رواية ثنايا الروح "الريح والغيامة" الفصل التاسع عشر 19 - بقلم رانيا الخولي

 رواية ثنايا الروح "الريح والغيامة" الفصل التاسع عشر 19 - بقلم رانيا الخولي 

الفصل التاسع عشر 

..........................

كانت السرايا غارقة في صمت ثقيل، صمت لا يشبه هدوءها المعتاد، بل صمت محموم بالوجع والقهر المكتوم

في الطابق العلوي، كان الحاج وهدان، كبير العائلة، طريح الفراش، فلم يعد باستطاعته التظاهر بالقوة أكثر من ذلك بعد أن انتهى الزفاف وظهر أمام الجميع على نفس وقاره الذي اعتادوه عليه.

سقط جسده الذي طالما كان صخرة تستند عليها العائلة، قد وهن فجأة

وكأن إهانة حفيدته كانت القشة التي قصمت ظهر قوته.

أما سالم، فكان شبحاً يسير في أرجاء المنزل صامتاً وعيناه تحملان عجزاً يقتله في كل لحظة 

الخوف من الفضيحة، ومن بطش التهاميه كبّل يديه ولسانه. 

لقد أُسدل الستار على "الفرح"، وبقيت الحقيقة المرة حبيسة جدران السرايا، سراً يؤرق نوم الجميع.

في غرفته، كان مالك يتحرك بهدف واضح. 

على سريره، كانت حقيبة سفر صغيرة مفتوحة، وبجانبها ملف سميك يضم أوراقاً ومستندات جمعها بعناية فائقة خلال الأيام الماضية. 

كانت بينها صورة ضوئية لوثيقة الزواج، تلك القسيمة التي خاطر الكثير للحصول عليها، حيث تمكن من إقناع "فرح"، الخادمة الشابة في بيت التهامي، بتصويرها له خلسة مقابل مبلغ كبير من المال ووعد بحمايتها. كانت هذه الورقة هي السلاح الأول في معركته القادمة.

انفتح باب الغرفة بهدوء ودخلت والدته. 

كانت ملامحها شاحبة، وعيناها تحملان حزناً عميقاً وقلقاً لا ينتهي. 

توقفت على عتبة الباب حين رأته بملابس الخروج والحقيبة المفتوحة.

_مالك؟ أنت لابس ورايح فين في وجت زي ده؟

_ رد مالك دون أن يلتفت، وهو يضع الملف في حقيبته

_مسافر القاهرة يا أمي.

تقدمت منه بضع خطوات إلى الداخل، ونبرتها ارتفعت قليلاً بالقلق

_القاهرة؟ ليه يا ولدي؟ شغلك مش دلوجت، وجدك تعبان ومحتاچنا كلنا حواليه.

أغلق مالك حقيبته واستدار ليواجهها. كانت عيناه تحملان تصميماً صلباً لم تره فيه من قبل.

_عشان جدي تعبان، وعشان أبويا وعمي مش عارفين يعملوا حاچة، أنا لازم أتحرك، مسافر لأكمل.

تجمدت ملامح ورد عند سماع اسم "أكمل". 

فهمت على الفور أن الأمر يتعلق بنغم، وأن ابنها ينوي فتح أبواب الجحيم.

بصوت مرتعش

_أكمل؟ عايز تعمل إيه يا مالك؟ اني مش عايزاك تقف قصاد صخر يا ولدي، صخر جلبه ميت ومش بيهمه حد واصل.

وبعدين انت إكدة بتفضحها.

تحدث مالك بحدة لم يعتد أن يكلمها بها

_الفضيحة إننا نسيبها في إيد الراچل ده يا أمي! الفضيحة إننا نجف نتفرچ عليها وهي بتتعذب واحنا ساكتين خوف! 

سمعة إيه اللي بتتكلمي عنيها؟ سمعة البنت بتتداس كل يوم وهي عايشة في بيت عدونا!

اقتربت منه وأمسكت ذراعه برجاء

_يا ابني افهمني... صخر ده مش أي حد، ده اخوي... وانا اكتر واحدة خبراه  جاسي وميعرفش ربنا، ومبيعملش حساب لأي حاچة. 

لو حاولت تجرب منه انت بالذات، هيولع فينا كليتنا

نفض مالك يدها عنه برفق ولكن بحزم

_وهو ده اللي مخليهم دايسين علينا عشان عارفين إننا بنخاف بس أنا مبجتش أخاف يا أمي. 

من يوم ما شفت نظرة الانكسار في عين نغم وهي بتتاخد من وسطنا، والخوف مات جوايا مبجاش فيه غير الغضب.

بدموع بدأت تتجمع في عينيها _وغضبك ده هيضيعها مش هينقذها! هيجولوا عليها إيه، جاسر مش هيسكت، هيلوث سمعتها عشان يكسرها ويكسرنا معاها لو عملت إكدة.

تنهد مالك بمرارة 

_عشان إكده رايح لأكمل مش هعمل حاچة متهورة هنفكر، هندرس كل خطوة لازم نلاجي ثغرة في القانون، مخرج يحفظلها كرامتها وحجها من غير ما ندي فرصة لحد يتكلم عليها نص كلمة. 

أكمل بيفهم في الحاچات دي أكتر مني، وهيعرف يلاجي حل من غير فضايح.

تحدثت ورد بصوت يائس

_مفيش حل يا مالك. 

خالك صخر جفل كل البيبان من يوم ما اتچوزت ابوك

نظر مالك في عينيها مباشرة، وفي صوته وعد قاطع

_الباب الوحيد جدامنا دلوجت سلاح القانون، ولو القانون معرفش يجيب حقها، يبقى ساعتها لكل حادث حديث. بس لازم أحاول الأول، لازم أعمل أي حاجة... أي حاجة عشان أقدر أبص في وشى في المراية تاني.

حمل حقيبته وتوجه نحو الباب، ثم توقف للحظة وأدار رأسه نحوها.

_ادعيلي يا أمي... وادعي لنغم.

