Ads by Google X

الروايات كاملة عبر التلجرام

رواية ثنايا الروح "الريح والغيامة" الفصل الثالث والعشرون 23 - بقلم رانيا الخولي

الصفحة الرئيسية

 رواية ثنايا الروح "الريح والغيامة" الفصل الثالث والعشرون 23 - بقلم رانيا الخولي 


ثنايا الروح 
رانيا الخولي 
الفصل الثالث والعشرين 
..................................
مر أسبوع آخر في بيت الجبل أصبح الروتين هو سيد الموقف
والدة جاسر ترعى نغم نهارًا، وجاسر يتولى حراستها ليلًا
كان التحسن بطيئًا وغير ملحوظ، لكنه كان موجودًا بدأت عينا نغم تتابعان الحركة في الغرفة أحيانًا، وأصبحت صرخاتها الليلية أقل حدة.
في إحدى الأمسيات، كانت والدة جاسر قد عادت إلى غرفتها لتستريح، وكان جاسر جالسًا على الأريكة يراجع ملف قضية، فحتى أعماله يقوم بها في غرفته كي لا يتركها وحيدة ثانية واحدة.
كيفي ما حدث وما عانته على أيديهم.
بينما كانت عيناه تراقبان نغم التي كانت تجلس على السرير، مسندة ظهرها إلى الوسائد.
فجأة، وبدون أي مقدمات، نطقت بأول كلمة لها منذ الحادث.
_ميه.
كان صوتها خافتًا ومبحوحًا، كأنها لم تستخدم حبالها الصوتية منذ دهر.
تجمد جاسر في مكانه، ورفع رأسه من على الملف ببطء، غير مصدق لما سمعه. 
نظر إليها، فوجدها تنظر إليه مباشرة لم تكن نظرة فارغة كما كانت، بل كانت نظرة واعية، وفيها طلب.
نهض بسرعة، وسكب لها كوبًا من الماء 
اقترب منها وجلس بجانبها، وساعدها على الشرب
شربت ببطء، ثم أبعدت الكوب.
ظلت تنظر إليه، وفي عينيها نفس النظرة الواعية ثم قالت كلمتها الثانية، كلمة كانت كالسهم الذي اخترق قلبه.
_شكراً.
لم يرد جاسر، لم يعرف ماذا يقول
لقد انتظر هذه اللحظة
لحظة عودتها، لكنه لم يكن مستعدًا لها. 
لم يكن مستعدًا لهذا الهدوء، لهذا الاعتراف البسيط بوجوده. 
شعر بموجة من الارتياح والفرح أغرقته، وهو شعور آخر جديد عليه.
أومأ برأسه فقط ثم عاد إلى أريكته، لكنه لم يعد يقرأ. 
ظل يراقبها، وهي تعود لتحدق في الفراغ مرة أخرى، لكنه كان يعلم أن شيئًا قد تغير لقد عادت وبعودتها ستبدأ المرحلة الأصعب من رحلتهما معًا.
❈-❈-❈
في منزل الرفاعي 
كانت الأجواء لا تزال مشحونة بالحزن. 
روح كانت قد بدأت تستعيد عافيتها الجسدية، لكن روحها كانت لا تزال محطمة. 
كانت تقضي معظم وقتها صامتة في غرفتها، ترفض الحديث عن عدي أو عن أي شيء حدث.
وبالأخص مع جدها.
في تلك الليلة، دخل عليها مالك، وجدها تجلس في الشرفة تنظر إلى النجوم بصمت مبطق
سألها بهدوء وعينيه تلتهمها بقلق بالغ 
_لسه صاحية؟
تنهدت بتعب وهي ترد بصوت خافت.
_النوم هربان مني.
جلس بجانبها وقد حان الوقت ليعرف منها كل شيء
وما حدث بينهما تلك الليلة
_روح... ممكن تحكيلي ايه اللي حوصل بينك وبين عدي في الليلة دي وصلك لـ اكدة
غامت عينيها بالحزن لم يخفى على مالك مما جعله يتأكد من حدوث شيء
عندما التزمت الصمت 
_لازم تتكلمي، اللي جواكي ده لو فضل محبوس هيجتلك.
التفتت إليه، ولأول مرة منذ خروجها من المستشفى، تتجمع الدموع بعينيها وهذا ما شجعه على أن تخرج ذلك الكبت بداخلها.
_عايزني أجول إيه يا مالك؟ 
_عايز اعرف ايه اللي حوصل بينك وبين عدي وصلك للحالة دي.
لاح الحزن بعيونها وتمنت أن تبوح بكل شيء لمالك. 
تمنت أن تصرخ بالحقيقة، أن تخبره كيف حطمها عدي بكلماته القاسية، كيف دفعها وكأنها شيء بلا قيمة، كيف اعترف بحبه لأختها في وجهها دون ذرة من الرحمة، لقد كان مالك هو الشخص الوحيد الذي قد يفهمها، الشخص الذي طالما قرأ ما في عينيها دون أن تتكلم.
لكنها نظرت إلى وجهه القلق، ورأت فيه ليس فقط الأخ والصديق، بل رأت فيه أيضًا شقيق عدي. 
كيف يمكنها أن تشوه صورة أخيه الميت في عينيه؟ كيف يمكنها أن تضيف إلى حزنه على فقدانه، حزنًا آخر على حقيقته؟ لقد مات عدي، وفي عرفهم وتقاليدهم لا تجوز على الميت إلا الرحمة.
الحديث عن أفعاله السيئة الآن سيبدو كأنه شماتة في الموت.
أطرقت رأسها وأخفت عاصفة المشاعر التي كانت تدور بداخلها خلف قناع من الحزن الهادئ.
_مفيش حاجة حصلت يا مالك.
قالت بصوتٍ خفيض، صوت اختارت فيه الكذب لحماية مشاعر الآخرين. 
_أنا بس... تعبت.... الضغط كان كبير عليا. 
جوازي واللي حصل لنغم، وبعدها...  جسمي مستحملش.
نظر إليها مالك بشك لم يصدق هذه الإجابة البسيطة كان يعرف روح جيدًا، ويعرف أن هناك شيئًا أعمق، شيئًا أكثر حدة قد كسرها. 
لكنه رأى في عينيها قرارًا صامتًا بعدم الحديث، فقرر ألا يضغط عليها أكثر
قال بهدوء
_طيب يا روح اللي يريحك بس عايزك تعرفي إني چنبك لو في أي وجت حسيتي إنك رايدة تتكلمي، أو حتى تصرخي... أنا موچود.
