ نغم خرچت من بيت التهامية لازم أروح أچيبها.
نهضت روح هي الأخرى.
_ أنا جاية معاك.
قال بحزم وهو يقبل جبينها. 
_لأ خليكي إنتي الموضوع ده مش عايز مشاكل تزيد هرجعها وأطمنك.
ركب مالك سيارته وانطلق بها كالصاروخ نحو بيت الجبل، المكان الذي اتفقا عليه في مكالمتهما القصيرة وجدها هناك بعيداً عن البيت، تجلس تحت شجرة ضخمة، ضامة ركبتيها إلى صدرها ودافنة وجهها فيهما، ترتجف من البرد والخوف.
أوقف السيارة وركض نحوها بلهفة.
_ نغم!
رفعت رأسها إليه، وكان وجهها مدمراً عيناها متورمتان وحمراوان، ووجهها شاحب كالأموات. 
ما إن رأته حتى انفجرت في بكاء عنيف ومرير.
جلس مالك بجانبها على الأرض واحتضنها بقوة، يتركها تفرغ كل ألمها وانهيارها على كتفه.
_ أنا هنا... أنا معاكي اهدي.
لم تستطع التحدث فقط تمسكت به كالغريقة وكل شهقة منها كانت تحكي قصة خيانة وألم أعمق من أن تصفه الكلمات.
❈-❈-❈
وصل مالك بالسيارة إلى منزلهم، وكانت روح تنتظرهم عند الباب، قلبها يخفق بقلق ما إن فتح مالك باب السيارة، حتى ساعد نغم على النزول، كانت تتحرك كجسد بلا روح. 
أسرعت روح نحوهما وأخذت نغم من يد مالك وضمتها إلى حضنها.
_ حمد لله على سلامتك يا نغم.
لم ترد نغم فقط استندت على روح التي قادتها بسرعة إلى الداخل، صعوداً إلى غرفتها القديمة بعيداً عن أي عيون قد تراها في هذه الحالة. 
مالك نظر في أثرهما بألم، ثم أغلق باب السرايا مقرراً أن يترك لـروح مهمة فهم ما حدث.
❈-❈-❈
لم يذق أكمل طعم النوم طوال الليل ظل مستيقظاً، يراقبها وهي تنام بعمق على صدره، وذراعها يحيط بخصره بشكل تلقائي. 
كانت تبدو هادئة بريئة، كالملاك أنفاسها المنتظمة كانت الموسيقى الوحيدة في سكون الغرفة.
كان ينظر إليها ويتساءل في حيرة، كيف يمكن لمخلوق بهذه الرقة والنقاء أن تكون ابنة لرجل مثل "حسان"؟ 
كان الفارق بينهما كالفرق بين السماء والأرض. 
هي كانت قطعة من النور، وهو كان كتلة من الظلام والجشع.
غرق في أفكاره، في دوامة المستقبل المجهول. 
ماذا سيفعل الآن؟ لقد أخذ حقه نعم، لكن هذا الحق يترتب عليه مسؤوليات ضخمة. 
أهله... كيف سيخبرهم؟ 
هل سيقبلونها زوجة لابنهم وكيل النيابة؟ 
مستحيل... والدته التي تحلم له بزواج راقي، ووالده الذي يهمه المظاهر والمكانة الاجتماعية. 
ستكون كارثة.
هي الآن زوجته رسمياً، أمام الله وأمام نفسه.
لم يعد الأمر مجرد عقد على ورق لخرس ألسنة الناس لقد أصبحت امرأته بكل ما تحمله الكلمة من معنى 
ماذا سيفعل؟ 
هل سيظل يخفيها عن العالم؟ أم سيواجه الجميع من أجلها؟ 
ولأول مرة في حياته، شعر أكمل بأنه لا يملك إجابات.
وسط هذه الأفكار شعر بحركة خفيفة فتحت صبر عينيها ببطء، ثم أدركت مكانها كانت بين ذراعيه، رأسها يستريح على صدره العاري، ويده تلتف حول خصرها بملكية. 
شعرت بموجة حارقة من الخجل تجتاحها، وسحبت الغطاء لتغطي نفسها أكثر، متمنية أن تبتلعها الأرض.
صحيح أن هذا كان حلمًا كبيرًا، لكن الطريقة التي تحقق بها، تلك القوة الجارفة، جعلتها تشعر بالخوف. 
خافت أن ترفع عينيها وتجد في عينيه نظرة ندم، أو أسوأ.
نظرة من يرى أنها كانت مجرد نزوة عابرة.
ابتسم أكمل ابتسامة حقيقية ودافئة ابتسامة لم تكن تعرفها. 
لقد شعر بتوترها بتصلب جسدها، وفهم تمامًا ما يدور في رأسها أراد أن يطمئنها، أن يمحو هذا الخجل الذي يفصل بينهما.
