رواية ثنايا الروح "الريح والغيامة" الفصل السابع والعشرون 27 - بقلم رانيا الخولي
ثنايا الروح
رانيا الخولي
السابع والعشرين
..........................
ما إن تسللت أولى خيوط الشمس الذهبية إلى الغرفة، حتى وجدت طريقها إلى وجه مالك كأنها تعرف وجهتها تمامًا.
فتح عينيه ببطء وشعر بثقل دافئ ومريح على صدره ثقل كان يتوق إليه طوال حياته.
نظر إلى الأسفل ليجد روح نائمة بعمق بين ذراعيه وجهها ملائكي وهادئ، وشفتيها مفترقتان قليلاً في ابتسامة حالمة، أنفاسها المنتظمة كانت كهمسات هادئة تدغدغ بشرته كانت هذه هي اللحظة التي طالما تخيلها في أحلامه الأكثر جموحًا، أن يستيقظ ليجد حلمه حقيقة ملموسة بجانبه.
لم يستطع أن يمنع نفسه من لمسها كان الأمر أقوى منه كأن يديه لهما إرادة خاصة بهما
مرر أطراف أصابعه برقة وخفة كالفراشة على خدها، ثم على خصلات شعرها الداكنة المنسدلة على الوسادة كشلال من حرير.
كانت أجمل من أي وقت مضى كل تفصيل فيها كان قصيدة، وكل حركة منها كانت لحناً يعزف على أوتار قلبه.
شعرت روح بلمسته فتململت قليلاً في نومها واحتضنته أكثر، كأنها تبحث عن دفئه حتى في أحلامها ثم فتحت عينيها ببطء التقت نظراتهما في صمت طويل صمت يحمل كل معاني العالم
الشوق الذي انتهى
والحب الذي بدأ
والوعد بحياة كاملة معًا.
ابتسمت له ابتسامة خجولة وناعمة، ابتسامة كانت كشروق الشمس في روحه تمحو كل ظلام الماضي.
همست بصوت ناعس، صوت كان موسيقى لأذنيه.
_صباح الخير.
مال عليها وقبّل جبينها قبلة طويلة وعميقة، قبلة كانت تحمل كل الامتنان والحب.
_صباح النور على أحلى حاجة حصلت في عمري كلياته.
لم يكن قادراً على الابتعاد كان سحرها يلفه كشبكة حريرية لا فكاك منها كلما فكر في أنه يجب عليهما النهوض وبدء يومهما، كانت نظرة واحدة منها كافية لتجعله ينسى العالم بأسره.
كانت عيناها بحراً يغرق فيه عن طيب خاطر، وحضنها هو الوطن الذي لا يريد مغادرته أبداً.
قالت وهي تضحك بخفة، ضحكة رنت في الغرفة كأجراس فضية، محاولة إضفاء بعض الجدية على الموقف.
_إحنا لازم نقوم زمانهم مستنينا تحت على الفطور.
رد عليها بصوت عميق وهو يشدد من احتضانه لها، ويدفن وجهه في عنقها، مستنشقًا عطرها الذي أصبح إدمانه.
_يفضلوا مستنيين أنا فطاري وغدايا وعشايا إهنه.
...لم تجب، بل اكتفت بابتسامة ساحرة، ابتسامة كانت تحمل كل الإجابات لم يعد مالك قادراً على المقاومة، ولم يعد يريد ذلك.
مال عليها مرة أخرى، وهذه المرة كانت قبلته أعمق أكثر شغفاً تحمل كل مشاعره التي لم تعد الكلمات قادرة على احتوائها لم تكن مجرد قبلة، بل كانت حوارًا صامتًا بين روحين تعبيرًا عن سنوات من الشوق المكتوم والحب الذي نجا من كل العواصف.
كانت يده تتحرك برقة، من خدها إلى عنقها، ثم انزلقت لتستقر على خصرها، يضمها إليه أكثر، كأنه يريد أن يمحو كل المسافات التي كانت بينهما، ليس فقط في الفراش، بل في الحياة.
تجاوبت معه روح بكل كيانها لم تعد الفتاة الخجولة بل أصبحت امرأة عاشقة تجد في حضن حبيبها وطنها وملاذها.
تشبثت به ويداها تجولان على ظهره وكتفيه، كأنها تتأكد من أنه حقيقي، وأنه هنا معها ولن يذهب مرة أخرى تحولت قبلاتهما إلى سلسلة من اللمسات، كل لمسة وكل قبلة كانت تذيب جليد سنوات من الانتظار والألم.
همس بصوت متحشرج قرب أذنها، وصوته يرتجف من عمق مشاعره.
_بحبك... بحبك أكتر من أي حاجة في الدنيا.
كانت كلماته هي المفتاح الأخير الذي فتح كل أبواب قلبها المغلقة شعرت بدمعة حارة تهرب من عينيها، ليست دمعة حزن بل دمعة اكتمال دمعة فرح مطلق.
في تلك اللحظة لم يعد هناك عالم خارجي لم يكن هناك فطور ينتظر ولا عائلة في الأسفل كان هناك فقط هو وهي، في فقاعة من الحب والشغف انقلب الوضع برقة، وأصبحت هي تنظر إليه من الأعلى شعرها ينسدل حول وجهيهما كستار حريري يفصلهما عن العالم نظرت في عينيه ورأت فيهما انعكاسًا لروحها، ورأت حبًا صافيًا وقويًا كان يستحق كل هذا الانتظار.
كانت تقول له دون كلمات:
"أنا لك وكنت دائمًا لك".
