رواية ثنايا الروح "الريح والغيامة" الفصل الثامن والعشرون 28 - بقلم رانيا الخولي

 رواية ثنايا الروح "الريح والغيامة" الفصل الثامن والعشرون 28 - بقلم رانيا الخولي 

ثنايا الروح 
رانيا الخولي 
الثامن والعشرين 
.......................
كان الليل قد انتصف، لكن النوم لم يكن خياراً في عالمهما الجديد.
كان مالك يجلس على السرير، مسنداً ظهره على كومة من الوسائد المريحة، بينما تستقر روح بين ذراعيه رأسها على كتفه وظهرها على صدره القوي، في حضن يمثل لها الأمان المطلق.
لم يكن هناك صمت بل كان مالك يشاركها أعمق أسرار قلبه. 
كان يمسك بهاتفه، ويتصفح ملاحظات قديمة يقرأ لها بصوته الهادئ والعميق خواطر وقصائد قصيرة كان يكتبها لها سراً على مر السنين.
"اليوم رأيتها تضحك من قلبها. 
ضحكة تشبه الشمس بعد المطر. 
ليتني أستطيع أن أضع هذه الضحكة في زجاجة، 
وأحتفظ بها للأيام المظلمة"
منقولة "لشاعرة النيل"
جروب نسائم روائيه جروب رانيا الخولي 
كانت روح تستمع وقلبها يذوب مع كل كلمة. 
لم تكن تصدق أن هذا الحب كان موجوداً بهذا العمق، وبهذا الصدق طوال هذا الوقت وهي لا تعلم. 
التفتت إليه بوجهها، وعيناها تلمعان بدموع التأثر.
_ إنت... إنت كنت بتحبني للدرجة دي يا مالك؟ كل ده وأنا معرفش؟
ابتسم مالك ابتسامة حزينة بعض الشيء. 
أطفأ هاتفه ووضعه جانباً، ثم أدارها برفق لتصبح في مواجهته وجهها مقابل وجهه. 
أمسك وجهها بين كفيه ونظر في عينيها بكل الحب الذي يسكنه.
وقال بصوت صادق.
_ وأكتر من إكده كمان، كل يوم كنت بشوفك فيه بتكبري قدامي، كان حبي ليكي بيكبر معاه وكل يوم كنت بشوفك فيه مع "عدي"، كنت بحس بسكينة بتنغرس في جلبي. 
كنت بتعذب في بعدك عني، بتعذب وأنا شايفك بتحبي حد غيري وبتعذب أكتر لأني كنت مجبور أمثل دور ابن العم والأخ الكبير اللي بيخاف عليكي وبس كنت بموت في اليوم ألف مرة.
تجمعت الدموع في عيني روح وهي تستمع لاعترافه المؤلم. 
مدت يدها ومسحت على خده بحنان.
_ وأنا كمان بحبك. 
اعترفت أخيراً بالكلمة التي كانت حبيسة روحها. 
_ يمكن معرفتش ده غير متأخر ويمكن كنت عمياء. 
بس لما بفكر دلوجت، بلاجي إني كنت دايماً بدور عليك.
إنت كنت الأمان كنت السند، كنت الأب اللي اتحرمت منيه. 
يمكن عشان إكده عشان الدور ده اللي إنت كنت بتجضيه بحب وافتكرته أبوه، أنا دورت على حاچة تانية عند عدي... دورت على حب المراهقة اللي خطفني ببريقه الكداب، ونسيت أبص على حب عمرى الحجيجي اللي كان جدام عيني.
كان اعترافها هو البلسم الذي شفي كل جراح الماضي في قلب مالك.
لم يعد هناك أي شيء يهم، لا سنوات العذاب ولا لحظات الألم. 
كل شيء تلاشى أمام حقيقة أنها تحبه الآن.
مال عليها ببطء، وقبلها قبلة رقيقة، قبلة تحمل كل معاني الغفران والبدايات الجديدة. 
ثم تعمقت القبلة لتصبح أكثر شغفاً أكثر لهفة. 
كانت يداه تتجولان في شعرها، على ظهرها يجذبها إليه أكثر، كأنه يريد أن يدمجها بروحه.
همس بين قبلاتهما بأنفاس متقطعة
_ خلاص... مفيش بعد تاني.
إنتي بتاعتي، وأنا ملكك.
لم تكن هناك حاجة للمزيد من الكلمات وأخذها معه إلى عالمه الخاص. 
لم يكن الأمر مجرد شغف جسدي، بل كان اتحاداً لروحين وجدتا طريقهما أخيراً إلى بعضهما البعض. 
كانت كل لمسة، وكل همسة، وكل نظرة، تعبيراً عن حب انتظر طويلاً ليجد طريقه إلى النور، حبٌ كان مقدراً له أن يكون أبدياً.
❈-❈-❈
لم تعد صبر تخشى ارتداء ملابسها الجديدة في وجوده. 
كانت كلمات ليان تتردد في أذنيها كتعويذة تمنحها القوة
"هو جوزك، وده حقك"
كانت تتحرك في المنزل بثقة مكتسبة حديثاً، ترتدي فستاناً بسيطاً يبرز جمالها وشعرها ينسدل بحرية على كتفيها.
كان أكمل في جحيم صامت كلما رآها، كان يجبر نفسه على إدارة وجهه على التركيز في أوراقه في شاشة هاتفه، في أي شيء سوى هي. 
لكن الأمر كان أشبه بمحاولة تجاهل الشمس. 
وجودها أصبح طاغياً مشعاً، ومن المستحيل تجاهله.
كان يختلس النظر إليها، ثم يوبخ نفسه ويعود إلى عمله، في حلقة مفرغة من المقاومة والاستسلام.
في تلك الليلة، وجدته صبر غارقاً في بعض الملفات على طاولة الطعام قررت أن الوقت قد حان لتنفيذ خطوتها التالية.
اقتربت منه بهدوء، وفي يدها أحد كتب الجامعة.
_ لو سمحت... أنا آسفة إني بعطلك، بس فيه حاچة هنا مش فاهماها خالص، والدكتور شرحها بسرعة.
رفع أكمل عينيه عن الأوراق، ووجدها تقف بجانبه قريبة جداً. 