_صباح الخير.
قالها بصوت عميق وهادئ.
ازدردت لعبها وقالت بصوت خافت بالكاد يُسمع، وهي تتجنب النظر في عينيه
_صباح النور.
لم يستطع مقاومة سحرها وهي في هذه الحالة من البراءة والخجل. 
وبنظرة واحدة منها نسي كل شيء.
وأفكاره التي لم ترحمه أصبحت لها وحدها الآن 
مد يده ورفع ذقنها برفق ليجبرها على النظر إليه.
_بصيلي يا صبر.
نظرت إليه فرأت في عينيه حنانًا ورغبة لا تحكمًا أو قسوة.
بدأ حديثه بجدية ثم تنهد كأنه يعترف بشيء لنفسه أولاً.
_اللي حصل امبارح...
أنا عارف إني كنت قاسي شوية. وعارف إنك كنتي خايفة.
اتسعت عيناها بدهشة لم تتوقع منه هذا الاعتراف.
تابع وهو يمرر إبهامه على خدها برقة
_دي مش طبيعتي أنا مش كده بس... دي كانت أول مرة أعيش فيها التجربة دي. 
أول مرة أحس بالشكل ده كل المشاعر اللي كنت حابسها جوايا انفجرت مرة واحدة، ومكنتش عارف أسيطر عليها أنا معملتش كده عشان أفرض سيطرتي عليكي، أنا عملت كده بدافع الحب حب كنت بنكره، وفجأة لقيته أكبر مني.
اخترقت كلماته الصادقة قلبها لقد فهم خوفها دون أن تنطق بكلمة، وطمأنها بأجمل طريقة ممكنة.
_أنا بحبك يا صبر.
قالها بوضوح دون تردد.
_والليلة دي مكنتش نزوة، كانت بداية حياتنا الحقيقية.
لم يعد قادرًا على التحمل جذبها إليه مرة أخرى وأخذها في حضنه بقوة، دافنًا وجهه في عنقها يستنشق عبيرها الذي أصبح إدمانه الجديد لكن هذه المرة كانت كل حركاته مختلفة كانت بطيئة حنونة، وكأنها اعتذار صامت عن قسوته السابقة.
همس بأنفاس متقطعة
_المرة دي... هتكون بحب وهدوء المرة دي عايزك تحسي بحبي، مش بقوتي.
لم تكن هناك حاجة للمزيد من الكلمات استسلمت صبر مرة أخرى لهذا الحضن الذي أصبح ملجأها، ولهذا الرجل الذي أصبح قدرها وهذه المرة، لم يكن هناك خوف بل كان هناك أمان مطلق كانت لمساته رقيقة وقبلاته دافئة، وكل حركة منه كانت تحمل وعدًا بحياة مليئة بالحب والحنان. 
لقد أخذها إلى عالمه مرة أخرى، لكن هذه المرة كان عالمًا من النور، عالمًا يروي عطشهما بحب حقيقي حب كانا كلاهما في أمس الحاجة إليه.
❈-❈-❈
في الغرفة أجلست روح نغم على السرير برفق وخلعت عنها حذاءها المبلل بالندى، ثم غطتها بغطاء دافئ كأنها طفلة صغيرة تائهة.
_هعملك حاجة دافية تشربيها تهدّي أعصابك.
ذهبت روح وعادت بعد دقائق بكوب من اليانسون الدافئ، بخاره يتصاعد حاملاً معه رائحة مهدئة،
جلست بجانب نغم التي كانت تحدق في الفراغ بعينين زجاجيتين، وقدمت لها الكوب.
_اشربي يا نغم... عشان خاطري.
أخذت نغم الكوب بيدين ترتجفان بعنف، وارتشفت منه رشفة صغيرة. 
لم يتحدثا لفترة فقط جلست روح بجانبها وجودها صامت ومريح، درع بشري يحميها من انهيارها الكامل. 
ثم وبدون مقدمات بدأت نغم في الكلام بصوت أجش وميت صوت لا روح فيه.
_كل حاچة عشتها في حياتي كانت كذب ووهم كبير، العيلة والترابط وإننا إيد واحدة وجلب واحد... كله ده ظهرت حجيجته لما اتاخدت غدر، 
اتخلوا عني وسبوني وسط الديابة من غير ما يفكروا أنا عايشة كيف وسطيهم.
توقفت للحظة، وابتسامة مريرة ومرعبة ارتسمت على شفتيها.
_كسرني وذلني وهزمني، شفت موت عدي جدامي ومحدش فكر يسأل هي عاملة إيه؟ متخيلتش إن في الحجيجة جلوبهم أقسى من التهامية. 