تحت ضوء الشمس الدافئ الذي يتسلل من النافذة، وفي هدوء الصباح الباكر، أصبحا كيانًا واحدًا لم تكن مجرد علاقة جسدية، بل كانت اتحادًا للروحين احتفالًا بالحب الذي انتصر أخيرًا كانت كل لمسة قصيدة، وكل همسة وعدًا، وكل نظرة عهدًا أبديًا وفي صمت غرفتهما، وعلى فراشهما الذي أصبح مقدسًا، بدأت حياتهما الحقيقية، حياة لا يسكنها سوى الحب ولا يحدها سوى الأبدية
حاول مرة أخرى أن يبتعد، أن ينهض من السرير لكنها رفعت يدها ووضعتها على خده ونظرت إليه تلك النظرة التي تزلزل كيانه، نظرة مليئة بالحب والدلال والثقة كانت تلك النظرة كافية ليعود إليها ليعود إلى حضنها، وكأنه مغناطيس لا يقاوم.
_بنظرة واحدة منكِ بترجعيني ليكِ تاني.
همس وهو ينظر في عينيها وصوته كان متحشرجًا من فرط المشاعر.
_إنتي بتعملي فيا إيه يا روح؟
لم تجب، بل اكتفت بابتسامة ساحرة، ابتسامة كانت تحمل كل الإجابات لم يعد مالك قادراً على المقاومة، ولم يعد يريد ذلك.
مال عليها مرة أخرى وهذه المرة كانت قبلته أعمق أكثر شغفا تحمل كل مشاعره التي لم تعد الكلمات قادرة على احتوائها.
كانت قبلة طويلة تأخذهما معاً إلى عالمهما الخاص عالم لا وجود فيه لساعة أو زمن عالم لا يسكنه أحد سواهما حيث كل لحظة هي بداية لحب أبدي، وحيث يجد كل منهما في الآخر وطنه وملاذه الأخير.
❈-❈-❈
لم يعد أكمل كما كان من قبل كان يحاول بشتى الطرق الابتعاد عنها، ليس كرهًا بل من فرط المشاعر التي كان يشعر بها والتي أخافته كلما رآها، كان يشعر بأن دفاعاته تنهار وأن قلبه الذي أغلقه لسنوات طويلة، يُفتح على مصراعيه دون إذن فكان الهروب هو الحل الوحيد الذي يعرفه وهي بدورها شعرت بهذا الابتعاد، فانسحبت إلى عالمها الخاص تقضي أغلب وقتها في مراجعة دروسها تستخدم الكتب كدرع يحميها من صمته الجارح.
كانت صبر تجلس مع ليان في كافيتيريا الجامعة الهادئة نسبيًا خلال الأيام القليلة الماضية توطدت علاقتهما بسرعة مدهشة وجدت صبر في ليان الصديقة والأخت التي لم تكن لها من قبل كانت ليان بشخصيتها المنطلقة والواثقة، هي النقيض التام لهدوء صبر وخجلها وربما لهذا السبب انجذبتا لبعضهما البعض.
شعرت صبر معها بأمان كافٍ لتفتح لها قلبها وتخبرها بالقصة الكاملة التي أثقلت روحها.
حكت لها كل شيء عن والدها وعن لجوئها لمنزل أكمل، وعن كلام الناس الذي كان كالسكاكين.
حكت لها عن الليلة التي عرض عليها فيها الزواج ليس كحبيب بل كحلٍ لمشكلة كصفقة تخرس الألسنة كانت كلماتها تخرج متقطعة، وصوتها يرتجف وهي تسترجع الإهانة والألم.
كانت ليان تستمع باهتمام وتعاطف، وعيناها لم تفارقا وجه صديقتها، ولم تقاطعها مرة واحدة.
عندما انتهت صبر من حديثها، كانت عيناها قد امتلأت بالدموع التي حبستها طويلاً تنهدت ليان وقالت بهدوء وحنان.
_ياااه يا صبر، شيلتي كتير أوي لوحدك كل ده كان فوق كتافك ومحدش حاسس بيكي.
ثم اقتربت منها أكثر وقالت بنبرة مختلفة نبرة فضولية ودافئة.
_بس قوليلي بصراحة، وخليكي صريحة مع نفسك قبل ما تكوني صريحة معايا، إنتي... بتحبيه؟
فاجأها السؤال المباشر شعرت صبر بأن الهواء قد انسحب من رئتيها هذا هو السؤال الذي كانت تهرب منه، السؤال الذي كانت تدفنه في أعمق جزء من قلبها هل تحبه؟ أم هو مجرد امتنان وتعلق بالرجل الذي أنقذها؟
أطرقت برأسها ويداها تعبثان بحافة الكوب.
_أنا... أنا مش عارفة هو... هو ساعدني كتير ووجف چارى.
قالت ليان بحكمة تتجاوز سنها.
_أنا مش بسأل عن اللي عمله أنا بسأل عن اللي حاساه لما بتشوفيه، قلبك بيدق أسرع؟ لما بيبعد عنك بتحسي إن فيه حاجة ناقصاكي؟ لما بيبتسم بتحسي إن الدنيا كلها نورت؟
كانت كل كلمة تقولها ليان كسهم يصيب الهدف كانت تصف بالضبط ما تشعر به رفعت صبر عينيها، وكانت نظراتها تحمل اعترافًا صامتًا.
هزت رأسها ببطء معترفة بالحقيقة التي لم تجرؤ على قولها بصوت عالٍ من قبل قالت بصوت خافت كأنه سر، صوت يرتجف من ثقل الاعتراف.
_أجولم الحجيجة، أني بحبه... بحبه جوي كمان، من جبل حتى ما أشتغل عنده كنت بشوفه من بعيد، وبشوف شهامته واحترامه، وجلبي اتعلق بيه من غير ما أحس كنت فاكرة إن ده حلم بعيد، مستحيل.
نظرت ليان إليها نظرة ثاقبة، ثم ابتسمت ابتسامة واثقة ومشرقة.
_يبقى خلاص الموضوع خلص.
عقدت صبر حاجبيها باستغراب.
_خلص كيف؟ هو شايفني مجرد ورطة، مجرد بنت غلبانة أنقذها جوازنا ده مؤقت وهينتهي لما يجرر يرچع مصر هو بنفسه جالي إكده.
هنا تغيرت نبرة ليان وأصبحت أكثر قوة وحماساً كقائدة تستعد لمعركة.