كانت رائحة جميلة ومنعشة تفوح منها، رائحة تشبه الياسمين والمطر. 
نظر إلى الكتاب ثم إليها.
_ وريني.
أشارت إلى فقرة معقدة في الكتاب
لم يستطع التركيز وهي واقفة بهذا الشكل تنهد وقال
_ هاتي كرسي واقعدي جنبي هنا.
فعلت كما قال
جلست بجانبه وانحنى كلاهما فوق الكتاب المفتوح بدأ أكمل في الشرح، لكن صوته كان يخرج بصعوبة
كيف يمكنه التركيز وعطرها يلفه، وذراعها الناعمة تكاد تلامس ذراعه؟
غصب عنه كانت عيناه تزوغان
تهرب من سطور الكتاب لتستقر على تفاصيل وجهها وهي تركز في شرحه على رموشها الطويلة، على شفتيها الممتلئة قليلاً، على النبض الرقيق في عنقها. 
ثم تهبط نظراته إلى منحنيات جسدها التي يبرزها الفستان برقة، فكان يشعر بحرارة تتصاعد في جسده ويجبر نفسه على العودة للكتاب.
استغرب من نفسه
هذه المشاعر بهذه القوة، كانت جديدة عليه تماماً
حتى مع خطيبته السابقة، كانت علاقتهما هادئة عقلانية أقرب للبرود،
لم يشعر يوماً بهذا الانجذاب الجارف، هذا الإحساس بأنه يفقد السيطرة
لم تكن مجرد رغبة، بل كان فضولاً قوياً لمعرفة هذه المرأة التي تجلس بجانبه، والتي كان يعتقد أنه يعرفها.
كان يسألها سؤالاً ليتأكد من فهمها، فتجيب بذكاء ثم تبتسم له ابتسامة صغيرة وواثقة. 
كانت تلك الابتسامة تتلاعب بأنفاسه، تشعره بالارتباك وتفقده توازنه.
ثم فعلتها بحركة بدت عفوية تماماً، لكنها كانت مقصودة بدقة، أرجعت صبر رأسها للخلف قليلاً ونثرت شعرها الغجري ليبتعد عن وجهها. 
في تلك اللحظة، شعر أكمل وكأنها سحبت كل الهواء من حوله. 
رائحة شعرها، شكل عنقها وهي تميل رأسها، خصلات شعرها المتطايرة... كل هذا المشهد البسيط ضربه في الصميم بقوة لم يكن مستعداً لها.
توقف عن الشرح فجأة صمت لم يعد قادراً على النطق بكلمة واحدة. 
كل ما كان يريده في تلك اللحظة هو أن يترك الكتاب، أن يميل نحوها، أن يدفن وجهه في ذلك الشعر ويستنشق عبيره حتى يغيب عن الوعي. 
كانت معركة شرسة تدور بداخله بين وكيل النيابة الحازم الصارم، والرجل الذي بدأت مشاعره تتمرد عليه بعنف.
أغلق الكتاب فجأة وقال بصوت أجش حاول أن يجعله طبيعياً وفشل
_ كفاية كده النهاردة.
نهض سريعاً وابتعد، كأنه يهرب من ساحة معركة خسر فيها بالفعل، تاركاً صبر تنظر في أثره بابتسامة خفية، فقد أدركت للتو أن سهامها قد بدأت تصيب هدفها بدقة.
في اليوم التالي، كانت صبر تنتظر ليان عند مدخل الكلية بفارغ الصبر. 
ما إن رأتها قادمة، حتى أسرعت نحوها بابتسامة واسعة.
_ ليان! مش هتصدجي إيه اللي حوصل امبارح!
جلستا على أقرب مقعد، وحكت لها صبر كل التفاصيل بحماس؛ كيف ارتدت الفستان، وكيف خرجت أمامه، ونظرته المصدومة، وحجتها بكتاب الجامعة، وقربهما على الطاولة، وارتباكه الواضح وهروبه في النهاية.
انفجرت ليان في ضحكة صافية ومرحة.
_ مش قولتلك أهو بدأ يقع ومش عارف نفسه! الراجل اللي عامل فيها وكيل نيابة جامد ده، طلع قلبه ضعيف قدامك. 
برافو عليكي يا صبر، خطتنا نجحت
لازم تكملي على كده، متتراجعيش دلوقتي أبداً.
ابتسمت صبر بسعادة، فشعور النصر الصغير هذا كان جديداً عليها. 
ثم نظرت إلى صديقتها بفضول حقيقي.
_ إنتي دايماً بتساعديني وتديني القوة يا ليان، بس أنا معرفش عنك حاجة تقريباً، إيه حكايتك؟
تغيرت ملامح ليان قليلاً، تلاشت الضحكة وحل محلها حنين ممزوج ببعض الألم تنهدت وقالت
_ حكايتي طويلة شوية.
صمتت للحظة ثم بدأت تحكي بصوت هادئ
_ أنا متجوزة يا صبر عن حب
حب كان زي الحواديت. 
قابلته وهو كان لسه بيبدأ حياته، حالته على قده، بس كان عنده طموح يهد جبال.
أنا وقفت جنبه وآمنت بيه لما محدش آمن. 
كنت بشتغل معاه وبساعده، وواحدة واحدة ربنا كرمنا ومشرعه الصغير كبر وبقى اسم كبير في السوق.
كانت صبر تستمع باهتمام، متأثرة بالقصة.
أكملت ليان بمرارة خفيفة
_ أهله... أهله عمرهم ما حبوني كانوا شايفيني بنت من مستوى أقل، لأن بابا كان واحد بتاع مزاج كانوا بيكرهوني كره العما ولما ربنا فتحها عليه، كرههم زاد. 
بدأوا يحطوا فتنة بينا، يملوا ودانه بكلام وحش عني، يخترعوا مشاكل وللأسف هو بدأ يتأثر. 
كتر الضغط خلاه عصبي، وبقينا بنتخانق على أتفه الأسباب.
أخذت نفساً عميقاً، وكأنها تسترجع ألماً قديماً.
_ من فترة وفي وسط خناقة كبيرة، قالي إنه تعب، وإنه مش عارف المشكلة فينا ولا في اللي حوالينا طلب مني ندي لنفسنا فرصة أخيرة قالي: "هنبعد عن بعض فترة، نعيش كل واحد لوحده، ونشوف... هنقدر نتحمل البعد ده ولا لأ. 
