رواية ثنايا الروح "الريح والغيامة" الفصل الحادي والعشرون 21 - بقلم رانيا الخولي

 رواية ثنايا الروح "الريح والغيامة" الفصل الحادي والعشرون 21 - بقلم رانيا الخولي 

ثنايا الروح 
رانيا الخولي 
الفصل  الحادي والعشرين 
......................
عندما خيّم الليل على قصر آل التهامي، وبدأ الصمت يبتلع الأروقة الفاخرة، كان هناك كائن آخر يستيقظ في روح جاسر لم يكن الهدوء يريحه، بل كان يثير فيه وحشًا حبيسًا.
ترك غرفته وخرج إلى الظلام، ليس هربًا من شيء، بل سعيًا إلى الشيء الوحيد الذي يفهمه ويفهم عليه.
اتجه بخطوات واثقة نحو الإسطبلات التي كانت تفوح منها رائحة القش والتراب والخيول الأصيلة، مر بجانب الخيول الأخرى التي كانت تقف بهدوء في حجراتها، لكن وجهته كانت محددة في نهاية الممر، في أقوى وأوسع حجرة، كان يقف "بركان".
لم يكن مجرد حصان، بل كان كتلة من العضلات السوداء اللامعة، كأنه قطع من الصخر البركاني
كانت عيناه تلمعان في الظلام بذكاء ونار جامحة، وكان صهيله ليس مجرد صوت، بل هدير قوة مكبوتة
لم يجرؤ أي سايس على الاقتراب منه دون وجود جاسر لقد كسر "بركان" أذرعًا وأضلاعًا لكل من حاول ترويضه أو الاستخفاف به
لم يكن يقبل سيدًا... إلا جاسر.
فتح جاسر باب الحجرة الثقيل لم يصهل الحصان بعنف، بل أطلق صوتًا عميقًا من حنجرته، مزيجًا من التحدي والاعتراف. 
مد جاسر يده ببطء، لا ليُربّت عليه بل ليمررها بقوة على رقبته العضلية، كأنه يتأكد من صلابة سلاحه.
همس جاسر، وكأنه يكلم نفسه.
_ اشتقت للضلمة... يا بركان؟
في دقائق كان قد أسرجه بنفسه، رافضًا أي مساعدة. 
امتطى صهوته بحركة واحدة سلسة وقوية، والتحم جسده بالحصان وكأنهما كائن واحد لم تكن هناك حاجة للجام أو للكلام
كانت الأوامر تنتقل من قدماي جاسر المشدودتين، من ثقل جسده، من إرادته المطلقة التي يفهمها الحصان غريزيًا.
انطلق "بركان" من الإسطبلات كالصاروخ الأسود، ليس في مضمار السباق المضاء، بل نحو الأراضي الشاسعة المظلمة التي تحيط بالقصر كان يعدو بسرعة جنونية، وحوافره تدق على الأرض كطبول حرب
لم يكن جاسر يمسك باللجام بقوة ليتحكم به، بل كان قد أرخاه مانحًا الحصان حريته الكاملة، واثقًا من أنهما يفكران بنفس الطريقة.
كان الهواء البارد يصفع وجه جاسر، وشعره يتطاير بعنف، لكن عينيه كانتا ثابتتين، تشعان بقوة في الظلام. 
هذا هو عالمه الحقيقي
هنا، لا توجد أقنعة أو مجاملات أو خطط معقدة
هنا، لا يوجد سوى القوة الخام الغريزة، والسيطرة المطلقة.
كان يحب في "بركان" ما يراه في نفسه: 
الجبروت الذي لا يلين، العنفوان الذي يرفض الخضوع لأي كان
والقوة التي لا تحتاج إلى تبرير، كلما زاد الحصان جموحًا وعنفًا مع الآخرين، زاد حب جاسر له
لم يكن يريد حصانًا مطيعًا، بل أراد وحشًا لا يخضع إلا له، وهذا كان أقصى درجات إثبات السيطرة.
أطلق جاسر صرخة قوية، لم تكن صرخة فرح، بل صرخة إطلاق سراح لكل القوة المكبوتة في داخله، فجاوبه "بركان" بصهيلٍ عنيف مزق سكون الليل
كانا معًا، رجل وحصان 
سيد ووحش، روحان متشابهتان من نار وغضب، يجوبان الظلام، لا يبحثان عن طريق، بل يفرضان وجودهما على الأرض التي يطآنها، ويؤكدان للعالم الصامت أن القوة هي القانون الوحيد الذي يعترفان به.
فجأة وبدون سابق إنذار انحرف بركان عن مساره، ليس بسبب أمر من جاسر بل وكأنهما توصلا إلى اتفاق صامت. 
اتجها نحو تلة صغيرة في الأفق، بدت وكأنها نقطة سوداء في بحر الظلام. 
صعدا التلة بسرعة، وعندما وصلا إلى القمة، توقف بركان فجأة، وكأنه تمثال منحوت من الليل.
كان المنظر من الأعلى مهيبًا القصر يبدو بعيدًا وأضواؤه الخافتة بالكاد تظهر في الظلام. 
العالم كله يبدو وكأنه ينام، إلا هما
جاسر وبركان، يقفان شامخين فوق كل شيء، يراقبان الصمت الذي يلف الكون.
مد جاسر يده وربت على عنق بركان، هذه المرة بلطف، لكن بقوة. 
شعر بالدفء المنبعث من جسد الحصان، وبقوته الهائلة التي كانت تتناغم مع قوته.
أغمض جاسر عينيه للحظة، يستنشق هواء الليل البارد، ويستشعر القوة التي تتدفق في عروقه. 
تذكر كل القيود التي يفرضها عليه عالمه، كل الأقنعة التي يرتديها، كل الكلمات التي لا يستطيع قولها. 
هنا، في هذا الظلام مع بركان كان يستطيع أن يكون على طبيعته.
فتح عينيه، وكانت عيناه تلمعان ببريق جديد، بريق من العزم والقوة. 
لم يكن هذا مجرد ركوب خيل، بل كان طقسًا، تجديدًا للعهد مع ذاته الحقيقية.
كأنه يتحدى كل شيء
" لن أخضع لن أنحني"
لم 
طاردته عينيها
بكاءها
دموعها
ضعفها
قوتها الواهنة
كل شيء يطارده حتي في ذلك المكان الذي ينسى به كل شيء.