_لأ مش هيخلص طالما بتحبيه، يبقى هو حقك ولازم تحاربي علشانه الراجل ده أعمى، ميعرفش هو معاه إيه كل اللي شافه منك بنت غلبانة ومكسورة وخايفة لازم يشوف صبر الحقيقية لازم يشوف قوتك وجمالك وذكائك.
لازم تخليه يندم على كل كلمة قالها، مش بالخناق والزعل لأ... بالحب والجمال والثقة.
سحبت ليان صبر من يدها، وعيناها تلمعان بالحماس.
_قومي معايا أول خطوة في المعركة دي هتبدأ النهاردة.
بعد انتهاء اليوم الدراسي، أخذت ليان صبر إلى مجموعة من المحلات الأنيقة بدأت تختار لها ملابس مختلفة تماماً عما اعتادت عليه.
فساتين منزلية رقيقة بألوان زاهية، ملابس أنيقة تبرز قوامها الممشوق بأسلوب ملحوظ
_ليان الفلوس اللي معايا مش هتكمل..
جذبتها ليان بثقة
_هسلفك بس يلا
أخذتها إلى الطابق العلوي كانت صبر تنظر إلى الملابس بخجل ورفض.
_ لأ يا ليان مجدرش ألبس الحاچات دي أنا مش واخدة على ده وهستحى البس اكده
أمسكت ليان فستاناً حريرياً ناعماً باللون الأزرق السماوي ووضعته أمامها.
_ الحاجات دي مش هتلبسيها قدام حد غريب ده لجوزك حلالك إنتي لازم تبيني جمالك له، لازم تلفتي نظره كفاية إنه يشوفك دايماً باللبس الواسع اللي بيخبيكي وبيخلي شكلك أكبر من سنك، إنتي جميلة يا صبر ولازم هو يشوف الجمال ده ويعرف قيمته لازم يعرف إنه متجوز جوهرة، مش مجرد "حل مؤقت".
..
نظرت صبر إلى انعكاسها في المرآة وهي تمسك بالفستان كلمات ليان القوية والمشجعة أوقدت بداخلها شعلة من الأمل والتحدي ربما كانت صديقتها على حق لقد حان الوقت لتتوقف عن لعب دور الضحية، وتبدأ في القتال من أجل قلبها وحقها في السعادة.
في سكون الليل، وقفت صبر أمام مرآة خزانتها الطويلة تتأمل انعكاس صورتها بذهول، وكأنها ترى امرأة غريبة لا تعرفها.
كانت ترتدي الفستان الأزرق السماوي الذي اختارته لها ليان.
كان الفستان طويلاً وبسيطاً، لكن تصميمه كان مختلفاً تماماً عما اعتادت عليه؛ بحمالات رفيعة تكشف عن كتفيها وذراعيها بنعومة، وينسدل على جسدها ليبرز تفاصيلها الأنثوية التي طالما أخفتها خلف ملابس واسعة وفضفاضة.
كان شعرها الأسود الغجري، الذي تركته حراً لأول مرة ينساب حول وجهها الأبيض الصافي مما منحها جمالاً برياً وغير مألوف.
لم تكن هذه صبر الخائفة المنكسرة كانت هذه امرأة أخرى واثقة جميلة، تضج بالحياة لم تصدق أنها هي.
"صبر"
اخترق صوته الحاد صمت الغرفة، فانتفضت صبر في مكانها وكأنها ضُبطت متلبسة بجريمة.
من فرط الخوف الذي ترسخ في نفسها من نبرته نست كل شيء؛ نست الفستان ونست شكلها الجديد وخرجت من غرفتها مسرعة لترى ماذا يريد، متوقعة توبيخاً أو أمراً جديداً.
كان أكمل يقف عند أسفل السلم، يمسك ببعض الأوراق في يده ويبدو عليه الانشغال.
_ جهزتي الورق اللي طلبته منك الصبح؟ محتاجه ضر...
تجمدت كلماته في حلقه حين رفع عينيه ورآها تقف عند أعلى الدرج.
تجمد هو الآخر
لم يعرفها
للحظة خاطفة ظن أنها زائرة، ضيفة غريبة دخلت منزله بالخطأ.
كانت هيئتها وقفتها وثوبها كلها غريبة عليه.
ثم وقعت عيناه على الشيء الوحيد الذي استطاع تمييزه الشيء الذي لا يمكن أن يخطئ فيه: شعرها.
ذلك الشعر الغجري الكثيف الذي لم يره منسدلاً بهذا الشكل من قبل.
_صبر؟
نطق اسمها كأنه سؤال، بصوت يملؤه عدم التصديق.
كان مصدوماً تماماً، لا يعرف ماذا يفعل أو يقول.
لقد اختفت صورة الفتاة البسيطة ذات الملابس المتواضعة، وحلت محلها هذه الرؤية للساحرة التي أمامه.
شعر بارتباك لم يشعر به من قبل، وبشيء يشبه الخفقان في صدره.
استغربت صبر من حالته، من صمته ونظرته المذهولة.
ثم فجأة، انتبهت لنفسها.
انتبهت للفستان الذي ترتديه ولشعرها المنسدل، وأدركت أنها خرجت أمامه بهذا الشكل.
شعرت بالدم يتدفق إلى وجهها، فاحمرّت خجلاً وارتباكاً.
تلجلجت في الكلام وقالت بصوت متقطع
_ أ... أنا... الورج... هچيبه حالاً.
استدارت بسرعة لتعود إلى غرفتها، لتهرب من نظراته الثاقبة التي شعرت أنها تخترقها، لكن صوته أوقفها.
_ استني.
توقفت مكانها، وظهرها له، لا تجرؤ على الالتفات.
لم يكن صوته حاداً كالعادة، بل كان هادئاً، وربما... حائراً.
لم يكن أكمل نفسه يعرف لماذا أوقفها عقله يخبره أن يتركها تذهب، أن يعود إلى أوراقه ويتجاهل ما رآه.
لكن شيئاً أعمق شعوراً جديداً وغريباً كان يطالبه بالبقاء، برؤيتها أكثر.