لو مقدرناش، يبقى حبنا أقوى من أي حاجة وهنرجع ونواجه الدنيا كلها
ولو قدرنا، يبقى كل واحد يروح لحاله بهدوء"
اتسعت عينا صبر بصدمة.
_ وإنتي وافجتي؟
هزت ليان رأسها.
_ وافقت.
أخدلي شقة لوحدي محدش يعرف مكانها غيرنا إحنا الاتنين، عشان نبعد عن ضغط أهله وسيبت معاه البنت عشان محدش يشك في غيابها لانها متعودة تروح معها كل يوم بالليل عند مامته
وأنا رجعت أكمل جامعتي اللي كنت سبتها عشانه أهو... بنجرب.
تأثرت صبر بشدة بقصة صديقتها، بقوتها وصبرها.
رأت فيها نموذجاً للمرأة القوية التي تحارب من أجل حبها وحياتها. 
في تلك اللحظة، لم تعد ليان مجرد صديقة جامعة، بل أصبحت أختاً ورفيقة درب. 
مدت صبر يدها وأمسكت بيد ليان بقوة.
_ هترچعوا لبعض أنا متأكدة
الحب الحجيجي بينتصر في الآخر.
ابتسمت ليان بامتنان، ومنذ تلك اللحظة، أصبحت صداقتهما أقوى وأمتن، فقد جمعتهما جراح الحب والأمل في غدٍ أفضل.
❈-❈-❈
كان الليل قد أرخى سدوله على حديقة القصر، والهدوء لا يقطعه سوى صوت همسات العشاق كان مالك وروح يجلسان تحت شجرة ضخمة وقديمة، شاهدة على أجيال من حكايات العائلة.
كان مالك يسند ظهره العريض على جذع الشجرة، وقد ثنى إحدى ركبتيه لتكون مسنداً مثالياً لروح التي أسندت ظهرها عليه، مستمتعة بدفء جسده وقربه الآمن الذي كان بمثابة وطن لها.
_الشجرة دي عارفة عني أكتر من أي حد في الدنيا.
همس مالك بصوت عميق وهو يمرر أصابعه في خصلات شعرها، يستنشق رائحتها التي أصبحت إدمانه.
_كنت باجي أجعد هنا بالساعات بالليل، وأفضل باصص على شباك أوضتك.
نظرت إليه روح بدهشة محببة، ورفعت رأسها لتستطيع رؤية ملامحه في ضوء القمر الخافت.
أكمل وهو يبتسم ابتسامة حالمة، ابتسامة كانت تحمل كل حنين الماضي.
_كنت بجعد وأجول لنفسي، يمكن بالصدفة تطلع، يمكن ألمح خيالها كنت بكلمك في سري، وأحكيلك إزاي بحبك، وإزاي يومي كان ناجص من غيرك. 
المكان ده كان هو اللي شاهد على حبي، وعلى كل اه خرجت مني وأنا شايفك بعيدة.
تنهدت روح بسعادة وهي تدفن وجهها في صدره أكثر، كأنها تريد أن تشعر بكل كلمة قالها.
_وأنا... أنا كنت بحس بيك.
اعترفت بصوت خافت، كأنه سر مقدس.
_كنت ساعات أجف في الشباك وأبص على الچنينة الضلمة دي، وأحس إن فيه حد بيفكر فيا، حد بيحميني حتى من بعيد مكنتش أعرف إنه إنت، بس جلبي كان عارف كان دايماً بيطمن لما أبص ناحية الشجرة دي.
رفع مالك وجهها إليه برفق، ونظر إلى شفتيها وهي تنطق بكلمات الحب التي انتظر عمراً ليسمعها لم يعد قادراً على المقاومة كل كلمة كانت تخرج منها كانت تزيد من نيران الشوق في قلبه وفجأة، دون سابق إنذار، جذبها إليه بقوة وقبّلها.
لم تكن قبلة عادية كانت قبلة مجنونة، عميقة خرج فيها كل حبه، كل انتظاره، وكل لهفته كانت قبلة شرسة، تمتلكها بالكامل وكأنه يريد أن يطبع روحه على روحها، أن يمحو كل أثر للألم والمسافات التي كانت بينهما
طالت القبلة حتى شعرت روح بأن أنفاسها قد سُرقت منها تماماً، وأن العالم كله قد ذاب ولم يبق سوى هو.
عندما ابتعد عنها أخيراً، شهقت روح بقوة وهي تحاول التقاط أنفاسها، وضربته على صدره ضربة خفيفة ومداعبة، ووجنتاها متوردتان.
_كنت هتموتني!
نظر إليها مالك بعينين تلمعان بشغف، وابتسامة ماكرة ارتسمت على شفتيه.
_ما أنا فعلاً هموتك... بس لما نطلع أوضتنا.
قال بصوت أجش يحمل وعداً صريحًا.
_دي كانت مجرد تمهيد للي هعمله فوج.
انفجرت روح في ضحكة رنانة ومرحة، ضحكة صافية أضاءت ليل الحديقة لكن ضحكتها لم تكتمل، فقد كتمها مالك بقبلة أخرى، أشرس وأعمق من الأولى، وكأنه يدمن طعم شفتيها ولا يستطيع الاكتفاء كان يغرق فيها، وهي تغرق فيه، في دوامة من الشغف والحب الذي لا ينتهي.
وفي وسط هذه اللحظة المشتعلة، قطع عليهما صوت ساخر ومألوف قادم من بعيد.
_يا جماعة ليكم أوضة تلمكم تعملوا فيها اللي إنتوا عايزينه! إحنا برضك في مكان عام!
ابتعد مالك وروح عن بعضهما بسرعة وهما يضحكان، ليريا سند يقف على شرفة قريبة، يراقبهما بابتسامة متسلية وحاجبان يلعبان لى مالك، معلنًا نهاية خلوتهما الرومانسية في الحديقة.
جبر يلم العفش كلايته قالها مالك وهو ينظر إليه تبرم…
❈-❈-❈
مرت أيام ثقيلة بعد المواجهة العاصفة في الحديقة. 
