رواية ثنايا الروح "الريح والغيامة" الفصل الخامس والعشرون 25 - بقلم رانيا الخولي

 رواية ثنايا الروح "الريح والغيامة" الفصل الخامس والعشرون 25 - بقلم رانيا الخولي 

ثنايا الروح 
رانيا الخولي 
الخامس والعشرين 
........................

دلف مالك إلى غرفة جده، حاملاً على كتفيه همًا أثقل من كل المشاريع الهندسية التي أدارها في حياته. 
وجد وهدان جالسًا في شرفته كعادته منذ موت عدي، يحدق في الفراغ، وكأنه يبحث في الأفق عن وجه حفيده الراحل كان الصمت في الغرفة كثيفًا، مشبعًا بالحزن والذكريات.
_جدي...

التفت وهدان ببطء، وارتسم على وجهه ظل ابتسامة متعبة عند رؤية مالك.
_أهلاً يا مالك تعالى يا ابني اقعد.

جلس مالك على المقعد المقابل لجده، لكنه لم يستطع أن ينظر في عينيه مباشرة بدلاً من ذلك ثبت نظره على يديه المتشابكتين، يبحث عن الكلمات الصحيحة، عن المدخل المناسب لموضوع شائك وحساس كيف يبدأ؟ كيف يطلب يد أرملة أخيه الذي لم يمر على وفاته ثلاثة أشهر؟ شعر بأن طلبه مهما كان نبيلًا في دوافعه، قد يبدو كأنه انتهازيًا أو قلة احترام لحرمة الموت. 
كل كلمة حضّرها في عقله بدت الآن إما متسرعة أو غير لائقة.

لاحظ وهدان ارتباكه وصمته الطويل نظر إليه باهتمام، بصيرة السنين الطويلة جعلته يقرأ ما وراء الصمت.
_مالك يا مالك؟ شايفك مش على بعضك فيك إيه يا ولدي؟

أخذ مالك نفسًا عميقًا، كمن يستعد للقفز في مياه عميقة ومجهولة. 
قرر أن المواجهة المباشرة مهما كانت صعبة، هي الطريق الوحيد رفع رأسه ونظر في عيني جده.

_جدي، أنا عايز أتكلم مع حضرتك في موضوع... موضوع مهم يخصني، ويخص... روح.

عند ذكر اسمها، تغيرت نظرة وهدان لم تكن دهشة، بل كانت ترقبًا حذرًا التزم الصمت، مشجعًا مالك بنظرته على إكمال ما بدأه.
شعر مالك بأن الأرضية أصبحت أكثر صلابة تحت قدميه.
_أنا خابر... خابر إن الوجت يمكن مش مناسب، وإن عدتها لسه مخلصتش، وإن چرحنا كلنا لسه مفتوح
والله وحده عالم باللي في جلبي، وعالم إني بفكر في الموضوع ده بجالي ليالي ومعرفش أنام بس أنا مش جادر أستنى أكتر من كده عشان أفاتح حضرتك في الموضوع.

توقف للحظة، يبتلع ريقه الذي شعر بجفافه.
_حضرتك عارف زين اللي في جلبي ناحية روح من سنين والإحساس ده عمره ما مات يا جدي، بالعكس، كان بيكبر وبيوچع كل يوم عن اللي جبله، ولما حصل اللي حصل... وشفتها وحيدة ومكسورة... حسيت إن واچبي وحجي وحلمي، كلهم بجوا حاچة واحدة.

اشتدت نبرته قوة وصدقًا.
_أنا رايد أتجوز روح يا جدي عايز أبجى سندها وضهرها، وأعوضها عن كل اللي شافته، روح متستاهلش تعيش لوحدها وهي في السن ده وميصحش، ولا يرضي ربنا، نسيبها كده للناس وكلامهم اللي مبيرحمش. 
أنا مش هعمل أي خطوة ولا هتكلم في أي حاچة رسمية إلا بعد ما عدتها تخلص باليوم والدجيجة، بس كان لازم آچي لحضرتك الأول، عشان لو اللي بفكر فيه ده غلط أو عيب، حضرتك تجولي وأدفن الفكرة دي دلوجت.

ظل وهدان صامتًا، ونظراته تتفحص دواخل حفيده لم يرى في عينيه طمعًا أو استعجالًا، بل رأى حبًا قديمًا وناضجًا، ورغبة صادقة في الحماية والستر، هو نفسه يعلم بحب مالك لروح، بل ورأى في الآونة الأخيرة كيف تغيرت نظرات روح أيضًا إليه، كيف أصبحت تبحث عنه بعينيها، وكيف تجد في وجوده الأمان الذي فقدته.

أخيرًا، تحدث وهدان بهدوء، وصوته كان يحمل دفئًا أبويًا.
_طب وأنت فتحت روح في الموضوع ده؟ لمحت لها حتى؟

هز مالك رأسه بالنفي سريعًا.
_لأ يا جدي، مجدرش أتخطى حضرتك أبدًا، وكمان كنت رايد أحترم حزنها ومشاعرها. 
أنا چيت لحضرتك لول عشان أطلب الإذن، أطلب موافجتك ومباركتك. 
لو حضرتك شايف إن ده صوح، هستنى الوجت المناسب بعد عدتها، وهكلمها لو شايفه غلط، يبجى كأني متكلمتش.

هز وهدان رأسه ببطء، وابتسامة حقيقية، وإن كانت حزينة، ارتسمت على شفتيه.
_طول عمرك راچل يا مالك، راچل حكيم صوح، اللي بتجوله ده هو عين العقل والأصول
روح بنتنا، جبل ما تكون مرات الغالي الله يرحمه، ومش هنلاجي لها أحسن منك يصونها ويحافظ عليها.

شعر مالك بأن جبلًا من القلق قد أُزيل عن كاهله، وتنفس بعمق لأول مرة منذ دخوله الغرفة.
لكن وهدان أكمل بنبرة جادة.
_بس الموضوع كله في إيد روح دلوجتي إحنا خلاص زمن الجبر انتهى يا ولدي، بعد ما عدتها تخلص اجعد معاها واتكلم، شوف اللي في جلبها إيه لو وافجت، يبجى ليك مني كل الدعم والمباركة، والفرح يتعمل تاني يوم إحنا مش هنسيبها فريسة للوحدة ولا للقيل والقال، وخصوصًا إن البيت فيه شاب متچوزش أنت عندك حج، واجبنا نحميها ونسترها.