هذه الصورة التي أمامه حركت فيه شيئاً كان يظنه ميتاً.
بدأ الحديث بتردد، يبحث عن أي مبرر.
_انا كنت عايز أسألك عن الجامعة عاملة إيه؟ اتأقلمتي؟
كان سؤالاً بسيطاً لكنه كان جسراً حاول أن يمده فوق فجوة الصمت والإحراج بينهما.
استدارت صبر ببطء، وهي تضم ذراعيها حول نفسها في محاولة لتغطية كتفيها العاريتين.
_ الحمد لله زينة.
ظل ينظر إليها وفي عينيه صراع واضح.
_ الفستان ده... جديد.
أومأت برأسها بصمت وقلبها يخفق بقوة.
تنهد أكمل وقال بصدق مفاجئ، وكأنه يتحدث مع نفسه أكثر مما يتحدث معها
صعد هو إليها ومشاعره تحسه على الاقتراب منها
وبطريقة عفوية ابعدت خصلة لتقيدها خلف أذنها فيظهر امامه عنقها ناصع البياض
ازدرد لعابه بصعوبة وهو يقف أمامها يتطلع إليها بعدم تصديق
حاول البحث عن كلمات فلم يجد
ما هذه المشاعر التي اقتحمته منذ أن رأها بذلك الشعر الغجري في مطبخه
متى كان بتلك السطحية
كانت عينيه تتحرك ببطء وبحرية على كل تفاصيلها
لا يصدق ما يراه
ذلك الثوب الذي اظهر تفاصيلها بشكل يخطف الانفاس
رفع نظره إلى عينيها فوجد نظره الحزن التي لازمتها منذ زواجهم
يعرف انه اخطأ بحقها وجرحها لكن لم يكن بوعيه
هو يبغض أن يوضع أمام الأمر الواقع لذا كان هذا سبب انفعاله، اعتذر بعينيه
_لسة زعلانة؟
كانت هذه أول مرة يعتذر فيها، أو حتى يعترف بخطئه، نظرت إليه صبر بدهشة، ورأت في عينيه حيرة حقيقية لمحة من الندم.
هزت راسها بنفي
فأكمل بصوت أهدأ وهو يتطلع إلى هيئتها
_بس ايه اللي عملتيه في نفسك ده... شكلك... حلو.
قالها بصعوبة، كأن الكلمة غريبة على لسانه.
_ كانى أول مرة أشوفك... بجد.
لم تكن مجاملة عابرة بل كانت اعترافاً.
اعتراف بأنه كان أعمى، وأنه بدأ يرى الآن.
وفي تلك اللحظة تحت ضوء المنزل الخافت تغير شيء جوهري في العلاقة بينهما.
لم يعودا مجرد رجل وامرأة جمعهما عقد على الورق، بل أصبحا رجلاً بدأ يكتشف جوهرته، وامرأة بدأت تؤمن بقيمة نفسها.
❈-❈-❈
بعد الحادثة مباشرة
عادت ونس إلى المنزل مع سامية، تحمل بعض الأكياس وقالت لسامية
_دخلي الحچات دي المطبخ وهطلع أشوف نغم.
دلفت سامية المطبخ وصعدت ونس للأعلى فصادفت جاسر يخرج من جناحه، ملامحه متجهمة ومزاجه متعكر بشكل واضح.
_حمدلله على السلامة يا أمي.
لاحظت ونس على الفور توتره.
_الله يسلمك يا ولدي مالك إكدة؟ وفين نغم؟
أجابها باقتضاب وهو يشيح بنظره، كأنه يتهرب من شيء ما.
_في أوضتها إيدها اتحرجت في المطبخ.
لم يكمل جملته بل سار مبتعداً بسرعة كمن يهرب من ساحة معركة.
لم تحتاج ونس لأكثر من هذا لتدرك أن شيئاً كبيراً قد حدث.
وأسرعت بخطى قلقة نحو جناح ابنها.
فتحت باب غرفة نغم دون استئذان، فوجدتها جالسة على حافة السرير تضم نفسها وتبكي، لم يكن بكاءً عادياً بل كان بكاءً منكسراً ومقهوراً.
أسرعت ونس وجلست بجانبها، وفي صوتها كل حنان العالم.
_نغم يا حبيبتي مالك؟ جاسر جالي إن إيدك اتحرجت وريني.
لكن نغم لم تمد يدها بدلاً من ذلك، ارتمت في حضن ونس وانفجرت في بكاء عنيف، بكاء كانت تحبسه طويلاً كلما تذكرت ملمس شفتيه، وقبلته التي سرقت أنفاسها ثم صفعتها التي أعادتها إلى الواقع المر، كلما ازداد نحيبها.
احتضنتها ونس بقوة، وربتت على ظهرها بحنان وتركتها تفرغ كل ما في قلبها.
بعد دقائق وعندما بدأت شهقاتها تهدأ قليلاً، أبعدتها ونس برفق ومسحت دموعها بأطراف أصابعها.
_اهدي يا بتي... اهدي كل ده عشان حرج بسيط؟ وريني إيدك.
نظرت ونس إلى يدها، ورأت الحرق البسيط الذي تم الاهتمام به بعناية.
_ده حرج بسيط جوي يا نغم مش هو اللي يخليكي تنهاري بالشكل ده.
فيه حاچة تانية حصلت، صُح؟
هزت نغم رأسها، وشعرت بالخجل والضعف، لم تعد قادرة على التحمل وحدها، بصوت متقطع اعترفت بكل شيء.
_أني... أني اللي حرجت نفسي.
اتسعت عينا ونس بالصدمة.
_إيه؟! ليه يا بتي تعملي في حالك إكدة؟!
قالت نغم بمرارة
_عشان أكمل اللي بدأته عشان أعذبه بالطريجة دي.
نظرت إليها ونس بعتاب رقيق.
_يا نغم... تنتجمي منه بإنك تأذي حالك؟ ده مش صح أبداً.
ثم سألتها مباشرة، وهي تقرأ ما بين الدموع.
