رواية ثنايا الروح "الريح والغيامة" الفصل الثاني والعشرون 22 - بقلم رانيا الخولي

 رواية ثنايا الروح "الريح والغيامة" الفصل الثاني والعشرون 22 - بقلم رانيا الخولي 

كان ضوء الصباح الشاحب يتسلل من نافذة غرفة المستشفى، ويرسم مربعًا باهتًا على الجدار الأبيض في الغرفة، لم يكن هناك سوى صوت جهاز مراقبة القلب الذي كان يصدر صفيرًا منتظمًا، وصوت أنفاس متعبة لامرأة لم تغمض لها عين طوال الليل.
كانت أم روح تجلس على مقعد بجانب سرير ابنتها، تمسك بيدها الباردة بين يديها، وتتلو بصوتٍ خفيض ما تيسر من القرآن. 
بجانب النافذة كان يقف شقيقها، خال روح يراقب المشهد بعينين يملؤهما الحزن والعجز. 
لقد أصر على البقاء مع أخته، ليكون سندًا لها في هذه المحنة التي أتت لتضاف إلى مصيبة موت عدي.
فجأة، شعرت الأم بحركة طفيفة جدًا في اليد التي تمسكها
حركة بالكاد تُذكر، كرفرفة جناح فراشة. 
رفعت رأسها بسرعة ونظرت إلى وجه ابنتها الشاحب.
همست بصوتٍ يرتجف من الأمل والخوف. 
_روح... يا بنتي، سامعاني؟
تحركت جفون روح ببطء شديد، كأنها تحمل ثقلاً هائلاً. 
حاولت أن تفتح عينيها، ثم أغمضتهما مرة أخرى، كأن الضوء يؤلمها.
نادى الخال بصوتٍ مكتوم، وهو يركض إلى خارج الغرفة.
_يا دكتور.
عادت ليل تركز على ابنتها. 
_فتحي عيونك يا روح... عشان خاطري يا جلب أمك.
مرة أخرى، وبمجهود بدا جبارًا، فتحت روح عينيها. 
كانت نظراتها ضائعة
تائهة، تتحرك ببطء في أرجاء الغرفة البيضاء وكأنها تستكشف مكانًا غريبًا لأول مرة. 
استقرت نظراتها أخيرًا على وجه والدتها.
حاولت أن تتكلم، لكن لم يخرج من فمها سوى همهمة ضعيفة وغير مفهومة.
قالت ليل والدموع تترقرق في عينيها، وهي تمسح على شعرها بحنان
_اششش... متتعبيش نفسك يا بنيتي.. متتكلميش  واصل المهم إنك فوقتي ورجعتيلنا.
دخل الطبيب وخالها بسرعة. 
بدأ الطبيب في إجراء فحوصاته السريعة، وهو يوجه ضوءًا صغيرًا في عينيها ويسألها أسئلة بسيطة وهو يمسك يدها المصابة
_اضغطي على إيدي.
شعر بالضغط الخفيف من يدها فظهر الارتياح على وجهه
_الحمد لله الاضرار بسيطة وهتروح مع العلاج.
حمد لله على سلامتها.
شكره خالها وخرج الطبيب من الغرفة 
لكن روح، ورغم أنها كانت لا تزال في حالة ضبابية، بدأت تستعيد وعيها بالمكان والزمان. 
بدأت تتذكر
تذكرت عدي، وصرخاته، وكلماته القاسية التي كانت كالسياط. 
تذكرت دفعه لها وسقوطها، والألم الذي مزقها قبل أن يبتلعها الظلام.
تجمعت العبرات بعينيها وهي تردد اسمه ومدى احتياجها له الآن أكثر من أي وقت مضى.
مـ..مـ..الك...
بدأت عيناها تتحرك في الغرفة بقلق، تبحث عن وجوه أخرى. 
تبحث عن عمها عن جدها عن... مالك لم تجد أحدًا لم تجد سوى والدتها وخالها.
نظرت إلى والدتها مرة أخرى، وفي عينيها سؤال واضح وصامت
_مـــا..لـــك.
اغمضت ليل عينيها وهي لا تعرف ماذا تقول لابنتها 
كيف تخبرها؟ كيف تخبر ابنتها التي نجت للتو من الموت، أن زوجها قد مات محترقًا؟ وهذا ما جعل مالك غائباً كيف تخبرها أن العائلة كلها في البلد، في مأتم زوجها؟
أطرقت الأم رأسها، غير قادرة على مواجهة نظرات ابنتها المتسائلة.
قالت ليل بصوتٍ متحشرج. 
_ارتاحي بس دلوقت يا روح،ارتاحي وكل حاجة هتبقى زينة.
لكن روح لم تكن غبية. 
لقد رأت الحزن العميق في عيني والدتها، ورأت نظرة الأسى والشفقة في عيني خالها. 
وأدركت من هذا الغياب الجماعي، ومن هذا الحزن المكتوم، أن كارثة أخرى قد وقعت بينما كانت هي غائبة عن الوعي.
حاولت أن ترفع يدها الأخرى، يدها السليمة لتلمس والدتها، لكن جسدها خانها لم تستطع سوى تحريك أصابعها قليلاً.
في تلك اللحظة، شعرت روح بوحدة قاسية وباردة. 
لقد استيقظت من كابوس، لتجد نفسها في كابوس آخر. 
فتجد نفسها في ظلام المرض، لتواجه ظلام الحقيقة المجهولة. 
وحيدة في هذا السرير الأبيض، لا تملك سوى دموعها التي بدأت تنزل بصمت على خديها، دموع على ما حدث، ودموع على ما لا تعرفه بعد.
❈-❈-❈
وقف سالم، جسده يرتجف، أمام سيل المعزين كانت الكلمات تتدفق على مسامعه، لكنها لا تخترقه
كان يشعر وكأنه في عالم رمادي، لا ألوان فيه ولا أصوات حقيقية. 
كانت الوجوه تمر أمامه كالأشباح، يرى شفاهًا تتحرك، لكنه لا يسمع شيئًا. 
كان يبحث عن بصيص أمل، عن لمحة من ابنه الراحل، لكن لا شيء. 
فقط هذا الفراغ الهائل الذي تركه عدي خلفه. 
كان يشعر وكأن روحه قد انتزعت منه، وكأن جزءًا حيويًا من كيانه قد بتر. 
الألم كان حادًا، لاذعًا، يمزق أحشاءه، لكنه كان يحاول أن يظهر تماسكًا، قويا من أجل من حوله، ومن أجل ذكرى ابنه.
تذكر سالم ابنه، منذ أن كان طفلًا صغيرًا، يملأ حياتهم ضحكًا وصخبًا.
تذكر شبابه، طموحاته، أحلامه التي لم تتحقق. 