أدار جاسر بركان ببطء، ثم انطلقا مرة أخرى، لكن هذه المرة لم يكن العدو جنونيًا. 
كان عدوًا واثقًا، قويًا، يفرض وجوده على الأرض. 
كانا يعودان إلى القصر، لكن ليس بنفس الروح التي غادرا بها. 
لقد تركا جزءًا من غضبهما في هذا السهل المظلم، وعادا أقوى أكثر جبروتًا.
عندما اقتربا من الإسطبلات تباطئ بركان تدريجيًا، ثم توقف أمام حجرته. 
نزل جاسر من صهوته بنفس السلاسة التي صعد بها.
أدخل بركان إلى حجرته، وأغلق الباب خلفه ثم اتجه نحو القصر، خطواته ثابتة، وكتفاه عريضتان. 
لم يكن هناك أي أثر للتعب على وجهه، بل كان هناك هدوء غريب، هدوء ما قبل العاصفة.
❈-❈-❈
كانت ليلة بلا قمر، والظلام يلف منزل التهامي ككفن أسود
لم يكن هناك صوت سوى حفيف الريح الخافت وهمس أوراق الشجر. 
تسلل عدي عبر الحقول المحيطة بالقصر، لم يكن يحمل زجاجات مولوتوف سهلة الصنع، بل كان يحمل أدوات انتقام أكثر بدائية وشيطانية.
في حقيبته، لم يكن هناك وقود، بل كانت هناك عدة أكياس كبيرة مملوءة بمزيج صنعه بنفسه: غبار الفحم شديد النعومة، مخلوط بمسحوق الألمنيوم ونشارة الخشب الجافة. 
خليط قاتل لا يشتعل بسرعة فحسب، بل يلتصق بالأسطح ويصعب إطفاؤه، وينتج حرارة هائلة ودخانًا كثيفًا وخانقًا. 
اراد أن يشعر بالاحتكاك والحرارة تتولد من لا شيء، تمامًا كما تولد الحقد في صدره.
كانت حركة عنيفة
بدائية، تضخ الأدرينالين في عروقه مع كل خطوة يخطوها للداخل، كان يتذكر إهانة جده التي تحملها بصعوبة، ونظرة الألم في عيني مالك، ودموع نغم الصامتة في سيارة جاسر. 
كان يحول كل هذا القهر والألم إلى طاقة حركية
إلى احتكاك، إلى حرارة.
بعد لحظات بدت كدهر، وصل إلى اسطبل الخيل الخاص بهم
واسقط ذلك الخليط على قومة من القش بالقرب من مبيت الخيل وفي لمح البصر  تصاعد خيط رفيع من الدخان لم يتوقف زاد من سرعته، وهو يلهث كحيوان بري. 
فجأة، ظهرت جمرة حمراء متوهجة في قلب الألياف الجافة.
ثم قفز لسان لهب صغير برتقالي اللون، يرقص في الظلام.
لقد اشعل النار بيده.
لم يكن هناك انفجار، بل كان هناك ما هو أسوأ. 
اندلعت النار بصوت هسهسة مكتومة، ثم انتشرت بسرعة غير طبيعية، كأنها وحش سائل أسود يلتهم كل شيء. التصق المسحوق بالقش والخشب، والنيران التي اندلعت منه كانت كثيفة، داكنة، والدخان الذي تصاعد كان أسودًا ولزجًا، محملاً برائحة كيميائية خانقة.
بدأت الخيول في الداخل تشعر بالحرارة والدخان
علت أصوات صهيلها المذعور، وبدأت تضرب حوافرها على أبوابها الخشبية بعنف، محاولة الهرب من الجحيم الذي حاصرها.
وقف عدي يراقب، يستمع إلى صراخ الخيول المحتضرة، ويشاهد ألسنة اللهب السوداء وهي تلعق جدران الإسطبل وتصعد نحو السقف. 
لم يكن هذا حريقًا عاديًا، كان محرقة.
صرخ أحد الحراس الذي لمح الوهج من بعيد، وبدأ الصراخ يعلو في القصر خرج الرجال يركضون، لكنهم عندما رأوا طبيعة الحريق، وقفوا عاجزين. 
كل دلو ماء كانوا يلقونه كان يتبخر قبل أن يصل، أو كان يزيد من انتشار الدخان السام.
في وسط هذه الفوضى، وبينما كان الجميع منشغلًا بالإسطبل، ركض عدي نحو القصر بنفسه
أخرج كيسًا آخر، وأفرغه عند قاعدة أحد الأبواب الجانبية الضخمة المصنوعة من الخشب العتيق أشعل فيه النار بنفس الطريقة البدائية، ثم أخذ يصرخ بأعلى صوته، باسمها.
_نغــــــــــــــــم! نغـــــــم
سمعت نغم صوته من غرفتها، وركضت إلى النافذة رأت الجحيم المشتعل في الإسطبل، ورأت عدي يقف كشبح مجنون أمام باب يحترق، وهو يناديها تجمد الدم في عروقها.
...........
كان جاسر في مكتبه، غارقًا في أوراقه التي تمثل قضية هامة تحدد مصيره المهني، عندما مزق صمت القصر صوتٌ لم يكن من المفترض أن يُسمع أبدًا داخل هذه الجدران: صرخة 
"حريجة! حريجة يا بيه!".
انفتح باب المكتب بعنف، وخرج جاسر كالصقر من عشه، ليجد حالة من الفوضى والهلع تجتاح البهو
الخدم يركضون في كل اتجاه، ووالدته تقف في منتصف الدرج، وجهها شاحب من الرعب.
سألت بصوت يرتجف.
_ في إيه يا ولدي؟! إيه اللي بيحوصل؟!
قبل أن يجيب، اهتز القصر بانفجار مكتوم، وتصاعدت ألسنة لهب غريبة اللون من جهة البوابة الرئيسية، ملتهمة الخشب والحديد بنفس الشراهة. انعكس وهج النار على وجوه الجميع، فبدوا كأشباح في جحيم مفاجئ علت الصرخات، وتحول الذعر إلى رعب مطلق.
لم يهتز جاسر تحول وجهه إلى قناع من الغضب الجليدي
صرخ بصوتٍ آمر اخترق ضجيج الفوضى كطلقة رصاص
_ اخرچوا كلكم من البوابة الخلفية حالاً.