_بس مش ده بس اللي خلاكي تعيطي هو عمل حاچة، مش إكدة؟
أطرقت نغم رأسها، واحمر وجهها بالدموع، وهمست بصوتٍ بالكاد يُسمع.
_با... با..سني.
حاولت ونس جاهدة أن تخفي ابتسامة انتصار صغيرة كادت ترتسم على شفتيها.
لقد نجحت الخطة إذن لقد تحرك الحجر الذي في صدر ابنها.
لكنها حافظت على ملامحها المتعاطفة.
_وبعدين؟
_ضربته بالقلم.
هنا لم تستطع ونس إخفاء دهشتها.
_ضربتيه؟!
قالت نغم بجموح
_مكنش لازم يعمل إكدة!
قالت ونس بهدوء وحكمة
_ليه مكنش لازم؟ هو مغلطش يا نغم أنتي مراته.
انتفضت نغم بعند، وابتعدت عنها.
_لاه مش مرته.
نهضت ونس وهي تقول بدهاء
_ولما انتي مش مرته بتعملي إكدة ليه؟
اهتزت نظراتها ولم تعرف ماذا تقول فقالت بتعند
_بس أني مش هعمل إكدة تاني! مش هستخدم الأسلوب ده معاه تاني أبداً، كل اللي عملته جاه على هواه في الآخر هو اللي كسب
هنا، رأت ونس فرصتها لقد حان وقت استخدام ذكائها.
_وهو إيه اللي خلاكي تجولي إنه كسب؟
_لأنه خد اللي هو عايزه.
تابع ونس دهاءها
_هو ايه بجا اللي عايزه.
لم تجيب نغم
لذا ابتسمت ونس ابتسامة ماكرة.
_غلطانة يا نغم أنتي اللي كسبتي.
نظرت إليها نغم بحيرة.
أكملت ونس، وكأنها تشرح استراتيجية معركة.
_أنتي خليتيه يحس، خليتيه يتصرف من غير تفكير، جاسر طول عمره بيتحكم في كل حاچة، كل كلمة وكل نظرة، كون إنه يبوسك فجأة، ده معناه إنه فقد السيطرة، وأنتي اللي خليتيه يفقدها
دي أول مرة من سنين أشوف جاسر بيتصرف بجلبه، مش بعجله أنتي نجحتي.
صمتت نغم، تفكر في كلامها.
أضافت ونس بذكاء
_بس أنتي بانسحابك دلوجت، بتديله النصر على طبق من دهب.
هتثبتيله إنك أضعف منه وإنك خفتي من رد فعله، هتخليه يرچع تاني جاسر بتاع زمان اللي بيتحكم في كل حاچة لكن لو كملتي... لو خليتيه ديماً على حافة الهاوية زي ما بيجولوا، ديماً مش عارف يتوجع خطوتك الجاية... ساعتها بس هتجدري تسيطري عليه بجد.
نظرت في عيني نغم مباشرة، وألقت بضربتها القاضية.
_انتي دلوجت عرفتي نجطة ضعفه الحجيجية، مش أهله ولا فلوسه... نجطة ضعفه بجت أنتي.
هتستخدمي نقطة الضعف دي عشان تكسريه وتنتجمي، ولا هتسيبيها وتخليه هو اللي يرچع يكسرك؟ القرار قرارك.
❈-❈-❈
منذ ذلك اليوم، تحولت نغم إلى شبح في الجناح كانت تتحرك بصمت، كظِل لا يريد أن يُرى، تتجنب الأماكن التي قد يتواجد فيها جاسر، وتختصر وجودها في أضيق الحدود لكنها لم تستطع تجنبه تماماً، خاصة على مائدة الطعام التي تحولت إلى ساحة تعذيب يومية.
أما هو، فكان يعيش في جحيم من نوع آخر منذ أن ذاق طعم شفتيها، لم يستطع إخراجها من رأسه.
أصبحت هوساً يسكن عقله يطارده في يقظته ومنامه.
على مائدة الطعام كان يراقبها بنظرات جائعة لم يعد قادراً على السيطرة عليها، يتابع حركة يديها الرقيقة وهي تمسك بالملعقة، يراقب شفتيها وهي ترتشف الماء، وهذا المشهد البسيط كان يثير عاصفة هوجاء من الرغبة والغضب بداخله، كان يحاول بكل قوته أن يبعد عينيه عنها، أن يركز في طبقه، في حديث والدته في أي شيء آخر، لكن نظراته كانت تعود إليها رغماً عنه كفراشة تنجذب للنار التي أحرقتها.
في أحد الأيام، كانت نغم تقف في الحديقة، تحاول يائسة أن تستنشق بعض الهواء النقي بعيدًا عن الأجواء الخانقة في الداخل، كانت الأشجار صامتة والزهور زاهية، لكن كل هذا الجمال كان يبدو باهتًا في عينيها.
لم يدم هدوءها الهش طويلاً، فقد شعرت بخطواته الثقيلة تقترب منها من الخلف لم تلتفت، بل تصلب جسدها بالكامل كجندي يستعد للمواجهة، وشعرت بأنفاسها تحتبس في صدرها.
وقف بجانبها، ليس قريبًا جدًا، لكن وجوده كان طاغيًا، يمتص الهواء من حولها. سألها بصوته الجليدي المعتاد، صوت كان كافيًا ليجمد الدماء في عروقها.
_لحد إمتى هتفضلي تهربي؟
لم تجبه اشتعل داخلها غضب عارم ليس فقط منه، بل من نفسها، كلما تذكرت قبلته كانت تشعر بمزيج من الخزي والتمرد وتغضب من نفسها لتفكيرها به ولو للحظة.
لذا اتخذت من سؤاله فرصة لتفجر كل غضبها المكبوت.
استدارت نحوه فجأة، بعينين تطلقان شررًا.
_بهرب؟ أنا مش بهرب أنا بحاول أحافظ على آخر ذرة من كرامتي بعيد عن واحد زيك، واحد معندوش أي احترام لمشاعر حد.