كل تلك الذكريات كانت تنهال عليه كالصواعق، تزيد من وطأة الألم. 
كان يتمنى لو يستطيع أن يصرخ، أن يطلق العنان لحزنه، لكنه كان حبيسًا في جسده، محاطًا بالعزاء، وبنظرات الشفقة التي كانت تخنقه أكثر.
كانت يده ترتجف وهو يصافح المعزين، يشعر ببرودة أيديهم، وكأنها تزيد من برودة روحه. 
وبحقيقة أن الحياة لن تكون كما كانت أبدًا.
كان وهدان شيخًا محطمًا، وعيناه تحدقان في الفراغ. 
لم يكن يبكي لكن قلبه كان ينزف.
صورة حفيده الراحل، عدي، لا تفارق مخيلته. 
تذكر كيف قسى عليه، حرمه من نغم، حبه الوحيد. 
"لو وافقت على جوازه منها..."، 
همس بصوت مبحوح، 
"ما كان حوصل كل ده. كان زمانه عايش سعيد معها." 
كان الندم يخنقه، يمزقه. 
ذنب لا يغتفر وحسرة لا تنتهي فقدان عدي لم يكن مجرد فقدان حفيد، بل كان فقدانًا لروحه، لراحة ضميره.
❈-❈-❈
كان بيت الجبل معزولاً عن العالم، تحيط به الأشجار الصامتة والسماء الواسعة فقط. 
لم يكن هناك صوت سوى حفيف الريح وهمس الطبيعة في هذا المكان الهادئ، كان جاسر يحاول الهروب من ضجيج الكارثة التي صنعها، لكنه وجد نفسه سجينًا لصمتٍ أكثر إيلامًا: 
صمت نغم.
أحضر لها أفضل طبيب نفسي من القاهرة. 
بعد جلسة طويلة مع نغم الصامتة، خرج الطبيب إلى جاسر الذي كان ينتظره في الشرفة.
_يا جاسر بيه، الحالة دي اسمها صدمة نفسية حادة
اللي عرفته من حضرتك واللي هي شافته كان فوق طاقة تحمل أي إنسان
هي فصلت وعيها عن الواقع كآلية دفاع وبالتالي محتاجة رعاية مكثفة في مصحة نفسية متخصصة.
انتفض جاسر عند سماع كلمة 
و قال بحدة. 
_مستحيل أسيبها في مكان زي ده.
_لكن......
قاطعه جاسر بنبرة لا تقبل الجدال. 
_قلت مستحيل، جولي هي محتاچة إيه وأنا هوفره اهنه
ممرضات أدوية أي حاجة بس مش هتخرج من البيت ده.
اضطر الطبيب للموافقة على مضض، ووضع له خطة علاجية صارمة، وترك له أرقام ممرضتين متخصصتين يمكن أن يتناوبا على رعايتها. 
لكن جاسر لم يتصل بأحد. 
لقد قرر، دون أن يعترف لنفسه بالسبب، أنه هو من سيتولى هذه المهمة.
بدأت الأيام تمر ببطء شديد كانت والدته هي المسؤولة عن رعايتها نهارًا. 
كانت تطعمها بصبر، وتغير لها ملابسها، وتتحدث معها لساعات دون أن تتلقى أي رد، على أمل أن يخترق صوتها جدار الصمت الذي بنته نغم حول نفسها.
على الفراش بجوارها، يرفض أن يتركها وحدها
وفي كل ليلة، كان الكابوس يتكرر كانت نغم تستيقظ فجأة، ليس بصراخ عالي، بل بصرخة مكتومة ومبحوحة، صرخة ألم مطلق تخرج من أعماق روحها. 
وجسدها يرتجف بعنف، كأنها ترى مشهد موت عدي يحترق أمامها مرة أخرى.
في المرة الأولى، تجمد جاسر في مكانه، لم يعرف ماذا يفعل. 
لكن في المرة الثانية، تحرك بغريزة لم يعهدها في نفسه. 
نهض من الأريكة، وجلس بجانبها على السرير، وبحركة حانية ومترددة، سحبها إلى حضنه.
_ششش... اهدي.
همس في أذنها، وصوته الذي طالما حمل الأمر والتهديد، خرج دافئًا ومطمئنًا. 
_ده مجرد كابوس أنتي في أمان... أنا هنا.
لم تكن تستجيب له بوعي، لكن جسدها المرتجف كان يهدأ تدريجيًا بين ذراعيه. 
كان يظل هكذا، يحتضنها بقوة، ويشعر بارتجافتها تخف شيئًا فشيئًا، حتى تنتظم أنفاسها وتعود إلى النوم مرة أخرى. 
كان يعيدها إلى الفراش برفق، ويغطيها، ثم يعود إلى أريكته، لم يريد أن ينام بجوارها كي لا يسبب ضغطاً عليها وترك لها مساحتها لكنه لا ينام بعدها. 
يظل مستيقظًا، يراقبها، ويشعر بمزيج من المشاعر المعقدة التي لم يجربها من قبل.
كان يشعر بالذنب. 
ليس الندم، بل ذنب حقيقي وثقيل.
كان يرى نتيجة أفعاله مباشرة في جسدها المرتجف وصرخاتها المكتومة.
لقد أراد الانتقام، لكنه لم يتخيل أبدًا أن يكون الثمن هو تحطيم إنسان بهذا الشكل.
موت عدي حطم كل شيء
حبروته..
قوته..
شموخه...
كل شيء تبخر معه
شعر بألم حاد وفقد يسري في دماءه
ولم يكن حاله بأفضل من حالها لكنه تعود على الصمود الذي تبقى له.
وفي إحدى المرات، وجد والدته مرهقة وقد غلبها النعاس قبل أن تكمل نغم طعام العشاء
أخذ منها الطبق بهدوء. 
_روحي ارتاحي يا أمي أنا هكمل.
جلس مكانها، وبدأ يطعمها
كانت تأكل ببطء، دون وعي، كأنها آلة
لكنه كان صبورًا
كان يرفع الملعقة إلى فمها، وينتظر، ويمسح حول فمها بمنديل برفق. 
في تلك اللحظة، وهو قريب منها بهذا الشكل يراعيها، لاحظ تفاصيل لم يرها من قبل. 
لاحظ رموشها الطويلة، وشحوب بشرتها، والضعف الذي حل محل القوة في ملامحها.
شعر بشيء غريب تجاهها. 
لم تكن شفقة، ولم يكن مجرد ذنب كان شعورًا بالرغبة في حمايتها. 
رغبة في أن يمحو الألم من عينيها، وأن يرى ابتسامتها مرة أخرى، حتى لو كانت ابتسامة تحدي موجهة له، كان يريدها أن تعود، حتى لو عادت لتكرهه.
هذا الشعور كان جديدًا عليه تمامًا. 