نهض مالك، وانحنى على جده وقبّل رأسه بقوة، قبلة تحمل كل الامتنان والحب.
_شكرًا يا جدي شكرًا، عمري ما هخذلك ولا هخذلها.

ابتسم الجد وربت على كتفه.
_أنا خابر يا ابني، دلوجت سيبها على الله، وكل حاچة هتيچي في وجتها الصبر يا مالك... الصبر مفتاح كل شيء.

❈-❈-❈

في المساء، كان جاسر يعمل في مكتبه الصغير في البيت. 
كانت والدته قد ذهبت لتنام
سمع صوت خطوات تقترب، وظن أنها الخادمة التي ستحضر له قهوته المعتادة. 
لكن الباب انفتح ودخلت نغم، تحمل هي القهوة.

كانت ترتدي عباءة بسيطة من الحرير، وكان شعرها جافًا الآن، ينسدل على ظهرها.
قالت ببرودها المعتاد، كأن ما تفعله هو الشيء الأكثر طبيعية في العالم. 
_سامية تعبت شويه جولتلها ترتاح وانا هعملها.

اقتربت من مكتبه
ثم انحنت لتضع الفنجان أمامه، وتعمدت أن تميل بجسدها أكثر من اللازم، مما جعل خصلات من شعرها الطويل تلامس يده التي كانت تستقر على المكتب. 
انتفض جاسر من لمستها الخفيفة، وشعر بقشعريرة تسري في جسده رائحة شعرها، رائحة أنثوية، ملأت أنفه.

رفعت رأسها، ونظرت إليه مباشرة، لكن عينيها كانتا باردتين كالعادة. 
لم تكن هناك ابتسامة، لم يكن هناك إغواء صريح. 
كان هذا هو ما يجعله يفقد عقله: هذا التناقض بين جسدها الذي أصبح فجأة متاحًا للنظر، وعينيها وروحها اللتين لا تزالان بعيدتين ومنيعتين كقلعة محصنة.
سألت بنفس البرود.
_عايز حاچة تاني.

قال بصوتٍ أجش، وهو يحاول السيطرة على ردة فعله.
_لأ
استدارت وخرجت من الغرفة بهدوء، تاركة إياه مع قهوته التي بردت، ونار جديدة اشتعلت في داخله.

لقد ايقن جاسر أنها تفعل ذلك عن قصد.
لم تكن هذه الأفعال عفوية
كانت تلعب معه لعبة خطيرة، لعبة تستخدم فيها أنوثتها كسلاح. 
لكن معرفته هذه لم تساعده. 
ففي كل مرة، كان يقع في فخها. 
كان عقله يصرخ فيه بأنها خدعة، لكن جسده وروحه كانا يخونانه.

لقد بدأت نغم حربها الصامتة، وكانت تفوز في كل جولة، مستمتعة برؤية هذا الرجل القوي الذي حطمها، يبدأ في التحطم ببطء أمامها، ضحية لحبٍ هي نفسها من قررت أن تغذيه... لتقتله به في النهاية.

صعدت إلى غرفتها وأغلقت تلك المرة الباب وراءها بعنف
لقد ملت ولن تستطيع الضغط على نفسها أكثر من ذلك 
لكن ليس أمامها سوى تلك الطريقة مع ذلك الرجل

❈-❈-❈

منذ أن غيّب الموت عدي، 
انسحبت وعد داخل قوقعة من الحزن الصامت. 
ابتعدت عن الجميع، وحتى عن سند الذي كان أقرب الناس إليها. 
هذا البُعد لم يقلل من مكانتها في قلبه، بل على العكس، جعله يشتاق إليها أكثر يشتاق لضحكتها، لكلامها، لوجودها الذي كان يملأ عليه حياته.

في ذلك المساء، تركت وعد أمها غارقة في دموعها التي لم تجف بعد، وتسللت إلى غرفتها تبحث عن مهرب في النوم. 
ألقت بجسدها المنهك على السرير وأغمضت عينيها، تتمنى لو أن الظلام يبتلع أفكارها. 
لكن قبل أن تغوص في عالم الأحلام، شعرت به يجلس على حافة السرير، وسمعت صوته الهادئ الذي اخترق صمتها.
_ وعد... ممكن نتحدت شوية؟

فتحت عينيها ببطء، لتجد سند ينظر إليها بعينين مليئتين بالشوق والعتاب 
لم يمنعها من النوم هذه المرة، بل منع وحدتها من أن تبتلعها بالكامل.

جلسَت باعتدال وهي تسأله بصوت متعب
_في إيه يا سند؟

قالها بنبرة حنونة وهو يقترب منها أكثر. 
_ إنتي اللي فيكي إيه؟ ليه بعيدة عني اكده يا وعد؟ أنا عملت حاجة زعلتك؟

سؤاله كان بمثابة المفتاح الذي فتح كل السدود المنهارة بداخلها. 
هي أيضاً كانت تحتاجه، تحتاج لصدره الحنون، لأمان وجوده. 
لم تجد الكلمات لترد بها، فكانت دموعها أسرع.
انهمرت بلا توقف، ووجدت نفسها، دون وعي ترتمي في حضنه، تدفن وجهها في صدره وتبكي.

بكت أخاها، بكت وحدتها، بكت ألم أمها وأبيها، بكت كل الأيام الثقيلة التي مرت عليها
لم يقول سند شيئاً، فقط شدد من احتضانه لها، يتركها تفرغ كل ما في قلبها من وجع. 
يده كانت تمسح على شعرها بحنان لا نهائي، بينما قلبه كان يعتصر ألماً لألمها.

وفي تلك اللحظة، وهو يستنشق عبير شعرها ويشعر بارتجاف جسدها بين ذراعيه، اعترف لنفسه بالحقيقة التي كان يهرب منها.
أنه أحبها.

لم يكن مجرد حب عادي، كان شعوراً جارفاً، مختلفاً تماماً عن أي شيء شعر به من قبل حتى حبه لـ نغم، الذي كان يظنه حب حياته، بدا باهتاً الآن، مجرد ذكرى. 
أدرك في تلك اللحظة أن ما كان بينه وبين نغم هو حب من نوع آخر، حب أخوي نشأ بسبب تقارب السن والصداقة القوية، حب جميل، لكنه ليس الحب الذي يجعل رجلاً مستعداً لفعل المستحيل.
حب وعد كان هو المستحيل.