رفعت رأسها ونظرت إليه بامتنان حقيقي. 
كانت كلماته هي العزاء الوحيد في وحدتها. 
_عارفة يا مالك ربنا يخليك ليا.
نهض وهو يقول 
_أني خارچ دلوجت لو احتاچتي حاچة كلميني.
أومأت روح ونظرت في اثره حتى خرج.
لا تعرف لما شعرت بحنين إلى غرفتها مع عدي.
ساقتها قدماها إلى هناك
دخلت جناحهما للمرة الأولى منذ الحادث. 
كان كل شيء كما تركه عدي في ليلته الأخيرة. 
ملابسه الداكنة ملقاة على الكرسي، عطره لا يزال عالقًا في الهواء. 
فتحت خزانته وأخرجت ذلك الصندوق الذي يحتفظ به بين ملابسه
كان ذلك الصندوق يحتفظ به ولم يخرجه سوى وقت خروجها من الغرفة.
فتحته بيدين مرتجفتين، فوجدت بداخله أشياء لم تكن تعرفها عنه. 
صور قديمة له مع نغم وهما طفلان،  احتفظ بها من سنوات زهرة يابسة، ورسائل لم يرسلها أبدًا، كلها موجهة إلى نغم. 
كان يوثق حبه السري بعناية مؤلمة.
لم تبكي روح بل أغلقت الصندوق بهدوء. 
لقد رأت بعينيها دليلاً ماديًا على أنها لم تكن موجودة في عالمه أبدًا.
حملت الصندوق، وخرجت إلى حديقة المنزل الخلفية. 
عليها أن تمحي كل شيء يظهر حقيقته
لن تكون سببًا في معرفة خيانته أمام الجميع وخاصة سند
أشعلت نارًا صغيرة في موقد قديم، وبدأت تلقي بمحتويات الصندوق في النار، واحدًا تلو الآخر. 
الصور، الرسائل، الذكريات... كل شيء.
كانت تشاهد ألسنة اللهب وهي تلتهم ماضي زوجها، وتشعر بأنها تحرق معه ماضيها هي أيضًا.
لن تترك ما يسيء إليه أو إلى نغم أختها.
تحول كل شيء إلى رماد
وقفت روح، ونفضت يديها، واستدارت.
كانت عيناها صافيتين، وخطواتها ثابتة لقد قررت ألا تكون ضحية حب لم يكن لها، وقررت أن تبني مستقبلها على هذا الرماد.
❈-❈-❈
مرت عدة أيام منذ أن نطقت نغم بأولى كلماتها، لم تعد إلى صمتها المطبق، لكن حديثها كان لا يزال نادرًا ومقتضبًا، يقتصر على الضروريات
لكن بالنسبة لجاسر، كانت كل كلمة تنطق بها انتصارًا صغيرًا.
بدأ يسمح لها بالخروج إلى الشرفة الواسعة التي تطل على الجبال. 
كان يلفها بغطاء صوفي سميك، وهي متقبلة لعدم وعيها الكامل
وكان ايضا يجلس معها لكن في صمت، لم يكن هناك حوار، بل كانت هناك مشاركة صامتة للحظة، وهو شيء لم يحدث بينهما من قبل.
مرت الأيام وتحسنت حالة نغم الجسدية بشكل كبير، وأصبحت تتحدث بشكل طبيعي، وإن كان حديثها لا يزال يحمل مرارة هادئة
بدأت والدة جاسر في مشاركتها لبعض الأعمال المنزلية البسيطة، كأنها تحاول استعادة نغم لإيقاع الحياة الطبيعي.
لكن جاسر لاحظ شيئًا آخر. 
لاحظ أنها تتجنبه بعناية مدروسة إذا دخل غرفة، خرجت هي منها بهدوء
إذا جلس في الشرفة، بقيت هي في الداخل. 
لم تكن هناك خصومة واضحة، بل كان هناك جدار جليدي شفاف بنته بينهما، جدار من التجاهل المهذب.
كانت نغم تجلس في شرفة بيت الجبل، تلف نفسها بغطاء صوفي، وتراقب السحب وهي تسير ببطء في السماء الزرقاء الصافية. 
لقد عادت إلى وعيها بالكامل، لكنها شعرت وكأنها عادت إلى عالم غريب، عالم فقدت فيه كل الثوابت التي كانت تعرفها.
كانت تتجنب جاسر، ليس كرهًا أو خوفًا بل لأن وجوده كان يثير فيها مشاعر متناقضة لم تكن تعرف كيف تتعامل معها. 
كانت ترى في عينيه، خلف قناع البرود الذي يصر على ارتدائه، ظلالاً من الندم كانت تلاحظ اهتمامه الصامت الطريقة التي يتأكد بها من أنها أخذت دواءها، أو نظراته الخاطفة ليرى إن كانت تأكل جيدًا.
وكانت تتذكر الليالي. 
تتذكر كيف كانت تستيقظ من كوابيسها المروعة، وقلبها يخفق بجنون، وصورة عدي وهو يحترق لا تفارق عينيها. 
كانت تتذكر كيف كان جاسر ينهض في الظلام، ويأتي إليها، ويأخذها في حضنه دون أن يقول كلمة
لم يكن حضن عاشق، بل كان حضنًا قويًا وثابتًا، مرساة في وسط عاصفتها، كان يهمس في أذنها 
"أنا هنا... أنتي في أمان"
حتى تهدأ ارتجافتها وتعود إلى النوم.
هذا الرجل الذي دمر حياتها، كان هو نفسه الشخص الوحيد الذي كان بجانبها في أحلك لحظاتها.
أما أهلها... فلم يسأل عنها أحد 
لم يتصل عمها أو جدها أو حتى مالك ليسأل كيف حالها بعد أن رأت ابن عمها يموت أمامها بتلك الطريقة البشعة. 
لقد تخلوا عنها تمامًا، وكأنها كانت حملاً ثقيلاً وانزاح عن أكتافهم بمجرد أن أصبحت في عهدة جاسر. 
هل كانت هذه هي حقيقتهم طوال الوقت، وهي التي كانت عمياء عنها؟ هذا الخذلان كان يؤلمها أكثر من قسوة جاسر نفسها.
وحده فقط من خاطر بحياته لإنقاذها.