ظهر وميض غضب خطير في عينيه، لكنه أخفاه بسرعة البرق خلف قناعه الجليدي المعتاد
اقترب منها خطوة مقلصاً المسافة بينهما وأصبحت رائحته الرجولية القوية تحيط بها من كل جانب.
_امتى؟
سألها ببراءة مصطنعة، وهو يعلم تماماً إلامَ تلمح.
نظرت إليه بصدمة، غير مصدقة وقاحته.
_امتى؟! أنت بتسأل بجد؟!
أومأ برأسه ببطء، وعيناه مثبتتان على عينيها، كصياد يراقب فريسته وهي تقع في الفخ.
_أيوه بسأل بجد، امتى؟
شعرت بالدم يندفع إلى وجهها
كيف تجيبه؟ كيف تقول له
"عندما قبلتني رغماً عني"؟
ستكون بذلك قد اعترفت بتأثير القبلة عليها، وستمنحه نصراً آخر
لقد حشرها في زاوية، وأجبرها على الصمت.
عندما رآها صامتة، وعاجزة عن الرد ارتسمت على شفتيه ابتسامة خفيفة وساخرة.
_شايفة؟ مفيش رد لأنك خابرة إنك بتتبلي عليا.
هنا، لم تعد تحتمل.
_أنا مش بتبلى عليك! أنت خابر زين أنا بتحدت عن إيه!
اقترب خطوة أخرى حتى لم يعد يفصلهما سوى شبر واحد، انحنى قليلاً وهمس بصوتٍ أجش صوت مخصص لها وحدها.
_لأ، مش خابر فهميني جوليلي يا نغم... امتى حسيتي؟ لما كنت بغيرلك على إيدك المحروجة؟ ولا لما كنت باخدك في حضني وانتي منهارة؟ ولا يمكن... يمكن لما كنت بأكلك بإديا؟ جوليلي... امتى بالظبط؟
رفع حاجبيه بمكر ودهاء
_ولا لما ضميتك لصدري..
كانت كل كلمة من كلماته طعنة، لقد كان يراقبها يعرف كل تفاصيلها، ويستخدمها الآن ضدها ببرود قاتل شعرت بالهزيمة، وبالضعف لم تجد الكلمات لترد عليه.
عندما رأى دموع الإهانة تتجمع في عينيها، عرف أنه قد انتصر في هذه الجولة
مد يده ببطء شديد، وأزاح خصلة شعر تمردت على وجهها كانت لمسته خفيفة كالهواء، لكنها أرسلت رعشة في جسدها بالكامل.
_الهروب مش هينفعك يا نغم، أني جدامك وحواليكي وفي كل حتة.
وكل ما هتهربي كل ما هتلاجيني أجرب.
ثم استقام وابتعد عنها تاركاً إياها ترتجف من مزيج الغضب والعجز والرغبة المكبوتة، لقد أثبت لها مرة أخرى أنه هو من يضع قواعد اللعبة، وهو دائماً من يفوز.
لم تتقبل هزيمتها وصاحت به توقفه
_انت معندكش أي ذرة احترام.
تشنج فكه وقد توقف عن السير يحاول بصعوبة بالغة التحكم في غضبه من كلمتها
أعاد نظرة البرود إلى عينيه رغم تحولهما لفوهة بركان واستدار إليها
قائلاً بسخرية لاذعة، كل حرف فيها كان كطرف سوط.
_بتتكلمي عن الاحترام؟ وإنتي كل حركاتك كانت لعبة عشان تستفزيني؟ نظراتك وصمتك وتحديك... افتكرتي إني مش فاهم إنك كنتي بتحاولي توصلي لرد فعل مني؟
اقتربت منه بغضب أعمى وقد نسيت كل خوفها ونسيت من هو.
_ولما إنت فاهم ليه عملت إكدة؟ ليه اتچننت ونسيت نفسك ونسيت أنا مين بالنسبة ليك؟
اقترب هو بدوره وخفض صوته إلى همس مرعب كان أعلى من أي صراخ.
_عشان أوريكي إن اللي بيلعب بالنار، النار بتحرجه
عشان أفكرك إنك هنا مش ضيفة أنتِ مرتي وإن أي محاولة للعب معايا، نهايتها هتكون خسارتك أنتِ.
صرخت فيه بيأس وقهر، وقد وصلت إلى حافة الانهيار.
_انت معيشني معاك ليه؟! انت مش خلاص وصلت لغرضك ودمرتني ودمرت عيلتي؟! سيبني في حالي بجا وطلجني إحنا مفيش أي أمل بينا، والأحسن ليك وليا إن واحد منينا يروح لحاله وتخلصني من السجن ده!
"طلقني".
كلمة نطقتها وكأنها لا تعلم معناها الحقيقي في قاموسه
لن يفعلها مهما حاولت
في تلك اللحظة لم يعد قادرًا على تحمل اتهاماتها المستمرة وصورتها له كوحش ظالم وهم الضحايا الأبرياء انفجر فيه كل شيء، لكن انفجاره لم يكن صراخًا بل كان هدوءًا مرعبًا هدوء ما قبل العاصفة التي ستقلع كل شيء من جذوره.
_عايزة تعرفي الحجيجة؟ عايزة تعرفي مين الظالم ومين المظلوم؟ اتفضلي.
جذبها من يدها بقوة لم تستطع مقاومتها ودلف بها إلى المكتب من الشرفة المطلة على الحديقة، ثم دفعها بقسوة على المقعد لتجلس عليه. فركت معصمها الذي احمر من أثر قبضته وهي تتطلع إليه بغضب وخوف، وشاهدته وهو يتجه إلى خزانة قديمة يفتحها بمفتاح، ويخرج منها ظرفًا جلديًا كبيرًا وضعه على الطاولة أمامها بضربة عنيفة.
_دي كل الإثباتات اللي بتأكد إن الأرض دي أرضنا من أيام جد جدي
وأنكم انتو اللي طمعتوا فيها، وزورتوا أوراق عشان تاخدوها.