عندما هدأت قليلاً ورفعت رأسها من على صدره، كانت عيناها حمراوين ومتورمتين، لكن نظرتهما كانت أقل حزناً.
أمسك وجهها بين كفيه، وأجبرَها على النظر في عينيه مباشرة.
_ وعد، اسمعيني زين... أنا خابر إن الوجت غير مناسب، بس لازم تعرفي.

صمت للحظة يجمع شجاعته، ثم أكمل بصوت صادق يخرج من أعماق روحه
_ مش جابل بعدك عني اكتر من إكدة، إنتي بجالك فترة طويلة بعيدة عني، بتدخلي اوضتك بس للنوم وتجومي الصبح تروحي لمرات عمي.
نظر إليها بصدق وتابع
_انا خابر انها محتچالك انتي اكتر واحدة، بس خلاص يا وعد مبجتش جادر اتحمل بعدك اكتر من إكدة.
تطلعت إليه من بين اهدابها المبللة
_بس اللي راح مكنش هين، ده أخوي.

_وأخوي انا كمان، وربنا وحده اللي يعلم بحرجت جلبي عليه، صحيح هو كان انطوائي وعايش في دنيا لخاله بس كان أخ وسند وعزوة، موته مكنش بالساهل علينا كلنا، بس الدنيا مش بتجف عند حد.
رفع انامله ليمحو الدموع المتعلقة بأهدابها وتمتم بصدق
_البُعد اللي كنتِ فيه ده كان بيجتلني. 
أنا بجيت مجدرش أعيش لحظة واحدة من غيرك. 
بس زي ما يكون فوجني لحاچة مكنتش واخد بالي منيها..
زمان كنت فاكر إني بحب نغم، بس النهاردة بس فهمت... اللي بيني وبينها كان حب أخوة، كان تعود... لكن إنتي... إنتي حاجة تانية خالص. 
إنتي الحب اللي يخليني أعمل أي حاجة في الدنيا، أي حاجة، بس عشان متضيعيش مني، عشان متكونيش بعيدة. 
أنا مستعد أعمل المستحيل عشانك، بس متعمليش فيا زي ما نغم عملت... متبعديش عني.

كانت كلماته كالمطر الذي يروي أرضاً عطشى، نظرت إليه وعد بصدمة ممزوجة بأمل خافت بدأ يولد في عينيها الدامعتين. 
رأت في عينيه صدقاً لم تره في حياتها، حباً قوياً كان قادراً على انتشالها من حزنها.

لم ينتظر رداً منها. 
كل المشاعر المكبوتة كل الشوق، كل الحب الذي اعترف به لنفسه للتو اندفع في لحظة واحدة. 
انحنى ببطء مقللاً المسافة بينهما، ولامست شفتاه شفتيها.

كانت قبلة لم تكن كأي قبلة بدأت رقيقة حنونة كأنها اعتذار عن كل لحظة ألم، ووعد بكل لحظة سعادة قادمة. 
كانت تحمل كل مشاعره، كل خوفه من فقدانها وكل أمله في مستقبل يجمعهما. 
تعمقت القبلة ببطء، لتصبح أكثر شغفاً، قبلة طويلة ورومانسية، سرقت أنفاسهما وذوبت كل الحواجز التي بناها الحزن بينهما. 
في تلك اللحظة، لم يكن هناك سوى "سند" و"وعد"، وقلبين وجدا طريقهما أخيراً إلى بعضهما البعض في وسط الظلام.

❈-❈-❈

في منزل اكمل..

منذ تلك الليلة تغير كل شيء
أصبح أكمل شخصاً آخر، وانسحب خلف جدار من الصمت والمسافة.
مشاعره تجاه صبر التي تفجرت فجأة، جعلته في حالة من الارتباك الدائم
بات يتجنبها، يتهرب من نظراتها ويختصر وجودها في حياته إلى أضيق الحدود. 
حتى طقس القهوة الصباحي، الذي كان مساحتهم الخاصة للحديث، لم يعد كما كان. 
يكتفي الآن بكلمة شكر مقتضبة دون أن يرفع عينيه عن أوراقه، تاركاً إياها تنسحب بصمت كما أتت.

صبر بقلبها الهادئ وحدسها النقي، لاحظت هذا التغيير لم يكن مجرد انشغال بالعمل، بل كان تجنبًا متعمدًا
كانت تشعر بنظراته الخاطفة التي يسرقها عندما يظن أنها لا تراه، وتشعر بالمسافة التي يضعها بينهما كلما اقتربت
آلمها هذا الجفاء، ليس لأنه سيدها، بل لأنه الشخص الذي فتح لها نافذة على عالم من الأفكار والكتب، وبدأ يمثل لها شيئًا أعمق لم تكن تعرف له اسمًا.

في إحدى الليالي وجدته جالسًا في الشرفة وحيدًا، 
لا يقرأ ولا يعمل فقط يحدق في ظلام الحديقة بشرود كان هذا هو الوقت المناسب
ترددت للحظات، ثم استجمعت شجاعتها الهادئة وتوجهت نحوه.

وقفت على بعد خطوات منه، ولم تتحدث حتى شعر بوجودها والتفت.
_يا بيه...
قال بصوت متجهم قليلاً، كمن تم إقلاقه من عزلة ضرورية.
_خير يا صبر؟ محتاجة حاجة؟

اقتربت خطوة أخرى، وصوتها كان يحمل قلقًا حقيقيًا ورجاءً.
_أنا... أنا اللي عايزة أسأل هو أنا عملت حاچة غلط ضايجت حضرتك؟

نظر إليها بدهشة وعلى ضوء القمر الخافت لاحظ لأول مرة تفاصيل وجهها بوضوح لم يره من قبل ملامحها الهادئة والرقيقة، عيناها الواسعتان اللتان تحملان براءة وصفاءً نادرين 
الطريقة التي تعقد بها حاجبيها بقلق طفولي. 
رأى فيها طيبة أصيلة وعفوية غير متكلفة في تلك اللحظة، شعر وكأن صورة فتاة أحلامه التي بحث عنها طويلاً ولم يجدها في ليلى، قد تجسدت أمامه في هذه الفتاة البسيطة.
تنهد وشعر بأن جدار دفاعه يتصدع.
_لأ يا صبر معملتيش أي حاجة غلط المشكلة فيا أنا، مش فيكي.