والآخر... الآخر عرفني الحجيجة المرة.
نظرت إلى روح بعينين فارغتين.
_وراني ورج... ورج بيثبت إن أهلي اللي بدأوا التار... وإن الأرض مش بتاعت حد فيهم أصلاً 
كل حاچة كنت مؤمنة بيها... طلعت كدب 
كسرني يا روح... كسرني لما عرفني الحجيجة.
بدأت دموعها في النزول مرة أخرى، دموع حارقة.
_وبعدها... ضحك عليا وفهمني إنه اتغير.
ضحكت بمرارة ضحكة أشبه بالنحيب.
_اعترفلي... قالي إنه بيحبني.
أخذت روح الكوب من يدها ووضعته جانباً ثم أخذت نغم في حضنها، وربتت على ظهرها.
_اهدي يا حبيبتي... اهدي خلاص انتي رچعتي لينا من تاتي.
استمرت نغم في الحديث وهي في حضنها، صوتها يختنق بالبكاء وكلماتها تخرج كشظايا زجاج مكسور.
_امبارح... معرفش إيه اللي حصل كان راجع من برة تعبان ومكسور... وجالي إنه محتاچني وأنا... أنا صدجته.
صدجت الحزن اللي في عينيه صدجت ضعفه... واستسلمتله.
وهنا انفجر السد لم تعد الكلمات مجرد سرد، بل أصبحت اعترافًا مؤلمًا بالحقيقة الأبشع.
_سلمتله كل حاچة... معرفش ازاي، بس بعد كل ده عرفت....
تابعت بانهيار يشق قلبها بلا رحمة
_عرفت أني حبيته يا روح  حبيته.
شددت روح من احتضانها، وقد فهمت الآن عمق المأساة الحقيقية لم تكن الخيانة فقط بل كان الحب الذي سبقها.
_بعد كل ده... بعد ما خليته ياخد روحي جبل جسمي... اكتشفت إنه لسه مكمل لعبته لجيت رسالة على تليفونه من بنت عمه شروق.
صمتت نغم للحظة، ثم انفجرت في بكاء عنيف ومرير، بكاء يقطع نياط القلب.
_بتجوله... بتجوله إنها مش مصدجة إنهم اتچوزوا
اتچوزها يا روح اتچوزها في نفس اليوم اللي جه فيه وجالي إنه بيحبني
خدعني، استغلني عشان يكسرني أكتر
ازداد نحيبها أكثر وهي تتابع بقهر
_ أنا رخيصة جوي اكده؟ رخيصة لدرچة إني حتى مشاعري مچرد لعبة في إيده؟
كانت تضرب بقبضتها على صدر روح بخفة، وهي تصرخ من أعماق روحها المجروحة.
_أنا بكرهه بكرهه بس بكره نفسي أكتر اني صدجته؟ وبكره نفسي اكتر اني سمحتله يلمسني؟ إزاي حبيته؟ 
خلاني خنت نفسي، ومبادئي، وجلبي... وهو ميستاهلش! ميستاهلش أي حاچة واصل.
ظلت روح تحتضنها بقوة، وتهمس بكلمات مهدئة وتتركها تفرغ كل هذا البركان من الألم والقهر
استمرت نغم في البكاء حتى استنفدت كل طاقتها، وخفت صوتها تدريجيًا حتى غطت في نوم مضطرب من فرط الإرهاق، نوم لا يحمل راحة، بل مجرد هروب مؤقت من جحيم لا يطاق.
بعد أن تأكدت روح من أن نغم قد غرقت في نوم عميق، نوم الهارب من جحيم غطتها جيداً وقبلت جبينها قبلة طويلة تحمل كل ما في قلبها من حب وأسف. 
ثم خرجت من الغرفة بهدوء، وأغلقت الباب خلفها كأنها تحمي سراً ثميناً.
توجهت إلى غرفة والدتها حيث كانت ليل تجلس في الظلام، شاردة كعادتها منذ أن اختُطفت ابنتها. 
لم تكن نائمة بل كانت في حالة من اليقظة المؤلمة، تستمع إلى كل صوت على أمل واهٍ أن يكون صوت عودة نغم.
وقفت روح أمامها، وقالت بهدوء ودون مقدمات، كأنها تلقي طوق نجاة في بحر من اليأس.
_نغم رچعت يا أمي.
انتفضت ليل من مكانها، وكأن صعقة كهربائية سرت في جسدها.
 اهتزت واتسعت عيناها بلهفة لا تصدق وسألت بصوتٍ مرتعش ومبحوح، صوت امرأة لم تشعر بالراحة منذ شهور.
_بتي! هي فين؟ رچعت فين؟أوقفتها روح برفق، ووضعت يديها على كتفي أمها المرتجفين.
