رواية ثنايا الروح "الريح والغيامة" الفصل العشرون 20 - بقلم رانيا الخولي
رانيا الخولي
الفصل العشرون
.........................
كان الليل قد حل على منزل جد أكمل، حاملاً معه سكونًا ثقيلاً لم يكسره سوى صوت النخيل.
جلس أكمل ومالك في الحديقة الصغيرة أمام البيت
كان مالك يتحدث في مواضيع شتى، عن ذكريات الطفولة، وعن بعض المواقف المضحكة التي جمعتهم، محاولًا ببراعة أن ينتشل صديقه من بئر الحزن الذي غرق فيه.
كان أكمل يشاركه بابتسامات باهتة وإجابات مقتضبة، مقدرًا محاولة صديقه، لكن روحه كانت لا تزال معلقة في مكان آخر.
بعد فترة من الصمت، كان أكمل هو من بدأ الحديث هذه المرة، لكن نبرته تغيرت، أصبحت أكثر جدية وحدة، نبرة وكيل النيابة التي لم تفارقه تمامًا.
قال وهو يضع كوب الشاي جانباً.
_مالك فيه موضوع لازم نتكلم فيه.
انتبه مالك على الفور، وشعر أن الحديث قد أخذ منحى آخر.
_خير يا أكمل؟
_قبل ما عم صالح يتصل بيا... قبل ما أعرف خبر جدي... جاتلي مكالمة تانية.
عقد مالك حاجبيه بقلق.
_مكالمة إيه؟
_واحد اسمه فواز، بيقول إنه شغال عند ناس ليهم علاقة ببيت التهامي، وإنه اخد نمرتي من حد قريب.
نظر أكمل إلى عيني مالك مباشرة، وقرر أن يلقي بالقنبلة ليرى رد فعله. _قالي إن صخر التهامي... اتهجم على نغم.
تغيرت ملامح مالك في لحظة، ظهر على وجهه مزيج من الغضب والقهر والألم، وغمغم بغضب
_إللى واكل ناسه دى مابيستحى من حاچه واصل، كيف ياعنى يتهچم على مرت ابن اخوه؟
وكيف انت تعرف حاچة زي دي ومتجولش يا أكمل؟
وهو نفس رد الفعل الذي توقعه أكمل لكن أكمل لم يترك له فرصة للرد.
_اسمعني للآخر قبل ما تتكلم.
قال أكمل بحزم هادئ.
_أنا فكرت في الكلام ده كتير اليومين اللي فاتوا فكرت فيه بعقلي، مش بقلبي والموضوع ده... مش راكب على بعضه.
قال مالك بحدة مكتومة.
_مش راكب كيف، الراجل سمعته عفشه وكلب فلوس، وإيه اللي يمنعه يعمل إكده؟!
رد أكمل بثقة
_اللي يمنعه هو جاسر.
يا مالك، إحنا بنتكلم عن صخر التهامي أكبر همه في الدنيا دي هو الفلوس والسلطة ونغم، بكل المقاييس، هي ملكية خاصة لجاسر.
صخر أجبن وأخبث من إنه يتعدى على حاجة تخص ابن أخوه اللي هو دراعه اليمين وسنده.
لو جاسر اتقلب عليه، صخر هيخسر كل حاجة.
صمت مالك، يفكر في منطق كلام أكمل.
_طيب... أومال إيه تفسيرك؟
_أنا عندي نظرية تانية خالص.
نظر إليه مالك باهتمام.
_أنا شايف إن دي لعبة، لعبة حقيرة من صخر نفسه.
صخر عارف إن فيه عيون بتراقب من طرفنا ممكن يكون هو اللي سرّب الإشاعة دي بنفسه ممكن يكون قاصد إن الكلام يوصلنا.
سأل مالك بحيرة
_ليه؟! ليه يعمل إكده؟!
قال أكمل ببرود
_عشان يولعها.
_عشان يخلي واحد فيكم يتهور. عشان يخلي واحد دمه حامي... يسمع خبر زي ده، فيقوم رايح يعمل مصيبة وساعتها، يبقى هو اللي له الحق، وهو اللي يرد علينا، ويقدر الطب الشرعي يثبت ان كل ده محصلش
وتبقى حجة عشان يخلص منكم كلكم بحق القانون والعرف.
سقطت كلمات أكمل على مالك كالصخر، لقد كان تحليلاً منطقياً بشكل مخيف لقد كانوا هم الضحية المثالية لهذه اللعبة.
تابع أكمل
_صخر رمالكم الطعم، ومستني حد يبلعه.
سند مالك ظهره للخلف، وهو يشعر بالمرارة والغضب والعجز. لقد بدت الأمور أوضح الآن، وأكثر قذارة.
قال مالك بحزم
_لازم نتأكد يا أكمل، لازم نعرف الحقيقة.
رد أكمل، وعيناه تلمعان بتصميم فولاذي.
_هنعرف بس مش بالتهور هنلعبها بعقل.
حق نغم، هيرجع بس هيرجع بطريقتنا إحنا... بطريقة القانون وهخليهم يندموا على اليوم اللي فكروا يلعبوا فيه مع عيلة الرفاعي.
لقد بدت الأمور أوضح الآن، وأكثر قذارة لكن هذا الوضوح لم يهدئ من غضبه.
_حتى لو لعبة يا أكمل! حتى لو مجرد إشاعة! مجرد التفكير في الموضوع ده يخلي الدم يغلي في عروجي مش هسكت.
وقف أكمل أخيراً وواجه صديقه وعيناه تلمعان بتصميم فولاذي.
_ومين قال إننا هنسكت؟ حق نغم هيرجع بس مش بالتهور هنلعبها بعقل.
لم يتقبل مالك خطة أكمل الهادئة.
_بعقل؟! بنت عمي بتتهان ويمكن تكون في خطر، وأنت بتجولي بعقل؟! لازم نعمل حاچة، ودلوجت
اقترب منه أكمل، ووضع يده على كتفه بقوة، وأجبره على النظر في عينيه.
_هنعمل بس مش بالطريقة اللي هما عايزينها مش هنكون أغبياء ونمشي في الفخ اللي نصبوه.