قالت بإصرار لطيف تريد أن تفهم.
_بس حضرتك بتتچنبني ومبجتش بتتكلم معايا زي لول لو في حاچة أنا جصرت فيها، جوللي وأنا أصلحها.

نظر إلى عينيها الصادقتين وقرر أن يمنحها جزءًا من الحقيقة مغلفًا بالغموض.

_أنتِ مقصرتيش بس أنا... في حاجة شغلتني حاجة كنت فاكرها بسيطة وعادية، ومكنتش مديها أي اهتمام ولما بصيت لها من زاوية تانية، لما ركزت فيها بجد... لقيتها أجمل وأعمق بكتير من كل الحاجات الكبيرة والمبهرة اللي كانت مالية عيني.
كان يتحدث عنها دون أن يذكر اسمها كان يصفها هي.
فهمت صبر ما يرمي إليه، أو على الأقل فهم قلبها، لم تشعر بالخجل أو الارتباك، بل ردت بهدوئها ورومانسيتها الفطرية التي تشبهها.
_وساعات يا بيه... الحاجات البسيطة دي بتكون زي النچوم طول ما نور المدينة والعالم كله شغال، محدش بياخد باله منها. 
بس لما الدنيا تضلم، والواحد يبجى لحاله... بيكتشف إن النور الحجيجي والهادي كان موچود طول الوجت في السما، مستني بس حد يطفي الأنوار المزيفة عشان يشوفه.

أذهلته مرة أخرى بكلماتها البسيطة، وصفت حالته بدقة مدهشة
لقد كانت هي نجمته الهادئة، ولم يرها إلا عندما أطفأ أنوار علاقته الصاخبة والمزيفة بليلى. 
كلماتها لم تكن مجرد رد، بل كانت لمسة حانية على روحه المضطربة، اعترافًا بأنها تفهمه، وتشعر به.

في تلك اللحظة، وهو ينظر في عينيها التي تعكس ضوء القمر، اعترف لنفسه بالحقيقة كاملة، دون تردد أو خوف لقد أحبها
أحب هدوءها، وعمقها وروحها التي تشبه قصيدة جميلة. 
لقد وجد أخيرًا ما كان يبحث عنه، في المكان الذي لم يتوقع أبدًا أن يبحث فيه.

كان حائراً، ممزقاً بين قلبه الذي يضطرب لوجودها، وعقله الذي يخبره بمسؤوليته تجاهها.
لم يعد قادراً على تحمل بقائها في المنزل وسط هذه الفوضى من المشاعر، وفي الوقت ذاته، لم يكن ليقوى على إعادتها إلى والدها، ليدفع بها إلى جحيم يعرفه جيداً.

وفي صباح أحد الأيام، اخترقت سكون المنزل صرخة حادة ومذعورة كانت صرخة صبر.

قفز أكمل من فراشه فزعاً، وركض إلى أسفل السلم وقلبه يخفق بعنف. 
كان المشهد في الصالة السفلية كفيلاً بتجميد الدم في عروقه. 
كان حسان هناك، يمسك ابنته من ذراعها بعنف ويده الأخرى تهوي عليها بالضربات.

لم يفكر أكمل لثانية. 
اندفع نحوهما كالريح، وأمسك بذراع حسان المرفوعة في الهواء بقوة، وأبعده عنها جاعلاً من جسده درعاً يحميها.
_ إنت اتجننت؟ إزاي تمد إيدك عليها!

سحب صبر لتقف خلف ظهره، ثم واجه حسان بغضب جامح.
_ مالك ومالها؟ بتضربها ليه؟

رد حسان بصوت عالي يملؤه الحقد والغل.
_ الهانم چابتلي العار! فضحتني في البلد!

سقطت كلمة "العار" على مسامع أكمل كالصاعقة. 
التفت لا إرادياً إلى صبر التي كانت ترتجف خلفه، ومرت في عينيه نظرة شك خاطفة لم يستطع منعها. 
رأت هي تلك النظرة، فهزت رأسها بنفي متكرر ودموعها تنهمر، وكأن شكه فيها كان أشد إيلاماً من ضربات أبيها.

استعاد أكمل رباطة جأشه، وعاد ببصره الحاد إلى حسان
_ فضحَتك في إيه؟ انطق قول السبب!

صرخ حسان باحتقار وهو يشير بإصبعه إليهما معاً.
_ البلد كلها بتتكلم بيجولوا إنها شغالة عند وكيل النيابة وبتبات في بيته لوحدها معاه 
يعني إيه ده؟ يعني فيه بينكم حاچة عفشة.

هنا، انفجر بركان الغضب المكتوم في صدر أكمل.
لم يكن غضبه بسبب كلام الناس، بل بسبب دناءة هذا الأب الذي يتهم ابنته في شرفها بدلاً من أن يكون سندها.
_ انت اتجننت ازاي تصدق كلام زي ده على بنتك.
نظر الرجل لأكمل بجانب عينيه وقال بخبث
_الناس اللي بتجول، وكدة سمعتها بجيت في الحضيض ودي بنت
مين اللي هيجبل يتچوزها بسمعتها دي. 

انفعل أكمل اكثر منه 
تقدم منه خطوة، وأمسكه من ياقة جلبابه الرث بقوة.
_ اطلع بره بيتي ولو شفت وشك هنا تاني أو قربت منها، قسماً بالله لادفنك مكانك.

دفعه أكمل بكل قوته نحو الباب وطرده، ثم أغلقه خلفه بعنف محدثاً صوتاً مدوياً تردد في أرجاء المنزل الذي عاد ليسكنه صمت ثقيل.
ثم نظر إلى صبر وقال بأنفعال
_واقفة كدة ليه يلا على جوه.

انصرفت صبر وهي تخفي وجهها بين كفيها ودلفت الغرفة تبكي بشدة

❈-❈-❈ 

لم يبتلع حسان إهانة طرده بسهولة خرج من منزل أكمل والغضب والحقد يأكلان قلبه، لا على نفسه أو على ما فعله، بل على أكمل الذي تجرأ وواجهه. 