دفع رجاله الخدم وعائلته للخارج، بينما ظل هو في مكانه، عيناه مثبتتان على النار التي كانت تتراقص كشيطان منتصر
خرج إلى شرفة مكتبه المطلة على الفناء الأمامي، وهو يصرخ في رجاله الذين كانوا يحاولون بعبث إطفاء الحريق.
_ چهزوا خراطيم المايه بسرعة غرجوها.
رد أحد رجاله وهو يلهث، ووجهه ملطخ بالسواد
_ المايه بتشعللها أكتر يا بيه! دي مش نار عادية.
في تلك اللحظة، سمع اسمًا لم يكن يتوقع سماعه في قلب هذه الكارثة.
_ نغــــــم...
استدار جاسر تجاه الصوت، فرأى عدي الرفاعي واقفًا وسط الفناء، كشبحٍ خرج من قلب اللهب
لم يكن خائفًا بل كانت عيناه تشتعلان بغضبٍ مجنون، يتطلع إليه بتحدي صافي 
في يده كان يمسك بكيس قماشي آخر، وفي اليد الأخرى، قداحة مشتعلة، لهيبها الصغير يبدو تافهًا أمام الحريق الهائل، لكنه كان يحمل تهديدًا أكبر.
كشر جاسر عن أنيابه بسخطٍ وحشي، وهم بالنزول من اعلى الدرج لمواجهته.
_ يا واطي...
قاطعه عدي بصوتٍ عالٍ ومبحوح من الدخان، رافعًا الكيس والقداحة.
_أوعاك تجرب ، يا إما متلومش إلا نفسك اني چاي اخد بت عمي وامشي من أهنه.
بدأت الريح تحرك اللهيب بشكل عشوائي، لتصيب أحد الرجال الذي صرخ من الألم، مما زاد من جنون الموقف، توعده جاسر بنبرةٍ خفيضة ومميتة
_ هدفعك تمن اللي عملته ده واعر جوي يا ابن الرفاعي هخليك تتمنى الموت وماتطولوش.
ضحك عدي ضحكة يائسة ومجنونة.
_ ميهمنيش اني چاي انقذها من سجنكم ده حتى لو فيها موتي روحها بتتسحب منيها كل يوم، والنار دي أرحم من اللي بتعملوه فيها.
واصل تهديده، وتقدم خطوة نحو القصر المحترق
_ يا تديني بت عمي وامشي من اهنه، يا إما هحرقكم كلكم بالسرايا دي فوج دماغكم.
نظر جاسر إلى ذلك الكيس القماشي، وأدرك على الفور طبيعة الخليط الكيميائي الذي بداخله
لقد رأى تأثيره من قبل نسبة قليلة منه كافية لتلتهم أي شيء تلامسه بلا رحمة، وتحول الماء إلى وقود.
فقال بأمرٍ، محاولاً استعادة السيطرة
_ ارمي اللي في يدك ده، وامشي من أهنه بكرامتك بدل ما تطلع من هنا چتة.
صاح عدي بغضبٍ هز أركان المكان، وصوته يختلط بفرقعة النار
_ چولتلك مش ماشي من غيرها طلعوها لي حالاً.
_عدي....
في تلك اللحظة، ظهرت نغم عند أحد الأبواب الجانبية، وجهها شاحب وعيناها متسعتان من هول المنظر 
لم تكن تبكي بل كانت تنظر إلى النار، ثم إلى عدي ثم إلى جاسر كأنها ترى كابوسًا قد تجسد على أرض الواقع.
بمفعول السحر تحولت نظرة عدي ولاحت منه التفاته مؤلمة إلى نغم التي وقفت على مقربه منهم تنظر إليه نظرة مزيج من العتاب واللهفة والامتنان
_نغم..
توقف الزمن فور رؤيتها وشعر بقوته تتبخر أمام نظرة واحدة منها
_أني چيتلك يا نغم..
أغمضت نغم عينيها بضياع وتمتمت بألم
_خليك بعيد يا عدي، أني خلاص حياتي انتهت لحد إكدة..
كان جاسر يجد صعوبة بالغة في التحكم في غضبه وغيرته من نظرات عدي الذي جاء إليها مخاطراً بكل شيء
_منتهتش يا نغم، اني چيتلك عشان ترچعي دارك واخرچك من الجحيم ده.
هزت راسها بألم
_خلاص معدش ينفع.
صرخ عدي، وعيناه معلقتان بها، متجاهلاً جاسر وكل من حوله. 
_هينفع، طول ما فيا نفس هينفع، أني مستحيل أسيبك ليهم، مستحيل أسيبك في البيت ده يوم واحد كمان.
كانت الريح تزداد قوة، وتلعب بالنار كلعبة شيطانية
تطايرت قطع من القش المشتعل والرماد المتوهج في الهواء كنجوم جهنمية، تسقط عشوائيًا بالقرب منهم. 
مع كل قطعة متطايرة كانت تقترب من نغم، كان قلب جاسر ينقبض، وشعر بوخزة من الخوف الحقيقي عليها، خوف لم يعترف به حتى لنفسه. 
لم يكن خوفًا على "ملكيته"، بل خوف على المرأة الواقفة أمامه، التي بدت هشة وضعيفة في مواجهة هذا الجنون.
صرخ جاسر بأمر، وعيناه لا تفارقان القش المتطاير حولها.
_أرچعي چوه يا نغم..
لكن نغم لم تتحرك، كانت عيناها مثبتتين على عدي، على الرجل الذي جاء ليحرق العالم من أجلها.
قالت بصوتٍ يرتجف، لكنه يحمل رجاءً صادقًا. 
_أرچع انت يا عدي، عشان خاطري... ارجع ومتأذيش نفسك أكتر من إكده ، ما توجعش جلبى عليك يابن عمي.
ضحك عدي ضحكة يائسة ومكسورة. _أتأذى؟ الأذية الحقيقية إني أشوفك معاهم وأسكت
الأذية الحقيقية إني أصحى كل يوم وأنا عارف إنك إهنه، في سچنهم.
تقدم جاسر خطوة، محاولاً وضع نفسه بين نغم وبين الخطر المباشر. 
_اسمع يا ابن الرفاعي اللعبة دي خلصت ارمي اللي في إيدك، وأني هعتبره جنان منك وهسيبك تمشي.
صاح عدي بغضب، ورفع الكيس في يده بشكل يهدد الجميع. 
_مش لعبة، دي حياة بنت عمي اللي سرجتوها مني
أنتوا اللي بدأتوا اللعبة يوم ما خطفتوها وأني اللي هنهيها النهاردة!