طالما أنا هنا، مش هسمح لحد تاني يقع في نفس الغلط.
صمت للحظة، ثم قال بنبرة غامضة ومخيفة، نبرة تحمل وعداً بشيء أعمق من مجرد الانتقام.
_قولتلك حق نغم هيرجع.
عندي خطة... خطة هتخليهم هما اللي يتمنوا لو إن الإشاعة دي كانت حقيقية، عشان تكون أهون من اللي هيحصلهم.
ترك أكمل صديقه واقفاً في حيرته وغضبه، واتجه نحو هاتفه.
لم يكشف عن تفاصيل خطته، لكن نظرته كانت كافية لتؤكد لمالك أن أكمل لن يكتفي برد الحق، بل سيهدم المعبد على رؤوس من فيه، ولكن بهدوء، وبضربات محسوبة وقانونية، وهذا ما يجعله أكثر خطورة.
❈-❈-❈
تبعته كظله إلى السيارة الفاخرة التي انطلقت بهما نحو إحدى المحلات الشهيرة في تلك المنطقة
كان المكان يعج بالحياة والأضواء والموسيقى، عالمٌ صاخب يتناقض بشكل صارخ مع الصمت المطبق الذي تعيش فيه استقبلتهم مديرة المحل بترحاب مبالغ فيه فور أن رأت جاسر، وكأن المكان كله قد توقف عن التنفس في حضوره.
_ جاسر بيه! يا ألف أهلا وسهلا المكان كله تحت أمرك.
أشار جاسر ببرود إلى كرسي أنيق من القطيفة في زاوية منعزلة من المحل، كملكٍ يشير إلى مكان خادمه.
_ اجعدي هنه.
قالها لنغم، ثم التفت إلى المديرة. _هاتيلها حاجة تشربها ومتتحركش من مكانها.
في تلك اللحظة، شيء ما داخل نغم تمزق لم تستطع الاستمرار في ذلك الاستسلام المطلق رفعت رأسها ببطء، ووجهت إليه نظرة حانقة، نظرة لم تكن صاخبة لكنها كانت مشتعلة بنار الكرامة المذبوحة كانت شرارة تمرد صغيرة في محيط من الرماد.
لاحظت مديرة المحل تلك النظرة الخاطفة، وشعرت بالتوتر الكهربائي الذي ملأ الهواء فجأة شعرت بالإحراج الشديد، وحاولت تلطيف الأجواء باحترافية مصطنعة.
_اتفضل اختار اللي يعجب حضرتك، وأنا هطلب من البوفيه يقدم حاجة للمدام.
أومأ لها جاسر بصمت، وعيناه لم تفارقا نغم انتظر حتى ابتعدت الفتاة مسافة كافية، ثم تحرك
لم يصرخ، لم يتكلم كانت حركته أشد فتكًا من أي كلمة خطى نحوها ببطء قاتل، وانحنى عليها حتى أصبح وجهه على بعد سنتيمترات من وجهها لم يلمسها، لكن وجوده كان ثقيلاً كالصخر.
كشر عن أنيابه في ابتسامة باردة لم تصل إلى عينيه اللتين كانتا تقدحان شررًا همس بصوتٍ خفيض، كفحيح أفعى صوتٌ مخصص لها وحدها.
_ الكلب لما بيفكر يعض صاحبه اللي بياكله... صاحبة ميضروبهوشى جدام الناس.
صمت للحظة، وعيناه تجولان على وجهها المتجمد من الصدمة والخوف
_ بيدعس على رقبته لما يرجعوا البيت... عشان يفهمه مين سيده.
لم تكن كلماته مجرد تهديد، بل كانت وعدًا صريحًا ومرعبًا استقام ببطء، وعادت ملامحه إلى البرود الجليدي وكأن شيئًا لم يكن
أما نظرات نغم فقد كانت مثل فوهة بركان على وشك الانفجار وتحدثت بغضب مكتوم
_انت احقر انسان شوفته في حياتي.
رفع حاجبيه وعينيه تنذرها بغضب لكنها عميت عن الخطر لتجرح كبرياءه
فغمغم بلهجة رغم هدوءها إلا إنها تحمل غضب عارم وقوة لا يستهان بها
_جولتلك مش بيضرب جدام الناس، بس في حاچات تانية ممكن أعملها دلوجت هتخليكي تتمني إن الأرض تنشج وتبلعك، أحذري مني لإن غضبي واعر جوي.
نظر إلى مديرة المحل التي كانت تقترب بحذر وهي تحمل كوب عصير.
قال جاسر بصوتٍ عالٍ وواضح، ثم نظر إلى نغم نظرة أخيرة تحمل ألف معنى، كلها تدور حول العقاب القادم.
_ المدام غيرت رأيها مش هتشرب حاجة هتستناني هنا... زي ما أمرتها.
ثم استدار وبدأ جولته في المحل لاختيار الملابس، تاركًا نغم على كرسيها، ترتجف من الداخل لقد أطفأ شرارة التمرد الصغيرة تلك بفيضان من الجليد والتهديد، وجعلها تدرك أن أي محاولة لرفع رأسها أمامه في العلن، ستُقابل بعقابٍ قاسٍ ومذل في السر.
لقد تحولت تجربة التسوق إلى درسٍ آخر في القوة، درسٍ تعلمت فيه أن حتى نظراتها أصبحت تحت سيطرته.
جلست نغم على الكرسي، كقطعة أثاث تم وضعها في ركن.
لم تكن جزءًا من التجربة، بل كانت مجرد متفرج إجباري على مسرحية بطلها ومخرجها هو جاسر.
بدأ جاسر جولته في المحل لم يكن يختار بعشوائية، بل كان يتحرك بثقة ودراية، كقائد عسكري يتفقد ترسانته كان يمرر أصابعه على الأقمشة، يتفحص القصات، ويمزج بين القطع المختلفة بنظرة فنان قاسٍ.
لم يسألها عن رأيها، لم يلتفت ليرى ما قد يعجبها لم يستشرها في لون أو تصميم كان يلغي وجودها وذوقها وإرادتها تمامًا.