خرج من الغرفة تاركاً والدته واقفة في المنتصف، تبكي بصمت

كانت تبكي على نغم التي ضاعت، وعلى ابنها الذي يسير بقدميه نحو مواجهة ستلتهم الأخضر واليابس. كانت تعرف شقيقها صخر، وتعرف ابن أخيها جاسر الذي ورث منه القسوة والبرود، وأدركت أن ابنها قد أشعل للتو فتيل حربٍ لا يعلم أحد كيف ستنتهي.

❈-❈-❈

أوراق قضائية مبعثرة على المكتب، وأكواب القهوة الفارغة تشي بوقت طويل يجلس مالك أمام المكتب، يفرك عينيه بإرهاق واضح. 

أمامه يجلس أكمل وكيل النيابة، بملامح جادة وهو يقلب في بعض الأوراق التي أحضرها مالك. 

الصمت ثقيل، لا يقطعه سوى صوت تقليب الورق.

وضع أكمل الأوراق على المكتب ويزفر ببطء

_مالك، أنا بقالي ساعة بقلّب في كل كلمة وكل ورقة الوضع معقد أكتر مما كنت متخيل.

رفع مالك رأسه، وفي عينيه يأس مكبوت

_معجد كيف يا أكمل؟ بنت عمي مخطوفة باسم الچواز، جاسر التهامي أچبرها تتچوزه تحت تهديد وبيهددنا كلنا دي مش قضية، دي چريمة واضحة.

مال أكمل بجسده إلى الأمام، ويشبك أصابعه

_قانوناً، هي مش واضحة للأسف خلينا نفكر بعقل وكيل نيابة مش بعواطفك

إيه الدليل المادي اللي في إيدك؟

_الدليل هو شهادتنا كلنا! أنا وأبويا وعمي، كلنا شفنا اللي حوصل، غير كمان كاميرات المستشفى وهو نازل من العربية بيها وهي مغمى عليها.

_شهادتكم ليها وزنها طبعاً، بس الدفاع هيلعب عليها بسهولة. 

هيقول دي شهادة أهل، يعني شهادة مجروحة بدافع الخصومة والعداوة القديمة بين العيلتين. 

هيقول إنكم بتحاولوا تفرقوا بين زوجين وتدمروا سمعة جاسر التهامي وهنا هيقلب الترابيزة في ثانية.

دي حاجة

الحاجة التانية معنى انه شايلها وهي مغمى عليها ليها ألف سبب المحامي يقدر يمشيها على هواه. 

ضرب مالك بقبضته على المكتب في غضب مكتوم

_يعني إيه؟ يعني نسيبها في إيده؟ الراچل ده شيطان يا أكمل، أنا عارفه زين، نغم في خطر حقيقي معاه.

_أنا مصدقك، بس المحكمة مش بتتعامل بالنوايا، بتتعامل بالأدلة اسمعني كويس، لو عملنا بلاغ دلوقتي بالصورة دي، هيحصل سيناريو من اتنين، والاتنين أسوأ من بعض.

مالك بحيرة 

_إيه هما؟

_السيناريو الأول: النيابة هتستدعي نغم لسماع أقوالها جاسر مش غبي، هيجيبها وهي متحضرة كويس جداً هيضغط عليها هيهددها، وهيخليها تقول قدام وكيل النيابة إنها اتجوزته بكامل إرادتها وإن أهلها معترضين عشان مشاكل التار القديمة. 

ساعتها، القضية كلها هتتحفظ، وموقف جاسر هيبقى أقوى ألف مرة. 

هيبقى معاه شهادة رسمية من مراتُه نفسها.

صمت مالك، فكلمات أكمل كانت كالصفعة المنطقية التي أيقظته من غضبه.

أردف أكمل

_السيناريو التاني، وهو الأخطر. 

لو نغم خلفت كلامه وقالت الحقيقة، جاسر هيعتبر ده إعلان حرب مباشر ممكن يأذيها أو يأذي حد منكم بشكل لا يمكن تداركه قبل ما نقدر حتى نوفر لها حماية

إحنا بنتعامل مع واحد القانون عنده مجرد أداة مش رادع.

مسح مالك على وجهه بقلة حيلة _والحل؟ لازم يكون فيه حل لازم يكون فيه ثغرة 

ابن المركوب ديتى هيفضل يتلاعب بينا إكده.

التقط أكمل قلماً وتلاعب به بين اصابعه

_الحل مش في الهجوم المباشر، الحل في تفكيك الموقف نفسه الثغرة مش عند جاسر، الثغرة عند نغم.

قطب مالك جبينه بحيرة 

_جصدك إيه؟

_نغم هي مفتاح كل حاجة، هي الطرف الوحيد اللي يقدر يثبت الإكراه. 

بس عشان تعمل ده، لازم تكون في مكان آمن وبعيد عن سيطرته هدفنا الأول دلوقتي مش تقديم بلاغ، هدفنا هو إخراج نغم من بيته.

_إزاي؟ وهو حابسها هناك.

_لازم نوصل لها، لازم تعرف إننا بنتحرك عشانها وإن فيه خطة لازم هي اللي تطلب المساعدة لما تكون الفرصة سانحة.

رد مالك باحباط

_حاولت وبعت لها تليفون عشان اكلمها منه بس هي رفضت وقالت للبنت تخبرنا انها ماتت.

وبعدين حتى لو وصلنا لها وقدرنا نهربها أكيد هيجيبها قانونا في نفس اليوم

اشار أكمل بالقلم نحو مالك

_وهنا يجي دوري في اللحظة اللي نغم تخرج فيها من تحت سيطرته وتوصل لمكان آمن هنا في القاهرة، زي شقتك دي مثلاً، أول حاجة تعملها إنها تتصل بيا شخصياً

أنا بصفتي وكيل نيابة، هقدر أمنّلها حماية فورية هجيب قوة من القسم ونحط حراسة على المكان، وهفتح محضر رسمي بأقوالها وهي في حمايتنا. 

ساعتها جاسر نفسه مش هيقدر يقرب منها.

بدأ الأمل يلمع في عينيه

_وبعدها؟

_بعدها هنقلب اللعبة بدل ما إحنا اللي بنحاول نثبت، هيبقى هو اللي في موقف دفاع هنقدم طلب طلاق للضرر والخلع، وهنستخدم واقعة الإكراه كدليل أساسي. 