كانت الغيرة تأكل جاسر. 
لم يكن يغار من حب عدي لنغم الواضح للجميع، بل كان يغار من هذا الاستعداد للموت من أجلها. 
هذا التفاني المطلق الذي رآه في عيني عدي، جعله يشعر للحظة بأن كل ما يملكه من قوة وسلطة لا يساوي شيئًا أمام هذا الحب المجنون.
نادى عدي مرة أخرى، وصوته أصبح أكثر يأسًا. 
_تعالي معايا والله ما هخلي مخلوج يلمسك. 
كان عرضًا مغريًا، حلمًا بالهرب والحرية نظرت نغم إلى عدي، ثم التفتت ونظرت إلى جاسر. 
رأت في عيني عدي حبًا يائسًا مستعدًا للتدمير، ورأت في عيني جاسر غضبًا معقدًا، غيرة وسيطرة وشيئًا آخر لم تستطع تحديده... ربما كان قلقًا حقيقيًا.
في تلك اللحظة، هبت عاصفة من الريح أقوى من سابقاتها، وحملت معها قطعة كبيرة من خشب البوابة المشتعل. 
طارت في الهواء كقذيفة حارقة، متجهة مباشرة نحو نغم.
"نغــــــــم!"
صرخ الرجلان في نفس اللحظة.
لم يفكر جاسر تحرك جسده بغريزة لم يكن يعرف أنه يمتلكها في جزء من الثانية اندفع نحوها، ولف ذراعيه حولها بقوة وأدار جسده ليصبح هو الدرع الذي يواجه النار.
شعر بالحرارة اللافحة تمر بجانب ظهره، وسمع صوت ارتطام الخشب المحترق بالأرض خلفه مباشرة، ناشرًا وابلًا من الشرر
ظل ممسكًا بنغم بقوة، وجهها مدفون في صدره، وهو يلهث
لقد أنقذها لكنه في تلك اللحظة، كشف عن أكثر مما كان يريد.
رأى عدي المشهد، ورأى كيف حمى جاسر نغم بجسده تجمد في مكانه، والكيس في يده بدأ يرتخي لقد جاء لينقذها، لكن عدوها هو من أنقذها للتو من ناره هو. 
كانت مفارقة قاسية ومؤلمة، سددت له ضربة قاضية.
همس عدي بصوتٍ مهزوم، وكأنه يكلم نفسه. 
_نغم.....حتى وأني بحاول أنقذك... بأذيكي. 
في لحظة اليأس والارتباك هذه، ارتخت قبضته تمامًا عن الكيس
سقط الكيس القماشي من يده على الأرض، بالقرب من إحدى الجمرات المشتعلة.
صرخت نغم وهي ترى الكيس يسقط.
_عدي..........
لكن الأوان كان قد فات. 
لامست الجمرة القماش، وبصوت هسهسة مكتومة، اشتعل المسحوق الأسود، ليس بانفجار بل بلهب كثيف التصق بالأرض وصعد نحو أقرب شيء له... جلباب عدي.
لم يتحرك ولم يصرخ ولم يهرب كأنه بستسلم لذلك الموت المحقق  
التصق المسحوق الذي كان لا يزال على ملابسه به، واشتعل على الفور.
اتسعت عيني جاسر ونغم بخوف حقيقي
وصاح كلاهما
_حاسب يا عدي....
لكن النار اشتعلت بسرعة البرق
تحول في لحظة إلى شعلة بشرية، لكنها لم تكن شعلة برتقالية، بل كانت كتلة من النار السوداء الدخانية، تلتهمه ببطء وقسوة.
_عدي......
صرخت نغم وهمت بالاسراع إليه لكن منعتها ذراعاي جاسر كي لا ترمي بنفسها في التهلكة
صرخت باسمه وهي تراه
يسقط على الأرض وهو يتلوى، والآن فقط خرجت من حنجرته صرخة غير آدمية، صرخة ألم مطلق
وقف الجميع مشدوهين أمام المنظر المروع. 
لا أحد يستطيع الاقتراب الماء سيزيد الأمر سوءًا، والبطانيات ستحترق قبل أن تلمسه كانوا يشاهدونه يموت أمامهم، في محرقة صنعها بيديه، ضحية لنارٍ أكثر قسوة وشيطانية من أي نار عادية لقد كانت نهاية تليق بالجنون الذي استولى عليه.
هم احد الرجال بسكب الماء عليه
لكن جاسر صرخ به يمنعه
_بلاش ماية هتأذيه أكتر.
صرخت نغم، صرخة تمزق نياط القلب حتى سقطت على الأرض واسقطت جاسر معها وهو يتشبث بها بقوة
_عـــــــــدي....
وهي تحاول الافلات من ذراعي جاسر الذي يقيدها وهما جالسين على الأرض وألسنة النيران بالقرب منهما
كانت ترچوه ان يتركها لكنه لن يستطيع تركها كي لا تطولها النيران المشتعلة 
نهض بها رغم الألم الذي يشعر به في ظهره وابتعد عنه ومازال يقيد جسدها بذراعيه
لا أحد  يستطيع إنقاذه الآن.
لا يعرف أكانت صرخات نغم أقوى ام صرخات عدي، كلاهما يصرخ وكلاهما ينادي بالاستنجاد لكن لن يستطيع أحد انقاذهما..
كان قلبه هو الآخر يتمزق. 
هذا الذي يحترق أمامه، رغم كل شيء، هو ابن عمته
لحمه ودمه كان يرى ألم نغم، ويشعر بعجزه، ويشاهد جزءًا منه يموت بطريقة بشعة.
عجز وقهر وألم ودمار قد تشبثوا تلك اللحظة بذلك القلب الذي لم يعرفهم يوماً 
لكن المشهد كان أصعب مما يتخليه عقل.
كانت أصوات متباعدة تقترب منهم
ما بين صوت اسعاف ومطافئ
في تلك اللحظة، وصل أخيرًا بعض الرجال وهم يحملون طفايات حريق وبطانيات ثقيلة. 
تقدموا بحذر، وبدأوا في إخماد النار التي تلتهم جسد عدي، بينما كان فريق آخر يخمد النيران التي بدأت تمسك بالقصر.
سقطت نغم على ركبتيها عندما أفلتها جاسر، وظلت عيناها معلقتين بالدخان المتصاعد من جسد عدي المتفحم. 