هو جاسر التهامي، الذي لم يعرف سوى السيطرة والقوة والانتقام، بدأ يشعر بشيء دافئ وهش ينمو في صدره كلما نظر إليها. 
لم يكن يعرف أن هذا هو الحب، لأنه لم يجربه من قبل. 
كل ما عرفه هو أنه مستعد أن يفعل أي شيء ليعيد الروح إلى هذه العينين الفارغتين، حتى لو كان ذلك يعني مواجهة أكبر أعدائه: نفسه.
❈-❈-❈
اجتمعوا في غرفة انتظار صغيرة، بعيدًا عن أعين المتطفلين. 
روى أكمل كل شيء بهدوء قاتل: خطة عدي، استخدامه لذلك الخليط الحارق، إشعاله النار في الإسطبل عمدًا، موت الخيول الثمينة، إصابة عدد كبير من الحراس الذين حاولوا إطفاء الحريق بإصابات بالغة، الأضرار التي لحقت بالقصر نفسه
وأخيرًا، موته المأساوي نتيجة خطئه هو.
كان كل تفصيل يرويه أكمل بمثابة مسمار آخر يُدق في نعش كبرياء عائلة الرفاعي.
عندما انتهى أكمل من حديثه، ساد صمتٌ رهيب ومذل. 
لم يكن صمت الحزن، بل صمت الألم.
كان سالم الأب المكلوم، أول من تكلم رفع رأسه من بين يديه، وفي عينيه نظرة مهزومة لم يرها أحد عليه من قبل.
قال بصوتٍ مكسور، وكأنه يسأل ليؤكد الحقيقة التي لا يريد تصديقها.
_يعني عدي... راحلهم معتدي؟ 
أومأ أكمل برأسه بأسى. 
_راح يرجع نغم بطريقته، ومفكرش في العواقب.
هنا وقف الجد، كبير العائلة وسند جسده المرتعش على عصاه الخشبية، نظر إلى ابنه وحفيده، وفي عينيه بريق حاسم ولد من رحم الكارثة.
_مفيش تار.
قالها بصوتٍ أجش لكنه حازم كحد السيف.
نظر إليه سند ومالك بصدمة، ليس اعتراضًا بل لأن الكلمة خرجت بهذه السرعة وبهذا اليقين.
قال سند باستنكار
_كيف ده يا چدي، هنسيب تار عدي زي ما سيبنا جبليه نغم؟
أكمل الجد، وصوته بدأ يعلو قليلاً، مشوبًا بالمرارة والألم، عليه أن يتنازل مرة أخرى لأجل البقية
_نطالب بدم ولدنا وهو اللي راحلهم بجهنم في إيده؟ نطالب بحقه وهو اللي حرق حالهم، وأذى رجالهم، وروّع حريمهم؟
سار خطوتين في الغرفة، وعصاه تدق على الأرض مع كل خطوة. 
_ التهاميه لو جتلوا كل رجالنا دلوجت، يبجى ليهم الحج. 
لم يكن يدافع عنهم بل كان يهدئ من غضب عائلته كي لا يعيش مرارة الفقد
_ابننا هو اللي رفع السلاح لول... هو اللي بدأ الحرب. 
موته ده... مش غدر منيهم، ده تمن تهوره وجنونه.
جلس وهدان مرة أخرى، يشعر بالألم يلتهمه. 
لقد مات حفيده، وبدلاً من أن يكون موته سببًا للمطالبة بالحق، أصبح دينًا في رقبة عائلته.
هكذا اقنع عائلته كل يحاجي عليهم من غضبهم
أكمل الجد بنبرة نهائية لا تقبل الجدال
_الموضوع ده اتجفل. 
عدي الله يرحمه ويغفرله، عزانا خدناه في ولدنا، وهنجفل عليه. 
لكن مفيش كلمة واحدة هتتجال عن التار. 
لو حد سأل، هنقول قضاء وقدر. 
ابننا راح في حادثة.
اسودت الدنيا في عين مالك وسأل جده بغضب
_تاني يا چدي؟ بتعيده من تاني وتتغاضى؟
لم يشعر أحد بالنار التي تلتهم جسد وهدان لقد احترق قلبه مع حرق عدي وشعوره بالذنب الذي لا يرحم.
لم تكتفي الدنيا بأخذ ولده وزادته بقسوتها بأخذ قطعة أخرى من روحه
عدي.
لكن سيفعل أي شيء حفاظا على ما تبقى من عائلته
رفع وهدان نظره إلى مالك وقال بأمر
_اللي عندي جولته انا مبجاش حيلتي غيركم دلوجت ولازمن احافظ عليكم.
صرخ مالك
_وحج أخوي؟
ضغط على عصاه يستمد منها قوته التي بدأت تضعف.
_عند ربنا، حفيدي اللي غولط وكسر جلبي عليه، ومش مستعد اخسر حد تاني منيكم.
لو كان هما اللي عملوا إكدة كنت سلمتهم للحكومة زي ما عملت مع ولدي جبل سابج
أكد مالك رأي وهدان قائلاً 
_للأسف رأي جدي صح في كل كلمة
عدي اللي عتدى عليهم، وقانونياً يعتبر مجرم ولو كان عايش كان ممكن الحكم يصدر ما بين عشر سنين لمؤبد، وفي حاجة برضه، المتضررين من الحادث يحق لهم انهم يطالبوا بتعويض عن كل الخسائر اللي نتجت عن الحادث.
وخصوصاً إن في ضحايا كتير.
استخدام المسحوق ده نفسه جريمة كبيرة أوي لإن المايه مش بتقدر تطفيها وخسايرها بتكون مدمرة.
شرعًا وقانوناً وعرفاً ملناش حق.
نقل وهدان بصرة بين مالك وسند وتابع بأمر 
_ياريت الكلام ده يخليكم تهدوا وبلاش تعور، وخلاص أنتو اللي باجيلي من شباب العيلة دي. 
إياك أشوف في عينكم نظرة غل أو انتجام.
اللي حوصل ده درس لينا كليتنا درس إن الغضب بيعمي، وإن اللي بيبدأ بالنار... بيتحرج بيها.
چدي بدأها زمان وعشت عمري كله اهديها.
ثم أضاف بوهن، وكأن كل كلمة تستنزف ما تبقى من قوته وهو يدافع عن ألد أعداءه لأجل البقية
_ده غير الخساير... خسايرهم هما، اللي لو جاسر التهامي فكر يطالبنا بحج الخيل اللي اتحرج ولا السرايا اللي باظت، مش هنجدر نفتح بقنا بكلمة، إحنا اللي بجينا مديونين... مديونين بالدم وبلفلوس.
وفي تلك اللحظة، أدرك الجميع الحقيقة المرة. 
موت عدي لم يكن خسارة مأساوية فحسب، بل كان هزيمة ساحقة. 