في عقله الملتوي، لم يكن هو المخطئ، بل أكمل الذي أخذ ابنته ولطخ سمعتها وسمعته. 
وبدلاً من العودة إلى بيته خائباً، قادته قدماه وخبثه إلى وجهة أخرى إلى سرايا الحاج وهدان باحثاً عن مالك. 

كان يعلم أن مالك هو الصديق المقرب لـ أكمل، وأن كلمته مسموعة في البلد كلها. 
وجد مالك يهم بالخروج من السرايا متجهاً إلى سيارته. 
ركض حسان نحوه بخطى متخاذلة، ورسم على وجهه قناع الأب المكلوم والمقهور. 
_ مالك بيه... يا مالك بيه، الحجني ربنا يخليك. 
توقف مالك ونظر إليه باستغراب، محاولاً تذكر من أين يعرف هذا الوجه. 
_ خير؟ أنا أعرفك؟ 
_ أنا حسان يا بيه... أبو صبر البنت اللي شغالة عند أكمل بيه صاحبك. 
تغيرت ملامح مالك على الفور إلى الاهتمام. 
_ أهلاً... خير؟ فيه حاچة حصلت؟ 

بدأ حسان في وصلة من التمثيل المتقن، يضرب كفاً بكف ويتحدث بصوت باكي 
_ يا بيه أنا أب ومحروج على بتي وديتها تشتغل عند صاحبك عشان أسترها وأكلها لجمة حلال، يجوم هو يفضحني بيها في البلد؟ الناس كلها بتاكل في وشي، وفي وش بنتي 
كلام يهد جبال يا بيه. 

قطب مالك حاجبيه، وبدأت نبرته تتغير إلى الحده. 
_ كلام إيه ده؟ وضح كلامك 
أكمل راچل محترم وميعملش حاچة غلط. 

_ محترم إزاي بس يا بيه وهو سايب بنتي جاعدة لحالها في بيت واحد لوحدهم ليل نهار؟ البلد كلها بتتكلم عليهم وبيجولوا كلام عفش. 
أنا روحت له النهاردة عشان آخد بنتي وأسترها، جام طردني وبهدلني وهددني كمان 
عشان إيه؟ عشان بدافع عن شرفي وشرف بتي؟ 

انفعل مالك بشدة، لم يستطع تحمل هذا الاتهام الصريح في حق صديقه الذي يعرفه حق المعرفة. 
_ إنت بتجول إيه يا راجل إنت! إنت عارف بتتكلم عن مين؟ أكمل أشرف من الشرف، وهو اللي لم بتك من الشوارع بعد ما إنت رميتها وجاي دلوجتي تتكلم على شرفها معاه هو؟ 

ارتعب حسان من غضب مالك لكنه أكمل دوره. 
_ يا بيه أنا راجل غلبان، والناس كلامها زي السكاكين. 
أنا عايز بتي، عايز ألمها في حضني جبل ما الفضيحة تكبر. 

صمت مالك للحظة، ورغم غضبه الشديد من حسان ودفاعه عن صديقه، إلا أن كلامه عن "ثرثرة البلد" لم يكن جديداً على مسامعه. 
بالفعل، كان قد سمع بعض الهمسات واللمز من بعيد في الأيام الماضية، لكنه لم يعرها اهتماماً، معتبراً إياها مجرد أحاديث فارغة من أناس لا عمل لهم. 
لكن وصول الأمر إلى هذا الحد، ووقاحة الأب في استخدامها كسلاح، يعني أن المشكلة أصبحت حقيقية ويجب التعامل معها. 
تنهد مالك محاولاً السيطرة على انفعاله، ونظر إلى حسان بصرامة. 
_ اسمع، أنا لا بصدجك ولا بصدج حرف من اللي بتجوله على أكمل بس موضوع كلام الناس ده أنا هتصرف فيه 
روح إنت دلوجت، والموضوع ده هيخلص. 

أومأ حسان برأسه وقد شعر بانتصار جزئي، فقد نجح في زرع الشك وإيصال المشكلة لمن هو صديق لـ أكمل انصرف وهو يخبئ ابتسامة ماكرة، بينما وقف مالك في مكانه، يفكر بجدية في هذه الورطة التي وقع فيها صديقه، والتي يبدو أنها لن تُحل إلا بطريقة واحدة. 

❈-❈-❈ 

بعد أن انصرف حسان لم يذهب مالك إلى وجهته كما كان يخطط. 
استدار وركب سيارته، وقادها مباشرة نحو منزل أكمل. 
كان يعلم أن هذه المواجهة ستكون صعبة، وأن صديقه عنيد وكبرياؤه مجروح، لكن لم يعد هناك مجال للتأجيل. 
السمعة في بلاد الصعيد كعود الكبريت، إن اشتعلت، أحرقت كل شيء. 

وجد أكمل يجلس في شرفة منزله، شارداً وبجانبه فنجان قهوة لم يمسه. 

كان واضحاً أن ما حدث في الصباح قد ترك أثراً عميقاً فيه رفع أكمل عينيه حين رأى سيارة مالك تتوقف، وقف ليلقاه عند الباب. 
شعر بالقلق عندما رأى تجهمه 
_ مالك؟ خير فيه حاجة؟ 

لم يرد مالك على الفور، بل دخل وجلس في الصالة منتظراً أن يغلق أكمل الباب ويجلس أمامه. 
كانت ملامح مالك الجادة تنذر بحديث ثقيل. 
جلس أكمل قبالته فقال مالك دون مقدمات 
_ أبوها كان عندي من شوية. 

تنهد أكمل بضيق وأشاح بوجهه. 
_ جه يكمل تمثيليته عندك؟ الراجل ده معندوش دم. 

_ سيبك منه هو دلوجت 
المشكلة مش فيه المشكلة في اللي جاله، واللي للأسف طلع حجيجي. 