كان المشهد لرجل مهيب، يحيط به مساعدو المبيعات من كل جانب، يختار ملابس نسائية لزوجته الجالسة في الركن كشبح صامت اختار لها كل شيء: ملابس سهرة، ملابس نهارية، بناطيل، وحتى ملابس النوم كان يختار الألوان التي يفضلها هو، والتصاميم التي تعجبه هو، والأقمشة التي يراها مناسبة له هو.
كانت كل قطعة يختارها تحمل رسالة اختار فستانًا أسود، ضيقًا وبسيطًا.
_ ده عشان تبقي أنيقة في حزنك.
لم يقولها بلسانة اللاذع بل بعينيه التي توصل الرسالة بطريقة اشد فتكاً
كانت مديرة المحل والمساعدات يراقبن المشهد في صمت، منبهرات بقوته وذوقه، وغير مدركات للقسوة النفسية التي يمارسها.
أما نغم، فكانت تجلس في مكانها، عيناها فارغتان.
كانت ترى الملابس تتكدس، لكنها لا تشعر بشيء
لم تكن ملابسها، بل كانت زياً موحداً جديداً يفرضه عليها سجانها كانت هذه طريقته ليقول لها
"حتى جلدك الذي ترتدينه، أنا من يختاره لا تملكين شيئًا، ولا حتى ذوقك الخاص."
بعد أن انتهى، وأشار إلى كومة الملابس الهائلة، التفت إلى المديرة.
_ كل دول ابعتوهم على السرايا والمقاس... أنتم عارفينه.
يبدو أنه كان قد أرسل لهم مقاساتها مسبقًا، في خطوة أخرى تؤكد تخطيطه المسبق لإلغاء أي دور لها.
ثم نظر إلى نغم التي لا تزال جالسة في مكانها.
_ لسه جاعدة؟ جومي.
نهضت، وتبعته خارج المحل بنفس الصمت الذي دخلت به لم تحمل كيساً واحداً، ولم تختر قطعة واحدة لقد خرجت من تجربة شراء ملابس جديدة وهي تشعر بأنها أصبحت أكثر عريًا من أي وقت مضى.
لقد جردها من آخر معقل من معاقل هويتها الشخصية: اختيارها لما يغطي جسدها وأدركت أن سيطرته لن تكون جسدية فقط، بل ستتغلغل في كل تفصيله من تفاصيل حياتها، حتى تصبح مجرد دمية جميلة وحزينة في قصره الكبير.
❈-❈-❈
كان أكمل يجلس في شرفة منزل جده في الصعيد، يرتشف قهوة مرة طعمها كمرارة الفقد الذي يستقر في حلقه أصوات المعزيين خفتت، والليل بدأ يرخي سدوله على الدار التي بهتت أنوارها برحيل صاحبها. رن هاتفه، ورأى اسم "ليلى" على الشاشة.
تردد للحظة، ثم أجاب بصوتٍ مرهق.
جاء صوتها هادئًا ومُعدًا بعناية، كأنها تقرأ من نص محفوظ.
_ أكمل؟ حبيبي... البقاء لله.
أنا آسفة مكلمتكش من بدري، بس كنت عايزة أسيب لك مساحتك.
رد أكمل بفتور، وصمت ينتظر ما سيأتي بعد ذلك.
_ونعم بالله.
_ بابا وماما كانوا عند باباك ومامتك النهاردة في القاهرة وقدموا الواجب طبعًا أنت عارف إن صعب عليهم يسافروا الصعيد فجأة كده.
شعر أكمل بوخزة من الغضب البارد
"صعب عليهم".
كلمتان بسيطتان لكنهما كشفتا عن هوة سحيقة بين عالميهما.
قال بسخرية لم تخفَ عليه.
_ عارف يا ليلى، عارف المشوار طويل على بس اللي هما ميعرفوش إن جدي اللي مات ده كان كل عيلتي اللي باقية هنا كنت متوقع أشوف حد من أهلك جنبي.
ردت بسرعة، وبدأت نبرتها الحقيقية تتسلل.
_ يا حبيبي ما أنا قولتلك هما راحوا لباباك، وبعدين... يعني... الله يرحمه، هو كان راجل كبير وتعبان أكيد ارتاح دلوقتي وأنت كمان... اقصد... لازم ترتاح.
صمت أكمل، محاولاً استيعاب ما تقوله.
"أنت كمان لازم ترتاح".
_أرتاح من إيه بالظبط يا ليلى؟
هنا، كشفت عن نواياها دون أن تدرك مدى فداحة كلماتها.
_ ترتاح من الشحططة دي يا أكمل من السفر كل شوية، والقلق اللي كان واكل دماغك بصراحة يا حبيبي، الموضوع ده كان معطلك أوي.
أخذت نفسًا وكأنها تقدم له بشرى سارة.
_دلوقتي خلاص... مفيش حاجة تشغلك تقدر تركز في مستقبلك 100%.
أنا وبابا كنا لسه بنتكلم، هو شايف إنك مش هتفضل وكيل نيابة كتير
بالتركيز ده قريب أوي هنبارك لك على منصب رئيس النيابة لازم تفكر في الخطوة الجاية من دلوقتي.
في تلك اللحظة، شعر أكمل وكأن الهواء قد سُحب من رئتيه لم تكن تعزيه، بل كانت تحتفل بإزالة "عقبة" من طريق مستقبلهما المهني والاجتماعي
جده، بتاريخه وحبه وذكرياته، تحول في حديثها إلى مجرد "شغلة" و"عطلة" وانتهت.
شعر بغضبٍ حارق يغلي في صدره، غضبٌ لم يشعر به من قبل.
_ عقبة؟ جدي كان عقبة يا ليلى؟
ارتبكت
_ لأ طبعًا مش قصدي
قصدي... قصدي إنك دلوقتي بقيت فاضي لمستقبلك... لينا.
لم يعد يحتمل
كل كلمة كانت تخرج منها كانت طعنة في حزنه وفي حبه لجده.
قال بصوتٍ مخنوق ومتحشرج من الغضب
_ مستقبل؟ أنا جدي لسه ترابه مبردش وانتي بتخططي للمنصب الجاي؟ بتقوليلي إنه ارتاح عشان أنا أرتاح من مسؤوليتي ناحيته؟
لم ينتظر ردها لم يعد هناك ما يمكن قوله.