تذكرت كلماته عن حبه لها وعشقه اللامتناهي 
لقد ترك في قلبها ندبة لن تمحيها العصور.
أخذت نفس عميق بمحاولة فاشلة للتحكم بدموعها 
_عدي...
نطقت اسمه بطريقة جعلتها تنهار وتبكي
تبكي على كل شيء.
على ذلك حبه الذي كانت تصده دون ان تشعر.
على شبابه الذي انتهى بتلك الطريقة البشعة
على اختها التي أصبحت أرملة بعد زواجها بأسابيع
كيف حالها؟
هل عرفت بحقيقة مشاعره تجاهها؟
طبطبت يدين حانيتين على كتفها
لم تكن سوى يدي ونس
تركت لنفسها ولدموعها العنان لتبكي على صدر تلك المرأة التي أثبتت لها بأن الحب والترابط لا يشترط أن يكون من دمك.
كانت كلمات ونس مواسية كأنها تعرف كيف تهدئها وتختار كلماتها بعناية..
........
بعد قليل، عادت أم جاسر وجلست بجانبها على المقعد الخشبي، تحمل كوبين من الشاي الساخن الذي يتصاعد منه بخار كثيف يذوب في الهواء البارد. 
كانت نغم قد هدأت قليلاً، لكن عينيها كانتا لا تزالان حمراوين ومنتفختين.
قالت ونس بابتسامة مشرقة، تحاول أن تكسر جليد الحزن الذي يحيط بهما.
_ الجو برد النهاردة كوباية الشاي دي هتدفيكي.
أخذته نغم، ويداها ترتجفان قليلاً، وشكرتها بصوت خفيض وبالكاد يُسمع.
_ متشكرة أوي تعبتك معايا.
ردت أم جاسر بابتسامة صادقة، ووضعت يدها على كتف نغم بحنان أمومي.
_ على إيه بس... إنتي زي بنتي وأكتر كمان. 
ربنا وحده اللي يعلم معزتك في جلبي، يمكن لو كنت خلفت بنت مكنتش حبيتها جدك.
تابعت بمغزى، ونظرة ذات معنى في عينيها.
_ وكفاية جوي إنك مرات ابني الوحيد.
كانت هذه الكلمة "مرات ابني" كافية لتعيد كل الألم إلى الواجهة. 
تبدلت ملامح نغم الهادئة، وظهر عليها الانكسار مرة أخرى. 
أشاحت بوجهها سريعاً، وتظاهرت بالنظر إلى قمة الجبل البعيدة، التي بدأت تختفي خلف غيوم رمادية، كأنها تهرب من حقيقة وضعها.
قالت الأم بحنان بعد لحظة صمت، وقد شعرت بألمها.
_ نغم يا بتي...
نظرت إليها نغم، وفي عينيها سؤال صامت ينتظر ما سيقال.
_ أنا خابرة إن اللي مريتي بيه صعب، صعب جوي، ومحدش يجدر يلومك على أي حاچة بتفكري فيها أو بتحسيها. 
بس... الحياة لازمن تمشي.
أكملت الأم بتردد، وهي تختار كلماتها بعناية.
_ جاسر... أنا عارفة إنه جاسي، وعارفة كيف اتچوزك بس أني أمه وأعرفه زين. 
اللي شفته في عينيه الفترة اللي فاتت دي، عمري ما شفته في حياتي كلها. 
خوفه عليكي لهفته، سهره الليالي تحت معاكي في أوضتك..... ده مش جاسر اللي أعرفه. 
ده راچل تاني راچل جلبه موجوع.
عندما لاحظت شرود نغم وعدم تجاوبها، تنهدت ونس بتعب وأسى.
_ يا بنتي، أنتم الاتنين ضحايا تار جديم معندكمش ذنب فيه. 
ادوا لبعض فرصة... ادوا لچوازكم برضه ده فرصة إنه يكون حجيجي. 
يمكن ربنا يجعل بينكم مودة ورحمة تنسيكم اللي فات.
هزت نغم رأسها ببطء، وابتسامة حزينة وموجعة ارتسمت على شفتيها.
_ فرصة؟
قالتها كأنها كلمة غريبة لا تعرف معناها. _ طيب كيف؟! كيف وأنا كل ما أشوفه أفتكر إنه السبب في كسرتي؟ السبب في بعدي عن أهلي؟
ثم ارتفع صوتها قليلاً، واختلطت به بحة من البكاء المكتوم.
_ فرصة كيف واللي حصل لعدي كان هو السبب الحجيجي فيه!
حاولت ونس أن تدافع عن ابنها.
_ لأ يا بنتي متجوليش إكده، جاسر ملوش...
قاطعتها نغم بحدة وانهيار، وصورة عدي وهو يلتهمه الحريق لا تفارق خيالها، كأنها وشم محفور على جفنيها.
_ لأ هو السبب! هو السبب! لولا اللي عمله، لولا انه خطفني وجابني اهنه بالإكراه، مكنش عدي هيضطر يعمل إكده! مكنش هيجي عشان ينقذني! مكنش ضحى بحياته عشاني!
تجمعت الدموع في عينيها مرة أخرى، وبدأت تتساقط على وجنتيها كحبات المطر الحارقة. 
تمتمت بألم يمزق القلب، وهي تتحدث عن عدي.
_ الوحيد... الوحيد اللي متخلاش عني. 
الوحيد اللي عمل المستحيل عشاني. 
الوحيد اللي كان مستعد يموت عشان يرجعني. 
ومات... مات وهو بيحاول.
أغمضت عينيها بقوة، تنفض عنها تلك الدموع المتعلقة بأهدابها، كأنها تنفض عن نفسها ضعفها.
_ ولو ملوش ذنب في اللي حصل لعدي، أنا كمان مكنش ليا ذنب في اللي حصل زمان عشان يحملني وزره ويعاقبهم فيا.
أخذت نفساً عميقاً، وأكملت بصوتٍ مكسور، صوت امرأة فقدت كل شيء.
_ وبعدين... فرصة بإيه؟ أنا خلاص مبجاش فيا روح. 
انكسرت من يوم ما دخلت بيتكم بالإكراه. 
واللي كسرني أكتر... أهلي، أهلي اللي كنت مستعدة أموت عشانهم، رموني. 
باعوني عشان يحافظوا على اسمهم وكبريائهم، سابوني اهنه ومحدش فيهم فكر يرفع سماعة التليفون ويجولي إنتي عايشة ولا ميتة. 