شهادتها وهي في حماية النيابة، مع شهادتكم كشهود مساندين، مع أي دليل تاني نقدر نجمعه... ساعتها الموقف القانوني هيبقى في صالحنا.

_زي إيه أدلة تانية؟

_أي حاجة رسالة بتبعتها لحد بتشتكي فيها، مكالمة متسجلة شهادة خادم في البيت لو قدرنا نوصل لحد شريف فيهم. 

الأهم دلوقتي يا مالك، هو التواصل مع نغم. 

لازم تلاقي طريقة تكلمها بيها، طريقة سرية وآمنة

من غير تهور فكر... مين ممكن يدخل البيت ده من غير ما يثير شكوك جاسر؟

أخذ مالك يفكر بعمق، يستعرض كل الوجوه والأسماء لم يعد غاضباً، بل تحول إلى محامٍ يفكر في كل خطوة قادمة.

لقد أعطاه أكمل الخيط، خيطاً رفيعاً من الأمل، لكنه كان منطقياً وقوياً الآن، مهمته هي أن ينسج من هذا الخيط طريقاً لخلاص نغم.

❈-❈-❈

كان الليل قد أسدل ستائره على القاهرة، لكن أكمل لم يكن يشعر بالهدوء كان يقف في شرفة شقته، والهواء البارد يلفح وجهه دون أن يطفئ النار المشتعلة في صدره

كانت أفكاره تدور حول ليلى، حول غدائهما الأخير الذي كشف كل الأقنعة. لقد تأكد بما لا يدع مجالاً للشك أنها لا تحب 

أكمل

بل تحب "أكمل بيه وكيل النيابة". كانت تحب المنصب، الهيبة، الصورة الاجتماعية أما هو، بروحه وجذوره وقلقه على جده، فكان مجرد تفاصيل مزعجة في هذه الصورة البراقة. 

شعر بمرارة الخيبة، وبغربة عميقة وهو في قلب مدينته.

في خضم هذه الأفكار، رن هاتفه 

كان رقمًا من البلد

شعر قلبه ينقبض على الفور.

_ألو؟

_أكمل يا ولدي...

جاءه صوت عم صالح، جار جده.

انقبض قلب أكمل بقلق، فهذه أول مرة يحدثه باله‍اتف

_أهلا يا عم صالح، ازي حضرتك.

_بخير يا ولدي.

مهزوزًا ومختنقًا. 

_البقاء لله يا ابني... جدك... سابنا وراح للي خلقه.

تجمد أكمل في مكانه للحظات، لم يستوعب. 

بدا وكأن الكلمات قيلت بلغة أجنبية لا يفهمها. 

توقف الزمن، وتوقف الهواء في رئتيه. جده... مات؟ الكلمتان بدتا مستحيلتين، سخيفتين. 

_انت....بتقول... ايه؟

_أمر الله يا ابني، امانته وخدها.

محال

كيف يمكن للشخص الذي يمثل الثبات والجذور في حياته أن يختفي ببساطة؟

هنا، انهار كل شيء لم يصرخ لم يبكي. لكنه شعر بفراغ هائل يتشكل في صدره، فراغ بارد ومؤلم يهدد بابتلاعه. استند على سور الشرفة بكل قوته، يشعر وكأن قدميه لن تحملاه. 

وفي وسط هذا الفراغ، طفت على السطح ذكرى كلمات جده الأخيرة، حادة كشفرة سكين

"بخاف أموت لوحدي يا أكمل."

لقد تحقق الكابوس.

كانت رحلة إلى الصعيد ضبابية، قاد فيها جسده بآلية بينما كانت روحه تحوم في مكان آخر، عالقة بين الصدمة والندم. 

عندما وصل إلى البلدة، وجد سرادق العزاء قد نُصب بالفعل، والرجال بملابسهم الداكنة يتوافدون على منزل جده.

شعر نفسه غير بدونه

وكأن الجميع أصبحوا بدونه غرباء حتى والديه.

لم يجد سوى حضن مالك الذي شعر به وشعر بما حاجته إليه 

تقدم منه واحتضنه بقوة، دون أن يقول كلمة. 

كان حضنًا صامتًا، لكنه كان يحمل كل المواساة التي يحتاجها أكمل في تلك اللحظة. 

لم يبكِ أكمل، لكن جسده كان يرتجف بعنف بين ذراعي صديقه.

_عايز أشوفه.

كانت أول كلمات نطق بها أكمل بصوتٍ أجوف.

قاده مالك إلى الداخل، إلى الغرفة التي طالما جلس فيها مع جده. 

كان الجسد مسجى على سرير بسيط، مغطى بملاءة بيضاء نظيفة، ورجال صالحون يتلون حوله القرآن استعدادًا للغسل.

تقدم أكمل بخطوات ثقيلة، وكأن كل خطوة تزن طنًا. 

رفع أحدهم الملاءة عن وجه جده.

كان هادئًا، ساكنًا، وعلى شفتيه شبه ابتسامة خفيفة، كأنه نائم يحلم حلمًا جميلاً. 

لكنه كان باردًا، بلا حياة. 

هذا الوجه الذي طالما ابتسم له، هذه اليد التي طالما ربتت على كتفه، لم تعد هنا. 

لقد رحل إلى الأبد.

مد أكمل يده المرتجفة، ولمس جبين جده البارد. 

وفي تلك اللحظة، انكسر انهمرت دموعه أخيرًا، دموع حارقة وصامتة، دموع الندم والحب والفقد.

انحنى على جسد جده، ودفن وجهه في صدره، يبكي كالطفل الذي فقد ملاذه الوحيد ظل مالك بجانبه، يضع يده على ظهره، يمنحه القوة بصمته، ويتركه يفرغ كل الألم الذي كان يحبسه.

مرت أيام العزاء الثلاثة كأنها دهر لم يترك مالك أكمل لحظة واحدة وبعد أن رحل آخر المعزين، جلس أكمل على كرسي جده في نفس المكان الذي وجدوه فيه. 

أمسك بسبحة جده التي كانت لا تزال على الطاولة بجانبه، وأغمض عينيه.

بدأت الذكريات تتدفق.

تذكر كيف كان جده ينتظره في كل إجازة عند مدخل البلدة، ويفرد ذراعيه ليحتضنه.