_هي في أوضتها يا أمي، بس نايمة من التعب بلاش نصحيها دلوجت خليها ترتاح.
هزت ليل رأسها بنفي ولهفة، ودموع الأمل والخوف تتجمع في عينيها.
_لا... لا مش هجلجها بس أشوفها... عايزة أشوفها بعيني عشان أصدج.
تركتها روح وخرجت ليل من غرفتها لا تركض، بل تكاد تطير كل خطوة كانت تقطعها كانت تمحو يوماً من أيام العذاب. 
فتحت باب الغرفة ببطء شديد، كأنها تخشى أن يكون كل هذا مجرد حلم ستستيقظ منه.
ورأتها.
رأت ابنتها نائمة على فراشها، لكنها لم تكن نائمة بسلام. 
كانت هناك آثار للدموع الجافة على خديها الشاحبين، ويداها مقبوضتان بجانبها حتى في نومها كأنها لا تزال في معركة. 
لم تعد ابنتها المدللة ذات الوجه الممتلئ، بل أصبحت ظلاً شاحباً لِمَا كانت عليه.
في تلك اللحظة، شعرت ليل بخنجر بارد وحاد يخترق قلبها ويمزقه ببطء. 
هذا ما فعلته هي هذا ما سمحت بحدوثه.
تسللت إلى الداخل وأغلقت الباب خلفها دون صوت جلست على حافة السرير بجانبها، وبدأت دموعها هي الأخرى في النزول بصمت. 
لم تكن دموع فرح بعودتها، بل كانت دموع قهر وذنب وحسرة.
مدت يدها المرتعشة، وترددت قبل أن تلمسها كأنها تخشى أن تكون غير جديرة حتى بلمسها. 
ثم مسحت على شعر ابنتها بحنان لا يوصف، حنان أم جائعة لرؤية طفلتها.
همست بصوت مختنق بالبكاء، صوت يخرج من أعماق روح معذبة.
_أنا آسفة... آسفة يا نور عيني. 
أنا اللي وصلتِك لكده.
ازداد نحيبها الصامت، وانحنت حتى كاد جبينها يلامس جبين نغم.
_أنا اللي سيبتك ليهم اتخليت عنك زي ما هما اتخلوا، كنت چبانة... عملت زيهم وخفت من الفضيحة ومن كلام الناس. 
خفت على اسم أبوكي وإختك ونسيتك إنتي... نسيت أحمي حتة من جلبي، سامحيني يا بنيتي... سامحيني يا جلب أمك.
انحنت وقبلت جبين نغم النائمة، قبلة مبللة بالدموع، ثم لم تعد تحتمل استلقت بجانبها فوق الغطاء، واحتضنتها برفق وضمتها إلى صدرها بقوة كأنها تحاول أن تعوضها بحضن واحد عن كل أيام الألم والوحدة التي تركتها فيها. 
أغمضت عينيها وهي تستنشق رائحة شعر ابنتها، الرائحة التي اشتاقت إليها حد الموت ولأول مرة منذ أن أخذها جاسر، شعرت ليل بأن روحها قد بدأت تعود إليها، لكنها كانت عودة ممزوجة بألم الذنب الذي سيبقى معها إلى الأبد.
❈-❈-❈
فتح جاسر عينيه على ضوء شمس العصر الذهبي الذي يتسلل من بين ستائر الغرفة. 
شعر بثقل في جفونه، وبراحة في جسده لم يشعر بها منذ زمن طويل. 
لقد نام نوماً عميقاً وغير طبيعي، نوم رجل ألقى بكل أحماله على الشاطئ واستسلم للراحة. 
بعد الليلة التي قضاها مع نغم شعر قلبه بنوع من السلام، وسمح لنفسه أخيراً أن يعوض ليالٍ طويلة من الأرق والقلق.
مد يده إلى الجانب الآخر من السرير، بحركة غريزية واثقة، يتوقع أن يلمس جسدها الدافئ، أن يشعر بنعومة بشرتها تحت أصابعه لكنه لم يجد سوى الفراغ وبرودة الملاءات التي لم يمسسها جسد منذ ساعات.
فتح عينيه ببطء وابتسامة خفيفة ترتسم على شفتيه وهو يتذكر تفاصيل الليلة الماضية استغرب غيابها لكنه لم يقلق في البداية ربما استيقظت قبله وذهبت إلى الحمام
جلس على حافة السرير
وذكريات تلك الليلة مرتسمة بمخيلته..
ترددها.. خجلها.. المشاعر التي كانت تحاول اخفاءها بكل الطرق.....