كانت الأوراق صفراء بالية تحمل أختامًا قديمة سندات ملكية، خرائط مرسومة باليد.
ثم أخرج ورقة أخرى تقرير شرطة قديم ومتهالك.
_وده إثبات إن أول دم في التار ده كان من عندنا
هما اللي جتلوا جدي غدر عشان الأرض ولما جدي راح يطالب بحج اخوه، جتلوه هو كمان
إحنا كنا بندافع عن حجنا ودمنا.
كانت نغم تنظر إلى الأوراق بصدمة، وعقلها يرفض أن يصدق.
كانت الكلمات المكتوبة تطمس الحكايات التي نشأت عليها.
لكن جاسر لم ينتهِ بعد
اقترب منها وانحنى حتى أصبح وجهه مقابلًا لوجهها، ونظر في عينيها مباشرة ونبرته تحمل كل مرارة السنين.
_وعمك... اللي إنتي فاكراه بطل وشهم... اتجوز عمتي غصبت عنينا، وفضحنا جدام الخلج كليتها عشان يكسرنا وأنا... أنا اللي إنتي شايفاه وحش... أنا صحيح اتچوزتك غصب، بس سترتك ومفكرتش أشهر بيكي زي ما عملوا هما.
صنتك ومفكرتش ألمس شعرة منيكى عشان أفضحك زي ما عملوا.
هما اللي رموكي للنار، وأنا اللي طفيتها هما اللي اتخلوا عنك واعتبروكي تمن بخس لغلطتهم وأنا اللي اتمسكت بيكي قجوليلى دلوجت... مين فينا اللي له الحج؟
سقطت الكلمات على نغم كالصخور كل ما آمنت به كل ما تربت عليه، كل قصص البطولة والظلم التي سمعتها... كانت تنهار أمام عينيها كقصر من ورق.
نظرت إلى وجه جاسر ولأول مرة، رأت ما وراء القناع الجليدي رأت ألماً حقيقياً مرارة متجذرة، وغضباً له ما يبرره.
شعرت بدوار شديد، وبغثيان يجتاحها لقد كانت تعيش داخل كذبة كبيرة، كذبة متقنة اسمها العائلة والترابط أهلها الذين صورتهم كضحايا، كانوا هم الجناة
وهو الرجل الذي كرهته واعتبرته عدوها، كان هو من حماها وسترها على طريقته القاسية.
شعرت بالخزي من نفسها، وبالاشمئزاز من عالمها الذي تحطم في لحظات
لم تكن ضحية ثأر بل كانت ضحية كذبة، والآن فقط بدأت ترى الحقيقة المؤلمة.
وقفت نغم تحدق في الأوراق المبعثرة امامها، ثم في وجه جاسر الصارم
كان عقلها يرفض تصديق ما تراه وتسمعه.
لا يمكن.
لا يمكن أن تكون كل حياتها، كل قناعاتها كل تضحيات أهلها التي تربت على تقديسها، مجرد وهم كبير.
كذبة.
همست بصوت مرتعش، تحاول أن تكذب نفسها قبل أن تكذبه.
_كداب..... كل ده كدب.
إنت عملت الورج ده عشان تكسرني.
هز جاسر رأسه ببطء، وقد عاد إليه بروده المعتاد لكن عينيه كانتا تحملان خيبة أمل عميقة.
_ صدجتي أو مصدجتيش، دي الحجيجة.
تشبثت نغم بآخر خيط من المنطق في عالمها المنهار.
رفعت رأسها وتحدته بنظرة يائسة.
_ طيب لو كلامك صوح... لو الأرض دي بتاعتكم فعلاً... ليه مبلغتوش البوليس؟ ليه مدخلتوش الحكومة وخدتوا حقكم بالقانون بدل الدم؟
تردد جاسر للحظة، وكأنه يتردد في كشف آخر وأقبح جزء في هذه القصة الملعونة.
ثم نظر إليها بصرامة، وقرر أن ينهي كل شيء الليلة.
_ عشان الأرض وضع يد.
لم تفهم نغم في البداية.
_ يعني إيه؟
قالها بمرارة واضحة
_ يعني لا هي أرضنا ولا أرضهم.
الأرض دي ملك دولة.
إحنا وهما حاطين إيدينا عليها من سنين طويلة، جيل ورا جيل لو الشرطة أو الحكومة دخلت في النص، الأرض هتتسحب مننا إحنا الاتنين وهتتحفظ عليها.
كانت هذه هي الضربة القاضية.
انصدمت نغم صدمة جعلتها تترنح وكادت أن تسقط.
إذن، كل هذا الدم... كل هذا الثأر... كل هذه الكراهية التي غذوا أرواحهم بها... كانت من أجل لا شيء.
من أجل قطعة أرض لا يملكها أي منهم. مات الرجال، وتيتمت النساء، ودُمرت حياة بأكملها من أجل سراب.
هنا، انفجر كل الألم الذي كانت تكبته
لم تعد ترى جاسر عدوها، بل رأته تجسيداً لهذه المأساة كلها.
انفجرت فيه بكل الوجع والقهر والاشمئزاز الذي شعرت به تجاه أهلها وتجاه نفسها وتجاهه.
صرخت فيه، والدموع تنهمر من عينيها كشلال.
_بكرهك.... بكرهك وبكره أهلي وبكره اليوم اللي اتولدت فيه في العيلة دي، إنتوا قتلة، كلكم قتلة، موتّوا بعض عشان حتة طين مش بتاعتكم! دمرتوا حياتي وحياة عمتك وحياة كل اللي حواليكم عشان وهم! عشان كبرياءكم وغروركم! أنا بكرهك يا جاسر بكرهك.
كانت تضربه على صدره بقبضتيها الصغيرتين، لكن ضرباتها كانت بلا قوة، كانت مجرد تعبير يائس عن روح محطمة.
لم يمنعها جاسر بل ظل واقفاً كصخرة صماء يستقبل كل ضربة كل صرخة كل دمعة، وكأنه يمتص ألمها إلى داخله.