تذكر رائحة الأرض المروية وخبز الفرن التي كانت تملأ البيت.

تذكر جلساتهما الطويلة في الحديقة، وجده يقص عليه حكايات الأجداد، ويعلمه أسماء النجوم.

تذكر كيف كان جده يصر على أن يأكل من يده، قائلاً

"لقمة من يد جدك ترد الروح."

تذكر ضحكته الصافية، وحكمته البسيطة، وحبه الذي لم يطلب مقابلاً.

تقدم والده منه يربت على كتفه 

_مش كفاية كدة وخلينا نرجع القاهرة؟

التفت أكمل إلى والده، وقال  بصوتٍ هادئ وحاسم.

_مش هرجع.

_مش هترجع فين؟

_القاهرة.

قال أكمل وهو ينظر حوله، وكأنه يرى البيت لأول مرة. 

مقدرش مقدرش أسيب ريحته هنا لوحدها مقدرش أقفل الباب ده وأمشي.

نظر إلى سبحة جده في يده. 

_أنا خذلته مرة سبته يموت لوحده زي ما كان خايف مش هسيبه تاني وهو ميت.

سأله والده بامتعاض

_وشغلك؟ مستقبلك؟.

قال أكمل بثقة لم يشعر بها من قبل.

_هاخد أجازة طويلة ولو رفضوا، هقدم  استقالتي.

مستقبلي الحقيقي كان هنا وأنا مش واخد بالي منصبي الحقيقي كان حفيد الراجل ده، مش وكيل نيابة.

حاول والده ان يكون هادئاً كي لا يعاند ابنه

__يا ابني الحزن في القلب، مش كل واحد هيفارق حد عزيز عليه هيعمل زيك انت.

تحدث أكمل بلهجة لا تقبل نقاش

_بابا لو سمحت سيبني براحتي.

جاءت والدته على صوتهم

_في ايه؟ ماله أكمل.

رد والده بضيق

_الاستاذ مش عايز يرجع معانا عايز يفضل هنا.

سألته والدته

_صحيح الكلام ده يا أكمل؟

رد اكمل بنفاذ صبر

_ايوة صحيح ومش عايز كلام كتير في الموضوع لأن كلمة زيادة وهسيب الشغل خالص.

تراجعت والدته لعلمها بتعند ابنها لذا سحبت يد زوجها وقالت بقلة حيلة

_لازم تسيبه لاننا لو ضغطنا عليه ممكن يعند ويسيب الشغل فعلاً 

خليه ياخد أجازة لحد ما يزهق ويرجع من نفسه

اضطر للموافقة ورحل مع زوجته تاركين أكمل يعاني من ذلك الفراق القاسي.

اتخذ قراره

سيبقى هنا، في هذا البيت، بين هذه الجدران التي تحمل صوت وضحكات وروح جده سيبقى ليحرس ذكراه، وليبحث عن نفسه من جديد، بعيدًا عن برود القاهرة وزيفها، وقريبًا من دفء الأرض والحب الحقيقي الذي كاد أن يفقده إلى الأبد.

❈-❈-❈

كانت بقايا العشاء لا تزال على الطاولة، والجميع قد انصرف إلى غرفه. 

لم يبقى في غرفة المعيشة سوى مالك وسند، يجلسان في صمت ثقيل كل منهما غارق في أفكاره.

كان مالك يراقب سند من طرف عينه. يراقبه وهو يحتسي قهوته بهدوء، يراقب ملامحه التي تبدو هادئة بشكل مقلق. 

كان مستغرباً بل مصدوماً، كيف استطاع سند أن ينسى نغم بهذه السهولة الظاهرية؟ 

كيف يتعامل مع وعد بشكل طبيعي، يتحدث معها يبتسم لها وكأنها كانت اختياره الأول والأخير؟ كيف يمكن لرجل أن يطوي صفحة حبه وعمره بهذه السرعة، وكأن شيئاً لم يكن؟

لم يعد مالك قادراً على تحمل هذا الصمت المريب. 

وضع فنجانه وسأله بحيرة ربما يخبره بما يثلج صدره

_كيف؟

نظر إليه سند باستفهام.

_كيف إيه؟

قال مالك بصوتٍ مشحون باللوم والاستغراب

_كيف جدرت تنسى نغم بالسهولة دي؟ كيف بتتعايش مع حياتك الجديدة وكأن مفيش حاچة حصلت؟ وكأنها مكنتش خطيبتك وفرحكم كان بعد يومين؟

ساد الصمت لعدة لحظات لم يرد سند على الفور أخذ نفساً عميقاً، وأشاح بنظره نحو النافذة، كأنه ينظر إلى جمر قلبه الذي حاول إخماده. 

ثم تحدث أخيراً بصوتٍ هادئ، لكنه يحمل ثقلاً وألماً أكبر بكثير من صراخ مالك.

_عشان متعودتش أكون خاين.

نظر إليه مالك بعدم فهم.

أكمل سند، وعيناه لا تزالان مثبتتين على الفراغ

_وعد ملهاش ذنب في كل اللي حوصل ده، حرام... حرام إنها تضيع أجمل أيام حياتها مع راچل عايش في الماضي، راچل قلبه مع واحدة تانية.

تنهد تنهيدة طويلة تحمل وجع سنين.

_يوم فرحنا... أني كنت حرفياً مقهور وضايع، كنت حاسس إن روحي بتتسحب مني ومش خابر هتعامل كيف مع وعد، بس أول ما بصيت في عينيها وهي بالفستان الأبيض... وشوفت الحزن اللي كانت بتحاول تداريه بابتسامة باهتة... حسيت إنها متستاهلش كل ده. 

حسيت إن الظلم اللي بيوحصلها أكبر من الظلم اللي حوصل ليا. 

هي تستاهل تتعامل إنها عروسة مرغوبة... مش مرغمة.

نظر إلى مالك لأول مرة، وفي عينيه بريق من الحقيقة المرة.

_خلاص يا مالك اللي حوصل حوصل وانتهى ونغم... اختارت غيري.

هنا، لم يستطع مالك السكوت.

_اختارت غصب عنها! أنت عارف ومتأكد إن جاسر هددها!

قاطعه سند بحركة حاسمة من يده، وبنبرة لم يتوقعها مالك أبداً.