لقد حوّل عائلته من موقف الضحية التي يمكن أن تطالب بحقها، إلى موقف المعتدي المديون الذي عليه أن يصمت ويقبل مصيره. 
لقد أطفأ بموته أي فرصة للأخذ بالثأر، وترك عائلته في موقف ضعف وعار لم تعرفه من قبل.
في ذلك الممر البارد والمعقم، وجد الأب والابن نفسيهما محاصرين في قلب مأساة مزدوجة. 
لقد خسروا كل شيء في ليلة واحدة.
لم يكن هناك مكان للغضب أو للثأر، لم يكن هناك سوى فراغ هائل، وحزن أثقل من أن يحتمله قلب بشر، وصوت الصمت الذي يصرخ بخسارتهم التي لا تعوض.
لم يتحمل مالك البقاء
وخرج من الغرفة و من القصر كالإعصار، صافعاً الباب خلفه بقوة جعلت جدران البيت العتيق ترتج. 
كانت عيناه حمراوين كجمرتين مشتعلتين، وعروق رقبته نافرة، وكل عضلة في جسده متشنجة من الغضب المكتوم. 
لقد وصل إلى أقصى درجات غضبه في حديثه مع جده، الذي رفض رفضاً قاطعاً فكرة الأخذ بالثأر، وربطه بقواعد العائلة وتقاليدها التي رآها مالك في هذه اللحظة مجرد قيود بالية أمام حقه في دم أخيه.
قاد سيارته بسرعة جنونية، لا يرى أمامه والطريق يتراقص أمام عينيه الغائمتين بالغضب والدموع المحبوسة. 
لم يكن يعرف إلى أين يذهب، لكن قدمه كانت تقوده غريزياً إلى مكان واحد... المكان الذي يرقد فيه نصف روحه.
وصل إلى المقابر مع غروب الشمس، التي كانت تلقي بأشعتها الحمراء الأخيرة على شواهد القبور، كأنها تبكي دماً على الراحلين. 
ترجل من السيارة وسار بخطوات ثقيلة بين القبور الصامتة، حتى وصل إلى قبر حديث، لا يزال ترابه ندياً.
"عدي سالم الرفاعي"
قرأ الاسم المحفور على الشاهد، وشعر بسكين بارد يغرس في قلبه. 
وقف هناك، شامخاً كالجبل، صامتاً كالصخر، لا تظهر على ملامحه أي تعابير. 
كان هذا هو مالك الذي يعرفه الجميع، القوي، الصلب، الذي لا يهتز.
لكن من الداخل كان ينهار.
كانت روحه تصرخ كل تفاصيل آخر لقاء بينهما تعود لتجلده بسياط من الندم. 
صوتهما المرتفع كلماتهما القاسية، اتهامات عدي له، وغضب مالك من تهور أخيه. 
انتهى اللقاء بخلاف بخصام، بقطيعة لم يتخيل أبداً أنها ستكون الأخيرة.
_ زعلان مني، صح؟
همس مالك بصوتٍ أجش ومبحوح، كأنه يكلمه. 
_ عارف إنك زعلان وعارف إني غلطت لما عليت صوتي عليك. 
بس كنت خايف عليك يا عدي... كنت خايف عليك من نفسك.
تنهد تنهيدة طويلة، خرجت معها كل ذرات الهواء من رئتيه، وشعر بفراغ قاتل.
_ نفسي... نفسي ترچع مش عشان تعيش... لأ. 
بس عشان ترچع لحظة واحدة بس لحظة واحدة أجولك فيها حقك عليا. 
أجولك فيها إني آسف. 
أبوس على راسك وأطلب منك السماح... وبعدها... بعدها روح. 
بس روح وإنت راضي عني.
هنا، لم يعد قادراً على الصمود. 
انهار الجبل، وتحطم الصخر سقط على ركبتيه بجانب القبر، وانهار تماماً. 
لم يعد هذا مالك الصامد ، ولا مالك القوي، بل كان مجرد أخ فقد أخاه.
انحنى ووضع جبهته على القبر البارد، وانفجرت دموعه التي حبسها طويلاً. 
لم يكن بكاءً عادياً، بل كان عويلاً مكتوماً، بكاء قهر الرجال الذي يهز الأبدان. 
كانت شهقاته تخرج من أعماق روحه، ممزوجة بالندم والوجع والشعور بالضياع.
الأخ ليس مجرد قريب، بل هو امتداد للروح، هو الذاكرة المشتركة، والضحكة الصادقة، والكتف الذي لا يميل أبداً. 
هو السند الذي لا يعوض، والجدار الذي يحمي من قسوة العالم. 
وبدون هذا الجدار، شعر مالك بأنه عاري ووحيد في مواجهة عواصف الحياة.
ظل على هذا الحال وقتاً طويلاً، يبكي كطفل تائه، يفرغ كل ألمه وقهره وندمه على التراب البارد الذي يحتضن أخاه الوحيد، حتى غربت الشمس تماماً، وحل الظلام، ولم يبق في هذا المكان الموحش سوى رجل محطم، وقلب ينزف على فقدان نصفه الآخر.
❈-❈-❈
كان جاسر يجلس في مكتبه بسرايا التهامي، يراجع بعض الأوراق المتعلقة بالخسائر التي سببها حريق عدي. 
كان الهدوء قد عاد إلى السرايا، لكنه كان هدوءًا مشوبًا بالترقب، كهدوء ما بعد العاصفة وقبل عاصفة أخرى أشد.
فُتح باب المكتب فجأة ودخل صخر، وعلى وجهه نظرة لا تبشر بالخير. 
لم يستأذن، بل دخل وجلس على المقعد المقابل لمكتب جاسر، ووضع ساقًا فوق الأخرى بتعجرف.
_الخسارة كبيرة يا جاسر.
بدأ صخر الحديث بنبرة ساخرة، وهو ينظر حوله. 
_واد الرفاعي ده جبل ما يولع في نفسه، ولع في فلوسنا.
رفع جاسر عينيه من على الأوراق، ونظر إلى عمه ببرود. 
_الخيل اللي اتحرج هيتعوض، والحيطان اللي اسودت هتتدهن مش هى دى المشكلة.
سأل صخر وهو يميل إلى الأمام، وعيناه تلمعان بغضب
_أومال إيه المشكلة يا ابن أخوي؟
لم يرد جاسر، فتابع صخر هجومه. 
_ساكت على اللي حوصل وكمان اخدت بنتهم بيت الچبل لجل ما تعالجها من الخضة، جلبك حن ولا ايه.
قالها بسخرية وهو ينظر في عين جاسر.
رد جاسر بحدة هادئة. 
_دي حاچة متخصكش يا عمي، نغم مرتي، وأنا حر أوديها مطرح ما أوديها.
ضحك صخر ضحكة عالية ومجلجلة. 