لقد تأكد حسه وهو أن نغم هي أيضًا بدورها سقطت في براثين ذلك العشق
اليوم سيخبرها بحبه وأنه يريد أن يظل معها ويعودها على كل أفعاله الرعناء فيما مضى 
سوف يتغلبا على كل الصعوبات ويبدأ معها صفحة جديدة بعيدة كل البعد عن ذلك الماضي الأليم
لكن قبل اي شيء عليه أن يخبرها بحقيقة زواجه
وسيقسم لها بأنه لن يلمس غيرها.
شعر بقبضة خفيفة من القلق تبدأ في التكون في معدته، قلق لم يكن معتادًا عليه.
_نغم؟
نادى عليها بصوت أجش من أثر النوم، لكن لم يأتي أي رد. 
صمت الغرفة كان ثقيلاً ومزعجاً صمت لم يعد طبيعياً بعد الآن.
_نغم!
رفع صوته قليلاً وهذه المرة كانت نبرته تحمل حدة غير مقصودة
لكن الصمت كان هو الجواب الوحيد، صمت يصم الآذان.
"يمكن في الحمام"، قال لنفسه بصوت مسموع محاولاً طمأنة قلقه المتزايد الذي بدأ يتحول إلى وحش صغير ينهش أحشاءه.
نهض واتجه نحو باب الحمام طرق برفق.
_نغم؟ إنتي جوه؟
لا رد.
خبط مرة أخرى بقوة أكبر قبضته ترتطم بالخشب.
_نغم، ردي عليا!
عندما لم يأتي أي صوت أدار المقبض بعنف وفتح الباب
لم يجدها، الحمام كان فارغاً ومرتباً منذ ان استخدماه ليلاً 
هنا تحول القلق إلى خوف حقيقي خوف بارد تسلل إلى عروقه خرج من غرفته مسرعاً، ونزل إلى الطابق السفلي وهو ينادي باسمها صوته يدوي في أرجاء القصر الفارغ وجد والدته مع الخادمه في المطبخ يعدان القهوة.
_أمي! فين نغم؟
نظرت إليه والدته باستغراب وقالت بهدوء
_نغم؟ معرفش يا ابني مچتش اهنه خالص افتكرتها نايمة معاك فوج هي مخرجتش من أوضتها من امبارح.
كانت كلمات والدته هي المسمار الأخير في نعش طمأنيته تحول الخوف إلى رعب بارد اجتاح جسده
كيف لم تخرج من غرفتها؟ لقد كانت معه كانت بين ذراعيه لم يرد على والدته، بل انطلق يجري في أرجاء الجناح كالمجنون فتح كل الأبواب بعنف غرفة تلو الأخرى، يزيح الستائر يبحث عنها في كل زاوية وهو يصرخ باسمها صرخة أصبحت يائسة مع كل باب فارغ يفتحه. 
خرج إلى الحديقة ودار حولها كلها وعيناه تبحثان بيأس عن أي أثر لها، عن بصمة قدم في الطين عن أي شيء يدل على أنها كانت هنا لم يكن يريد أن يصدق كان عقله يرفض فكرة أنها هربت مستحيل
ليس بعد الليلة الماضية ليس بعد أن رأى الاستسلام في عينيها وشعر بأنها أصبحت ملكه أخيراً ليس بعد أن استسلم هو لها
لكن مع مرور الدقائق ومع كل غرفة فارغة وكل زاوية خالية، بدأت الحقيقة المرة تفرض نفسها عليه كحكم إعدام. 
توقف في وسط الصالة، يلهث وشعور بالخواء المطلق يملأ صدره. لقد استسلم للحقيقة لم تهرب بل هو من دفعها للهروب لقد وثقت به، وهو خانها لقد استسلمت له وهو خدعها.
نظر إلى يديه، اليدين اللتين لمستاها ثم قبض عليهما بقوة حتى ابيضت مفاصله. 
لم يكن غاضباً منها بل كان غاضباً من نفسه من غبائه، من قدره الذي يسلبه كل شيء جميل في حياته
لم يكن مجرد رحيل بل كان بترًا لجزء من روحه
لقد وجد خلاصه فيها، والآن ضاع الخلاص وعاد الجحيم أقوى وأشد من أي وقت مضى لقد تركته
هربت
شعر بغضب عارم يغلي في دمه، غضب ممزوج بألم حاد لكنه لم يسمح لنفسه بالانهيار. 
لم يكن هذا وقت الضعف لم يتردد للحظة واحدة صعد مسرعًا ليبدل ملابسه وأخذ مفاتيح سيارته، وقبل أن يخرج توقف أمام حراس البوابة الرئيسية.
_شفتوا الهانم خرجت؟
سألهم بصوت جليدي صوت لا يحتمل الكذب
ارتبك الحارسان ونظرا لبعضهما البعض.
_لا يا بيه... مشفناهاش.
ضيق جاسر عينيه، وشعر بأن هناك شيئًا خاطئًا.