كأني كنت حمل وانزاح من على كتافهم.
نظرت إلى ونس بعينين فارغتين من أي أمل.
_ اللي أهلها يتخلوا عنها بالسهولة دي... متستناش من الغريب إنه يصونها. 
أنا بجيت وحيدة، وحيدة ومليش حد...
كان جاسر قد اقترب من الشرفة ليطمئن عليهما، لكنه توقف عندما سمع حديثهما وقف خلف الباب الزجاجي، يستمع إلى كل كلمة نطقت بها نغم، وكل كلمة كانت كالسهم الذي يخترق قلبه.
لقد سمع اعترافها الصريح بمرارة الخذلان. 
لقد أدرك أن أفعاله لم تكسرها وحدها، بل إن تخلي عائلتها عنها هو ما حطمها تمامًا. 
وعندما سمعها تقول 
"مبقاش فيا روح"
شعر بمسؤولية ساحقة هو من بدأ هذه السلسلة من الدمار. 
هو من وضعها في هذا الموقف، وهو من جعل أهلها يتخلون عنها.
الندم الذي كان يشعر به تحول إلى شيء أعمق وأكثر إيلامًا. 
لم يعد الأمر يتعلق بخطأ في حسابات الانتقام، بل أصبح يتعلق بروح إنسانة أطفأها بيده. 
مشاعره التي بدأت تنمو تجاهها، والتي لم يكن يعرف لها اسمًا، تعمقت في تلك اللحظة. 
لم تعد مجرد رغبة في الحماية، بل أصبحت رغبة عارمة في أن يصلح ما أفسده، أن يعيد إليها روحها المفقودة، وأن يثبت لها ولنفسه، أنه ليس مجرد مدمر.
انسحب من أمام الباب بهدوء، وعاد إلى داخل البيت، وقلبه مثقل بحقيقة جديدة:
لقد وقع في حب المرأة التي كان ينوي تدميرها، والآن، أصبح شفاؤها هو السبيل الوحيد لشفائه هو.
❈-❈-❈
مرت الأسابيع، وبدأ منزل جد أكمل يستعيد نبض الحياة من جديد. 
لم تكن صبر مجرد عاملة تؤدي واجبها، بل كانت روحًا هادئة أعادت الدفء إلى الجدران الصامتة. 
لمستها كانت واضحة في كل شيء؛ في الزهور التي عادت لتتفتح في أصص الشرفة، في ترتيب الأثاث الذي أصبح أكثر راحة، وفي رائحة الخبز الطازج التي كانت تملأ المكان صباحًا. 
حتى طعامها، كان بسيطًا لكنه شهي، يحمل نكهة أصيلة تشبهها.
كان أكمل يقضي معظم وقته في الحديقة أو في مكتبة جده، غارقًا في الكتب والقضايا القديمة. 
لقد وجد في هذا الهدوء ملاذًا من ضجيج القاهرة وصدمة فقدان جده.
في إحدى الأمسيات، كان يجلس في الشرفة المفتوحة على الحديقة، مستغرقًا في قراءة رواية مترجمة كلاسيكية، من تلك التي تحمل أفكارًا عن العدالة والحب والتضحية. 
تقدمت صبر نحوه بخطواتها الخفيفة التي اعتاد عليها، تحمل صينية عليها فنجان قهوة.
وضعت الصينية بهدوء على الطاولة الصغيرة بجانبه. 
لكنها، على غير عادتها، لم تستدر لتغادر. 
ظلت واقفة في مكانها، صامتة.
شعر أكمل بوجودها، لكنه ظن أنها تنتظر لترى إن كان يحتاج شيئًا آخر بعد لحظات عندما لم تتحرك، رفع رأسه عن الكتاب ونظر إليها. 
وجدها لا تنظر إليه، بل تحدق في غلاف الكتاب الذي بين يديه، وفي عينيها نظرة غريبة، مزيج من الشوق واللهفة والحزن.
_محتاجة حاجة يا صبر؟
سأل بلطف، مستغربًا من وقوفها.
لم ترد فورًا، كأنها لم تسمعه ثم
كمن يستيقظ من حلم، رفعت نظرها إليه وارتبكت.
_لأ... لأ يا بيه العفو.
لكن عينيها عادت مرة أخرى إلى الكتاب مد يده وأغلق الكتاب، ليظهر الغلاف بوضوح.
سأل بابتسامة خفيفة.
_ماله الكتاب؟ شدك للدرجة دي؟
هزت رأسها بسرعة، ثم تمتمت بصوت خفيض كأنه سر
_الرواية دي...
شجعها على الحديث.
_مالها؟
أخذت نفسًا عميقًا، كأنها ستعترف بذنب. 
_أبلة سهام... مدرسة العربي بتاعتي زمان، قبل ما أبويا يبطلني من العلام...
كانت بتحكيلنا عنها. 
كانت بتجول إنها أحلى قصة في الدنيا عن الحب اللي بيستنى، وعن الظلم اللي لازم ينتهي.
صمت أكمل، مصدومًا ومفتونًا في آن واحد لم يتوقع أبدًا أن يكون لهذه الفتاة البسيطة، علاقة بمثل هذه الرواية العميقة.
أكملت صبر وقد نسيت خجلها للحظة وهي تسترجع الذكرى
_كانت بتجول...إن البطلة فيها كانت جوية، رغم إنها كانت ضعيفة وباين عليها مكسورة. 
وإنها علمت كل اللي حواليها معنى الكرامة.
ثم تنهدت تنهيدة عميقة. 
_يومها... حلمت إني أقرأها بنفسي مش بس أسمع حكايتها. 
حلمت إني أمسك الكتاب ده بإيدي، وأقرأ الكلام اللي الكاتب كتبه بالظبط.
أخفضت نظرها إلى الأرض، وقد عادت إلى خجلها فجأة. 
_أنا آسفة يا بيه أنا اتكلمت كتير.
قال أكمل بصوتٍ تأثر بصدق. 
_بالعكس كلامك جميل يا صبر أجمل من الرواية نفسها.
نظر إلى الكتاب الذي بين يديه، ثم نظر إليها. 
لم يعد يرى فيها مجرد فتاة عادية 
لقد رأى فيها روحًا متعطشة للجمال والمعنى، روحًا حبستها الظروف، لكنها لم تستطع أن تقتل أحلامها.