ساد صمت جليدي بين جاسر ونغم لكنه كان صمتاً من نوع مختلف. 
لم يعد صمت الكراهية والعداء، بل صمت الحيرة والألم، صمت شخصين تحطمت عوالمهما ولا يعرفان كيف يجمعان الحطام.
كانت نغم تتجنبه لأن رؤيته تذكرها بالحقيقة المرة، وكان هو يتجنبها لأنه لا يعرف كيف يتعامل مع مشاعره التي اعترف بها، ولا كيف يداوي جرحها العميق.
والدته كانت تراقبهما عن كثب
بعين الأم الخبيرة، رأت ما لم يرياه هما. 
رأت أن ابنها جاسر القاسي قد تغير حقاً، وأن نغم لم تعد مجرد زوجة على الورق، بل أصبحت تسكن قلبه وروحه. 
ورأت في ابتعادهما الحالي ليس كرهاً، بل حباً ضائعاً لا يعرف طريقه.
قررت في نفسها أنها يجب أن تتدخل، أن تجد طريقة لتقريب المسافات بينهما قبل أن تضيع الفرصة.
لكن القدر كان له رأي آخر.
في أحد الأيام، رن هاتف جاسر
كان عمه على الطرف الآخر، ونبرته كانت عاجلة ولا تحتمل النقاش. 
"تاجى السرايا فوراً، موضوع مهم"
ذهب جاسر إلى سرايا عمه، وشعر بقبضة باردة تعتصر قلبه، فزيارات كهذه لا تبشر بالخير أبداً. 
كانت الشمس تميل نحو الغروب، تلقي بظلال طويلة وحزينة على الأرض، بينما كان جاسر يشق طريقه نحو سرايا عمه 
دلف من البوابة الحديدية وترجل من السيارة
لم يكن يسير بخطواته الواثقة المعتادة، بل كانت خطواته أثقل كأنها تحمل هموم العالم قبل أن يصل إلى البوابة الداخلية، انحرف مساره غريزيًا نحو الإسطبلات، أو ما تبقى منها رائحة الحريق الباهتة ما زالت عالقة في الهواء، شاهدة صامتة على الخراب.
هناك في حظيرة منعزلة تم تجهيزها على عجل، وقف "بركان". 
لم يعد الجواد الأصيل الذي يشق الريح كاسمه، بل أصبح كتلة من الألم الصامت كان جسده القوي مغطى بضمادات في أجزاء كثيرة، والجلد المحروق تحته كان يؤكد بعمق الإصابة. 
كان واقفًا بصعوبة رأسه منحنٍ، وعيناه الكبيرتان الجميلتان، اللتان كانتا تلمعان بالحياة والفخر، قد انطفأت وأصبحت غائرتين، تعكسان عذابًا لا يُحتمل.
بجانبه كان يقف الطبيب البيطري، رجل مسن قضى حياته في رعاية الخيول وملامحه تحمل من الحزن والأسى ما يعادل ألم الحيوان نفسه.
اقترب جاسر بخطوات بطيئة، وشعر بقلبه ينقبض مع كل خطوة. 
هذا الحصان لم يكن مجرد حيوان، كان رفيق صباه الشاهد الوحيد على لحظات نادرة من الحرية والهدوء بعيدًا عن صراعات العائلة. 
كان رمزًا للقوة والجمال الذي لم يلوثه الكره.
_إيه الأخبار يا دكتور؟
قالها جاسر بصوت أجش، وهو يتجنب النظر مباشرة إلى عيني الحصان، كأنه يخشى أن يرى فيهما لومًا أو استجداءً للرحمة.
تنهد الطبيب بعمق، وخلع قبعته احترامًا للألم الذي يملأ المكان.
_الحجيجة يا جاسر بيه... مفيش أخبار زينة الحرج من الدرجة الثالثة، وعميق جدًا الجلد والأنسجة اللي تحته اتدمرت. 
حاولنا بكل المسكنات، وبكل الأدوية بس الألم أكبر من أي علاج هو بيعاني... بيعاني جوي.
صمت الطبيب للحظة، يختار كلماته بعناية، ثم قال ما كان يخشى جاسر سماعه.
_بصراحة... الأفضل ليه إننا نريحه مفيش أمل في الشفا، وكل يوم زيادة هو يوم عذاب زيادة عليه.
سقطت كلمات الطبيب على قلب جاسر كقطعة من الجليد الحارق. 
"نريحه"
كلمة لطيفة لوصف فعل قاسٍ وضروري الموت الرحيم.
تقدم جاسر ببطء حتى وقف أمام "بركان"
مد يده المرتجفة ولمس رقبته في الجزء الوحيد الذي نجا من الحريق. 
شعر بارتعاش جسد الحصان تحته ليس من الخوف، بل من الألم المتواصل. 
رفع الحصان رأسه بصعوبة، وأطلق صهيلاً خافتًا ومتقطعًا، صهيل لم يكن فيه قوة بل كان أنينًا مكتومًا استغاثة صامتة.
في تلك اللحظة انهار شيء ما بداخل جاسر هذا الحصان القوي الجميل، الذي كان يمثل كل ما هو حي وأصيل في حياته، أصبح الآن مجرد جسد ينتظر الخلاص من عذابه. 
شعر بأن هذا المشهد هو تجسيد لحياته كلها. 
كل شيء جميل يقترب منه، يحترق كل شخص يحاول أن يجد فيه ملاذًا، يضيع
والده، عمه، عائلته التي تمزقت، والآن حتى رفيقه الصامت... كلهم يضيعون، يتركونه وحيدًا وسط حطام معاركه.
أغمض عينيه بقوة، وشعر بحرقة في حلقه لم تكن دموعًا، فهو نسي كيف يبكي بل كان ألمًا خامًا شعورًا بالعجز المطلق أمام قسوة الايام التى تبدو أنها تصر على أن تسلبه كل شيء.
فتح عينيه، ونظر إلى الطبيب بنظرة فارغة وميتة.
_اعمل اللازم.
قالها بصوت خافت ومكسور، ثم استدار بسرعة غير قادر على تحمل المشهد لثانية أخرى سار مبتعدًا، وظهره المستقيم يخفي انهيارًا داخليًا عنيفًا. 