لم تعد تصرخ
تحول صراخها إلى نحيب صامت ومتقطع، يهز جسدها كله.
وقف جاسر فوقها، ينظر إلى المأساة التي حلت بساحته. 
نظر إلى عدي الذي أصبح جسدًا أسود هامداً، ونظر إلى نغم المنهارة على الأرض وأدرك أن هذه الليلة، لم يحترق فيها عدي وحده، بل احترقت معها كل بقايا الكبرياء والثأر، ولم يتبق سوى رماد الحقيقة المرة: 
هذه الحرب... لم يعد فيها أي منتصر.
كان المنظر يفوق أي كابوس جسد متفحم، ملابس ذائبة، ورائحة حريق مروعة تملأ الهواء
لكن من تحت كل هذا السواد، كان هناك صدر يرتفع ويهبط ببطء شديد، وأنين خافت يخرج من بين شفتين متفحمتين كان لا يزال على قيد الحياة.
زحفت نغم على ركبتيها بجانبه، لم تبالي بالحرارة المنبعثة من جسده أو بالمنظر المروع. 
مدت يدها المرتجفة، لكنها لم تجرؤ على لمسه، خوفًا من أن تزيد من ألمه.
_عدي...
همست بصوت مكسور، والدموع تنهمر من عينيها كشلال لا يتوقف. 
_عدي، أنا نغم... أنا جنبك.
تحرك رأسه حركة طفيفة، وفُتحت عيناه بصعوبة بالغة. 
كانتا محتقنتين بالدم، لكن في عمقهما، كانت هناك نظرة صافية، نظرة رجل لم يعد لديه ما يخسره.
_نغم...
خرج صوته كهمس متحشرج، كحفيف أوراق الشجر اليابسة. 
بكت نغم بحرقة
_ليه يا عدي؟  ليه عملت في نفسك إكده؟ ليه؟
وقف جاسر على مسافة قريبة، يراقب المشهد وقلبه يعتصر. 
كان يسمع كل كلمة، ويرى كل دمعة شعر بمزيج غريب من الشفقة على ابن عمته الذي يموت، ووخزة خفيفة من الغيرة وهو يرى هذا الرباط العميق بينه وبين نغم يتكشف أمامه في أقسى صوره.
حاول عدي أن يبتسم، لكن وجهه المحترق لم يسمح له إلا بتكشيرة مؤلمة.
_عشان... أبرد... النار... اللي جوايا.
تابع بصعوبة، وكل كلمة كانت تكلفه نفسًا. 
_لما... لما شوفتك... معاه... اتچننت مجدرتش... أتحمل.
اهه مؤلمة خرجت منه قبل ان يتابع
_أنا... أنا بحبك يا نغم.
قالها أخيرًا، الكلمة التي حبسها في صدره لسنوات، خرجت الآن مع أنفاسه الأخيرة. 
_بحبك... من وإحنا عيال... من قبل ما أفهم... يعني إيه حب.
انفجرت نغم في بكاء أشد، بكاء يمزق الروح. 
سعل سعالاً مؤلمًا، وخرجت معه قطرات من الدماء.
_رحت... لجدك... طلبت يدك... من زمان.
أكمل بصوت ضعيف. 
_جدك... رفض جالي... أنتي عايزة... واحد ... زي سند.
كان كل حرف يعترف به يغسل روحه، ويكشف لنغم عن حقيقة ألم آخر لم تكن تعرفه لقد كان يحبها، لقد حاول لكنه رُفض.
همس، وعيناه بدأتا تفقدان بريقهما. 
_سامحيني... إني كنت ضعيف وسامحيني... إني معرفتش... أحميكي.
قالت وهي تنحني وتقرب وجهها من وجهه، غير مبالية بأي شيء. 
_مسمحاك يا عدي... مسمحاك بس أنت متسبنيش... عشان خاطري يا عدي... خليك معايا... 
نظر إليها للمرة الأخيرة، وفي عينيه نظرة حب صافية، نظرة سلام أخير.
_هحميكي... يا نغم.....هحميكي...من هناك.....
ثم أغمض عينيه، وارتخى جسده، وتوقف الصدر عن الارتفاع والهبوط.
ساد صمت رهيب، لم يقطعه سوى صوت نحيب نغم المتقطع.
_عدي؟... عدي لأ... 
كانت تناديه برفق، لكنه لم يستجب لقد رحل.
في تلك اللحظة، وصلت سيارة الإسعاف، لكن الأوان كان قد فات.
انهارت نغم تمامًا على الأرض، تبكي وتصرخ باسمه، تحتضن الفراغ الذي تركه خلفه تقدم جاسر، وانحنى وبحركة حانية وقوية، رفعها من على الأرض. 
قاومته في البداية، لكنها كانت أضعف من أن تفعل أي شيء. 
احتضنها بقوة، وتركها تبكي وتفرغ كل ألمها على صدره، وهو يحدق في جسد ابن عمته، مدركًا أن الثمن الذي دُفع في هذه الحرب... كان أغلى من اللازم.
كان الفجر قد بدأ يلقي بأشعته الرمادية 
كانت ممرات مستشفى القاهرة تضج بالحركة الصامتة للأطباء والممرضات، لكن أمام باب العناية المركزة، كان الزمن متوقفًا. 
جلس سالم الرفاعي على مقعد معدني بارد، وقد انحنى ظهره تحت وطأة القلق، ووجهه حفرت فيه الساعات الماضية تجاعيد سنوات طويلة. 
بجانبه، كان مالك يقف، يسند ظهره إلى الحائط، عيناه معلقتان بالباب الزجاجي الذي يفصله عن روح، حبيبته التي ترقد في الداخل، تصارع من أجل حياتها بعد جلطة دماغية حادة.
وكذلك سند وابيه 
وليل التي كانت تلك الصدمة هي القشة التي قصمت ظهرها اليوم 
كان الصمت بينهما ثقيلاً، مشبعًا بالأسئلة التي لا يجرؤ أي منهما على نطقها، وبالدعاء الذي لم ينقطع. 
كل ما كان يشغل بالهما هو مصير روح، وما الذي أوصلها إلى هذه الحالة.
في وسط هذا السكون المشحون، رن هاتف سالم. 
نظر إلى الشاشة، فوجد رقمًا من أحد رجال العائلة في البلد. 
شعر بانقباضة قلب إضافية.
_ألو... قال بصوتٍ متعب وأجش.