_لأ نغم حبت جاسر.

انكر مالك بصدمة وجاء ليعارضه.

_مستحيل! أنت بتجول إيه؟

وقف سند، وبدأ يمشي في الغرفة، كأنه يحاول الهروب من ذكرياته.

_أيوه يا مالك نغم حبت جاسر من وجت اللي حوصل وهو أنقذها، ونغم بجيت واحدة تانية. 

ديماً سرحانة... ديماً شاردة حتى لما كنت أعاتبها على اللي حوصل، كنت ألاقيها بتدافع عنه من غير ما تحس.

توقف ونظر إلى مالك، وفي صوته كان هناك انكسار يحاول جاهداً إخفاءه.

_أني يوم ما روحناله... فاكر نظراتها زين. 

فاكر الحيرة اللي كانت في عينيها. 

مكنتش نظرة واحدة مخطوفة وخايفة وبس كانت نظرة واحدة بتختار بين عالمين. 

وللسبب ده أني بعدت بعدت عشان محبتش أكون الطرف الخسران في معركة محسومة.

عاد وجلس مرة أخرى، وقد بدا عليه الإرهاق فجأة.

_بعدت واتمنيت ليها إنها تجدر تغير جاسر. 

لأن اللي عرفته عنه واللي وصلني، إنه إنسان ميعرفش الحب ولا خبط على بابهم من الأساس وجولت يمكن لو نغم ادته الحب ده... يمكن... يمكن يكون إنسان تاني.

صمت سند، وحدق في يديه لم يكن يحاول إقناع مالك، بل كان يحاول إقناع نفسه. 

كان يردد هذه القصة مراراً وتكراراً في عقله، ليس لأنها الحقيقة المطلقة، بل لأنها الحقيقة الوحيدة التي تسمح له بالعيش. 

الحقيقة الوحيدة التي تبرر له تخليه، وتسمح له بأن يكون الزوج الذي تستحقه وعد. 

لقد اختار أن يصدق أن يصدق الحقيقة وأن نغم أحبت غيره، لأن تصديق أنها كانت ضحية تنتظر إنقاذه وهو لم يفعل شيئاً... كان ألماً لا يمكنه تحمله.

❈-❈-❈

في شرفة غرفة سند ووعد 

كانت ليلة مقمرة، يلقي فيها القمر ضوءاً فضياً على حديقة السرايا الغافية، ويرسم ظلالاً طويلة للأشجار. 

وقف سند متكئاً على سور الشرفة، يراقب الصمت بالخارج، لكن عقله كان أبعد ما يكون عن الهدوء. 

كلمات مالك تتردد في أذنه

كيف نسيت نغم؟

لم ينسى ويبدو أنه لن ينسى

لكن

زواجه من وعد، الذي تم على عجل بأمر من جده لمنع الفضيحة، كان مجرد إجراء شكلي في البداية. 

غرفة واحدة، وسرير واحد لكن بينهما مسافة أميال من الحواجز النفسية.

جعله يفكر فيها حقا وينشغل عن نغم.

خرجت وعد إلى الشرفة بهدوء، ترتدي ثوب نوم طويلاً وقد لفت كتفيها بشال رقيق. 

وقفت بجانبه دون أن تتكلم، وكأنها تحترم عزلته. 

لكن وجودها الهادئ أصبح مألوفاً ومريحاً له بشكل غريب.

تحدثت وعد بصوت ناعم كهمس الليل

_مش جايلك نوم؟

التفت سند إليها، وضوء القمر جعل عينيها تلمعان ببريق خاص

_الأفكار مبتخلنيش أنام.

_بتفكر في نغم؟

سألتها ببساطة، دون أثر للغيرة أو اللوم في صوتها. 

هذه القدرة لديها على تسمية الأشياء بأسمائها دون دراما، كانت أكثر ما بدأ يبهره فيها.

تنهد سند 

_بفكر فيها، وفينا... وفي كل اللي حوصل. 

حاسس إننا اتظلمنا كلنا يا وعد 

اني ونغم

أنتِ كمان اللي اتجبرتي على جوازة من واحد قلبه كان مع واحدة تانية.

ابتسمت وعد ابتسامة حزينة 

_يمكن... بس أنا مؤمنة إن كل حاجة بتحوصل لسبب، يمكن دي كانت الطريجة الوحيدة عشان أعرفك بجد.

نظر إليها بعمق، مندهشاً من نضجها. 

_تعرفيني؟ أنتِ شايفة إيه دلوجتي يا وعد؟ 

واحد مكسور ومهزوم؟

اقتربت منه خطوة، ومدت يدها بتردد لتلمس يده فوق سور الشرفة

_لأ أنا شايفة راجل جلبه كبير، وبيوجعه الظلم اللي حوصل لواحدة من عيلته. 

شايفة واحد بيحاول يلاجي نفسه من جديد وسط كل ده. 

والراجل ده... أنا فخورة إني مراته.

كلماتها الأخيرة لامست وتراً حساساً في قلبه. 

فخورة؟

لم يشعر بالفخر بنفسه منذ وقت طويل.

_إزاي بتجدري تشوفيني كل ده؟ أنا نفسي مبجتش شايفه.

سحبت يدها بخجل، لكنها أبقت عينيها في عينيه

_عشان أنا مش ببص على الكسر اللي فيك، أنا ببص على النور اللي بيحاول يطلع منه.

في تلك اللحظة، تلاشى كل شيء حولهما. 

لم يعد هناك قمر أو ليل أو حديقة. 

لم يكن هناك سوى عينيها الصادقتين، وكلماتها التي كانت كالبلسم على جرحه. 

دون تفكير، مد يده ورفع ذقنها بأطراف أصابعه، مقرباً وجهه من وجهها.

بهمس لم يكن متأكداً إن كان قد نطق به أم فكر فيه فقط

_أنتِ جميلة جوي يا وعد... جميلة بشكل يوجع الجلب.

لم تكن مجاملة عابرة، بل كانت حقيقة اكتشفها للتو. 

جمالها لم يكن فقط في ملامحها الرقيقة، بل في روحها التي تشع دفئاً وأماناً.

تجمدت وعد للحظة، وقلبها بدأ يخفق بعنف. 