لم ينظر خلفه لكنه كان يسمع في رأسه ذلك الصهيل الأخير، صهيل الوداع الذي سيظل يطارده إلى الأبد، ليذكره دائمًا بأن كل من يحبهم وكل ما هو قريب منه مصيره في النهاية... أن يضيع.
خرج جاسر من الإسطبلات، تاركًا خلفه جزءًا من روحه يموت مع حصانه
أعاد بناء جداره الجليدي بسرعة، تلك القوة الظاهرية التي كانت درعه الوحيد في مواجهة عالم لا يرحم. 
لكن خلف هذا الجدار، كان قلبه مقسومًا ينزف حزنًا صامتًا على "بركان"، وعلى كل الخسارات التي تراكمت في حياته.
ما إن دخل إلى بهو السرايا، حتى وجد عمه صخر ومعه بعض كبار العائلة، وجوههم متجهمة وصارمة كقضاة في محكمة. 
كان الهواء مشحونًا بالترقب، وشعر جاسر بأن هناك مصيبة أخرى في انتظاره.
قال عمه مباشرة دون مقدمات، وصوته كان كصوت الصخر الذي يحمل اسمه.
_اللي كنت عامل حسابه حوصل يا ابن اخوي.
رد جاسر بصوت هادئ ومسيطر عليه، يخفي به العاصفة التي تدور بداخله.
_خير يا عمي؟
_البلد كلها بتتحدت، بيجولوا إنك تركت بت عمك اللي كانت على اسمك سنين عشان كانت معيوبة، واتجوزت بنت تانية عشان توهرب منيها
سمعتنا بجت في الأرض، وكلام الناس مبيرحمش.
شعر جاسر بالأرض تميد به كان الأمر كمن يطفئ حريقًا في صدره، ليجد أن ظهره يحترق. 
لقد كان مشغولاً بمعركته مع نغم، وبألمه على حصانه، لدرجة أنه نسي تمامًا هذه القنبلة الموقوتة.
لم يمنحه عمه فرصة للرد أو التفكير أشار إلى غرفة جانبية، فخرج منها المأذون، يمشي بخطوات بطيئة كأنه رسول الموت قال عمه بحزم قاطع، لا يقبل النقاش.
_مفيش حل تاني يا ولدى. 
لازم نخرس ألسنة الناس هتكتب كتابك على بت عمك دلوجت حالاً.
كان الأمر أشبه بكابوس نظر جاسر حوله رأى الإصرار في عيون الجميع، ورأى العادات والتقاليد كأسوار من حديد تطبق على عنقه، تسحقه بلا رحمة
شعر بعجز لم يشعر به من قبل هو جاسر التهامي الذي يفرض إرادته على الجميع، أصبح الآن سجينًا لثرثرة الناس وقرار عمه
رفضه سيعني إهانة لعمه، وتأكيدًا للشائعات وإشعالاً لنار جديدة لن تنطفئ لقد وُضع أمام الأمر الواقع وحُكم عليه.
شعر بسخرية مريرة كان ينقصه هذا فقط بعد أن فقد حصانه، وبعد أن اعترف بحبه لنغم، يأتي هذا الامر ليلقي في وجهه بهذه المهزلة.
جلس وكتب كتابه على شروق، وهو يشعر بأن روحه تنسحب منه قطرة قطرة. 
مع كل كلمة يقولها المأذون، كان يشعر بخنجر جديد يُغرس في قلبه، ليس من أجله هو فهو معتاد على الألم، بل من أجل نغم جرح جديد وعميق سيضاف إلى جروحها التي لم تلتئم بعد. 
كيف سيخبرها؟ كيف سينظر في عينيها بعد الآن؟
اتخذ قراره في تلك اللحظة، قرارًا يائسًا ولد من رحم العجز لن يخبرها
سيخفي عنها هذا الزواج، سيتحمل هذا الألم وحده، سيعيش في هذا الجحيم بمفرده
لا يمكنه أن يضع حملاً جديداً على كتفيها المحطمتين سيبني جدارًا آخر، جدارًا يفصل بين حياته معها، وحياته مع هذا الزواج الباطل.
بعد أن انتهت هذه المهزلة، خرج من السرايا كأنه جثة متحركة لم يصافح أحدًا، ولم يرد على أي تهنئة قاد سيارته بلا وعي، لم يكن يعرف إلى أين يذهب، لكن قلبه كان يقوده إلى مكان واحد فقط
إلى نغم كان يحتاج أن يراها، أن يتأكد أنها حقيقية، أنها ملاذه الوحيد في هذا العالم الذي انهار فوق رأسه كان يهرب من جحيمه، إلى جحيم آخر، لكنه جحيم اختاره بنفسه، جحيم يحمل وجهها.
كان محتاجاً لرؤيتها، محتاجاً لأن يستمد منها بعض القوة ليتحمل ما هو قادم. 
كان محتاجاً لها، أكثر من أي وقت مضى، أن يرتمي في حضنها ويخفي وجهه عن العالم كله.
عندما دخل الجناح، كانت عيناه تبحثان عنها في كل مكان كغريق يبحث عن طوق نجاة
لم يجدها
اتجه مباشرة إلى غرفتها، وفتح الباب ببطء، كأنه يخشى أن يجدها قد اختفت هي الأخرى. 
وجدها هناك نائمة على سريرها وملامحها هادئة وبريئة غافلة تمامًا عن العاصفة الجديدة التي حلت بحياتهما.
نظر إليها طويلاً وفي عينيه ألم وحب وحنان لا حدود له لم يستطع المقاومة أغلق الباب خلفه بهدوء، واقترب من الفراش. 
لم يرد أن يوقظها فقط أراد أن يكون بقربها، أن يستمد من هدوئها بعض السكينة. 
خلع حذاءه وسترته واستلقى بجانبها على طرف السرير فوق الغطاء بكامل ملابسه لم يلمسها، فقط استلقى هناك يستمع إلى أنفاسها المنتظمة، ويشعر بأن وجوده بجانبها هو الشيء الوحيد الحقيقي والصادق في هذا العالم المليء بالخداع والألم.