_إزاي مشفتوهاش؟ كنتوا فين؟ تلعثم أحدهما
_والله يا بيه... غفلنا شوية... معرفش إيه اللي حوصل، صحينا لقينا الصبح طلع
في لحظة كان جاسر قد أمسك بتلابيب الرجل وهزه بعنف وعيناه تقدحان شررًا.
_غفلت؟ غفلت وهي بتوهرب من بيتي؟
صرخ فيه، ثم ألقاه على الأرض بقوة. 
لم يكن هناك وقت للعقاب الآن انطلق بسيارته كالريح، وجهته واضحة ومحددة: سرايا عائلة "الرفاعي".
هي زوجته هي امرأته هي ملكه ومستحيل، مستحيل أن يتخلى عنها أو يتركها تذهب بهذه السهولة.
سيذهب إلى هناك، وسيستعيدها مهما كان الثمن حتى لو اضطر إلى حرق السرايا بمن فيها لقد أخذوا منه كل شيء، لكنهم لن يأخذوا منه نغم ليس هذه المرة.
❈-❈-❈
انتشر خبر عودة نغم في سرايا الرفاعي كانتشار النار في الهشيم
كان الجميع من كبيرهم إلى صغيرهم، يشعرون بمزيج معقد من الفرحة والقلق. 
فرحة بعودة ابنتهم إلى حضنهم، وقلق عميق بسبب الحالة المزرية التي عادت بها. 
كانت الأسئلة تدور في عيونهم لكن لا أحد تجرأ على سؤالها مباشرة
كانت نغم تجلس في غرفتها، محاطة بوالدتها وروح وزوجه عمها، وجسدها يرتجف مع كل ذكرى وعيناها زائغتا مما منع أي شخص من الاقتراب بسؤال قد يفجرها.
وفجأة، اخترق هدوء السرايا الحذر صوت رجولي قوي
صوتٌ لم يكن مجرد نداء بل كان زئير أسد جريح
يحمل في طياته غضبًا مكبوتًا، وألمًا عميقًا وشوقًا يكاد يمزق الحنايا
صوتٌ اهتزت له جدران السرايا العتيقة وارتجفت له قلوب ساكنيها
_نغــــــــــــــــم.
كان صوت جاسر نبرته كانت حادة كحد السيف قاطعة كصوت الرعد، لكن خلفها اختبأ ضعفٌ لا يراه إلا من يعرفه حق المعرفة. 
ضعفٌ نابع من خوفه على محبوبته من قلقه عليها ومن لهفته التي كادت تقتله. 
كان يناديها بأعلى صوته، وكأنه يصرخ في وجه العالم كله
يطالب بحقه يطالب باستعادة روحه التي سُلبت منه.
في غرفتها انتفضت نغم من مكانها وكأنها لدغتها أفعى سامة لم يكن الصوت مجرد نداء، بل كان صدى لكل أهوال الليلة الماضية لكل الألم الذي عاشته، لكل الخوف الذي تملكها.
اندست في حضن والدتها بخوف، وعيناها اتسعتا رعبًا كغزال صغير يرى صيادًا. 
صوت اسمه كان كافيًا ليعيد إليها كل الكوابيس كل الذكريات المريرة التي حاولت جاهدة أن تدفنها.
في بهو السرايا تبادل الرجال النظرات مالك ووالده، وعمه وسند، وكل رجال العائلة الموجودين
كانت نظراتهم تحمل مزيجًا من الدهشة والغضب والتساؤل من يجرؤ على اقتحام حرمة السرايا بهذا الشكل؟ من يملك هذه الجرأة؟
كان وهدان كبير العائلة أول من كسر حاجز الصمت، صوته يحمل نبرة استنكار وغضب
_مين ده؟
لم يمهله سند فرصة للإجابة، فقد كان الغضب يتأجج في عروقه تمتم من بين أسنانه وكأن الكلمات تخرج بصعوبة من بين فكيه المطبقين
_ده الكلب ابن التهامي.
رأى سالم الخوف في عيون روح التي خرجت على الصوت وفهم مالك أن هذه المواجهة كانت حتمية لا مفر منها. 
كان يعلم أن جاسر لن يتراجع، وأن هذه اللحظة كانت قادمة لا محالة
نهضوا جميعًا ككتلة واحدة كجدار صلب، وخرجوا إلى حديقة السرايا لمواجهة هذا الاقتحام، لمواجهة هذا الرجل الذي تجرأ على تحدي سلطتهم
وجدوا جاسر واقفًا وحده في منتصف الحديقة وقفته صلبة كالصخر شامخة كالجبل، لا تهتز. 
كانت عيناه تشتعلان بنار، نار البحث عن نغم، نار الشوق الذي أحرقه، ونار الغضب الذي تملكه. 