رأت في عينيه شيئاً مختلفاً، شيئاً لم تره من قبل. 

لم تكن نظرة الشفقة أو نظرة ابن العم، بل كانت نظرة رجل... يرى امرأة.

انحنى سند ببطء، وألغى المسافة الأخيرة بينهما في قبلة رقيقة وحذرة لم تكن قبلة عاصفة أو شغوفة، بل كانت أشبه بسؤال صامت، يعترف فيها بضعفه، ويطلب منها الإذن ليدخل عالمها. 

استجابت له وعد بنعومة، ورفعت يدها لتستقر على صدره، وكأنها تقول له "أهلاً بك".

عندما ابتعدا، بقيت جباههما متلامسة، وأنفاسهما تختلط في هواء الليل البارد.

سند بصوت متحشرج من فرط المشاعر

_أنا آسف... آسف على كل يوم فات مكنتش شايفك فيه.

ردت وعد بابتسامة دامعة

_المهم إنك شوفتني دلوجت.

أمسك يدها وقبّلها برقة، ثم شبك أصابعه بأصابعها.

لأول مرة منذ زواجهما، لم يشعر أنها مجرد 

وعد بنت عمه التي تزوجها لإنقاذ الموقف بل شعر أنها 

وعد... زوجته

السند الذي لم يكن يعلم أنه يحتاجه، والضوء الذي بدأ يبدد عتمة روحه.

لم يترك سند يدها ظل ممسكاً بها وكأنه يخشى إن أفلتها أن يضيع منه هذا الشعور الوليد، هذا الدفء الذي بدأ يتسرب إلى روحه المتجمدة. 

جذبها برفق من يدها، لتدخل خلفه من الشرفة إلى الغرفة التي كانت تجمعهما جسداً وتفصل بينهما روحاً.

أغلق الباب الزجاجي للشرفة، فانعزل كل شيء، ولم يبقَ سوى صمت الغرفة الذي أصبح الآن مشحوناً بمشاعر مختلفة. 

لم يعد صمتاً محرجاً أو متوتراً، بل أصبح مساحة هادئة تترقب ما سيحدث.

وقف أمامها في الضوء الخافت القادم من القمر، والذي تسلل عبر زجاج الشرفة. 

كانت عيناه لا تزالان مثبتتين عليها، تكتشفان تفاصيل وجهها وكأنه يراها للمرة الأولى. 

رأى رجفة خفيفة في شفتيها، ولمعة حائرة في عينيها تجمع بين الخجل والأمل.

همس بصوت خفيض وعميق

_أنا ظلمتك يا وعد... ظلمتك لما خليتك تشاركيني غرفة واحدة وقلبي كان في مكان تاني.

هزت رأسها نافية، وصوتها بالكاد يُسمع

_أنت كنت موجوع... والموجوع مش بيتحاسب.

هذه القدرة لديها على الغفران حتى قبل أن يطلب السماح، هزته من الأعماق. 

كيف يمكن لإنسان أن يكون بهذا النقاء؟

تقدم منها خطوة أخرى، ورفع يده الحرة ليمسح دمعة هاربة تجمعت في طرف عينيها. 

تحركت أنامله برقة على خدها، وشعر بنعومة بشرتها تحته كانت لمسة مختلفة عن أي لمسة سابقة، لمسة مليئة بالاعتذار، والتقدير، وبداية شيء أعمق.

_من النهاردة... مفيش مكان تاني المكان الوحيد اللي عايز قلبي يكون فيه، هو المكان اللي أنتِ فيه.

لم تكن مجرد كلمات، بل كانت عهداً يقطعه على نفسه أمامها. 

رأى في عينيها تصديقاً ممزوجاً بدهشة سعيدة، وكأنها كانت تنتظر هذه اللحظة طوال عمرها.

لم يعد قادراً على المقاومة. 

جذبها إليه برفق من خصرها حتى التصق جسدها به شعر بارتعاشة جسدها بين ذراعيه، ووضع ذقنه على رأسها، مستنشقاً رائحة شعرها الجميلة التي تشبه رائحة الياسمين بعد المطر أحاطت وعد خصره بذراعيها بتردد، ثم تشبثت به بقوة، وكأنها وجدت مرساها أخيراً.

بقيا على هذا النحو لدقائق بدت كدهر، لا يتكلمان، فقط يستمعان إلى دقات قلبيهما التي بدأت تتناغم في إيقاع واحد. 

كان عناقاً يشفي، يمحو أياماً من الوحدة والألم. 

بالنسبة له، كان اعترافاً بأنه وجد وطنه. 

وبالنسبة لها، كان وصولاً بعد رحلة طويلة من الصبر والحب الصامت.

ابتعد عنها قليلاً، فقط ليتأمل وجهها مرة أخرى في ضوء القمر مرر إبهامه على شفتها السفلى برقة، ثم انحنى وقبلها مرة أخرى

هذه المرة، لم تكن القبلة حذرة أو مترددة

كانت قبلة عميقة، بطيئة، تحمل كل مشاعر الامتنان والشوق والوعد الذي نطق به قبل قليل. 

كانت قبلة زوج لزوجته، تعلن بداية فصل جديد حقيقي في حياتهما.

حملها سند بين ذراعيه بسهولة، فشهقت وعد بخفة وتشبثت بعنقه، ودفنت وجهها في صدره بخجل لذيذ. 

اتجه بها نحو السرير الذي طالما تقاسماه، ووضعها عليه برفق لا متناهٍ.

جلس بجانبها، وأزاح خصلة شعر تمردت على وجهها.

وقال بهمس حنون

_اسمحيلى أبدأ معاكي من جديد... بداية صوح.

لم تجب بالكلمات، بل اكتفت بأن هزت رأسها موافقة، وعيناها الدامعتان تبتسمان.

في تلك الليلة، لم ينم سند ووعد كشخصين يجمعهما سقف واحد، بل ناما كروحين وجدتا نصفهما الآخر في قلب العاصفة. 

ولأول مرة، لم يكن السرير بارداً أو واسعاً، بل أصبح أدفأ مكان في العالم.

❈-❈-❈

في غرفة روح وعدي

كانت الأيام تمر ثقيلة، متشابهة. 