قال وهو يفتح الكتاب مرة أخرى. 
_أنا كنت بقرأها لنفسي بس دلوقتي... حاسس إنها هتكون أحلى لو قرأتها بصوت عالي.
نظرت إليه بعدم فهم
فقال بابتسامة دافئة
_كل يوم بالليل، بعد ما تخلصي شغلك، نقعد هنا... وأنا أقرألك فصل فصل
زي ما كانت أبلة سهام بتعمل. 
لحد ما نوصل ليوم... تقدري تكمليها فيه بنفسك.
استغربت حديثه وفهمت أنه يقول ذلك ظنا انها لا تجيد القراءة فقالت مسرعة
_بس اني بقرأ عادي، انا كنت چايية مچموع كبير جوي في الثانوية العامة 
بس مرات ابويا الله يسامحها رفضت تخليني أكمل.
صُدم أكمل للحظات، وشعر بالخجل من نفسه لقد افترض بناءً على ظروفها، أنها بالكاد تجيد فك الخط. 
لم يتخيل أبدًا أنها وصلت إلى هذا المستوى من التعليم لقد نظر إليها كضحية تحتاج إلى الإنقاذ، ولم يرى فيها الإنسانة الكاملة التي كانت عليها بالفعل.
كرر الكلمتين وكأنه يسمعهما لأول مرة
_ثانوية عامة؟
بمجموع كبير؟
هزت رأسها، وقد اختفى الخجل وحل محله ظل من الكبرياء الجريح.
_كنت جايبة 96%... كان نفسي أدخل كلية الألسن، عشان بحب اللغات والقصص اللي زي دي.
ثم انطفأ البريق في عينيها مرة أخرى. _بس مرات أبويا جالت إن مصاريف الچامعة للولاد بس، وإن البنت مكانها بيتها، وأبويا... سمع كلامها.
شعر أكمل بوخزة حادة من الغضب والظلم نيابة عنها. 
96%... هذا مجموع لا يحصل عليه إلا المتفوقون.
لقد كانت على بعد خطوات من تحقيق حلمها، قبل أن تُسرق منها فرصتها بقسوة الآن، فهم عمق نظرتها إلى الرواية
لم تكن مجرد حلم طفولي، بل كانت رمزًا للحياة التي حُرمت منها.
قال بجدية، وعيناه مثبتتان عليها.
_طيب ولو جاتلك الفرصة اللي تكملي فيها تعليمك؟
عقدت حاجبيها بحيرة. 
_كيف يا بيه؟ خلاص... سني كبر، والتقديم فات 
قال بحماس مفاجئ، وقد بدأت عجلات عقله كوكيل نيابة تدور، باحثة عن حلول وثغرات. 
_لأ فيه حاجة اسمها الجامعة المفتوحة، أو التعليم المدمج دلوقتي. بتقدري تدرسي وتاخدي شهادة جامعية معتمدة، حتى لو فاتك التقديم العادي.
اتسعت عيناها ببطء، كأنها لا تجرؤ على تصديق ما تسمعه. 
_يعني... يعني ممكن أدخل الجامعة؟ بجد؟
قال أكمل وهو ينهض من مكانه، وقد شعر بطاقة جديدة تسري فيه. 
_طبعا بجد الموضوع محتاج شوية ورق وإجراءات، بس مش صعب. 
هنسأل على الأقسام المتاحة، وأنا متأكد إننا هنلاقي قسم يناسبك. وهقدم لك ورقك بنفسي.
وقفت هي الأخرى، ويداها ترتجفان قليلاً. 
_بس... والمصاريف؟ دي أكيد غالية جوي.
قال بسرعة، قبل أن ترفض.
_اعتبري المصاريف دي سلفة
سلفة وهتسدديها لما تتخرجي وتشتغلي بشهادتك. 
أو اعتبريها... استثمار أنا بستثمر في عقل يستاهل الفرصة.
نظرت إليه، وقد امتلأت عيناها بالدموع، لكنها لم تكن دموع حزن أو خجل هذه المرة، بل كانت دموع أمل كاسح، أمل لم تكن تجرؤ حتى على الحلم به.
تمتمت بصوتٍ مختنق.
_أنا... أنا مش عارفة أجول لحضرتك إيه.
قال بابتسامة دافئة وصادقة.
_متقوليش حاجة.
ابدئي بس جهزي ورقك... 
في تلك اللحظة، لم تعد تراه 
"أكمل بيه" 
السيد الذي تعمل في منزله، ولم يعد هو يراها "صبر" الفتاة المكسورة التي تحتاج إلى الشفقة.
لقد أصبحا شخصين يجمعهما هدف واحد وحلم مشترك. 
هو سيمنحها الفرصة، وهي ستحقق الحلم الذي سرقته منها الحياة. 
ولم يكن أي منهما يعلم أن هذه الخطوة، التي بدأت بحوار عن رواية قديمة، ستكون هي حجر الأساس لقصة جديدة تمامًا، قصتهما هما.
في تلك الليلة، بدأت رحلة جديدة بينهما. 
رحلة عبر صفحات رواية قديمة، كانت كل كلمة فيها تقربهما أكثر، وتكشف له عن عالمها الداخلي الثري، وتجعله يدرك أن بعض أجمل القصص ليست تلك المكتوبة في الكتب، بل تلك التي تعيش في قلوب البسطاء.
❈-❈-❈
أصبحت جلسات القراءة المسائية طقسًا مقدسًا في حياة أكمل وصبر. 
لم تعد مجرد قراءة، بل تحولت إلى نقاشات ثرية
لحظات تمنى كثيرًا أن يعيشها مع ليلى
لكنها كانت ترفض ذلك بشدة متعللة بعدم حبها للقراءة
كان أكمل يكتشف في كل يوم جانبًا جديدًا من شخصيتها. 
كانت تمتلك قدرة مدهشة على تحليل دوافع الشخصيات، وفهم الرموز الخفية بين السطور، وطرح أسئلة فلسفية عميقة لم يتوقعها من فتاة لم تكمل تعليمها.
في إحدى الأمسيات، بعد أن انتهيا من رواية رومانسية بسيطة، قال أكمل وهو يغلق الكتاب
_طبعا انتي زي كل القراء بتحبي النهاية السعيدة، اللي بينتصر فيها الخير على الشر، والابطال يتجوزوا
نظرت إليه صبر، وفكرت للحظة قبل أن تجيب.