_مرتك! لساتك بتجول الكلمة دي؟ البنت دي لعنة يا جاسر
من يوم ما دخلت بيتنا والمصايب بتحل علينا. 
موت وحرج وخسارة، دي مش وش نعمة.
المصايب دي هما اللي جابوها لنفسهم.
وهما لازم يدفعوا تمنها أكتر.
قال صخر، وهنا وصل إلى مبتغاه. 
_لازم يعرفوا إن موتة ولدهم دي مش هترجعلهم كرامتهم اللي انداست لازمن نكسرهم كسرة تانية، كسرة تجطم وسطهم وميجوموش منيها تاني أبدًا.
صمت جاسر، ينتظر بقية حديث عمه الذي يعرفه جيدًا.
_جولتلك جبل سابج نشهر بچوازك منها ونكسرهم صح، بس انت جولتلي طالما بجت على اسمي يبجى سمعتها من سمعتي والحديت الى ملهاش عازه.
ودلوجت شروق
البت كبرت، وخطوبتها طولت
والناس في النجع بدأت تتكلم
رد جاسر بلهجة رغم برودها الا انها حازمة قاطعة
_الناس تتكلم زي ما هي عايزة. 
_لأه! 
قالها صخر بحزم وقوة. 
_كلام الناس ده هو اللي بيعلينا وهو اللي بيوطينا وأني مبجبلش إن حد يجيب سيرة بتي على لسانه.
جوازك من شروق لازمن يتم وفي أسرع وجت.
وقف جاسر بصوت جليدي
_وأنا مش جاهز للجواز ده دلوجت.
ارتفع صوت صخر، وفيه نبرة أمر لا تقبل النقاش. 
_مش بمزاجك يا جاسر، مش بمزاجك، أنت نسيت اتفاجنا؟ نسيت إن نص الأملاك دي باسمي؟ نسيت إني كبير العيلة دي  چوازك من شروق ده مش اختيار، ده واجب. 
ده اللي هيثبت للكل  إن الأصل بيرجع للأصل.
ولو كنت بدأت تميل للهانم
فإحنا دلوجت بنتكلم في بيوت وعائلات وأصول. 
الحب ده هو اللي ضيع الواد الأهبل بتاعهم.
إحنا جوازنا للمصلحة، وللقوة، وللسلطة. 
هتتجوز شروق عشان تجفل خشم كل واحد بيفكر يتكلم، وعشان تثبت إنك لسه جاسر التهامي اللي كلمته سيف.
ثم اقترب منه، وخفض صوته إلى همس سام. 
_وافتكر زين ان الحج حجنا، والارض أرضنا.. وهما اللي بدأوا التار 
خرج صخر وأغلق الباب خلفه، تاركًا جاسر وحيدًا مع قراره الذي لم يعد قراره. 
لقد حاصره عمه، وربطه بواجباته وباسم عائلته نظر من النافذة، وفكر في نغم لقد كان يكرهها، وأراد كسرها، لكنه لأول مرة شعر بأن هذه الخطوة، خطوة زواجه من شروق، ليست مجرد انتقام، بل هي قسوة مفرطة، قسوة قد تدمر آخر بقايا الروح في تلك المرأة التي أصبحت لغزًا يسير على قدمين في حياته لكنه  جاسر التهامي، ولم يكن أمامه خيار سوى أن يفعل ما يجب عليه هو فعله
وليس غيره..
❈-❈-❈
في منتصف الليل
تسلل وهدان بخطوات ثقيلة، كل خطوة كانت تزن ألف رطل من الألم والندم. 
دفع باب غرفة حفيده "عدي" ببطء، وكأنما يخشى أن يوقظ النائم الذي لن يستيقظ أبدًا. 
كانت الغرفة باردة، صامتة، خالية من روح صاحبها الذي كان يملؤها حياةً وضجيجًا.
وقف في المنتصف، وعيناه تجولان في المكان الذي كان شاهدًا على أحلام شاب لم تكتمل. 
كل شيء في مكانه كما تركه "عدي": 
عطره المفضل على طاولة الزينة، ملابسه التي كان سيرتديها اليوم ملقاة على طرف السرير، صورة تجمعه بـ"نغم" مخبأة جزئيًا تحت وسادته، وكأنه كان يناجيها قبل أن يذهب إلى مصيره.
انحنى ظهره الذي لم تحنه السنون، بل حطمه القهر في ليلة واحدة. سقط على السرير، ومد يده المرتجفة ليمسك بالوسادة التي كانت تحتضن رأس حفيده. 
ضمها إلى صدره بقوة، واستنشق عبق "عدي" المتبقي فيها، فانفجرت دموعه التي حبسها طوال تلك المدة أمام الناس، دموع رجل عجوز خذلته حساباته.
همس بصوت مبحوح، يكلم طيف حفيده الذي ملأ الغرفة:
_كنت فاكر إني بحميك يا عدي... كنت فاكر إني برسملك طريق السعادة.
ارتعش صوته وهو يكمل، والكلمات تخرج ممزوجة بمرارة لا تحتمل:
_غلطت... حساباتي كلها كانت غلط. كنت أعمى يا ولدي، وفكري عماني.
ضرب بقبضته على صدره، ضربة مكتومة تعبر عن غضبه من نفسه.
_لو بس... لو بس كنت سمعت لجلوبكم. 
لو كنت وافجت... لو كنت چوزتك  اللي رايدها وروحك فيها... كان زمانك دلوجت هنا، في حضنها، بتضحك الضحكة اللي بتنور السرايا كلها. 
كان زمانها بتسعدك وبتسعدها.
تخيل المشهد الذي حرمهم منه جميعًا: 
عدي ونغم يضحكان معا، ومالك يعلم روح كيف تحبه، كيف يروض عنادها بحنانه. 
صورة كانت في متناول يده، لكنه ألقاها في نار العناد والتقاليد البالية.
رفع رأسه ونظر إلى الفراغ، وعيناه غارقتان في بحر من الدموع والأسف.
_كنت باني لكم قصور من رمل، فاكرها بتحميكم، وأول موچة هدت كل حاجة فوج دماغي ودماغكم. 
أنا اللي بنيت طريج هلاككم بإيدي... بإيدي دي.
نظر إلى كفيه المرتجفتين باشمئزاز، الكفين اللتين وقعتا على قرارات كانت بمثابة حكم الموت على سعادة أحفاده.
يا ريتني مت جبل ما أشوف اليوم ده. 
يا ريتني أنا اللي روحت وانت اللي فضلت. 
تمن غلطتي كان غالي جوي يا عدي... غالي فوج ما أتحمل.
 كان يبكي على وهدان الذي كان، على الجد الذي ظن أنه يعرف كل شيء، ليكتشف في النهاية، ومتأخرًا جدًا، أنه لم يكن يعرف شيئًا على الإطلاق.