_ سلام يا ليلى.
أغلق الخط في وجهها قبل أن تنطق بحرف واحد ألقى الهاتف بجانبه بقوة، ووقف يحدق في ظلام الليل، يشعر بأنه لم يفقد جده فقط، بل فقد آخر وهمٍ كان يتعلق به في عالمه الآخر... عالم القاهرة السطحي والبارد.
❈-❈-❈
كانت رحلة العودة إلى السرايا صامتة، لكن الصمت كان يصرخ بالتهديدات.
لم ينظر جاسر إليها، ولم ينطق بحرف، وهذا الهدوء المتعمد كان أشد رعباً من أي غضب معلن.
ما إن دخلا الجناح وأغلق جاسر الباب خلفهما، حتى سقط قناع البرود الجليدي عن وجهه.
لم يصرخ، لم يكسر شيئاً بل استدار نحوها ببطء شديد، وفي عينيه كانت هناك عاصفة هوجاء من الغضب المكتوم.
كانت نظراته وحدها كافية لجعل الهواء في الغرفة ثقيلاً وغير قابل للتنفس.
ألقى بالأكياس الفاخرة التي يحملها على الأرض بإهمال، كأنها قمامة لا قيمة لها.
_عچبتك التمثيلية اللي عملتيها جدام الناس؟
وقفت نغم في مكانها، وظهرها مستقيم، وذقنها مرفوع.
_أيوة عچبتني وكنت رايدة أكملها بس مش نغم الرفاعي اللي تنزل بمستواها جدام واحد زيك.
لم تعد تلك الفتاة الخائفة التي كانت ترتجف قبل قليل لقد وصلت إلى نقطة اللاعودة.
الإهانة في المحل لم تكسرها، بل أشعلت كل ما تبقى فيها من كبرياء.
اقترب منها خطوة، وصوته كان هادئاً بشكل مرعب، همس كفحيح أفعى.
_أني مش جولتلك إن الكلب لما بيعض صاحبه... بيتربى في البيت؟
هنا انفجرت نغم.
لم تعد قادرة على كتمان أي شيء.
ضحكت ضحكة عالية، ضحكة هستيرية خالية من أي مرح، ضحكة ولدت من رحم القهر.
_كلب؟!
وصاحب؟!
أنت فاكر نفسك إيه؟
قطبت جبينها بقهر
_أنت مجرد واحد مريض... ضعيف! بتستجوى عليا عشان تداري ضعفك وخوفك!
تجمدت ملامح جاسر، لم يتوقع هذا الانفجار، لم يتوقع هذه الكلمات لقد تجاوزت كل الخطوط الحمراء.
أكملت نغم بصراخ، والدموع تنهمر من عينيها بغزارة لكنها كانت دموع غضب لا ضعف.
_أيوة أنت فعلاً أحقر إنسان شوفته في حياتي
بتجتل الناس بدم بارد.
بتخطف واحدة من بيت أهلها وتچبرها تتچوزك
بتعاملها كأنها خدامة ولما تبصلك بصة فيها كرامة... بتهددها!
للأسف ده مش جبروت يا جاسر بيه... ده اسمه نقص!
تقدم نحوها وأمسك بذراعها بقوة، وعيناه تقدحان شرراً.
_اخرسي!
لكنها لم تخرس انتفضت لتخلص ذراعها منه، وضربته على صدره بكل ما أوتيت من قوة، ضربة لم تؤثر فيه جسدياً، لكنها كانت تحدياً صارخاً لسلطته.
_لأ مش هخرس! هتفضل لامتى تعيش في دور الشيطان ده؟!
بتعذبني عشان تنتجم من أهلي؟
طب ما تنتجم منهم هما!
روح واچههم راچل لراچل! لكنك أجبن من إنك تعملها!
أسهل لك تحبس واحدة ست وتستعرض عليها عضلاتك يا حقير.
وقف جاسر مصدوماً وحائراً، لم يكن غاضباً فقط، بل كان مرتبكاً.
هذه المرأة أمامه كانت لغزاً لا يستطيع حله.
مرة تكون مستسلمة وهادئة كالحمل الوديع، ومرة تنهار باكية في صمت، والآن... الآن هي بركان ثائر، تقف في وجهه، وتتهمه بالجبن، وتجرح كبرياءه في الصميم.
كان انهيارها هذه المرة مختلفاً، لم يكن انهيار ضحية، بل كان ثورة محارب يائس قرر أن يموت واقفاً على أن يعيش راكعاً.
ترك ذراعها فجأة، وتراجع خطوة إلى الخلف، وهو ينظر إليها وكأنه يراها لأول مرة.
يرى النار في عينيها، يرى القوة التي ولدت من عمق اليأس.
صرخت فيه مرة أخرى، وصوتها مبحوح من البكاء والصراخ.
_اجتلني! يلا! مش أنت بتجتل اللي بيعصاك؟! اجتلني وريحني وريح حالك
بس أعرف إنك لو معملتهاش... لو مخلصتش مني... أني اللي هخلص منك، هفضل شوكة في حلقك كل يوم، هفكرك كل لحظة إنك فاشل... وإنك مجدرتش تكسرني!
تجمعت الدموع التي لم تستطيع ردعها اكثر من ذلك وتابعت بقهر وقد سقطت دموعها
_دمرتني وضيعت مستجبلي وحرمتني من أهلي ومن چامعتي وحبستني لجل شيء مليش ذنب فيه.
مبسوط إكدة من اللي عملته؟
شايفه في عينيك قوة ونصر؟
تمام
انت انتصرت ودرتني ودمرتي عيلتي.
خلاص مبجاش فيا حيل لأي شيء
ثم سقطت على ركبتيها، وانفجرت في بكاء عنيف، بكاء من فرط الإرهاق العاطفي والجسدي.
وقف جاسر يراقبها، وفي داخله صراع عنيف.
جزء منه يريد أن ينفذ وعده، أن "يدعس على رقبتها" ليعلمها من هو سيدها.
لكن جزءاً آخر، جزء لم يكن يعلم بوجوده، كان يقف مشدوهاً أمام هذه القوة، أمام هذه الروح التي ترفض أن تنكسر رغم كل شيء.