نظر إليه أكمل باستفهام، فعاد مالك ونظر في عينيه مباشرة بجدية. 
_ يا أكمل، البلد كلها بتتكلم أنا نفسي سمعت كلام من ده كام مرة اليومين اللي فاتوا وهزيت دماغي وطنشت، جلت كلام فارغ وهيروح لحاله 
بس الموضوع كبر يا أكمل كلام الناس مبجاش همس، بجى كلام عالي وواضح. 
انتفض أكمل واقفاً، وتحرك في الغرفة بغضب مكتوم. 
_ يتكلموا! يقولوا اللي يقولوه! أنا معملتش حاجة غلط عشان أخاف من كلام حد، أنا سترت بنت كان أبوها رماها ليا، هي دي غلطتي؟ 

جلس مالك ثابتاً في مكانه، يتحدث بهدوء حازم ليخترق غضب صديقه. 
_ الغلطة مش في النية يا أكمل، النية يعلمها ربنا 
الغلطة كانت في الأول خالص، لما وافجت إنها تجعد هنا لوحدها معاك 
إحنا في بلد صعايدة، مش في القاهرة 
إنت خابر أصولنا وخابر الناس بتفكر كيف. 
اللي حصل ده مينفعش، والكلام اللي بيتجال ده لو فضل اكده هيچيب مصايب. 
صرخ أكمل بعجز. 
_ أعمل إيه يعني؟ أرميها في الشارع عشان كلام الناس يخلص؟ أرجعها لأبوها اللي كان بيضربها من شوية؟ 

اقترب منه مالك ووضع يده على كتفه، مجبراً إياه على التوقف والنظر إليه 
كانت هذه هي اللحظة الحاسمة. 

_ فيه حل واحد يا أكمل حل هيقطع لسان كل واحد بيتكلم، وهيحفظ كرامتك وكرامتها. 
صمت أكمل ونظر إليه بترقب، كأنه يخشى سماع ما سيقوله مالك. 
_ تتجوزها. 
سقطت الكلمة بينهما كحجر ثقيل اتسعت عينا أكمل بصدمة ورفض، وابتعد عن مالك خطوة. 
_ إنت بتقول إيه؟ أتجوزها؟ إنت اتجننت؟ 
رد مالك بنفس الحزم. 
_ أنا عاجل أكتر منك دلوجت. 
ده الحل الوحيد اللي هينهي المهزلة دي هتكتب عليها، وبكده تجفل أي باب للكلام. 
هتبجى مراتك جدام ربنا والناس كلها، ومحدش هيجدر يفتح بقه بحرف 
إنت حطيت نفسك في الموجف ده يا أكمل، ودلوجت لازم تنهيه بنفسك بالطريجة الصح. 

كانت صبر في المطبخ، تعد فنجان قهوة لتهدئ أعصاب أكمل بعد العاصفة التي أحدثها والدها. 
يداها كانتا ترتجفان قليلاً وهي تصب القهوة الساخنة حين سمعت صوت سيارة مالك ثم دخوله، توقفت مكانها لم تشأ أن تخرج وتقاطع حديثهما، فبقيت في مكانها لكن جدران المنزل لم تكن سميكة بما يكفي لتحجب عنها أصواتهما التي بدأت تعلو تدريجياً. 
في الصالة، كان أكمل يواجه اقتراح مالك برفض قاطع، وشعور بالحنق والغضب يسيطر عليه. 
_ أتجوزها؟ إنت فاهم إنت بتقول إيه يا مالك؟ ده جواز مش لعبة، أتجوز واحدة عشان أسكت الناس؟ 
وقف مالك أمامه ثابتاً كالصخر لا يتزحزح عن موقفه. 
_ ولما هى مش لعبة كان إيه اللي خلاك تسيبها جاعدة في بيتك كل ده؟ إنت خابر إن اللي زي ده يعتبر چواز عرفي عند أهل البلد، إنت اللي حطيت نفسك وحطيتها في الخانة دي 
ودلوجت لازمن تكمل للآخر يا إما سمعتها هتتمرمط في الوحل، وإنت أول واحد هتتلام. 
مرر أكمل يده في شعره بعنف، علامة على حيرته ويأسه. 
_ أنا عملت كده عشان إنسانة ضعيفة وملهاش حد عملت كده عشان أحميها من أب جاحد هو ده جزاتي؟ إني أتدبس في جوازة لا على البال ولا على الخاطر؟ 

في المطبخ، كانت كل كلمة تنزل على قلب صبر كضربة سكين. 
"أتدبس في جوازة". 
شعرت بالاختناق، وكأن الهواء قد سُحب من رئتيها. 
استندت على الحائط حتى لا تسقط، والدموع الحارة تنزل على خديها بصمت. 
لقد كانت تسمع حكم الإعدام على كرامتها. هي "ورطة"، "دبسة"، ثمن يجب أن يدفعه أكمل ليحافظ على سمعته. 
عاد صوت مالك الحازم ليخترق أفكارها المؤلمة. 
_ يا أكمل فوج، الموضوع مبجاش يخصك لوحدك، بجى يخصها هي كمان 
سمعة البنت دي في رجبتك، لو خرچت من البيت ده دلوجت من غير صفة رسمية، هتبجى 
"اللي كانت جاعدة عند وكيل النيابة واتطردت بعد ما شبع منها" 
محدش هيرحمها ولا حد هيصدج برائتها. 
هتفضل طول عمرها شايلة العار ده إنت عايز ده يحصل؟ عايز تبجى السبب في دمار مستجبلها بالكامل؟ 
ساد صمت طويل وثقيل في الغرفة. 
كان أكمل يتنفس بصعوبة، يصارع كبرياءه ورفضه المنطقي للفكرة من جهة، وشعوره بالمسؤولية وصوت ضميره من جهة أخرى. 
كان مالك على حق 
لقد وضعها في هذا المأزق، وعليه أن يخرجها منه. 
أخيراً، تحدث أكمل بصوت مهزوم، صوت رجل لم يعد يملك خيارات. 
_ والمفروض أعمل إيه دلوقت؟ أروحلها أقولها تعالي نتجوز عشان الناس تبطل كلام؟ 
_ هتروحلها وتفهمها الموقف بهدوء 
هتقولها إن ده الحل الوحيد عشان تحافظ على كرامتها وتحميها من كلام الناس ومن أبوها ده مش جواز حب وغرام يا أكمل، ده جواز سترة وحماية 
وبعدين لما الدنيا تهدى لكل حادث حديث. 
في المطبخ لم تعد صبر قادرة على تحمل المزيد. 
غطت فمها بيدها لتكتم شهقة كادت أن تفلت منها. 
لقد سمعت ما يكفي سمعت كيف يرونها، مجرد مشكلة تحتاج إلى حل، صفقة يجب أن تتم من أجل "السترة" ببطء، وبخطوات خافتة كالأشباح استدارت وتسللت عائدة إلى غرفتها الصغيرة، تحمل معها إحساساً بالمهانة أشد ألف مرة من صفعات والدها. 