_الواحد بيحب النهايات السعيدة عشان هي نادرة في الحقيقة يا بيه.
تابعت بهدوء. 
_لكن القصص اللي بتعيش بجد... هي اللي نهايتها بتسيبك تفكر. 
اللي بتوريك إن الخير والشر ساعات بيبقوا متلخبطين جوه نفس الشخص.
أعجبته إجابتها العميقة. 
لقد أدرك أنها لا تقرأ للتسلية فقط، بل تقرأ لتفهم الحياة.
سأل، وقرر أن يرفع مستوى التحدي.
_طيب، ايه رأيك في الأدب الروسي؟ 
عقدت حاجبيها. 
_زي مين؟
_دوستويفسكي، على سبيل المثال.
لمعت عيناها ببريق من المعرفة. 
_آه... صاحب 'الجريمة والعقاب'. 
اللي جتل العچوز عشان يثبت لنفسه إنه إنسان خارق فوق القانون، بس في الآخر عذابه النفسي هو اللي هزمه، مش البوليس.
اتسعت عينا أكمل بالدهشة. 
_أنتِ قرأتِها؟
هزت رأسها. 
_لأ. بس أبلة سهام الله يمسّيها بالخير كانت بتحب الفلسفة، وحكتلنا عن فكرتها قالت إن أصعب سجن هو اللي الإنسان بيبنيه لنفسه جوه ضميره.
في تلك اللحظة، قرر أكمل أن يخوض معها مغامرة فكرية حقيقية. 
في اليوم التالي، دخل عليها المطبخ وهي تعد طعام الغداء. 
كانت منهمكة في عملها، تتحرك بهدوء واعتياد لم تشعر بوجوده إلا عندما وضع كتابًا صغيرًا وأنيقًا على الطاولة بجانبها كان كتابًا للأطفال، بغلاف ملون ورسوم بسيطة.
قال وهو يضع الكتاب على الطاولة.
_ده ليكي.
نظرت صبر إلى الكتاب بدهشة كان عنوانه
شجرة العطاء
لشيل سيلفرشتاين.
_ده... ده كتاب أطفال يا بيه.
_هو كتاب لكل الأعمار.
قال بنبرة هادئة ودافئة.
_القصص البسيطة ساعات بيكون فيها أكبر حكمة، القصة دي عن شجرة بتحب ولد صغير، وعن معنى الحب والعطاء الحقيقي.
ثم ابتسم ابتسامة فيها تشجيع لطيف.
_ده اختبار ليكي. 
مش هياخد منك عشر دقايق اقريه، ولما تخلصي، عايزك تجاوبي على سؤال واحد بس.
سألته بفضول وقد أثار اهتمامها.
_سؤال إيه يا بيه؟
_خلصي القصة الأول، وبعدين أسألك.
تركها مع الكتاب الصغير والسؤال المعلق في الهواء، وخرج 
لقد ألقى في عالمها الهادئ بفكرة بسيطة، وكان ينتظر ليرى كيف ستتلقاها.
لم تنتظر صبر طويلًا في استراحة قصيرة بعد الغداء، جلست في ركن هادئ وفتحت الكتاب. 
كانت الرسوم بسيطة والكلمات قليلة، لكن القصة لمست وتراً عميقاً في قلبها قرأتها مرة، ثم مرة أخرى، وفي كل مرة كانت تكتشف شعورًا مختلفًا.
وفي نفس الليلة، جاءت إليه في الشرفة وهو يحتسي قهوته. 
كانت تحمل الكتاب في يدها.
قالت بصوتٍ هادئ يحمل تأثرًا واضحًا.
_أنا قريتها يا أكمل بيه.
قال أكمل وهو يعتدل في جلسته، مبتسمًا.
_عظيم يبقى عرفتي الإجابة.
قطبت جبينيها بحيرة، فسألها هو.
_مين فيهم كان بيحب أكتر... الشجرة ولا الولد؟
جلست على المقعد المقابل له، وصمتت للحظة، تجمع أفكارها ومشاعرها.
قالت ببطء.
_في الأول...
كنت هقول الشجرة طبعًا هي اللي ضحت بكل حاچة. 
ادته تفاحها، وبعدين فروعها وبعدين چذعها... مخلتش حاچة لنفسها ده عطاء مفيش بعده عطاء.
سأل أكمل، مدركًا أن هذه ليست إجابتها النهائية.
_وبعدين؟
قالت بصدق مدهش، وكأنها اكتشفت شيئًا جديدًا عن طبيعة المشاعر.
_لكن وأنا بفكر... اكتشفت إن السؤال نفسه ممكن يتشاف بطريقة تانية. الشجرة كانت سعيدة وهي بتدي، سعادتها كانت في عطائها. 
لكن الولد... الولد كان بيرجع للشجرة في كل مرة يكون فيها محتاج حاجة يمكن مكنش بيعرف يعبر عن حبه بالكلام أو العطاء، بس حبه كان في إنه مكنش عنده مكان تاني يروحله غيرها كانت هي أصله وجذوره اللي بيرچعلها دايمًا.
صمتت للحظة، ثم قالت الجملة التي أذهلت أكمل ببساطتها وعمقها.
_وفي الآخر... اكتشفت إن الحب مش مين بيدي أكتر الحب ساعات بيكون إنك تعرف مين اللي هترجعله لما الدنيا كلها تجفل في وشك.
الشجرة كانت بتدي كل حاچة عشان هي بتحب، والولد كان بياخد كل حاچة عشان هو بيحبها ومش شايف أمان غير معاها، يمكن الاتنين كانوا بيحبوا بنفس القدر، بس كل واحد بطريجته.
نظر إليها أكمل بإعجاب حقيقي. 
لم تجب على سؤاله بإجابة واحدة قاطعة، بل رأت القصة من كل الزوايا، وفهمت أن المشاعر الإنسانية أعقد من مجرد مقارنة بسيطة. 
لقد أثبتت له أنها تملك قلبًا قادرًا على الفهم والتعاطف، وعقلًا يرى ما هو أبعد من السطح، حتى في أبسط القصص.
لقد أثبتت له أنها لا تملك فقط ذكاءً، بل تملك حكمة، وقدرة نادرة على الغوص في أعماق النفس البشرية وفهم تعقيداتها.
_إجابتك... أفضل من إجابتي أنا لما قرأتها أول مرة.