لأول مرة في حياته، لم يعرف جاسر التهامي ماذا يفعل.
لقد واجه أعداءً ورجالاً أشداء، لكنه لم يواجه قط امرأة تحاربه بضعفها، وتنتصر عليه بدموعها الممزوجة بالتمرد.
خرج من الغرفة صافقًا الباب خلفه بعنف وهرب
هرب من كل شيء ولم يجد أمامه سواه
هو وحده من يستطيع فهمه ولا أحد آخر غيره.
❈-❈-❈
كانت ليلة هادئة في سرايا الرفاعي هدوء ظاهري يخفي تحته براكين من المشاعر المكبوتة والأسرار الدفينة.
في غرفتها كانت روح تجلس على حافة سريرها تحدق في الفراغ وعيناها تحملان حزنًا عميقًا، حزنًا يتجاوز عمرها الصغير، لم تعد تحتمل هذا الصمت، هذا الخداع الذي تعيش فيه
نهضت واتجهت بخطوات ثابتة نحو غرفة جدها وهدان
طرقت الباب بخفة ودخلت قبل أن يأتيها الرد كان وهدان مستلقيا على فراشه مستندا بظهره على الوسائد
رفع عينيه فور دخولها ابتسم لها ابتسامة حنونة لكنها لم تصل إلى عينيه
_ روح يا بنتي تعالي.
تقدمت روح نحوه وجلست على المقعد المقابل له، لم تتكلم في البداية فقط نظرت إليه نظرة تحمل عتابًا وألمًا.
لاحظ وهدان نظراتها فتلاشت ابتسامته وحل محلها قلق خفي
_ مالك يا روح في حاجة؟
أخذت روح نفسًا عميقًا كأنها تستجمع كل ما تبقى لها من قوة ثم بصوت خافت مهزوز قالت
_ كنت جاية أطمن عليك يا جدي بس... بس فيه حاجة تانية عايزة أتكلم فيها
قطب وهدان جبينه بقلق ثم أعطاها كل انتباهه
_ قولي يا بنتي أنا سامعك
قالت روح ودموعها بدأت تتجمع في عينيها
_ ليه يا جدي؟
ليه خدعتني ليه جولتلي إن عدي بيحبني وهو عمره ما حبني.
صُدم وهدان من سؤالها المباشر، لم يتوقع أن تواجهه بهذه الطريقة حاول أن يتكلم أن يبرر لكن الكلمات خانته
_ أنا... أنا مخدعتكيش يا بنتي أنا كنت...
قاطعته روح وصوتها بدأ يرتفع يحمل نبرة من الانهيار
_ لأ خدعتني، خدعتني وأهنتني لما أجبرت عدي إنه يتجوزني وهو مش بيحبني.
خليتني أعيش في وهم، في كدبة كبيرة، خليتني أحس إني رخيصة إني مفروضة عليه.
أغمض وهدان عينيه بألم ثم فتحها ليجدها عينيها تصيبه بسهامها القاتلة
_ يا روح اسمعيني أنا كنت بعمل اكده عشان سعادتك، كنت عايز أشوفك مبسوطة
هزت روح رأسها برفض وصرخت فيه لكن صرختها كانت ممزوجة بالبكاء
_ سعادتي؟!
دي مش سعادة ده دمار، دمرتني يا جدي دمرت كرامتي، دمرت جلبي.
نهضت وهي تدينه بقوة، اكتسبتها من آلامها
_لو كنت سبت عدي يصارحني بالحجيجة! لو كنت سبته يجولي إنه مش بيحبني، كنت هرضى.
كنت هزعل شوية بس مكنتش هتكسر بالشكل ده.
مكنتش هحس إني ولا حاچ
شعر وهدان بثقل السنين على كتفيه وقال بصوت متعب مهزوم
_ إنتي أمانة أبوكي يا روح، أبوكي الله يرحمه سابكم في رقبتي وكانت أمنية حياته يشوفكم مبسوطين.
هنا انفجرت روح فيه لكن بأدب بألم بمرارة
_ أمانة حافظت عليها كيف يا جدي؟
كل حاچة عملتها معانا كانت غلط.
وهمت سند بنغم ونغم بسند وهما الاتنين عاشوا بسببك في نفس الوهم اللي أنا عشته وفي الآخر سبتها بين الديابة لوحدها ومفكرتش تسأل عليها وتعرف هي عاملة إيه وسطيهم.
كل اللي همكم سمعة العيلة وخلاص.
عملت فرح وجوزت سند بوعد وانتهت الجصة
ونغم ولا حد فاكرها.
يبجى فين بجا الأمانة اللي حافظت عليها.
كانت كلمات روح كالسياط التي تلهب ظهر وهدان، كل كلمة كانت تكسر قلبه، تجعله يشعر بحجم خطئه.
بحجم الألم الذي سببه لأحفاده، لم يجد ما يقوله
لم يجد أي تبرير لأفعاله، شعر بالندم ينهش روحه بالذنب يثقل كاهله
أخيرًا بعد صمت طويل قال بصوت خافت مهزوم
_ أني متخلتش عن نغم، بس اللي جدامك ده التار خسره كتير جوي، ومكنش فيه حيل يخسر تاني.
نغم غلوتها عندي من غلاوتك، انتو الاتنين ليكم غلاوة ربنا واحده اللي يعلم بها.
اتجهرت على فراجها، بس الوجوف جدام عيلة التهامي هيديهم الفرصة أنهم يكملوا التار واني جفلت كل بباني في وشه.
حتى لما راح فيها ابني، جولت اجصر الشر واسيب الامر في يد الحكومة وهي جامت بالواجب وزيادة.
اللي حصل حصل يا روح وانتهى ومفيش منه مهرب، أنا عارف إني غلطت غلطت كتير بس أوعدك... أوعدك إني هحاول أصلح اللي غلطت فيه.
نظرت إليه روح ودموعها لا تزال تنهمر لم تقل شيئًا فقط استدارت وخرجت من الغرفة تاركة وراءها جدًا محطمًا وروحًا ممزقة وقلبًا لا يعرف كيف يداوي جراحه.