❈-❈-❈ 

عاد مالك إلى المنزل لكنه لم يقو على الدخول كان يشعر بضيق شديد يطبق على صدره، ليس فقط بسبب ورطة صديقه، بل بسبب ثقل المسؤولية التي شعر بها فجأة كيف يمكن لكلمات الناس أن تدمر حياة بأكملها بهذا الشكل؟ وقف في حديقة القصر، يستنشق هواء المساء العليل، لعله يزيح عن كاهله بعض الهم. 

فجأة شعر بحركة خلفه خطوات كانت هادئة مترددة تحمل غرضًا وقصدًا استدار ليجد روح تقف على بعد خطوات قليلة، لكن نظراتها لم تكن تحمل قلقًا، بل كانت تحمل عتابًا حارقًا، عتابًا صامتًا كان أعلى من أي صراخ. 
_مالك... 
قالت اسمه، وكانت نبرتها تحمل من الألم والاتهام ما يكفي لهدم جبال. 
اقتربت منه، وتوقفت أمامه مباشرة عيناها الجميلتان تلمعان بدموع مكبوتة. 
_ليه؟ 
لم تكن تسأل عن سبب وقوفه هنا، بل كانت تسأل عن كل شيء عن سنوات الصمت عن المسافة، عن القلب الذي تُرك وحيدًا. 
تفاجئ مالك بنبرتها، وقال بارتباك 
_روح... فيه إيه؟ 
تتحدثت بحزن وألم واتهام وهي تتقدم منه خطوة أخرى. 
_لو كنت جلت كلمة واحدة بس من اللي كان في عينيك، مكنش كل ده حصل. 
رمش مالك بعينيه لا يستوعب ما تقصده
_لو مكنتش سيبتني وهربت في أكتر وجت كنت محتچالك فيه مكنش كل ده حصل. 
قطب جبينه بحيرة اكتر وهو يخشى ما وصل لفهمه، تابعت بألم أشد 
_أنت عارف عملت فيا إيه بصمتك ده؟ 
تجمعت الدموع أكثر بعينيها التي تحمل عتاب قاسي
_دمرت حبي ليك
وخلتني اهرب منك لغيرك.

أخذت نفس عميق تهدئ به من روعها
_ سبت الكل بيجولي 
"مالك هو اللي مربيكي" 
"مالك هو عوضك عن أبوكي" 
خلتني صدجتهم... أو اضطريت أصدجهم، لأنك ولا لحظة بينت عشجك ليا، اللي كنت بشوفه في عينك 
كان حب أخوي أجرب للأبوة، وده كان بيجتلني

لجأت لعدي لإن مكنش فيه غيره جدامي، جلت يمكن لما أحب حد تاني، أجدر أجتل اللي چوايا ناحيتك، أجدر أجنع نفسي إن اللي حاساه ده مجرد حب أبوي مش أكتر. 
كنت بحمي نفسي من حب كنت فكراه مرفوض، حب كنت خايفة منه. 
نظر إليها مالك بصدمة وألم، حاول أن يتحدث. 
_روح، اسمعيني... 
قاطعته بحدة، والدموع بدأت تسيل على خديها. 
_أسمع إيه؟ أسمع مبرراتك اللي دمرتني؟ 
قطبت جبينها بقهر 
_كنت فين لما كنت محتاچالك؟ كنت فين وأنا بتچوز واحد كنت فاكرة أنه معاي وهو جلبه مع غيري؟ أنت بعّدت نفسك عني، بنيت بينا سور خليتني أحس إني لوحدي في الدنيا دي كلها. 
لو كنت صرحتني... لو كنت بس اديتني أمل... كانت كل حاچة هتختلف. 
كنت هستناك العمر كله بس أنت اخترت تسيبني، وأنا دلوجت اللي بدفع التمن. 
أنت السبب في الحياة الصعبة اللي عيشتها، وفي كل دمعة نزلت مني وأنا بعيدة عنك. 
لم تعد تحتمل انهمرت دموعها بغزارة، وفي لحظة انهيار كامل، فعلت ما كان قلبها يصرخ به رمت بنفسها على صدره، ليس كحبيبة تبحث عن أمان بل كطفلة جريحة تضرب مصدر ألمها بدأت تضرب بقبضتيها الصغيرتين على صدره بوجع وقهر. 
_ليه... ليه عملت فيا وفيك اكده... ليه... 

لم يمنعها تركها تفرغ كل غضبها وألمها لم يستطيع احتوائها بذراعيه، ويمتص صدماتها وشهقاتها، لم يقوى على فعلها فمازالت بينهم حدود لا يتجرأ على تعديها 
شعر بقلبه يتمزق لأجلها ولأجل نفسه همس في أذنها بصوت مكسور يملؤه الندم. 
لم يصدق انها تعترف بحبها تعاتبه به 
تعاتبه على شيء لم يراه سوى الآن 
_مكنتش اعرف، كنت خايف أكون بجبرك. 
هزت راسها بألم في حضنه 
_كنت حربت عشاني.. 
_ خوفت... خوفت عليكي مني، خوفت أكون أناني، كنت بشوفك بتكبري جدامي، وكنت بجول لنفسي "مينفعش... دي أمانة واصغر منك" 
كنت بحارب نفسي كل يوم عشانك

بُعدي مكنش تخلي، ده كان حماية ليكي من حبي اللي كنت فاكره غلط، كنت غلطان... أنا آسف يا روح... آسف على كل لحظة ألم عيشتيها بسببي. 

تمتمت روح من بين دموعها.
_ليه حرمتني من إني أعرف؟ ليه سبتني أتعلج بوهم، وأنت حبك كان هو الحجيجة الوحيدة اللي المفروض أعيشها؟

وجد صوته يخرج أجشاً ومتحشرجاً من الألم. 
_ عشان كنت فاكرك بتحبي أخويا.

نظرت إليه بصدمة وهو يهرب بعينيه منها، كأنه لا يستطيع مواجهة ألمها. 

_ كنت بشوفك وإنتي بتضحكي معاه، بتهتمي بيه كنتي لسة صغيرة طفلة، وهو كان قريب من سنك، كنتي بتشوفيني الراجل الكبير، ابن عمك مكنتش شايف في عينيكي غير صورة الأخ الكبير.