صمت للحظات وهو يستمع للطرف الآخر، وتغيرت ملامحه بشكل يدعوا للقلق. 
اختفى القلق من على وجهه، وحل محله شيء آخر... شيء فارغ، جامد، لا يمكن تفسيره. 
اتسعت عيناه بصدمة صامتة، وبدأ جسده يرتجف ببطء.
لاحظ مالك التغير على والده، فاقترب منه بقلق. 
_في إيه يا بوي؟ حصل حاچة؟
لم يرد سالم كان لا يزال يستمع، أو ربما لم يعد يستمع، بل كان عالقًا في الكلمات التي قيلت للتو. 
ابنك... 
عدي... 
اتحرق... 
مات.
استمع للإجابة، ومع كل كلمة، كان يفقد جزءًا من روحه. 
"راح لهم... 
هو اللي ولع في نفسه... 
بالغلط."
"للأسف محدش قدر يساعده"
"الحريق كان شديد"
هنا، سقط الهاتف من يده المرتعشة وارتطم بالأرض محدثًا ضجة خفيفة بدت في ذلك الصمت كصوت انفجار ظل سالم جالسًا، يحدق أمامه في الحائط الأبيض، لكنه لم يكن يراه. 
كان يرى ابنه، يرى طفلاً يجري في الحقول، يرى شابًا يضحك، يرى رجلًا غاضبًا... يرى شعلة من النار.
قال مالك وهو يهزه برفق، والخوف بدأ يتسرب إلى قلبه. 
_ ابوى رد عليا، في إيه؟
التفت سالم إليه ببطء شديد، وكأنه يتحرك في حلم ثقيل كانت عيناه فارغتين تمامًا، نظرة رجل رأى نهاية العالم.
_عدي...
تمتم، والكلمة خرجت من فمه جافة ومكسورة. 
_أخوك... مات.
شعر مالك وكأن الأرض قد ابتلعته ولم يستوعب ما يسمع
_اخويا مين....
مات؟ .....
مات إزاي؟!
_اتحرق.
الكلمة الواحدة كانت كافية. 
لم يحتج مالك لتفاصيل مع حالة ابيه وكلماته 
لكنه أيضاً لم يستوعب بعد
شعر بألم حاد، ألم جسدي، يخترق صدره
لم يصدق
كيف يمكن أن يحدث هذا؟ بالأمس فقط كان يواجهه، يلومه يهدده. والآن... لم يعد موجودًا.
تراجعت قدماه للخلف حتى ارتطم ظهره بالحائط، وانزلق ببطء حتى جلس القرفصاء على الأرض
لم يصرخ
لم يبكي.
بل وضع رأسه بين ركبتيه، وبدأ جسده يهتز بعنف في نوبة صامتة من الألم.
لقد فقد أخاه 
الأخ الذي تشاجر معه، واختلف معه، لكنه كان قطعة من روحه. 
شعر بموجة عارمة من الذنب والندم تجتاحه. 
آخر ذكرى بينهما كانت مواجهة غاضبة. لم يتصالحا لم يتصافيا والآن، فات الأوان إلى الأبد.
رفع رأسه ونظر إلى والده. 
رآه جالسًا كتمثال من حجر، لا يتحرك، لا يرمش، دموعه تنزل من عينيه بصمت دون أن يشعر بها، تسيل على خديه وتختفي في تجاعيد وجهه كان الأب قد فقد ابنه، بينما زوجته الأخرى ترقد بين الحياة والموت على بعد أمتار قليلة.
❈-❈-❈
كانت أضواء سيارات الشرطة والإسعاف الحمراء والزرقاء ترقص بجنون داخل السرايا المحترقة، وتلقي بظلال مشوهة على وجوه الجميع. رجال الإطفاء كانوا لا يزالون يخمدون آخر الأماكن المشتعلة، بينما بدأ المحققون في فرض طوق حول مسرح الجريمة.
في قلب هذه الفوضى، كان جاسر لا يزال واقفًا، يحتضن نغم التي كانت ترتجف بين ذراعيه كطائر جريح. 
لم تكن تبكي الآن، بل كانت صامتة، عيناها الزائغتان مثبتتان على الجسد المسجى على الأرض والذي غطاه المسعفون على عجل بملاءة فضية. 
كانت في عالم آخر، عالم لا يسمع فيه صراخ رجال الشرطة ولا يرى الأضواء المتقطعة. 
عالم يردد فيه صدى صوت واحد فقط: صوت عدي وهو يعترف بحبه، وهو يضحي بنفسه من أجلها. 
لقد مات لأنه أحبها. 
هذه الحقيقة البسيطة والمدمرة كانت هي كل ما يشغل وعيها.
بحركة حانية لم يعتدها من نفسه، أبعدها
ثم أشار لوالدته التي كانت تقف على مقربة، ووجهها شاحب من هول ما حدث. 
تقدمت الأم، وفي عينيها شفقة حقيقية.
قال جاسر بصوتٍ أجش
_خديها يا أمي.
طلعيها فوج، وماتسيبيهاش لوحدها.
وضعت الأم يدها على ظهر نغم، وبدأت تقودها برفق نحو مدخل القصر. 
استجابت نغم كدمية بلا إرادة، خطواتها تتعثر، وعيناها لا تزالان تنظران خلفها نحو الملاءة الفضية التي تخفي تحتها نهاية قصة ابن عمها المأساوية.
ما إن اختفت نغم داخل القصر، حتى عاد وجه جاسر إلى قناعه الجليدي. 
استدار ليواجه الضابط المسؤول، لكن في تلك اللحظة، انشقت ظلمة الطريق، وظهرت عدة سيارات تسير بسرعة، وتوقفت أمام بوابة القصر.
ترجل منها رجال عائلة الرفاعي. 
في المقدمة كان وهدان، الجد، يسير بخطى ثابتة رغم ألمه، وعصاه تدق الأرض بقوة. 
خلفه كان سالم، وجهه كقناع من حجر لا يظهر أي تعابير. 
وبجانبهما كان مالك، الذي كانت عيناه تشتعلان بمزيج من الألم والغضب المكتوم. 
وخلفهم بقية رجال العائلة، وجوههم صامتة وقاتمة.
ساروا مباشرة نحو الطوق الأمني، وهدفهم واحد: الجسد المغطى.
صرخ فيهم ضابط شرطة شاب.
_وقف عندك ممنوع الدخول، ده مسرح جريمة.