اا اا اا اا اا اا اا اا اا اا اا اا
خرجت روح من غرفة جدها، وخطواتها ثقيلة وقلبها يعتصر ألمًا.
كانت دموعها لا تزال تتدفق بصمت على خديها، تاركة أثرًا من الحزن.
لم تكن تدرك أن عيني ورد، والدة عدي وحماتها، كانت تراقبها من بعيد.
كانت ورد قد خرجت لتوها من غرفتها، وشعرت بشيء غريب في الأجواء. عندما رأت روح بهذا الحال، تأكدت شكوكها.
اقتربت ورد من روح بخطوات هادئة، ومدت يدها لتلمس كتفها بحنان.
_روح؟ مالك يا بتي في إيه؟
انتفضت روح، ومسحت دموعها بسرعة، محاولة أن تخفي أثر حزنها.
_مفيش حاجة يا مرات عمي، أنا زينة
قالتها بصوت مهزوز، خانتها نبرته
لم تصدقها ورد.
كانت تعرف روح جيدًا، وتعرف أن هذا الحزن ليس مجرد عابر، أمسكت بيد روح بحنان، وقادتها نحو غرفتها.
_تعالي معايا يا روح، نتكلم شوية.
دخلت بها الغرفة وأغلقت ورد الباب خلفهما، وقادتها على الفراش وجلست بجانب روح عليه.
نظرت إليها بعينين تحملان كل معاني الأمومة والحنان.
_يا بنتي، أنا أمك زي ما أنا حماتك، وخابرة زين إن فيه حاجة تاعباكي.
جوليلي، إيه اللي بينك وبين عدي؟ فيه مشاكل؟
نظرت روح إلى ورد، وشعرت برغبة عارمة في البوح بكل شيء، في إلقاء هذا الحمل الثقيل عن كاهلها.
لكنها تذكرت عدي، وصورته وهو يواجه غضب جدها، وكيف أنه اضطر للزواج منها.
لم تستطع أن تفضحه، أن تظهر ضعفه أمام والدته.
هزت رأسها بالنفي وقالت بصوت خافت، محاولة أن تبدو مقتنعة
_لأ يا مرات عمي، مفيش أي حاجة.
أنا مبسوطة مع عدي، وهو كويس معايا.
تنهدت ورد، وشعرت بخيبة أمل.
كانت تعلم أن روح تكذب، لكنها لم تستطع إجبارها على الاعتراف.
_طيب، إيه اللي مخليكي زعلانة اكده؟
قالت روح، محاولة أن تجد مبررًا لحزنها.
_أنا... أنا بس متأثرة بغياب نغم وحشتني جوي، والبيت من غيرها مش هو هو.
أومأت ورد برأسها، وكأنها تصدقها.
_أه، نغم وحشتنا كلنا بس الحياة لازم تستمر يا روح
ومينفعش نفضل عايشين في الحزن.
صمتت ورد للحظة، ثم تابعت بصوت هادئ يحمل في طياته نصيحة مبطنة
_يا روح الست الشاطرة هي اللي تجدر تخلي جوزها ميشوفش غيرها.
الراچل زي الطفل، عايز اهتمام وحنان.
عايز يحس إن مراته هي كل حاچة في حياته.
حاولي معاه مرة واتنين وتلاتة، ومتيأسيش بالمحاولة والصبر، أي راچل بيستسلم لمراته، ومبيشوفش غيرها.
إنتي لسه صغيرة، والحياة جدامك. متخليش أي حاجة تكسرك.
خليكي قوية، وخليكي سند لجوزك، وهو هيكون سند ليكي.
نظرت روح إلى ورد، وفهمت ما ترمي إليه.
كانت ورد تحاول أن تقول لها إن عليها أن تكسب قلب عدي، أن تجعله يحبها، حتى لو لم يكن يحبها الآن.
شعرت روح ببعض الأمل، وببعض القوة تتسلل إلى قلبها.
ربما لم يكن كل شيء قد انتهى بعد.
ربما كان هناك أمل في أن تبني حياتها مع عدي، وأن تجعله يحبها يومًا ما.
❈-❈-❈
كان عدي يقف في زاوية شارع مزدحم في القاهرة، يتحدث بصوت خافت مع رجل غليظ الملامح.
كان قد قضى اليومين الماضيين في البحث والتخطيط، ووجد أخيرًا من سيساعده في خطته المجنونة في منزل التهامي لإحداث فوضى، يتمكن خلالها من التسلل وإنقاذ نغم.
قال الرجل.
_كل حاچة جاهزة يا باشا.
بالليل، ساعة ما الناس تهدى، هنكون مستنيين إشارتك.
أومأ عدي برأسه، وأعطى الرجل دفعة من المال.
_استناني هتصل بيك.
استدار عدي ليعود إلى سيارته، وفي تلك اللحظة، لمحها كانت سيارة جاسر التهامي الفاخرة متوقفة على الجانب الآخر من الشارع، أمام مركز تجاري ضخم، لم يكن جاسر بداخلها، لكنها كانت هي نغم.
كانت تجلس في المقعد الأمامي، رأسها مسنود على زجاج النافذة، وعيناها شاردتان لم تكن تبكي بصوت، لكنه رأى بوضوح دموعًا صامتة تنحدر على خديها، ترسم خطوطًا لامعة على وجهها الشاحب.
كان منظرها يمزق القلب، منظر طائر قد كسرت أجنحته محبوس في قفص من ذهب.
شعر بدمه يغلي لم يفكر.
كل ما أراده هو أن يصل إليها، أن يفتح باب السيارة ويخرجها من هذا الجحيم.
بدأ يخطو نحو الشارع، مندفعًا بين السيارات، وعيناه مثبتتان عليها.
نغم!
صرخ باسمها، لكن صوته ضاع في الضجيج .
في تلك اللحظة، خرج جاسر من أبواب المول ، يحمل عدة أكياس قليلة،
اتجه مباشرة إلى السيارة، ووضع الأكياس في المقعد الخلفي، ثم استقل مقعد القيادة دون أن يلاحظ عدي الذي كان قد وصل إلى منتصف الطريق.
انطلقت السيارة بسلاسة، وابتعدت عن الرصيف.