كل صباح، تستيقظ روح لتجد الأريكة فارغة، مما يعني أن عدي قد غادر الغرفة قبل أن تشرق الشمس. 

وكل ليلة، كانت تتظاهر بالنوم عندما يدخل الغرفة في وقت متأخر، فتسمع خطواته الصامتة وهو يتجه مباشرة إلى منفاه الصغير على الأريكة

لم تكن هناك كلمات، لم تكن هناك حتى نظرات فقط جدار جليدي يفصل بينهما، يزداد سمكاً مع كل ساعة تمر.

في ذلك المساء، قررت روح أن تكسر هذا الصمت الخانق. 

لم تعد تحتمل العيش كشبح في غرفتها الخاصة. 

عندما دخل عدي الغرفة، كانت جالسة على كرسي قرب النافذة، تقرأ كتاباً تحت ضوء مصباح خافت. 

لم ترفع عينيها فوراً، بل منحته فرصة ليعترف بوجودها.

كالعادة، تجاهلها تماماً وضع مفاتيحه وهاتفه على طاولة صغيرة، وبدأ في خلع حذائه، مستعداً لطقسه اليومي في الانسحاب إلى الأريكة.

روح بصوت هادئ، 

_اتعشيت؟

توقف عدي للحظة، متفاجئاً من أنها تحدثه. 

لقد اعتاد على صمتها الذي ظنه استسلاماً.

رد بفتور

_ايوة.

أغلقت روح الكتاب ووضعته جانباً. 

هنا، لم تستطع روح التحمل أكثر. شعرت بقلبها ينفطر.

وبصوت مختنق بالدموع التي حاولت حبسها تحدثت

_لحد ميتى يا عدي هنفضل إكدة؟

تقدمت خطوة منه وسألته بألم

_عدي انت شايف إني استاهل منك كل التجاهل ده؟

لم يجيبها وقد شعر بوخز ضميره لكن هو أقسم الا تدخل امرأة حياته سوى نغم.

وعندما لاحظت وجومه لم تستطيع البقاء

استدارت لتغادر الغرفة، لم تعد قادرة على البقاء فيها ثانية واحدة. 

لكن يده أمسكت بذراعها فجأة. 

كانت قبضته قوية، لكنها لم تكن عنيفة.

_استني.

التفتت إليه، وعيناها الحمراوان تتحديان دموعهما. 

نظر إليها طويلاً، ولأول مرة منذ زواجهما، رأى الألم الحقيقي في عينيها. 

لم يرى فيها الزوجة المفروضة عليه، بل رأى روح، الفتاة التي كبرت أمامه، والتي كان حبها له صادقاً وواضحاً كالشمس.

شعر بوخزة حادة من الذنب.

أرخى قبضته، وصوته أصبح هادئاً 

_أنا... أنا آسف مكنش قصدي أجرحك.

كانت أول مرة يعتذر أول مرة يعترف بوجود مشاعرها.

سحبت ذراعها بهدوء

_الكلام سهل يا عدي بس الأفعال هي اللي بتثبت.

تركته وخرجت إلى الشرفة، لتتنفس هواءً نقياً بعيداً عن جو الغرفة الخانق بقي هو واقفاً في منتصف الغرفة، يشعر بفراغ أكبر من المعتاد. 

لقد بنى جداراً من الجليد حوله ليحمي نفسه من ألم خسارة نغم، لكنه اكتشف الليلة أن هذا الجدار لا يحبسه هو فقط، بل يقتل ببطء الإنسانة الوحيدة التي أحبته بصدق 

❈-❈-❈

دخل جاسر إلى الغرفة التي كانت في الأصل غرفته، والتي أصبحت الآن سجن نغم الخاص كان الجناح هادئاً، وهو قد اعتاد على هذا الصمت منذ أن ترك لها هذه الغرفة وانتقل هو إلى غرفة النوم المجاورة. 

لكنه لم يجدها، السرير كان فارغاً ومرتباً، والأريكة خالية.

للحظة، عقد حاجبيه في تساؤل، قبل أن يسمع صوت خرير الماء الخافت القادم من الحمام. 

أدرك أنها بداخله

استدار ليغادر بهدوء كما دخل، فاحترامه لخصوصيتها لم يكن نابعاً من لطف، بل من كونه هو من يضع القواعد ويقرر متى يكسرها.

لكن قبل أن يصل إلى الباب، لمح شيئاً تحت وسادتها، لم يكن مجرد بروز عادي، بل كان حافة لجهاز إلكتروني. 

توقف وداخله شعور بالفضول البارد. 

عاد بخطواته الصامتة نحو السرير، ومد يده وسحب ذلك الشيء.

كان هاتفها هاتفها القديم الذي أعاده إليه من السائق

والذي أتى معها من منزل أهلها.

أمسكه بين أصابعه، وشعر ببرودة الجهاز. 

حاول تشغيله لكن الشاشة ظلت سوداء لقد كان مغلقاً تماماً.

في تلك اللحظة، ارتسمت على شفتيه ابتسامة باهتة وساخرة، لقد فهم كل شيء، فهم الآن لماذا رفضت بأدب أخذ الهاتف الذي أرسله مع فرح. 

لم تكن ترفض وسيلة اتصال، بل كانت ترفض وسيلته هو

كانت تظن أنها بإغلاق هاتفها القديم ورفض هاتفه الجديد، تقطع كل الجسور وتعلن استقلالها داخل سجنه. يا لها من سذاجة.

سمع صوت باب الحمام وهو يُفتح، فلم يتحرك بقي واقفاً بجانب السرير، والهاتف في يده، ينتظرها.

خرجت نغم وهي تجفف شعرها بمنشفة، مرتدية ملابس منزلية بسيطة من ملابس والدته. 

تجمدت في مكانها عندما رأته، لم تكن تتوقع وجوده ثم سقطت عيناها على الهاتف الذي في يده، وشعرت بقلبها يهبط لقد كُشف سرها الصغير.

لكنها لم تظهر أي خوف رفعت رأسها، ونظرت إليه مباشرة، وسألته بالبرود الذي اعتادت أن تواجهه به.

_عايز حاچة؟

لم يعلق جاسر على الهاتف، بل أعاده ببطء إلى مكانه تحت الوسادة، وكأنه شيء تافه لا يستحق الذكر. 