استلقى جاسر بجانبها صامتاً كشبح، وعيناه تتجولان على وجهها النائم بنهم كان يلتهم كل تفاصيلها، من خصلات شعرها المتناثرة على الوسادة، إلى رموشها الطويلة التي ترسم ظلاً رقيقاً على خديها كانت تبدو هادئة، بريئة، بعيدة كل البعد عن الجحيم الذي يعيشه.
توقفت عيناه عند شفتيها كان جائعاً لهما منذ أن ذاقهما أول مرة، لقد أصبح مدمناً
كان طعمهما لا يزال عالقاً في ذاكرته، يطارده في صحوه ومنامه شعر برغبة عارمة رغبة مؤلمة، في أن يميل نحوها ويقبلها
أن يسرق منها لحظة من النسيان، لحظة ينسى فيها "شروق" والعادات والتقاليد وكل هذا الألم.
وبينما هو غارق في صراعه الداخلي، تفاجئ بها تفتح عينيها ببطء، كأنها شعرت بوجوده بثقل حزنه في الغرفة التقت نظراتهما في صمت، نظراته الجائعة المعذبة بنظراتها النعسة التي سرعان ما تحولت إلى دهشة حذرة.
ما إن استوعبت نغم قربه الشديد، حتى انتفضت مبتعدة إلى أقصى طرف السرير، وسحبت الغطاء حولها كدرع واقٍ 
لم تصرخ لكن عينيها كانتا تصرخان بالرفض والارتباك.
_انت...انت بتعمل ايه أهنه؟
كان أسرع منها قبل أن تتمكن من النهوض أمسك بذراعها برفق، لكن بقوة لا تسمح لها بالحراك وهمس بصوت متحشرج، صوت رجل على حافة الانهيار، صوت لم يعد فيه أثر للكبرياء.
_خليكي... خليكي معايا... أنا محتاچلك.
كانت هذه هي المرة الأولى التي تسمع فيها هذا الرجاء في صوته لم يكن أمراً لم يكن تهديداً، بل كان توسلاً صادقاً من روح جريحة رأت في عينيه حزناً عميقاً، وهناً لم تره فيه من قبل
للحظة تردد قلبها وشعر بشفقة نحوه، لكن صوت كرامتها الجريحة كان أعلى.
تصلبت ملامحها وسحبت ذراعها من قبضته وبحركة فاجأته ابتعدت عنه إلى أقصى طرف السرير، ووقفت ووجهها يعبر عن رفض متردد.
_لأ.
قالتها بصوت يرتجف قليلاً.
_مش هفضل، أنا مش الدوا اللي بتيچي تاخده لما تتعب من الدنيا.
نظر إليها بصدمة ليس صدمة المجروح، بل صدمة الأسد الذي لا يتوقع أن يتجرأ أحد على تحديه في عرينه خاصة في هذه اللحظة كان يعتقد أن اعترافه بحبه قد منحه نوعًا من السلطة على قلبها.
تابعت وهي تجمع شجاعتها، وكلماتها تخرج متقطعة لكنها حادة
_انت كسرتني ودمرت حياتي، ودلوجت لما انكسرت أنت چاي تدور على اللي يداويك؟ أنا مش هكون هي.
استدارت لتخرج من الغرفة، لتفر من هذا القرب الخانق الذي يضعفها أمامه، من عينيه التي كانت تسلبها إرادتها. لكنه كان أسرع. 
في حركة واحدة نهض من السرير ووقف أمام الباب، يغلق عليها طريق الهروب بجسده. 
لم يلمسها لكن وجوده كان سجنًا بحد ذاته.
_مينفعش تخرچي.
قالها بصوت أجش، ليس كتوسل  لكن كحقيقة لا مفر منها، انه يحتاجها بكل كيانه
اقترب منها خطوة، وانخفض صوته إلى همس، همس يحمل كل ثقله وسلطته رغم الألم الذي يمزقه.
_أنا مقولتلكيش خليكي عشان تداويني، لأن اللي جوايا مفيش شيء في الدنيا ممكن يداويه.
غامت عينيه بحزن يجاهد كبرياءه أن يخفيه
_ أنا بطلب منك تخليكي عشان ده مكانك. 
قالها وهو يمسك يدها الواهنة ليضعها على قلبه
_أنتي مرتي ومكانك جنبي، سواء كنت بموت أو كنت عايش على الدنيا.
رأى الدموع تتجمع في عينيها، ورأى عنادها ورأى خوفها
مد يده ببطء وبأطراف أصابعه، مسح دمعة هربت على خدها.
كانت لمسته كالجمر، لكنها كانت أيضًا لمسة مالك.
همس وهو ينظر في عينيها مباشرة، وعيناه تلمعان بصدق مؤلم لا يتنافى مع قوته.
_أنا خابر إني أذيتك، وخابر إني مستاهلش منك أي حاچة بس أنا بموت يا نغم... 
تاهت نظراتها أمام ذلك الرجاء الذي برغم كبرياءه إلا أنه صادق حقا
_روحي بتتسحب مني لدرجة الموت، النهاردة اتجبرت على موت تاني.
صمت للحظة، ليس كمن يستجدي الشفقة بل كمن يقرر حقيقة كونية.
_وأنا مش عايز أموت وانا لوحدي.
لم تفهم معنى جملة "اتجبرت على موت تاني"، لكنها فهمت عمق الألم الذي يحمله وفهمت رجاءه المبطن في كلماته الأخيرة حتى في أحلك لحظاته ضعفاً، كان يحاول التشبث بآخر خيوط شموخه، لكن هذا الخيط كان على وشك الانقطاع.
جالت عيناه على ملامحها بشغف كغريق يرى يابسته الأخيرة
ثم في لحظة حاسمة انهار كل شيء. انهار كبرياؤه، وشموخه، وجبروته
رفع يده المرتجفة، لا ليلمسها بلمسة مالك بل بلمسة محب عاشق
_أنا مش بطلب منك تحضري موتي...
همس بصوت مكسور، صوت لم يعد فيه أثر للقوة، صوت رجل يعترف بهزيمته الكاملة.
_أنا بطلب منك تمنعيني أموت.
رفع عينيه ونظر إليها، وكانت عيناه بحرًا من الألم والرجاء والحب. 
لم يعد هناك شموخ، لم يعد هناك كبرياء كان هناك فقط هو بكل ضعفه، بكل احتياجه يستسلم بكل كيانه أمامها. 