ركض عدي آخر بضعة أمتار، وهو يصرخ باسمها، لكن السيارة كانت قد تسارعت واختفت بين زحام الشوارع.
وقف في منتصف الطريق، والسيارات تمر من حوله وتطلق أبواقها بغضب
لم يكن يراها، كل ما كان يراه هو صورة نغم وهي تبكي في سيارة عدوه، وصورة جاسر وهو يعود إليها كأنهما زوجان طبيعيان في رحلة تسوق.
اشتعلت الغيرة في صدره كنار جهنم، وأحرقت آخر بقايا العقل والمنطق في رأسه.
لم يعد يرى خطته كخطة إنقاذ، بل كخطة انتقام يجب أن يحرقهم
يجب أن يحرق كل شيء الليلة.
عاد عدي إلى المنزل في وقت متأخر، وعيناه تطلقان شررًا.
لم يتحدث مع أحد، وصعد مباشرة إلى جناحه. كان قد اتخذ قراره النهائي، وكان يستعد لتنفيذه.
دخل الغرفة، فوجد روح تنتظره
كانت قد قررت أن تبادر، أن تحاول للمرة الأخيرة أن تصلح ما انكسر.
كانت ترتدي فستانًا بسيطًا وجميلاً، وعلى وجهها ابتسامة متوترة.
قالت بصوتٍ ناعم
_عدي... حمد لله على السلامة.
أنا حضرت لك العشا، وعملتلك...
_مش عايز زفت!
قاطعها بصوتٍ عالٍ وقاسٍ، وهو يفتح خزانته ويبدأ في إخراج بعض الملابس الداكنة بعنف.
تراجعت روح خطوة، مصدومة من حدته.
_ مالك يا عدي؟ ليه بتكلمني كده؟ أنا عملت إيه؟
اقتربت منه، ومدت يدها لتلمس كتفه.
_لجل خاطري يا عدي، خلينا نتكلم خلينا نحاول... أنا بحبك، ومستعدة أعمل أي حاجة عشان نصلح حياتنا.
في تلك اللحظة، انفجر عدي. استدار ودفعها بكل قوته بعيدًا عنه.
_ابعدي عني!
فقدت روح توازنها وسقطت بقوة على الأرض.
لم تكن الصدمة من السقوط، بل من الدفعة، من الكراهية التي رأتها في عينيه.
وقف فوقها، كشيطان غاضب، وبدأ يطلق كل السم الذي كان يحبسه في صدره.
_تصلحي إيه؟! مفيش حاچة تتصلح! أنتي فاهمة؟!
أنا مش بحبك!
صرخ فيها، والكلمات تخرج كطلقات الرصاص.
عمري ما حبيتك أنا بحب اختك بحب نغم هي اللي كنت رايدها هي اللي بحلم بيها كل ليلة!
كانت روح تنظر إليه من على الأرض، والدموع متحجرة في عينيها، لا تستطيع أن تستوعب هول ما تسمعه.
قال بصراخ هستيري.
_أنا رحت طلبتها من جدك وهو رفض
لانك بتعشجيني، فطبعا لازم اللي انتي ريداه يحوصل
جدك هو اللي غصبني عليكي! هو اللي جبرني أتچوزك.
كانت كل كلمة سكينًا يمزقها لم تكن مجرد إهانة، بل كانت تمزيقًا لكل كيانها، لكل أحلامها، لكل ذرة حب كانت تكنها له.
قال وهو يلهث، وقد هدأت نبرته قليلاً وتحولت إلى برود قاتل.
_أنتي فاهمة دلوجت؟
أنا عمري ما هكون ليكي وجلبي ده... هيفضل ملكها هي لحد ما أموت.
أخذ ملابسه، واتجه نحو الباب
_أنا رايح أرجعها رايح أچيب اللي المفروض كانت تبجى مكانك من الأول.
خرج وأغلق الباب خلفه بقوة، تاركًا إياها ملقاة على الأرض، في بركة من الصدمة والألم والخذلان.
حاولت روح أن تنهض أن تصرخ، أن تفعل أي شيء لكن جسدها لم يستجب شعرت بألم حاد يخترق صدرها، وبخدر غريب يسري في جانبها الأيسر بدأت الرؤية تغيم أمام عينيها، وآخر ما شعرت به هو ثقل رهيب يسحقها، قبل أن يبتلعها الظلام لقد تحملت ما يفوق طاقة أي بشر، والآن، قرر جسدها أن ينسحب من هذه المعركة الخاسرة.
❈-❈-❈
خرج عدي من الغرفة كالإعصار، تاركاً الباب مفتوحاً خلفه لم يذهب إلى الشرفة هذه المرة، بل نزل الدرج بخطوات سريعة وعنيفة، متجهاً إلى مصير مجهول حتى الآن
اندهش الجميع وهم يروه خارجاً كالاعصار
سأل وهدان
ماله إكدة..
نظر إلى ليل
اطلعي نادي روح نشوف في ايه.
أومأت له ليل وصعدت إلى غرفة ابنتها
حاولت روح أن تأخذ نفساً عميقاً، لكن الهواء بدا وكأنه يرفض الدخول إلى رئتيها.
شعرت بدوار شديد، وامتداد خدر غريب بدأ من كتفها الأيسر وسرى بسرعة في ذراعها وساقها.
تشوشت رؤيتها، وألوان الغرفة بدأت بالذوبان في بعضها البعض.
مدت يدها لتستند على الحائط، لكن أصابعها لم تطعها
ثقل لسانها، وأرادت أن تصرخ، أن تنادي على أي أحد، لكن لم يخرج أي صوت.
كان آخر ما رأته هو سجادة الغرفة وهي تقترب من وجهها بسرعة، قبل أن يبتلعها ظلام دامس.
صعدت ليل الدرج بخطوات هادئة. عندما وصلت إلى الطابق العلوي، استغربت أن باب غرفة ابنتها مفتوح على مصراعيه.
نادت عليها وهي تقترب من الباب، لكن لم يأتِ رد.
أدخلت رأسها من الباب، فتجمد الدم في عروقها.
كانت ابنتها ملقاة على الأرض بجانب الحائط، في وضع غريب وغير طبيعي، وعيناها نصف مغمضتين.