في تلك الليلة، أدرك أكمل أن هذه الفتاة ليست مجرد شخص يساعده، أو تلميذة يعلمها. 
لقد أصبحت ندًا فكريًا له، ومرآة صافية تعكس له أفكاره وتجعله يرى العالم بعيون مختلفة. 
وأدرك أن الإعجاب الذي بدأ يشعر به تجاهها، قد بدأ يتحول إلى شيء أعمق بكثير.
❈-❈-❈
كان أكمل يجلس في شرفة المنزل، يتحدث في الهاتف. 
كانت صبر قد أحضرت له القهوة وكانت على وشك الدخول، لكنها توقفت عندما سمعت نبرة صوته الحادة والمختلفة. 
شعرت أنه لا يجب أن تقاطعه، فتراجعت لتقف عند عتبة الباب، تنتظر حتى ينتهي ليأخذ صينيته.
_يا ليلى افهميني.
كان أكمل يقول في الهاتف، في محاولة أخيرة لشرح موقفه.
_أنا مش قاعد في أطلال، أنا قاعد في بيت جدي، في جذوري.
الموضوع مش مجرد أجازة، أنا محتاج وقت أفكر فيه في كل حاجة.
جاء صوت ليلى من الهاتف، حادًا وعمليًا كالعادة، وإن لم تسمعه صبر بوضوح، إلا أنها فهمت من رد أكمل أنه لم يكن حديثًا وديًا.
رد أكمل بحدة. 
_لا، مش بضحي بمستقبلي!
أنا بعيد ترتيب أولوياتي. 
فيه حاجات أهم من الشغل والمنصب يا ليلى فيه أهل وبيت، وواجب.
صمت أكمل للحظة، يستمع إلى ردها تغيرت ملامح وجهه، وتحولت من الدفاع إلى خيبة أمل مريرة. 
لقد قال شيئًا كشف له حقيقتها التي كان يتهرب منها.
_المنصب... المنصب...
كرر الكلمة بسخرية. 
_يعني كل اللي هامك هو إني أرجع 'أكمل بيه وكيل النيابة'؟ مش مهم أكمل نفسه حاسس بإيه أو محتاج إيه؟
صمت مرة أخرى، ثم اتخذ قراره. 
قرر أن يجري الاختبار الأخير، ليقطع الشك باليقين.
قال بنبرة هادئة ومصطنعة. 
_طيب يا ليلى عشان أريحك خالص... أنا فعلاً بفكر أسيب الشغل نهائي.
_إيه؟!
جاء صوتها هذه المرة عاليًا ومصدومًا لدرجة أن صبر سمعته بوضوح.
أكد أكمل ببرود.
_زي ما سمعتي خلاص، نويت أستقر هنا في البلد، وأدير أرض جدي. 
حياة هادية ومريحة، بعيد عن الدوشة.
ساد صمت طويل على الطرف الآخر. كان أكمل ينتظر
ينتظر أي كلمة تدل على اهتمامها به كشخص، أي سؤال عن راحته النفسية، أي عرض للوقوف بجانبه في قراره. لكن لم يأتِ شيء.
سألت ليلى أخيرًا، وصوتها يرتجف من الصدمة وعدم التصديق.
_أنت... أنت بتتكلم جد؟
قال أكمل بحسم.
_ايوة جد يا ليلى ولو مصرة على ارتباطك بيا يبقى تيجي تعيشي معايا هنا.
تمتمت بكلمات متقطعة. 
_بصراحة... أنا... أنا مصدعة فجأة ومش قادرة أتكلم. 
لازم أقفل دلوقتي.
_ليلى...
_معلش يا أكمل، نتكلم بعدين.
قالت بسرعة، ثم أغلقت الخط دون أن تنتظر رده، ودون حتى أن تقول كلمة وداع.
ظل أكمل ممسكًا بالهاتف للحظات، يحدق فيه وكأنه أفعى لدغته. 
لقد جاءت النتيجة أقسى وأوضح مما توقع لم تحاول حتى أن تمثل الاهتمام. 
بمجرد أن تبخر "المنصب"، تبخرت هي معه.
تنهد تنهيدة عميقة، ووضع الهاتف على الطاولة، ثم مرر يده على وجهه بإرهاق.
في تلك اللحظة، تقدمت صبر بتردد. _أنا... أنا آسفة يا بيه. 
مكنتش أجصد أسمع.
نظر إليها أكمل، وابتسم ابتسامة باهتة. _لا، عادي مفيش حاجة تتخبى.
وضعت القهوة أمامه ثم فركت يدها ببعضها كأنها تود أن تقول شيء
فكرت صبر للحظة، ثم قالت بحكمة فطرية 
_يا أكمل بيه... الأمان أهم حاچة.
عقد حاجبيه. 
_قصدك إيه؟
شرحت بهدوء. 
_يعني...الحب ممكن ييچي ويروح، وممكن يكون حجيجي أو كداب. 
لكن الأمان... إنك تحس إن الشخص اللي معاك ده هيفضل چنبك لو الدنيا كلها وجفت ضدك... إنك لو وجعت هيسندك مش هيكون أول واحد يسيبك ويچري... ده اللي بيعمل البيت بجد. 
والست اللي زي دي... عمرك ما هتحس معاها بالأمان ده.
أكملت بثقة
_لأنها لو حبت منصبك، يبجى هي معاك عشان مصلحتها. 
ولو لا قدر الله حصلك حاچة، وخسرت منصبك أو فلوسك... هتكون هي أول واحدة تبيعك، لأن مصلحتها خلصت.
صمت أكمل، وكلماتها تتردد في أذنيه. "أول واحدة تبيعك". 
لقد كانت على حق تمامًا. 
لقد باعت ليلى علاقتهم في أقل من دقيقة مقابل منصب قرر التخلي عنه.
نظر إلى صبر بتقدير حقيقي. 
لقد لخصت الموقف بكلمات بسيطة وعميقة، أفضل من أي تحليل نفسي كان يمكن أن يقوم به.
قال أخيرًا، وقد اتخذ قراره النهائي والحاسم. 
_عندك حق يا صبر.
أمسك بهاتفه مرة أخرى، وكتب رسالة قصيرة وحاسمة إلى ليلى، ينهي فيها كل شيء بشكل رسمي ونهائي. 