أمام الإنسانة الوحيدة التي أصبح الضعف والاستسلام أمامها مباحًا.
_أنا ضعت يا نغم... كل حاچة راحت مني خليكي معايا... متسبنيش.
كان هذا هو السلاح الذي لا يمكن مقاومته ليس قوته، بل ضعفه المطلق ليس جبروته، بل استسلامه الكامل هذا الرجاء الصادق، وهذا الحب الجارف الذي رأته في عينيه، كانا كافيين لتحطيم كل دفاعاتها. 
لم يعد هناك مجال للتفكير لقد استسلمت ليس لإرادته، بل لقلبها الذي لم يعد يحتمل رؤيته بهذا الانكسار.
أغمضت عينيها، وتنهدت تنهيدة طويلة خرج معها كل ما تبقى من مقاومتها استرخت عضلاتها المتوترة، وأومأت برأسها إيماءة خفيفة، كأنها تمنحه الإذن ليس فقط بالبقاء، بل بالاقتراب أكثر.
تنهد جاسر بارتياح، وكأن جبلاً قد أزيح عن كاهله
لم يقل شيئًا، بل اكتفى بأن يضمها إليه، ليس بحدة أو شغف، بل ضمها كمن يضم شيئًا ثمينًا وهشًا يخشى أن يفقده دفن وجهه في عنقها، يستنشق رائحتها كأنه يستنشق الحياة نفسها. 
شعرت نغم بارتجاف جسده، وأدركت أنه لم يكن يمثل لقد كان منهارًا بالفعل.
وفي تلك اللحظة وهي بين ذراعيه، أدركت أن مصيرهما قد ارتبط بشكل لا فكاك منه لم تعد قادرة على الرفض، ولم تعد تريد ذلك، لقد أصبح ألمه ألمها واحتياجه احتياجها. 
لقد استسلمت ليس لإرادته بل لإرادة قلبها الذي اختار طريقه أخيرًا.
تنهد جاسر بارتياح، وكأن جبلاً قد أزيح عن كاهله. 
مال نحوها ببطء، وقبلها، كانت قبلته هذه المرة مختلفة تماماً. 
كانت هادئة حنونة مليئة بالأمان
لم تكن قبلة شغف عنيف، بل كانت قبلة رجل يبحث عن ملجأ، عن ميناء يستريح فيه من عواصف الحياة شعرت نغم بأمان لم تشعر به من قبل، أمان جعل كل دفاعاتها تنهار.
بدأت يده تتجرأ تتحرك على خصرها، على ظهرها تجذبها إليه أكثر. 
مع كل لمسة، كانت نغم تحاول أن تقاوم أن تبتعد لكنه كان ينظر إليها بعينيه المليئتين بالرجاء والألم، نظرة صامتة تقول "لا تتركيني"، فكانت تستسلم مرة أخرى، وتذوب بين ذراعيه.
لا تعرف كيف وصل بها إلى الفراش وكيف جردها من كل مقاومتها
وشيئاً فشيئاً، استسلمت بالكامل.
مشاعرها التي وصفتها بالخيانة، قامت بدورها الحقيقي، دور الحب المكتوم الذي كان ينتظر اللحظة المناسبة ليظهر 
وسمحت له بأن يأخذها إلى عالمه.
كان حنوناً عليها لدرجة لم تكن لتتخيلها 
أبداً لم يكن هذا جاسر القاسي الذي عرفته، الذي كان مستعداً لتدميرها كان هذا رجلاً آخر، رجلاً عاشقاً جريح يبحث عن الخلاص في حضنها. 
كانت لمساته رقيقة، وهمساته دافئة، وكل حركة منه كانت تحمل اعتذاراً عن كل ألم سببه لها.
وفي لحظة ما شعرت بألم حاد، ألم أكد لها الحقيقة التي لا رجعة فيها.
أنها لم تعد نغم الفتاة، بل أصبحت زوجته بالكامل، أصبحت ملكه ولم يعد هناك أي مجال للتراجع لقد اتحد مصيرهما في تلك الليلة، ليس بعقد على ورق بل بروحين وجسدين أصبحا واحداً.
❈-❈-❈
كانت صبر تجلس كعادتها على طاولة السفرة غارقة في كتبها الجامعية، لكن هذه المرة كان كل شيء مختلفاً كانت ترتدي فستاناً قطنياً بسيطاً بلون الكرز، لكنه كان أقصر مما ارتدته يوماً، يكشف عن جمال ساقيها الممشوقتين. 
ترددت كثيراً قبل أن ترتديه، لكن إصرار ليان عبر الهاتف وتشجيعها المستمر منحاها الجرأة الكافية.
عندما دخل أكمل من الباب، بدا عليه الإرهاق من يوم عمل طويل. 
ما إن رأته، حتى نهضت واقفة بشكل تلقائي وشعرت بالدم يتدفق إلى وجهها. 
كان خجلها حقيقياً ومربكاً. 
وقفت أمامه في قمة ارتباكها، تلوم نفسها في سرها على موافقة ليان على هذه الفكرة الجريئة.
في محاولة للهروب من نظراته المصدومة التي ثبتت عليها، سألته بصوت متقطع
_ أحضرلك العشا؟
وافق أكمل على الفور ليس لأنه جائع بل ليمنحها سبباً للابتعاد عن نظره، لأن مشاعره لم تعد مضمونة على الإطلاق.
مشت صبر نحو المطبخ وهو يتابعها بعينيه، يراقب خطواتها التي بدت أكثر أنوثة وثقة.
ألقى بجسده على الأريكة في الصالة، لكنه كان قراراً خاطئاً. 
من مكانه كان يراها بوضوح وهي تتحرك في المطبخ. 
الفستان القصير مع كل حركة منها، مع كل انحناءة بسيطة كان يرسل موجات من التوتر في جسده. 
كان مشهداً بسيطاً لكنه كان يعذبه.
قاوم رغبته في النهوض
قاوم رغبته في الذهاب إليها.
لكن في النهاية انهارت مقاومته. 
وجد نفسه واقفاً عند مدخل المطبخ يستند على الحائط، ويأكلها بعينيه وهو يراقبها بصمت.