ابتعد عنها خطوة كي لا يتعذب بقربها أكثر من ذلك وصوته أصبح همساً مليئاً بالأسف. 
_ وبعدين... كنتي صغيرة أوي يا روح، وأنا كنت أكبر منك بـ 12 سنة. 
خوفت عليكي من نفسي، خوفت لو اعترفتلك بحبي أكون بستغل طفولتك، أكون بسرق براءتك. 
خوفت أكون أناني كان قراري إني أسافر هو الحل الوحيد. 
قلت لنفسي أسيبك تكبري، تعيشي حياتك، ولو لسة ليكي نصيب معايا، القدر هيجمعنا.
نظرت إليه بدموعها التي أصبحت تنهمر بغزارة. 
_ وهربت... وسيبتني.

أمسك وجهها بين يديه الكبيرتين برفق، ومسح دموعها بإبهاميه. 
_ هربت بجسمي بس، لكن قلبي فضل هنا معاكي، مفيش يوم عدى وإنتي مش في بالي، مفيش ليلة نمتها من غير ما أدعي ربنا يحفظك 
كنت بتابع أخبارك من بعيد، وبشوف صورك وحبك كان بيزيد، مبيجلش لحظة، كان بيكبر معاكي
كل سنة بتعدي كان حبي ليكي بينضج وبيكون أعمق. 
كنت مستني... مستني بس إشارة واحدة منك، كنت هرمي كل حاچة وأرچع في نفس اليوم. 
ظلت تبكي حتى استنفدت كل طاقتها، وهدأ جسدها المرتجف أبعدها برفق، ومسح دموعها بأنامله، ونظر في عينيها مباشرة، بعمق لم يجرؤ عليه من قبل. 

_أنا عارف إن الكلام مش هيصلح اللي فات بس اللي چاي لسه في إيدينا، أنا مش هسيبك تاني... أبدًا. 
أمسك يدها برفق، وشعر بارتجافة خفيفة سرت في جسدها لم يعد هناك مجال للتردد أو الخوف. 
_روح... 

قالها بصوت يحمل كل صدق العالم. 
_تتچوزيني؟ 
لم يمنحها فرصة للرد، بل أكمل وهو يشد على يدها، وعيناه تتوسلان إليها. 
_ تتچوزيني يا روح؟ تجبلي تبجي كل حاچة في حياتي؟..... 

❈-❈-❈ 

بعد أن غادر مالك، بقى أكمل وحيداً في الصالة، يطوف بها ذهاباً وإياباً كوحش حبيس في قفص. 
كان يشعر بالغضب والعجز، وبمرارة الظلم. 
كيف تحول عمل نبيل أراد به الستر والمساعدة إلى فخ يطبق على عنقه؟ لم يكن غاضباً من مالك، فصديقه كان منطقياً وعقلانياً، بل كان غاضباً من الظروف، من الناس، ومن نفسه التي ورطته في هذا المأزق. 
لن يقبل والداه بتلك الزيجة، وهو لم يكن عاقًا لهم أبدًا 
وإن علموا ما حدث فلن يقبلوا بذلك. 

لم يعد يحتمل هذا الصراع الداخلي وحده. 
توقف في منتصف الغرفة، وبصوت عالٍ وحاد يفتقر إلى أي لمسة حنان، نادى عليها. 
_ صبر! 

بعد لحظات، ظهرت عند مدخل الصالة 
كانت شاحبة، وعيناها تحملان نظرة منكسرة وفارغة، كأن روحها قد غادرت جسدها. 
لم تقل شيئاً، فقط وقفت تنتظر. 

نظر إليها أكمل بحدة، لم يكن يراها كإنسانة جريحة في تلك اللحظة، بل كتجسيد للمشكلة التي يواجهها، لم يقبل ان يفرض عليه شيء حتى لو كان يريده 
_ طبعاً سمعتي كل حاجة مش كده؟ 

لم تجب بكلمة، فقط أومأت برأسها إيماءة بطيئة ومؤلمة هذا الإقرار الصامت زاد من انفعاله. 
_ كويس يبجى وفرتي عليا الشرح 
قالها بسخرية لاذعة وهو يشير بيديه 
_ زي ما سمعتي، مفيش حل تاني للمصيبة دي غير اللي قاله مالك عشان كلام الناس وعشان سمعتك اللي بقت في الأرض بسببي وعشان أخلص من قرف أبوكي ده... لازم نتجوز! 

كانت كل كلمة تخرج من فمه كصفعة على وجهها. 
مصيبة 
قرف. 
شعرت بإهانة عميقة تجتاحها، إهانة جعلت دموعها حبيسة في عينيها، رافضة أن تمنحه متعة رؤية ضعفها. 

أكمل هو بانفعال، غير آبه بصمتها أو بنظراتها الجريحة. 
_ أنا عارف إن حاجة زي دي صعبة ومستحيلة، وصعبة عليا أنا كمان، يمكن أكتر منك بس أنا مضطر مضطر أعمل كده عشان أخرس كل لسان بيتكلم في البلد دي! 

اقترب منها، ونظر إليها مباشرة وكأنه يملي عليها شروط صفقة تجارية بغيضة. 
_ اسمعي كويس إحنا هنتجوز جواز على الورق وبس مجرد فترة لحد ما القصة دي تموت والناس تنسى. 
ولما أقرر أرجع مصر وأرجع شغلي هناك، كل واحد فينا هيروح لحاله. 
هطلقك، وساعتها تكوني حرة تعملي اللي إنتي عايزاه مفهوم؟ 

وقف ينتظر منها رداً أي رد. 
لكن صبر ظلت صامتة، جامدة كتمثال من حجر. 
في داخلها، كانت كل بقايا الأمل أو المشاعر الدافئة التي حملتها له يوماً ما، تتحطم وتتحول إلى رماد. 
لقد حكم عليها ليس فقط بزواج مهين، بل حدد له تاريخ انتهاء صلاحية، مؤكداً لها أنها مجرد مرحلة مؤقتة ومزعجة في حياته سيتخلص منها في أقرب فرصة.

•تابع الفصل التالي "رواية ثنايا الروح" الريح والغيامة" اضغط على اسم الرواية 

تعليقات