عندما ضغط على زر الإرسال، لم يشعر بالحزن أو بالندم، بل شعر بارتياح هائل، كمن أزاح عن كاهله حملاً ثقيلاً كان يرهقه لسنوات.
نظر إلى صبر التي كانت تراقبه بقلق صامت، وابتسم لها ابتسامة حقيقية لأول مرة منذ وقت طويل. 
ابتسامة رجل تحرر أخيرًا من وهم، وبدأ يرى طريقه بوضوح.
❈-❈-❈
جلست روح في الحديقة في ذلك البرد القارس، تضع على كتفيها شالاً صوفياً ثقيلاً، لكنه لم يكن كافياً ليمنحها الدفء الذي تبحث عنه. 
كانت أنفاسها تتحول إلى بخار أبيض في الهواء، وعيناها تائهتان في الفراغ، تراقبان أوراق الشجر اليابسة وهي تتساقط ببطء، كأنها ترى فيها صورة لحياتها.
لقد أصبح الملل سيد أيامها. 
روتين قاتل من الاستيقاظ، وتناول الطعام بصمت، ثم الجلوس لساعات لا تفعل فيها شيئاً سوى التفكير. 
ثم جلسات العلاج الطبيعي التي تذهب إليها مع مالك الذي أصبح بدوره مشغول أكثر الوقت
حتى وهو معها في الجلسات يقضي وقته على الهاتف.
شعور الوحدة كان ينهشها بقسوة، لم تشعر به من قبل بهذا العمق، حتى في أصعب أيامها.
فكرت فيمن حولها... كلٌ في عالمه الخاص.
وعد، منذ موت أخيها، انطفأت ضحكتها، وأصبحت ظلاً حزيناً يتحرك في القصر، بالكاد تتكلم وعيناها غارقتان في بحر من الدموع الصامتة.
نغم أختها وتوأم روحها، منذ آخر مكالمة بينهما، وهاتفها مغلق. 
كل رنة تذهب إلى فراغ أسود ومقلق، يترك روح تتخيل أسوأ السيناريوهات.
مالك، كان مشغولاً أغلب الوقت يعود متأخراً ويغادر مبكراً، كأنه يهرب من أجواء الحزن التي خيمت على البيت.
حتى أمها كانت تقضي معظم وقتها بجانب زوجة عمها، تحاول أن تواسيها وتخفف عنها، فزوجة عمها لم تتوقف عن البكاء والنحيب منذ أن فقدت ابنها.
تنهدت بعمق، وشعرت بأنها جزيرة معزولة في وسط محيط هائج.
فجأة، قطع هدوءها صوت محرك سيارة يتوقف عند مدخل القصر. 
رأت مالك يترجل من سيارته، يبدو عليه الإرهاق. 
لمحها جالسة وحدها في هذا البرد، فغير اتجاهه وسار نحوها بخطوات سريعة، والقلق مرسوم على ملامحه.
_ روح؟ إيه اللي مجعدك اهنه في البرد ده؟
نظرت إليه، ولأول مرة منذ فترة، شعرت ببارقة اهتمام حقيقية.
_ كنت بتمشى شوية زي ما الدكتور طلب مني. 
ولما تعبت قعدت أريح.
استغرب مالك، وعقد حاجبيه بقلق.
_ تتمشي لوحدك؟ إزاي يسيبوكي تتمشي لوحدك وإنتي لسة مبتجدريش تمشي كويس؟
هزت كتفيها بلامبالاة تخفي وراءها مرارة.
_ معرفتش حد وبعدين، كل واحد فينا بقى في عالم تاني من وقت اللي حصل. 
كل واحد في همه.
سقطت كلماتها على قلب مالك كالصخر، شعر بالذنب يغزوه لقد كان هو أيضاً واحداً منهم. 
انشغل وهرب من الحزن، وتركها وحدها في أكثر وقت كانت تحتاج فيه إلى وجودهم بجانبها. 
شعر بأنه قد قصّر في حقها كثيراً.
جلس بجانبها على المقعد البارد، متجاهلاً البرد صوته خرج أكثر حناناً ودفئاً.
_ تحبي نكمل مشي مع بعض؟ هسندك أنا.
نظرت إلى قدميها، وقالت بصوتٍ خفيض
_ لأ، تعبت خلاص رجلي لسة تقيلة أوي من أثر الجلطة، مش بقدر أمشي بيها كتير.
صمت للحظات، والحزن يخيم عليهما. 
لقد مر شهر كامل على موت عدي، لكن ظلاله الحزينة كانت لا تزال تسيطر على كل شيء.
حاول مالك أن يغير مجرى الحديث، أن ينتشلها من بئر أفكارها.
_ الدكتور ال إن مع العلاج الطبيعي والمواظبة على المشي، كل حاچة هترجع كيف ما كانت وأحسن.
أومأت برأسها دون أن تتكلم. 
في تلك اللحظة وهي تنظر إليه، بدأت تراه بشكل مختلف. 
لم يعد مجرد ابن عمها المشغول، بل عاد ليكون مالك الذي عرفته طوال عمرها. 
مالك الذي كان دائماً سندها وحصنها. 
تذكرت كيف كان يحميها في طفولتهما، كيف كان أول من تلجأ إليه عندما تقع في مشكلة.
كان هو لا يزال يحاول أن يخفي مشاعره خلف قناع الجدية والاهتمام العملي، لكن نظراته كانت تفضحه. نظراته القلقة، اهتمامه بتفاصيل تعبها، جلوسه بجانبها في هذا البرد... كل ذلك كان يتحدث بلغة أخرى، لغة الحب الصامت التي لم تكن تفهمها من قبل، لكنها الآن بدأت تستوعب حروفها الأولى.
وبدأت تتأكد أنها من أخطأت فهم مشاعره.
لكن شيء آخر جعلها تنفي كل ذلك
لن تنخدع مرة أخرى
إذا كان حقا أحبها ما كان ليترگها ويرحل دون أن يلتفت لها.

•تابع الفصل التالي "رواية ثنايا الروح" الريح والغيامة" اضغط على اسم الرواية 

ملحوظة

يرجى التنبية: حقوق الملكية محفوظة لدى المؤلفون ولم تسمح مدونة دليل الروايات pdf نسب الأعمال الروائية لها أو لشخص غير للكاتب الأصلي للرواية، وإذا نشرت رواية مخالفة لحقوق الملكية يرجى أبلغنا عبر صفحة الفيسبوك
google-playkhamsatmostaqltradent