كان يبدو كالمحارب الذي جاء ليستعيد كنزه لا يخشى شيئًا، لا يهاب أحدًا. 
لكن خلف تلك القوة الظاهرية، كان قلبه يتمزق شوقًا، روحه تئن ألمًا وعقله لا يفكر إلا في استعادة نغم.
تقدم سالم نحوه ووراءه مالك وسند، ووقفوا أمامه بقوة وغضب كحراس لمكان مقدس
سأله سالم بنبرة تحذيرية، تحمل في طياتها تهديدًا مبطنًا
_إنت عايز إيه يا جاسر؟ چاي لحد دارنا ليه؟
لم يهتز جاسر لم يطرف له جفن. 
بل ثبت نظره عليهم جميعًا وكأنه يرى من خلالهم، يرى نغم خلفهم. 
قال بوضوح قاطع، وصوته يحمل رنينًا معدنيًا
_أنا عايز مرتي.
ضحك سند ضحكة ساخرة مريرة، تحمل في طياتها احتقارًا عميقًا _مراتك؟ ملكش حريم حدانا يا ولد التهامي بتنا ورجعت دارها ومحدش له حاچة عنيدها.
_رغم أنه كان وحيدًا في مواجهتهم، إلا أن جاسر لم يظهر أي أثر للخوف
كان كالأسد الذي يحارب قطيعًا من الذئاب ليصل إلى حبيبته، لا يبالي بالعدد، لا يخشى الموت كان يعلم أن نغم تستحق كل هذا العناء، كل هذا الخطر. 
_نغم مراتي على سنة الله ورسوله ومحدش فيكم له الحج يمنعني عنيها ومش همشي من أهنه غير وهي معايا.
تقدم مالك خطوة، محاولًا أن يكون صوت العقل، صوت الحكمة في هذا الموقف المتوتر
_بنتنا رچعتلنا منهارة ومكسورة يا جاسر عملت فيها إيه عشان توصلها للحالة دي؟ وبعدين الأصول بتجول إنك تسيبها ترتاح، وبعدين نتفاهم.
رد جاسر بإصرار وعيناه تبحثان عن أي لمحة لها في نوافذ السرايا، وكأنه يستشعر وجودها خلف تلك الجدران.
كان قلبه ينبض باسمها، روحه تصرخ شوقًا لها. 
_مليش تفاهم معاكم تفاهمي معاها هي ومش همشي من غيرها... حتى لو فيها موتي.
هنا، نفد صبر سند كانت كلمة "موتي" هي الشرارة التي أشعلت غضبه المكبوت. 
في حركة سريعة، أخرج سلاحه من حزامه وصوبه نحو جاسر، وعيناه تشتعلان بنار الانتقام
_طالما جبت سيرة الموت يبجى إنت اللي اخترت نهايتك بنفسك
لكن قبل أن يتطور الموقف إلى ما لا تحمد عقباه، تحرك مالك بسرعة البرق وأمسك بيد سند وأنزل سلاحه بقوة، صوته يحمل نبرة حازمة
_نزل سلاحك يا سند إحنا مش جتالين مينفعش نعمل ده وهو في دارنا وتحت سجفنا
دي مش أصولنا.
نظر سند إلى مالك بغضب لكنه أطاع وإن كان على مضض. 
ظل جاسر واقفًا في مكانه، لم يطرف له جفن وكأنه كان يتوقع هذا بالضبط مستعدًا للموت في سبيل استعادة امرأته. 
كان يعلم أن كل خطوة يخطوها، وكل كلمة ينطق بها، هي من أجل نغم، من أجل استعادتها، حتى لو كلفه ذلك حياته. 
كان هذا هو جاسر قويًا في مظهره لكن ضعفه الوحيد كان يكمن في حبه لنغم، وشوقه الذي لا ينتهي إليها.
ظل جاسر واقفًا في مكانه كتمثال من صوان، لم يتزحزح قيد أنملة وكأنه جذر ضارب في الأرض. 
كانت عيناه مثبتتين على باب السرايا، لا تزيغان عنه رافضًا التحرك قبل أن يرى زوجته. 
كان ثباته هذا في وجه هذا الجمع الغاضب، يشي بقوة داخلية لا تلين، قوة تتجاوز مجرد العناد بل هي إيمان مطلق بحقه
نظر سالم إلى هذا الثبات، إلى هذا الإصرار العنيد الذي لم يره من قبل في رجل يقف وحيدًا أمام عائلة بأكملها ولأول مرة صدق حدسه القديم الذي همس له يومًا ما: 
"محدش يعرف نغم ومبيحبهاش". وها هو يرى جاسر التهامي، الرجل الذي قيل إن قلبه من حجر ولا يعرف الحب واقفًا مستعدًا للموت من أجلها لقد أحبها حقًا، حبًا عميقًا لكن هذا الحب الآن هو ما دمرها، هو ما جلب عليها كل هذا الألم.