❈-❈-❈
بعد عدة أيام في المشفى، تحسنت حالة روح الجسدية بشكل ملحوظ. 
استعادت قدرتها على الكلام، وإن كان بصوتٍ ضعيف وبطيء، وبدأت في تحريك أطرافها بمساعدة العلاج الطبيعي. 
طوال هذه الفترة، كانوا يتناوبون زيارتها كي لا تشك بشيء، لكنهم كانوا بارعين في التهرب من أسئلتها عن عدي. 
كانوا يخبرونها أنه مشغول، أنه مسافر، أنه لا يستطيع رؤيتها بتلك الحالة ولذلك لا يجرؤ على مواجهتها. 
ورغم أن قلبها كان يحدثها بأن هناك خطبًا ما، إلا أنها كانت تتمسك بهذه الأكاذيب الواهية، لأن الحقيقة كانت تبدو أشد رعبًا.
جاء اليوم الذي سيخرجها فيه مالك من المشفى كان هو من أصر على أن يأخذها بنفسه. 
في السيارة، كان الصمت هو سيد الموقف
كانت روح تنظر من النافذة، ترى تفاصيل الحياة اليومية تمر من أمامها، وتشعر بأنها كانت في عالم آخر.
قالت بصوتٍ خافت.
_مالك
رد مالك دون أن يلتفت إليها، وعيناه مثبتتان على الطريق.
_نعم يا روح.
_هو... لسه مچاش؟
فهم مالك أنها تقصد عدي شعر بغصة في حلقه. 
_لسه يا روح، اديله وجته.
ابتسمت بمرارة وهي 
وصلوا إلى منزل العائلة
ما إن دخلت السيارة من البوابة، حتى شعرت روح بأن شيئًا ما ليس على ما يرام. 
كان هناك هدوء غير طبيعي يلف المكان، هدوء لا يشبه هدوء البيوت، بل سكون المقابر.
ساعدها مالك على النزول من السيارة، ونادى وعد كي تسندها
كانت تمشي ببطء نحو الباب الرئيسي. فتحت والدتها الباب، وكانت ترتدي ملابس سوداء بالكامل.
تجمدت روح في مكانها لاحظت أن الجميع ملبد بالسواد بدأ الشك يتسلل إلى قلبها
_ليه لابسة أسود يما؟
ارتبكت الأم، ونظرت إلى مالك طلبًا للمساعدة. 
_ده... ده بس عشان... عشان اللي حصلك يا بنيتي كنا زعلانين عليكي.
لم تكن إجابة مقنعة.
دخلت روح إلى المنزل، فوجدت جدها يجلس على كرسيه  أعمامها كلهم يرتدون السواد. 
وجوههم كانت متعبة، والحزن محفور عليها بعمق.
لم يكن هذا حزنًا على مرضها، كان أعمق وأقدم.
قالت روح بصوتٍ بدأ يرتجف. 
_في ايه؟ إيه اللي حوصل وأنا في المستشفى؟
لم يرد أحد كانوا يتبادلون النظرات، كل واحد يلقي بعبء إخبارها على الآخر.
سألت مباشرة، وقلبها بدأ يخفق بقوة ورعب عندما لاحظت حضورهم ما عدا عدي، فتمتمت بصوت مرتعش
_عدي فين؟ هو حصله حاچة صوح؟
صمتهم كان إجابة كافية.
بدأت تتراجع للخلف، وهي تهز رأسها ببطء، رافضة تصديق ما بدأ عقلها في استنتاجه. 
_لأ... لأ... هو كويس هو بس... هو بس محروج مني.
بدأ جدها الحديث بصوتٍ مكلوم.
_يا بنتي......
قاطعته بصوت يحمل رجاء
_لأ....متكملش! مش عايزة أسمع! 
نظرت لوعد التي تبكي بصمت يؤكد لها
_مش عايزة اعرف حاچة طلعيني اوضتي.
وقف امامها مالك يمنعها
_اهدي يا روح..اي انفعال غلط عليكي.
التفتت إلى مالك، وفي عينيها نظرة انكسار تام، نظرة شخص فهم كل شيء فجأة.
_انا هادية....بس مش هصدج ان عدي مات..
كان جلبي حاسس ان في حاچة بس كنت بكدب حالي، ولسة بكدبه....
وقع نظرها على ورد التي تجلس مستسلمة على احد المقاعد
ثم نقلت بصرها لوعد برجاء
_طلعيني أوضتي الجديمة يا وعد.
أومأت لها وعد وهي تمسح دموعها ثم ساعدتها على الصعود وهي مستسلمة لها بهدوء قاتل
❈-❈-❈
كان أكمل يجلس على الكرسي الخاص القديم في حديقة جده، في نفس المكان الذي اعتاد أن يجلس فيه الرجل العجوز. 
كانت الشمس قد بدأت تميل نحو الغروب، وتلقي بظلال طويلة على الأرض. 
لم يكن يقرأ أو يفعل شيئًا، بل كان يكتفي بالنظر إلى الحديقة التي زرعها جده بيده، ويستمع إلى صمت المكان، محاولاً أن يجد بعض السلام في روحه.
لمح من بعيد أحد العمال الصغار في السن، شاب يدعى 
منتصر، يقترب منه بتردد، ثم يتوقف، ثم يتقدم خطوة أخرى، وكأنه يصارع قرارًا صعبًا.
لاحظه أكمل، وأشار له بيده أن يقترب. _تعالى يا منتصر، عايز حاجة؟
اقترب الشاب، وهو يفرك يديه بتوتر واضح، وعيناه تنظران إلى الأرض. 
_يا أكمل بيه... أنا... أنا كنت عايز أجولك على حاچة، بس خايف.
اعتدل أكمل في جلسته، وشعر أن الأمر جاد. 
_متخافش يا منتصر قول اللي عندك محدش هيأذيك طالما أنا هنا.
أخذ الشاب نفسًا عميقًا، ثم قال بصوتٍ خفيض: 
_عم حسان يا بيه... كبير العمال.
_ماله؟
_بصراحة يا بيه... إيده طويلة حبتين بجاله سنين وهو بياخد حاچات من السرايا على صغير. 
حاچات بسيطة إكدة، شكاير كيماوي، شوية فواكة من الچنينة... والحاج قاسم الله يرحمه كان بيشوف وبيطنش، بيجول عيال وبياكلوا عيش.
صمت أكمل، يستمع باهتمام.
أكمل سالم بتردد أكبر.
_بس يا بيه...
الموضوع كبر  من يوم ما الحاج قاسم مات... والبيت كان في دوشة العزا والناس رايحة جاية... أنا شفته بعيني وهو بيدخل المخزن اللي ورا، وخرچ ومعاه حاجات كتير. 
ويومها بالليل، دخل أوضة الحاج الله يرحمه... و...