كان يسمح لها بتفريغ كل غضبها ووجعها عليه، لأنه في أعماقه، كان يعلم أنه يستحق كل هذا وأكثر.
وعندما انهارت قواها تماماً، وتوقفت قبضتاها عن الحركة، بقيت متكئة عليه، تبكي بصوت مكسور ومبحوح
لم تلاحظ حتى أنها تبكي على صدره، وأن وجهها غارق في قميصه وأنها تبحث عن الأمان في حضن عدوها.
هو لاحظ شعر بدفء دموعها تخترق قماشه، وشعر بارتجاف جسدها الصغير بين ذراعيه، تحركت يداه شوقاً للمسها، لاحتوائها، لضمها بقوة حتى تتلاشى كل هموم العالم.
لكنه لم يتجرأ، خاف.
لأول مرة في حياته شعر جاسر بالخوف، خاف إن لمسها أن تنتكس حالتها، أن تظنها حركة سيطرة أخرى فتبتعد.
لكنه لم يستطع تركها هكذا
برفق شديد أمسك بذراعيها وأبعدها عنه مسافة كافية ليجبرها على النظر إليه.
كانت عيناه تحملان عاصفة من المشاعر التي لم ترها من قبل: ألم، ندم، وغضب موجه نحو العالم كله.
قال بصوت أجش، صوت رجل يحمل جبالاً من الهم.
_وإنتي فاكرة إني مش بكره كل ده؟ فاكرة إني مبسوط بالدم ده؟
أنا اتولدت لجيت حالي في جلبه
وسط كل الكره والدمار ده... اتربيت على إيد واحد مبيرحمش، ميعرفش في حياته غير الكره كل ده بسبب مين؟
كانت تبكي بانهيار تهز رأسها بعنف وتضع يديها على أذنيها كأنها تستطيع بذلك أن تمنع كلماته من الوصول إلى عقلها الذي بدأ يتشقق فلم تعد تحتمل.
لكنه لم يرحمها من الحقيقة أمسك بكتفيها وهزها ليس بعنف، بل بيأس يجبرها على النظر إليه، يجبرها على مواجهة الحقيقة التي هربت منها طوال حياتها
صرخ في وجهها المبلل بالدموع، وصرخته لم تكن غضباً منها بل كانت استغاثة.
_ردي عليا وجولي بسبب مين! ذنبي إيه أعيش اللي عشته؟ ذنبي إيه أكبر وأنا شايف الكره في عينين كل اللي حواليا، وأتعلم إن الجسوة هي الطريجة الوحيدة عشان أعيش؟ كنت بنتجم من كل اللي حواليا... محدش جرب مني إلا وأذيته.
كنت وحش... لأني اتربيت عشان أكون وحش.
ثم فجأة توقف
صمت، ارتخت قبضته قليلاً لكنه لم يتركها، تغير شيء ما في عينيه، في وقفته في الهواء كله بينهما.
تحول الإعصار المدمر إلى هدوء مرعب هدوء يحمل في طياته شيئًا أشد خطورة من الغضب.
_لحد ما حصلت حاچة واحدة... حاچة واحدة بس مكنتش عامل حسابها.
صمت للحظة، وعيناه تبحثان في أعماق عينيها الدامعتين بنظرة لم تكن تتخيلها يومًا.
لم تكن نظرة كره أو انتقام، كانت نظرة رجل يرى قدره لأول مرة.
_حبيتك...
سقط اعترافه في وسط حطامها كقنبلة صامتة.
الكلمة التي لا تنتمي إلى عالمهما، الكلمة التي لا مكان لها بين الدم والثأر وسط كل الكراهية التي صرخت بها في وجهه، قابلها هو بالكلمة الوحيدة التي لم تتوقعها أبدًا.
تجمدت في مكانها
لم يقلها بنبرة عاشق متيم، بل قالها كحقيقة قاسية، كحكم أصدره على نفسه بنفس البرود والجبروت الذي يعلن به أي قرار آخر.
كان يعترف بحبه كما يعترف بحقيقة وجود الشمس، أمر واقع لا جدال فيه.
_وسط كل الكدب والدم... إنتي الحاچة الحجيجية الوحيدة الزينة اللي حصلتلي.
بكره كل حاچة حواليا يا نغم... إلا إنتي.
رأى الارتباك والإنكار في عينيها، فتابع بوميض من العاطفة الخام التي لم يستطع كبحها.
_خابر إن ده مش هيغير حاچة، وخابر إنك بتكرهيني، وحجك.
بس رايدك تعرفي إن كل اللي هعمله بعد إكده، مش هيكون عشان التار، ولا عشان انتجام عيلتي.
تحول الوميض إلى نظرة عشق حارقة، نظرة امتلاك مطلق، نظرة رجل قرر مصيره.
_عشانك أنتِ.
كانت هذه هي الضربة القاضية أغمضت عينيها بقوة، لا تريد أن تفتحهما بعد ما قاله.
لا تريد أن ترى ذلك العشق في عينيه، لو فعلت لانهارت كل دفاعاتها الهشة.
أفلتت نفسها من بين يديه وسارت بخطوات سريعة وعمياء، تتعثر في خطواتها حتى وصلت إلى غرفتها.
أغلقت الباب خلفها، واستندت عليه وأنفاسها تتلاحق وقلبها يدق بعنف كأنه سيخرج من صدرها.
لقد ألقى بقنبلته الأخيرة لم يطلب منها الحب، بل أخبرها بحبه كأمر واقع، كجزء جديد من المعادلة المعقدة بينهما وأدركت نغم أن الحرب لم تنتهِ، بل لقد بدأت للتو، حرب من نوع آخر حرب أشد ضراوة.
حرب ضد مشاعره، وضد قلبها الذي بدأ يخونها بالرغم عنها، وضد الحقيقة التي أصبحت تعرفها الآن: أنها لم تعد تكره عدوها كما كانت تظن.
❈-❈-❈
•تابع الفصل التالي "رواية ثنايا الروح" الريح والغيامة" اضغط على اسم الرواية