تجاهله وهدان تمامًا، وأكمل سيره،  تبعه أبناؤه وأحفاده. 
كانوا يتظاهرون بالقوة والتماسك، لكن أي عين فاحصة كانت لترى الأيادي المقبوضة بشدة، والفكوك المشدودة، والقلوب التي تنزف خلف تلك الأقنعة الصخرية.
قال الضابط وهو يحاول اعتراض طريقهم. 
_يا جماعة مينفعش كده الجثة لازم تروح المشرحة الأول للتحقيق.
وصل وهدان إلى حيث يرقد حفيده، ونظر إلى جاسر الذي كان يقف على بعد خطوات. 
لم تكن نظرة عتاب أو تهديد، بل كانت نظرة باردة وفارغة.
قال وهدان بصوتٍ هادئ ومخيف.
_إحنا جايين ناخد ولدنا.
هنا، تقدم صخر التهامي الذي كان يراقب المشهد من بعيد، فقد كان بالخارج ولم يرى ما حدث.
وقال بسخرية لاذعة. 
_تخدوه؟....تاخدوه بعد ما حرق حالنا، وأذى رجالنا، وحاول يولع فينا كلنا؟ ده مجرم، مكانه السجن لو كان عاش، ومكانه المشرحة وهو ميت.
لم يرد عليه وهدان، بل انحنى هو وسالم ليكشفا الملاءة عن وجه عدي. 
للحظة خاطفة، رأى الجميع ألمًا عميقًا يكسر قناع الأب والجد وهما يريان ما تبقى من ابنهما، لكنهما سرعان ما استعادا تماسكهما.
أمر وهدان رجاله.
_شلوه
صرخ الضابط مرة أخرى، وأشار لرجاله بمنعهم. 
_ممنوع، دي جريمة شروع في قتل وحريق عمد، والجثة دليل. 
محدش هيحركها من مكانها إلا بأمر من النيابة.
قال سالم بصوتٍ أجش، وهو يقف في وجه الضابط
_ده ولدنا، وهندفنه على شريعتنا.
ومش هنسيبه لحظة واحدة 
بدأ الموقف يتوتر، رجال الرفاعي يصرون على أخذ الجثة، ورجال الشرطة يمنعونهم بالقوة.
_سيبوهم ياخدوه.
جاء صوت جاسر هادئًا وحاسمًا، فالتفت إليه الجميع، بما فيهم الضابط وصخر.
قال صخر بغضب. 
_بتجول ايه يا جاسر؟ده حقنا! لازم يتشرح عشان نثبت جريمته!
نظر جاسر إلى الضابط، متجاهلاً عمه. _يا حضرة الضابط، الموضوع خلص. المعتدي مات
إحنا أصحاب البيت، ومش هنقدم بلاغ رسمي اعتبروها حادثة وانتهت. 
خليهم ياخدوا ولدهم ويدفنوه، إكرام الميت دفنه.
صُدم الجميع من قرار جاسر، وخصوصًا وهدان ومالك اللذين نظرا إليه بعدم تصديق.
قال الضابط بتردد.
_بس ده ضد الإجراءات يا جاسر بيه. 
قال جاسر بنبرة نهائية.
_وأنا اللي هكلم النيابة بنفسي وأتحمل المسؤولية.
لم يجد الضابط ما يقوله، فأشار لرجاله بالتراجع.
تقدم رجال الرفاعي، وحملوا جسد عدي الملفوف بعناية، وبدأوا في السير به نحو سياراتهم. 
قبل أن يغادر، توقف مالك ونظر إلى جاسر نظرة طويلة ومعقدة، ثم أومأ برأسه إيماءة خفيفة، إيماءة تحمل معنى لم يفهمه سوى الرجلين، ثم استدار ورحل.
بينما كانوا يغادرون، لم يستطع صخر أن يصمت صرخ خلفهم
_امشوا... خدوا جريمته معاكم بس افتكروا... إنكم لسه مديونين.
لم يلتفت إليه أحد من عائلة الرفاعي، واصلوا سيرهم في صمت مهيب، واختفوا في الظلام، حاملين معهم ابنهم، ونهاية قصة الثأر التي كتبها عدي بدمه وناره.
❈-❈-❈
في المشفى
لم يستطيع أحد منهم التحرك لانهاء الاجراءات ولم يقم بهذا الدور سوى أكمل
فوهدان رجلٍ هرمٍ أثقلت كاهله المصائب، وتخلى عن الكثير مقابل امان احفاده.
لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن 
وضاع حفيد كما ضاع من قبله ابنه.
وجد ابنه سالم جالسًا كالصنم، وحفيده مالك ثابتاً مكانه
وسند الذي انتهى ثباته فور رؤية ابن عمه بذلك الشكل المؤلم
لم يسأل عن التفاصيل، بل انتظر حتى وصول أكمل.
انتهت الاجراءات وقاموا بحمل نعش عدي الى مثواه الأخير.
أعيون ثابتة لكن قلوب تحترق بلهيب الفراق.
انفضّ الجمع وتفرّق الناس تاركين خلفهم تراب القبر، وصمتًا ثقيلًا يلفّ المكان. 
الكلّ رحل إلا هو. 
بقي مالك جاثمًا بجانب القبر، وكأنّ جذورًا خفية تشدّه إلى تلك البقعة من الأرض. 
لم يعد يرى الوجوه المغادرة، ولا يسمع همسات العزاء التي تلاشت في الأفق كان عالمه قد انكمش ليصبح هذا القبر، وهذا الصمت، وهذا الألم الذي يعتصر قلبه.
كانت دموعه تنهمر بصمت، لا شهقات تعلو، ولا نحيب يقطع هدوء المقبرة. 
كانت دموعًا حارقة، تغسل وجهه، وتكوي روحه لم تكن دموع حزن على فقدان أخٍ فحسب، بل كانت ممزوجة بمرارة الذنب، بثقل الندم الذي يطحن عظامه
كلّ كلمة قاسية قالها لعدي، كلّ لحظة غضب لم يغفرها، كلّ سوء فهم لم يحاول إصلاحه، كانت تتراقص أمامه كأشباح، تزيد من وطأة الألم.
تذكّر عدي حيويته ضحكاته وحتى عناده الذي كان يثير غضبه.
الآن كلّ ذلك أصبح ذكرى، ذكرى مؤلمة
لأنّها لم تُختتم بسلام، لم تُختتم بكلمة طيبة، أو عناق يمحو الخلافات. 