قال أكمل بحزم.
_كمل .
_بيقولوا... بيقولوا إنه خد فلوس كانت متشالة في الصندوق الخشب القديم مبلغ كبير جوي يا بيه.
تنهد أكمل لقد كان يتوقع أن يواجه مشاكل من هذا النوع. 
_ومين تاني شاف الكلام ده؟
أعطاه منتصر اسمين آخرين من العمال الذين كانوا شهودًا على بعض تصرفات حسان. 
قضى أكمل بقية اليوم في التحقق من الأمر بهدوء، وتأكد من صحة كلام منتصر. 
لم يكن الأمر مجرد سرقة بسيطة، بل كان استغلالاً بشعًا لظرف الموت والفوضى.
في صباح اليوم التالي، أرسل أكمل في طلب حسان.
جاء الرجل، وهو في الخمسينيات من عمره، وعلى وجهه قناع من البراءة المصطنعة. 
لكن ما فاجئ أكمل هو أنه لم يأتي وحده كانت تمشي خلفه، بخطوات مترددة ورأس منكس، فتاة شابة في مقتبل العمر كانت جميلة بجمال ريفي هادئ، ملامحها بريئة، وعيناها تحملان حزنًا يفوق سنها كانت ابنته.
_أهلاً يا حسان .
قال أكمل ببرود، وهو يجلس على كرسي جده كقاضٍ في محكمته. 
_على ما أظن أنا طلبتك لوحدك.
سقط قناع البراءة عن وجه الرجل، وظهر عليه الخوف ارتمى على ركبتيه، وبدأ في التسول. 
_ سامحني يا بيه غصبت عني يا بيه والله... الشيطان شاطر... والعيال مصاريفها كترت أبوس على يدك تسامحني.
قال أكمل بصرامة.
_المسامحة دي مش بتاعتي.
دي جريمة ولازم تتعاقب عليها
أنا هسلمك للشرطة.
هنا، زحف الرجل على ركبتيه، وأمسك بقدم أكمل. 
_إلا الحكومه يا بيه! هتفضوحني وهضيع مستجبلي ومستجبل بتي!
ثم التفت إلى ابنته التي كانت تقف كالصنم، والدموع تتجمع في عينيها.
نظر إلى ابنته وصرخ فيها
_بت يا صبر بوسي إيد البيه! قوليله يسامح أبوكي!
ثم نظر إلى أكمل مرة أخرى، وقال الجملة التي جعلت الدماء تغلي في عروق أكمل.
_يا بيه... خدها خد صبر بتي تشتغل عندك خدامة ببلاش... العمر كله. تخدمك وتخدم بيتك، لحد ما تسد كل قرش أنا خدته بس استر عليا.
نظر أكمل إلى الرجل البغيض الذي يعرض ابنته كبضاعة، وإلى الفتاة التي كانت تبكي بصمت، ووجهها يشتعل من الذل والقهر. 
لقد رأى فيها ضحية، أداة يستخدمها والدها ليفلت من عقابه. 
شعر بالاشمئزاز من الأب، وبشفقة عميقة تجاه الفتاة.
نهض أكمل، وأبعد قدمه عن الرجل بقرف.
_قوم يا راجل انت قوم من على الأرض.
نظر إلى الفتاة التي كانت لا تزال تبكي. 
لقد أدرك أنه لو سلمه للشرطة، فإن هذه الفتاة ستضيع. 
سيلاحقها عار والدها، وربما تضطر للعمل في ظروف أسوأ لتسدد ديونه.
قال أكمل بعد لحظة صمت، وقد اتخذ قراره. 
_خلاص أنا مش هسلمك للشرطة.
تهلل وجه حسان 
_كتر خيرك يا بيه! ربنا...
قاطعه أكمل بحدة.
_بس اسمعني كويس، مش عايز اشوف وشك هنا تاني تحت اي ظرف
ثم نظر إلى الفتاة.
_وأنتي... بنتك... هتشتغل هنا.
نظر إليه حسان بعدم فهم، بينما رفعت الفتاة رأسها بصدمة.
_هتشتغل هنا في البيت.
أكمل أكمل، لكن نبرته تغيرت وأصبحت أكثر لطفًا وهو يوجه حديثه إليها. 
_هتساعدي في شغل البيت، وهتاخدي مرتبك كامل زيك زي أي حد مش عشان تسدي دين أبوكي، لأ. 
عشان ده حقك ومجهودك وعشان أضمن إنك تكوني تحت عيني، بعيد عن أب كل همه إزاي يبيع ويشتري فيكي.
صمت الجميع لم يفهم حسان كرم أكمل، لكنه لم يجرؤ على الاعتراض أما صبر، فنظرت إلى أكمل بنظرة تحمل مزيجًا من الامتنان وعدم التصديق. 
لأول مرة في حياتها، يعاملها شخص كإنسانة لها قيمة، وليس مجرد سلعة للمقايضة.
لقد قرر أكمل أن يرحمها من والدها، وأن يمنحها فرصة لحياة كريمة تحت حمايته. 
لم يكن يعرف أن هذا القرار، الذي اتخذه بدافع الشفقة والعدل، سيفتح بابًا جديدًا في حياته، وسيدخل إلى عالمه شخصًا سيغير فيه الكثير.
❈-❈-❈
لم تكف روح عن البكاء منذ أن عادت من المشفى. 
كانت دموعها تنهمر كشلال صامت، تغسل وجهها الشاحب وتتسرب إلى ثياب والدتها التي تحتضنها بقوة، كأنها تحاول أن تذيب ألم ابنتها في جسدها. 
ارتمت روح في حضن ليل، تبحث عن ملاذ، عن أي شيء يخفف من ثقل الكابوس الذي عاشته.
كانت ليل نفسها جبلاً من الألم، قلبها يتمزق على بناتها، هل الدنيا لم تجد  غيرهم لتقسو عليهم بهذه الحدة؟ 
روح عادت من الموت بجسدٍ منهك وروحٍ جريحة، ونغم ألقيت في غيابات الجب، لا أحد يعرف عنها شيئاً. 
كيف حالها الآن؟ هل رأت ابن عمها وهو يحترق أمامها؟ وإذا حدث، كيف حالها الآن؟ كانت الأسئلة تأكل روحها بلا رحمة.
تطلعت إلى روح التي تنتفض بين ذراعيها، تبكي بحزن وألم عميقين. ولم تكن ليل تعلم أن هذا البكاء ليس على زوج، بل على ابن عم، على قريب، على روحٍ أُزهقت بتلك الطريقة البشعة.
كانت الذكريات تتدافع في رأسها كالأمواج المتلاطمة، لم تكن تبكي على زوجها، فزوجها قد مات في قلبها مات في تلك الليلة التي واجهها فيها بحقيقة مشاعره القاسية.