صرخت ليل صرخة ممزوجة بالرعب والفزع، صرخة هزت أركان السرايا
_رووووووح! بنتييييي.
كان مالك عائد لتوه من منزل أكمل
قفز من مكانه على صوت الصرخة المذعورة، وشعر بقلبه يهوي إلى قدميه.
ركض نحو مصدر الصوت، وتبعه سالم وسند وباقي من في المنزل.
كان المشهد في الغرفة مروعاً.
ليل منهارة على ركبتيها بجانب جسد ابنتها، تهزها وتصرخ باسمها وروح... ساكنة لا حراك فيها.
شعر مالك وكأن قلبه قد توقف.
للحظة، ظن الأسوأ دفع الجميع جانباً برفق وركع بجانب ابنة عمه.
وضع إصبعين على عنقها، وشعر بنبض خفيف، ضعيف.
بصوت حاسم وقوي رغم الخوف الذي يعتصر قلبه
_ لازم نوصلها المستشفى حالاً
لم ينتظر أحداً حمل جسد روح الهامد بين ذراعيه، وشعر بخفة وزنها بشكل مقلق.
ركض بها إلى خارج المنزل، والجميع يتبعه في حالة من الهلع والبكاء.
قال وهو يضعها في المقعد الخلفي
_مرت عمي اركبي چارها.
انطلق مالك وخلفه سيارة سند ووالده كالسهم في ظلام الليل، مخلفة وراءها سحابة من الغبار وقلوباً محطمة تدعو الله.
كانت الدقائق تمر كأنها ساعات وقف مالك والجميع أمام غرفة الطوارئ، يعيشان على أعصابهما.
كانت ووجوههم شاحبة من الصدمة لم يكن أحد يعرف مكان عدي.
أخيراً، خرج الطبيب تجمعوا حوله على الفور.
سالم بصوت متقطع
_طمني يا دكتور... بتي مالها؟
رد الطبيب بملامح جادة
_اطمنوا، الحالة استقرت دلوقتي قدرنا نلحقها في الوقت المناسب المدام اتعرضت لصدمة عصبية شديدة جداً، سببت لها جلطة.
وقعت كلمة "جلطة" عليهم كالصاعقة شهقت ليل ووضعت يدها على فمها، بينما تصلب مالك في مكانه.
مالك:
جلطة؟! كيف يا دكتور؟ دي لسه صغيرة!
رد الطبيب بأسف
_للأسف السن مبقاش مقياس الضغط النفسي والعصبي الشديد ممكن يسبب ده في أي عمر الحمد لله إنها كانت جلطة بسيطة، وفي الجزء المسؤول عن الحركة التأثير الأكبر هيكون على ذراعها وساقها اليسرى.
يقطب سالم جبينه بصدمة
_يعني إيه يا دكتور؟ بنتي اتشلت؟
الطبيب طمأنه بسرعة
_لأ لأ، متقولش ٱكده يا حاج الإصابة بسيطة
زي ما قلت هيكون فيه ضعف وثقل في الحركة، لكن مع العلاج الطبيعي المكثف والمتابعة، بإذن الله هترجع طبيعية تماماً الأهم دلوقت هو الراحة التامة، والبعد عن أي ضغط أو انفعال. نفسيتها هي أهم جزء في العلاج.
تنفس الجميع الصعداء نسبياً لم تكن كارثة كاملة، لكنها كانت جرحاً عميقاً في جسد العائلة نظر مالك من الزجاج الصغير في باب الغرفة، فرأى روح مستلقية على السرير، ووجهها شاحب كالموتى شعر بغصة في حلقه، وبغضب عارم يتصاعد في صدره
أياً كان ما حدث في تلك الغرفة، فقد كان عدي هو السبب.
وأقسم في تلك اللحظة، أن حساب عدي سيكون عسيراً.
❈-❈-❈
في قلب الليل، حيث تتراقص الظلال على جدران الغرفة الباردة، كان عدي يجلس عيناه تلمعان ببريق غامض وعقله ينسج خيوط خطة محكمة.
لم تكن خطة عادية، بل كانت تتطلب دقة متناهية وصبرًا لا يلين وذكاءً حادًا
كان الهدف واضحًا في ذهنه، لكن الوسيلة...
نهض عدي بهدوء، ارتدى معطفه الداكن، وتسلل خارج المنزل كشبح.
لم يكن هناك وقت للتردد، فكل دقيقة تمر تقربه من تحقيق غايته.
كانت الشوارع هادئة، لا يكاد يسمع فيها سوى وقع خطواته الخافتة
اتجه نحو أطراف المدينة، حيث تتلاشى الأضواء وتزداد الظلمة، إلى حيث ينتظره شركاء صمته
وصل إلى ورشة قديمة مهجورة، بالكاد يظهر بابها الخشبي المتآكل في الظلام طرق الباب ثلاث طرقات خفيفة، ثم طرقًه واحدة قوية.
انفتح الباب ببطء، وظهر وجه رجل عجوز تجاعيد الزمن محفورة على قسماته، وعيناه تحملان مكر السنين.
تبادلا نظرة سريعة، ثم أومأ العجوز برأسه إذنًا بالدخول.
داخل الورشة كانت الأجواء مختلفة تمامًا.
كانت هناك أدوات غريبة مبعثرة على الطاولات، وأجهزة معقدة تصدر أصواتًا خافتة كان هناك رجل آخر، شاب في مقتبل العمر، منهمكًا في تجميع شيء ما
لم يتحدث عدي كثيرًا، بل أشار إلى قائمة كان قد أعدها مسبقًا
بدأ الرجلان في جمع الأشياء المطلوبة: أسلاك رفيعة، عبوات صغيرة تحتوي على سوائل ذات ألوان غريبة، أجهزة توقيت دقيقة، وبعض المواد التي تبدو كأنها أقمشة خاصة
كل قطعة كانت تُسلم لعدي بعناية فائقة، وكأنها كنوز ثمينة كانت هذه الأشياء، في ظاهرها مجرد أدوات عادية، لكن في يد عدي، ومع خطته، ستتحول إلى شيء آخر تمامًا
•تابع الفصل التالي "رواية ثنايا الروح" الريح والغيامة" اضغط على اسم الرواية