مات عدي وهو غاضباً منه. 
هذه الجملة كانت تتردد في رأسه كصدى قاسٍ
تصفعه، وتذكره بقسوة قلبه، بعجزه عن تجاوز غضبه، عن مدّ يد المصالحة في الوقت المناسب.
رفع مالك يده المرتعشة، ولمس تراب القبر البارد
كان يشعر ببرودة الموت، وبرودة الفراق وبرودة الذنب الذي تجمّد في عروقه. 
كان يتمنى لو يعود الزمن قليلًا، لو يمنح فرصة أخرى ليقول لعدي ما لم يقله ليحتضنه، ليخبره كم كان يحبه، رغم كل شيء. 
لكنّ الزمن لا يعود، والموت لا يمنح فرصًا ثانية.
بقي مالك هناك وحيدًا مع ذنبه، مع حزنه مع بكائه الصامت. 
كان يعلم أنّ هذا الذنب سيظلّ يطارده، وأنّ هذا الحزن لن يزول بسهولة. 
فقدان عدي لم يكن مجرد فقدان أخ، بل كان فقدانًا لجزء من روحه، جزءٌ تلطّخ بمرارة الندم، وبقسوة كلمة لم تُقال، وبحقيقة 
أنّ عدي مات وهو زعلان منه.
❈-❈-❈
في زاوية الغرفة المظلمة، حيث تتراكم الذكريات كالغبار على الأثاث القديم، جلست ورد
 جسدها النحيل يرتجف كغصن شجرة في مهب الريح. 
لم تكن تبكي بصوت مسموع، فدموعها جفت منذ زمن، أو ربما تحولت إلى جمر يشتعل في أعماق روحها. 
كان عذابها أعمق من أن تحتويه الدموع، وأكبر من أن تعبر عنه الكلمات كان عذابًا صامتًا ينهش في أحشائها، ويتركها خاوية، كقشرة بلا لب.
كل زاوية في المنزل كانت تصرخ باسم عدي. 
ضحكاته التي كانت تملأ الأرجاء، خطاه التي كانت ترسم دروب الحياة، صوته الذي كان يبعث الدفء في قلبها.
الآن كل شيء صامت، بارد موحش.
كانت تتلمس ملابسه المعلقة، تشم رائحته العالقة بها، وكأنها تحاول أن تستعيد جزءًا منه، جزءًا انتزع منها بلا رحمة. 
كانت تتخيل وجهه، ملامحه التي حفظتها عن ظهر قلب، ابتسامته التي كانت تضيء عالمها. 
الآن تلك الصورة أصبحت مؤلمة، تذكرها بالفراغ الذي تركه خلفه.
كانت تحاول أن تتذكر آخر مرة رأته فيها آخر كلمة قالها، آخر نظرة تبادلها هل كانت كافية؟ هل عبرت له عن كل حبها؟ هل سامحته على كل زلة؟ أسئلة لا نهاية لها كانت تنهال عليها كالصواعق، تزيد من لهيب عذابها.
شعور بالذنب كان يلتف حول قلبها كالأفعى، يهمس لها بأنها ربما قصرت، ربما لم تفعل ما يكفي، ربما كان بإمكانها أن تمنع ما حدث. 
لكن القدر كان أقوى، والموت كان أسرع.
كانت تشعر وكأن جزءًا منها قد اقتلع، وكأن روحها قد بترت.
  كانت تتمنى لو تستطيع أن تصرخ، أن تطلق العنان لألمها، لكن صوتها كان حبيسًا في حلقها، وكأن الحزن قد خنق كل كلمة. 
كانت تتنفس بصعوبة، وكأن الهواء نفسه أصبح ثقيلًا، لا يمر إلى رئتيها إلا بصعوبة.
كانت تتذكر أحلامها لعدي، مستقبله الذي رسمته له في خيالها، نجاحاته التي كانت تتوقعها. 
الآن كل تلك الأحلام تحولت إلى رماد، تذروه رياح الفقد لم يعد هناك مستقبل، لم يعد هناك أمل فقط هذا الألم، هذا العذاب الذي انكوى به قلبها، وتركها محطمة، بلا روح، بلا حياة. 
كانت مجرد جسد يتحرك، لكن روحها كانت قد رحلت مع عدي، إلى حيث لا عودة.
❈-❈-❈
دلف جاسر غرفته في وقت الشروق، بعد أن انتهى من التعامل مع الشرطة ورجال الإطفاء، وبعد أن رحل آخر فرد من عائلة الرفاعي حاملاً معه جثة ابنه. 
كان يشعر بإرهاق جسدي ونفسي هائل. وجد والدته تجلس على حافة السرير، تربت برفق على يد نغم المستلقية في سكون تام.
نهضت الأم عندما رأته، وفي عينيها قلق عميق. 
همست بصوت خافت
_من ساعة ما طلعتها وهي على الحال ده. 
لا بتتكلم، ولا بتبكي، ولا حتى بترمش. 
زي ما تكون روحها مش في جسمها.
أومأ جاسر برأسه، وطلب منها أن تتركهما وحدهما. 
خرجت الأم وأغلقت الباب خلفها بهدوء، تاركة إياه في مواجهة حطام انتقامه.
اقترب من السرير ببطء وكانت نغم على جانبها، وعيناها مفتوحتان على اتساعهما، تحدقان في الجدار دون أن تريا شيئًا. 
لم تكن نظرة حزن أو ألم، بل كانت نظرة فراغ مطلق. 
كانت تشبه دمية خزفية جميلة تحطمت من الداخل، ولم يتبق سوى قشرتها الخارجية الصامتة.
كان هذا الصمت، هذا الفراغ، أكثر إثارة للرعب من أي صراخ أو انهيار. 
لقد رأى قوتها، وتحديها، وعنادها، وحتى دموعها. 
لكنه لم يرها هكذا من قبل
لقد كانت هذه هي الهزيمة المطلقة، ليست هزيمتها هي، بل هزيمة روحها.
جلس على حافة السرير بجانبها، في نفس المكان الذي كانت تجلس فيه والدته. 
لم ينظر إليها مباشرة، بل نظر إلى نفس النقطة الفارغة التي تحدق فيها في الجدار

•تابع الفصل التالي "رواية ثنايا الروح" الريح والغيامة" اضغط على اسم الرواية 

تعليقات