نفد صبر جاسر من صمتهم الذي بدا له كحائط صدٍّ منيع. 
لم يعد يطيق الانتظار، فصوته انطلق بنبرة تحمل تهديدًا واضحًا كصوت الرصاصة التي تخترق الصمت
 _شكلكم مش هتجيبوها بالذوج لو مفكرين إني همشي من غيرها تبجوا غلطانين. 
أنا خدتها من وسطكم مرة ومستعد أعملها تاني هاخدها بالقوة حتى لو هخطفها من تاني.
كانت كلماته هذه كالصاعقة التي ضربت المكان لم يكن تهديدًا أجوف بل وعدًا يعرف الجميع أنه قادر على الوفاء به هو جاسر التهامي الذي لا يخشى أحدًا، والذي اعتاد أن يأخذ ما يريد بالقوة. 
لكن هذه المرة كان الأمر مختلفًا هذه المرة كان يواجه عائلة الرفاعي، التي لا تقل عنه قوة وعنادًا
هنا تقدم مالك ووقف في وجهه مباشرة وعيناه تشتعلان بتحدي بارد تحدي لا يقل قوة عن تحدي جاسر. 
كان مالك يمثل كبرياء العائلة، وكرامتها التي لن تسمح بأن تُداس. 
_أعلى ما في خيلك اركبه يا جاسر بس المرة دي مفيش خطف المرة دي فيه قانون إحنا هنرفع عليك جضية طلاج للضرر وهنجيب حجها منك في المحاكم.
نظر جاسر إليه بسخرية لاذعة، ضحكة مريرة ارتسمت على شفتيه وكأنه يرى محاولة يائسة
_محاكم؟ هتفضحوها وتشَهَّروا بيها في المحاكم عشان تطلجوها مني؟
رد مالك بثقة مطلقة موجهاً له ضربة لم يتوقعها ضربة أصابت جاسر في مقتل لأنها استخدمت سلاحه ضده 
_وإحنا مش خايفين من حاچة بنتنا متچوزاك قانوني، وعلى الورج والناس مش هتشك لحظة واحدة في كلامنا لما نجف كلنا، عيلة الرفاعي كلها في المحكمة ونشهد إنك اتچوزت عليها وخنتها 
هنجول إننا جبلنا بيك عشان ننهي التار ونحقن الدم، لكن إنت اللي غدرت بيها واتچوزت بنت عمك ساعتها شوف الناس هتجف مع مين.
شعر جاسر وكأنه تلقى لكمة قوية في صدره لكمة لم تكن مادية بل معنوية أصابت كبرياءه في الصميم
لقد حاصروه استخدموا نفس سلاح العادات والتقاليد الذي استخدمه عمه ضده لقد انهزم للمرة الثانية في يوم واحد لكن هذه الهزيمة كانت أشد مرارة لأنها جاءت من حيث لم يتوقع، ومن أناس كان يظن أنهم أقل منه حيلة.
لكنه لم يظهر هزيمته لم يسمح لهم برؤية ضعفه استجمع قوته المتبقية، ورفع رأسه وقال بنبرة قاطعة، تحمل تصميمًا لا يتزعزع
_طلاج؟ مستحيل أوافج ومادام إنتو اللي بدأتوا لعبة القانون، يبجى أنا كمان هلعبها وخصوصاً إن القانون كله في يدي، هطلبها في بيت الطاعة والقانون هيرچعلي مراتي غصب عنيكم.
كل هذا الحوار كل كلمة كل تهديد، كانت نغم تسمعه من نافذة غرفتها كانت تقف خلف الستار، ووعد تمسك بيدها بقوة لتدعمها، بينما ليل تحتضن كتفها كانت نغم تبكي بقهر، دموعها تنزل بصمت لا صوت لها سوى أنين روحها كانت خائفة، خائفة من قوته من إصراره الذي لا يلين، وخائفة أكثر من ضعفها أمامه من هذا الحب الذي كان يربطها به والذي كان يهدد بأن يعيدها إلى جحيمه. 
خائفة أن يعود ويأخذها ويكمل ما بدأه من تدمير لروحها كان جاسر وحده يواجه عائلة بأكملها، لكنه كان يملك قوة الإيمان بحقه وقوة الحب الذي كان يدفعه، قوة جعلته يبدو كجيش كامل في مواجهة قطيع لا يخشى شيئًا، ولا يتراجع أبدًا.

•تابع الفصل التالي "رواية ثنايا الروح" الريح والغيامة" اضغط على اسم الرواية 

تعليقات