عندما لاحظت صبر وجوده، التفتت إليه فجأة وشعرت بخجل شديد وبندم حقيقي على ارتداء هذا الفستان 
نظرات أكمل كانت مختلفة هذه المرة، لم تكن مجرد دهشة بل كانت نظرات جائعة تمتلكها وترعبها. 
قررت أنها لا تستطيع التحمل أكثر، يجب أن تهرب، أن تغير ملابسها وتعود إلى قوقعتها الآمنة.
تحركت لتخرج من المطبخ لتمر من أمامه، لكن ما إن اقتربت حتى مد يده وأمسك بذراعها، وسحبها إليه ومنعها من المشي.
التصق جسدها بجسده ونظر في عينيها مباشرة. 
رأى فيها كل شيء رأى رغبتها في إثارة انتباهه، ورأى خجلها الذي يعذبه أكثر. 
رأى حباً دفيناً وحزناً وكسرة، ولهفة. رأى كل هذه المشاعر المتناقضة تدور في عينيها الجميلتين. 
وهنا، سألها بصوت أجش وعميق
_ إنتي عايزة إيه يا صبر؟
ارتبكت تماماً، لم تعد تعرف ماذا تقول 
بلعت ريقها بصعوبة بحركة عفوية لكنها أرهقت قلبه أكثر، ونظرت في عينيه التي كانت تشتعل بالرغبة، قالت الكلمة التي قفزت من قلبها إلى لسانها رغماً عنها
_ مش عايزة.
جالت عينيه على ملامحها بشغف كبير ورغبة واضحة
_وضحي مش عايزة ايه.
اهتزت نظراتها أمام نظراته التي تلتهمها بشكل واضح دون احراج
اخفضت عينيها بخجل شديد وتمنت لو الأرض انشقت وابتلعتها
ارادت الفرار لكن إلى أين
_ردي..
رفعت عينيها فجأة إثر طلبه فرأت في عينيه نظرة لم تتخيل يوماً أن تراها بعينيه، نظرة مليئة بالعشق
رفع أكمل أنامله ومررها على وجنتها  مروراً بشفتيها الرخوة وتمتم بصوت مثقل بالمشاعر
_لو لسانك مقلش فنظراتك قالت اللي عايز اعرفه.
وفي تلك اللحظة سقطت كل حصون أكمل
هذا الاعتراف غير الصريح، الذي خرج من قلبها ببراءة وعفوية، كان هو الشرارة التي أشعلت كل شيء. 
كان كل ما يحتاجه أكمل ليسقط قناع البرود واللامبالاة الذي تحصن به طويلاً. 
نظر إليها ولأول مرة لم يرها كمسؤولية أو ورطة، بل رآها كأمنية، كحلم لم يجرؤ حتى على الحلم به.
_وأنا كمان... عايز قلبك.
قالها بصوت أجش، صوت رجل وصل إلى أقصى درجات الشوق وفي لمح البصر، قبل أن تستوعب صبر معنى كلماته وجدت شفتيه على شفتيها.
في قبلة لم تكن عادية كانت قبلة متلهفة، جائعة تحمل كل المسميات. 
كانت هجومًا كاسحًا على كل دفاعاتها الهشة لم تصدق نفسها، لم تكن تعرف ماذا تفعل كان عقلها يصرخ بها أن هذا خطأ، أن هذا سريع جدًا لكن قلبها كان يذوب في طوفان من المشاعر التي لم تختبرها من قبل حاولت أن تبتعد أن تستوعب لكنه لفها ببراعة بحيث أصبح ظهرها ملاصقًا للحائط وهو أمامها يحاصرها بجسده، وبعينيه المشتعلتين.
نظر إليها بنظرة لم تتخيل يومًا أنها موجودة فيه، نظرة امتلاك مطلق، نظرة رجل قرر أخيرًا أن يأخذ ما هو له. 
قالها بصراحة تامة، بنبرة لا تقبل الجدال
_أنا مش باخد حاجة مش بتاعتي... وده حقي.
قبل أن تستوعب معنى كلماته كان قد حملها بين ذراعيه بقوة، وخرج بها من المطبخ صاعدًا درجات السلم إلى غرفته هو، ليرويها ويروي نفسه من عشق أنكره طويلاً
كانت صبر متشبثة به، وجهها مدفون في عنقه تستنشق رائحته وقلبها يدق بعنف كأنه سيخرج من صدرها كان مزيجًا من الخوف والخجل والترقب، وحلم قديم كان يبدو مستحيلاً، والآن هو يتحقق بين ذراعيه.
وضعها على سريره برفق يتناقض مع العاصفة التي في عينيه،
وعيناها كانت تطالبه أن يرأف بها فيبادلها هو بأن ترأف هي به فهو أصبح عاشقا لها
ثم انضم إليها كانت هذه ليلتهما الأولى الحقيقية. 
لم تكن ليلة هادئة، بل كانت ليلة عاصفة انفجرت فيها كل المشاعر المكبوتة كان أكمل عاشقًا شرسًا، لكن في قسوته كان هناك حنان غريب، كأنه يعاقبها على إيقاظ هذه المشاعر فيه وفي نفس الوقت يكافئها على فعلتها كانت كل لمسة منه تحمل ملكية، وكل قبلة كانت تأكيدًا على حقه الذي أعلنه.
أما صبر فكانت ممزقة بين الخوف من هذه القوة الجارفة، وبين استسلام لذيذ لشعورها بأنها مرغوبة ومنشودة لأول مرة في حياتها. 
شعرت بأنها أخيرًا في مكانها الصحيح كان الألم الجسدي الذي شعرت به مجرد تأكيد على أنها عبرت نقطة اللاعودة، وأنها أصبحت ملكه بالكامل، جسدًا وروحًا. 
وفي تلك الليلة لم يكن هناك وكيل نيابة وفتاة فقيرة، بل كان هناك فقط رجل وامرأة، يكتشفان بعضهما البعض في ليلة امتزج فيها العشق بالرغبة، والسيطرة بالاستسلام ليبدآ معًا فصلاً جديدًا لم يكن في حسبان أي منهما.

•تابع الفصل التالي "رواية ثنايا الروح" الريح والغيامة" اضغط على اسم الرواية 

تعليقات