كانت كلماته تتردد في أذنيها بوضوح مؤلم، كأنها تقال الآن: 
"أنا مش بحبك يا روح... عمري ما حبيتك. أنا بحب نغم كنت بحاول أحبها فيكي، بس مجدرتش."
كل كلمة كانت سكيناً يغرس في قلبها. 
لقد قتلها في تلك اللحظة، قتل كل أمل، كل حلم كل شعور جميل كانت تحمله له. 
واليوم، هي لا تبكي عليه بل تبكي من أجله. 
تبكي على ابن عمها الذي لم تكن تتمنى له هذه النهاية المروعة، مهما فعل بها.
شعرت ليل بارتعاش جسد ابنتها، فشددت من احتضانها وهمست بصوتٍ حنون يغالبه الألم
_ اهدي يا روح جلبي... اهدي يا بنتي. ده قضاء ربنا.
رفعت روح وجهها المبلل بالدموع، ونظرت إلى والدتها بعينين تائهتين.
_ صعبان عليا أوي يا ماما صعبان عليا يموت بالطريقة دي مهما كان ده عدي... ابن عمي اللي اتربينا مع بعض.
أمسكت ليل وجهها بين يديها، ومسحت دموعها بأطراف أصابعها المرتجفة.
_ عارفة يا حبيبتي... عارفة إنه صعب بس إرادة ربنا فوق كل شيء. 
إنتي لازم تكوني قوية عشان تجدري تجفي على رچلك تاني.
هزت روح رأسها، وعادت لتدفن وجهها في صدر أمها، ودموعها تتجدد.
_ ونغم... نغم يا ماما قلبي واكلني عليها زمانها شافت كل حاجة زمانها ميتة من الرعب. 
هي فين دلوقتي؟ بيعملوا فيها إيه؟
هنا، لم تستطع ليل الصمود أكثر
 انفرط عقد دموعها هي الأخرى، واختلطت دموع الأم بدموع ابنتها في مشهد يفتت الصخر. 
كانت قهرتها أكبر وأعمق حزنها لم يكن على شخص واحد، بل كان موزعاً على ابنتيها. 
واحدة جريحة في حضنها، والأخرى مفقودة في المجهول.
_ ربنا يسترها عليها يا روح... ربنا ينجيها ويرجعها لحضني. 
ماليش غيركم في الدنيا دي يارب... يارب احفظها بحفظك ورجعها لي بالسلامة.
احتضنت الأم وابنتها بعضهما البعض بقوة، كل منهما تبكي وجعها الخاص، وكل منهما تحاول أن تستمد القوة من الأخرى في مواجهة هذا الألم الذي بدا أكبر من قدرتهما على الاحتمال.
❈-❈-❈
بعد أن ابتلع الباب الخارجي جسد حسان، تُركت صبر واقفة في بهو البيت الواسع وحدها. 
كان الصمت ثقيلاً، لا يقطعه سوى صوت أنفاسها المتوترة. 
لم تجرؤ على رفع عينيها عن الأرض، حيث كانت تتابع بعينيها نقوش البلاط القديم كأنها تحاول فك طلاسمه، فقط لتهرب من مواجهة الرجل الذي أصبحت الآن تحت رحمته.
دلف أكمل للداخل بخطوات واثقة وهادئة، وأغلق الباب خلفه بصوتٍ خافت زاد من توترها. 
وقف للحظات يتأملها من بعيد، بنظرة فاحصة ومحايدة، كنظرته لملف قضية جديدة أمامه. 
كانت تقف هناك كتلة من الخجل والانكسار، ملابسها المهترئة والفضفاضة، التي بهت لونها من كثرة الغسيل، كانت تخفي أي معالم لجسدها وتجعلها تبدو أكبر من سنها الحقيقي بسنوات. 
حجابها الملفوف بإهمال، وقد انسلت منه بعض الخصلات الباهتة، أكمل الصورة البائسة.
للحظة، شعر بشيء من الارتياح. 
هذا المظهر المتواضع والمنطفئ طمأنه. 
لن يقلق من وجودها معه في البيت وحدهما. 
هي مجرد فتاة بائسة أتت لتعمل، لا أكثر.
تقدم منها ببطء، فوقفت متصلبة في مكانها، تشعر بنظراته تخترقها حتى وهي لا تراه.
سألها بصوت عملي وجاد، خالي من أي عاطفة.
_ هتعرفي تقومي بشغل البيت كله لوحدك؟
رفعت وجهها أخيراً، وبصوتٍ خفيض بالكاد يُسمع ردت بإحراج شديد وهي تفرك يديها بتوتر.
_ أيوه يا بيه بعرف أعمل كل حاجة. 
طبيخ وغسيل وتنضيف كنت ساعات باجي أساعد مرات أبويا هنا زمان... لما كان جدك لسة عايش.
هز أكمل رأسه بإيماءة خفيفة، كأنه يسجل المعلومة في ذاكرته. 
وجودها في البيت من قبل يعني أنها تعرف تفاصيله، وهذا سيوفر عليه عناء الشرح.
صمت للحظة، ثم أشار بذقنه إلى ممر جانبي طويل ومظلم بعض الشيء، ينتهي بباب خشبي قديم في زاوية بعيدة داخل البيت كانت غرفة منعزلة، كأنها بُنيت لتُنسى.
_ الأوضة اللي في آخر الطرقة دي... هتبقى أوضتك تقدري تروحي ترتاحي فيها دلوقتي.
قال "أوضتك"، بلهجة تجعل الكلمة تبدو كمكان للمبيت لا أكثر، مكان مؤقت لوجود عابر.
نظرت صبر إلى حيث أشار، ثم نظرت إليه مرة أخرى بنظرة سريعة وخاطفة، كأنها تحاول أن تقرأ أي شيء في ملامحه الصارمة لكنها لم تجد سوى الفراغ 
وجه وكيل النيابة الذي لا يكشف عن شيء.
_ شكراً يا بيه.
همست بها، ثم تحركت بخطوات بطيئة ومترددة نحو مصيرها الجديد، نحو تلك الغرفة المعزولة في بيت الرجل الغامض الذي لا تعرف عنه شيئاً، سوى أنه الآن سيد قرارها ومستقبلها.
بينما كانت تسير مبتعدة، ظل أكمل يراقبها. 
هذا الكائن الهش والبائس الذي دخل حياته فجأة ما الذي يمكن أن يجمع بينه هو أكمل وكيل النيابة، ابن العائلة الكبيرة، وهذه الفتاة التي تبدو كخادمة من زمن آخر؟ هل ستكون مجرد ظل عابر في بيته، أم أن القدر يخبئ له معها حكاية لم تكن في الحسبان؟

•تابع الفصل التالي "رواية ثنايا الروح" الريح والغيامة" اضغط على اسم الرواية 

تعليقات