تجاهله تماماً كان أبلغ من أي اتهام.

_اجهزي كمان ساعة هنخرج.

نظرت إليه باستغراب.

_نخرج؟ نروح فين؟

اتجه نحو الباب، وقال بنبرته الآمرة المعتادة دون أن يلتفت.

_هشتريلك هدوم كفاية لبس من هدوم أمي.

كانت في كلماته إهانة مبطنة، تذكير لها بأن كل ما تملكه هنا، حتى الملابس التي تسترها، هي منّة وعطية من عائلته. 

أدركت أن هذا الخروج ليس نزهة، بل هو فصل جديد من فصول فرض سيطرته، حيث سيختار لها حتى ما ترتديه.

لم تعد تملك طاقة للجدال أو الرفض. كل ما شعرت به هو إرهاق عميق.

_حاضر.

أومأت برأسها في استسلام، وهو ما كان يتوقعه تماماً خرج من الغرفة وأغلق الباب خلفه، تاركاً إياها مع شعور بالعجز، ومعرفة أن كل محاولة صغيرة للاستقلال، هو يراها، ويعرفها، وسيسحقها في الوقت الذي يراه مناسباً.

كانت شروق تقف في شرفة غرفتها بالطابق العلوي، تراقب سيارة جاسر الفاخرة وهي تتوقف أمام مدخل القصر فتحت عينيها بصدمة وغضب عندما رأت جاسر يخرج من باب السرايا ومعه نغم كانت نغم ترتدي عباءة سوداء بسيطة وحجابًا، لكن في نظر شروق كانت تبدو كملكة تخرج بصحبة زوجها فتح لها جاسر باب السيارة، ثم استقل هو مقعد القيادة وانطلق، تاركًا وراءه سحابة من الغبار وقلبًا يشتعل بنار الغيرة.

لم تنتظر شروق لحظة ركضت خارج غرفتها كالإعصار، واقتحمت جناح والدتها دون استئذان كانت أمها تجلس أمام مرآتها، تضع بعض الكريمات على وجهها.

صرخت شروق بصوتٍ عالٍ ومرتجف من الغضب.

_شفتي؟!  شفتي البيه المحترم عمل إيه؟!

نظرت إليها أمها ببرود، معتادة على نوبات غضب ابنتها. 

_صوتك يا بنت، هيحصل إيه يعني لو حد سمعك دلوجت؟

اقتربت شروق من والدتها، ووجهها محتقن بالدموع والغضب

_يسمعوا! خليهم يسمعوا ويعرفوا الكدب اللي عايشين فيه

مش أنتي اللي قولتلي اصبري؟ مش أنتي اللي قولتلي جوازته منها دي مجرد انتقام وهيرميها بعد ما يكسرها؟ مش ده كلام أبويا وكلامك؟

ردت الأم بثقة زائفة.

"وده اللي هيحصل جاسر مش هيبص في وش واحدة زي دي.

ضحكت شروق ضحكة هستيرية ساخرة. 

مش هيبص في وشها؟! أومال اللي شوفته ده كان إيه؟ خيال؟ أخَدها وخرّجها فتحلها باب العربية بإيده زي ما يكون سواق عند الهانم دي حاجة معملهاش معايا أنا

أنا خطيبته بنت عمه اللي على اسمه

وقفت الأم واقتربت من ابنتها، محاولة تهدئتها. 

_اهدي بس وفهميني يمكن رايح بيها عند دكتور؟ يمكن...

قاطعتها شروق بحدة.

_دكتور إيه وزفت إيه شفت شكله وشفت شكلها! لابسة ومتشيكة ورايحة معاه دي مبقتش جوازة انتقام، دي بقت جوازة بجد! الست هانم شكلها عرفت إزاي تلعبها صح، لفت على جاسر وعلى أمه، وبكرة تلف على البيت كله وتطردنا منه!

جلست على حافة السرير، وبدأت تبكي بقهر حقيقي. 

_وعدني يا ماما... أبويا وعدني إني هكون ست البيت ده. وعدني إنها هتكون مجرد خدامة تحت رجلي. ودلوقتي؟ دلوقتي هي الهانم اللي بتتفسح معاه، وأنا اللي قاعدة هنا زي الهبلة، بتفرج عليها وهي بتاخد مكاني وحياتي وجوزي

جلست والدتها بجانبها، وظهر الحقد الصريح في عينيها.

_أنا قولت من الأول البنت دي وشها وش فقر من يوم ما دخلت البيت ده والمشاكل مبتخلصش ... لا والست حنان ... بدل ما تقف في صفنا، واقفة في صفها هي، بتحميها وتداري عليها.

قالت شروق من بين دموعها.

عشان لقت اللي تعمل اللي هي مقدرتش تعمله لقت اللي تقف في وشك وفي وش أبويا! الاتنين اتحدوا علينا!

مسحت أمها على ظهرها، لكن لم يكن في لمستها حنان، بل كان فيها تحريض. 

_والحل؟ هتفضلي تعيطي كده وتسيبيلها كل حاجة؟

رفعت شروق رأسها، ومسحت دموعها بعنف تغيرت نظرتها من القهر إلى تصميم جليدي ومخيف.

قالت بصوتٍ بارد وحازم. 

_لا مش هسكت ومش هعيط تاني.

وقفت ونظرت إلى والدتها مباشرة، وعيناها تلمعان ببريق شرير.

_أنا كنت مستنية جاسر يكسرها ويرميها بس الظاهر إنها أفعى وبتعرف تلوّن والنوع ده... ملوش غير حل واحد.

سألت الأم بترقب.

_حل ايه؟

قالت شروق ببطء، تتلذذ بكل كلمة

_لازم تختفي، لازم أخلص منها طالما هي عايشة وبتتنفس في البيت ده، يبقى مفيش مكان ليا يا أنا... يا هي.

نظرت الأم إلى ابنتها، ورأت في عينيها قرارًا لا رجعة فيه لم تحاول أن تمنعها، بل ارتسمت على شفتيها شبه ابتسامة راضية لقد أشعلت النار، والآن ستستمتع بمشاهدة الحريق وهو يلتهم كل شيء.

•تابع الفصل التالي "رواية ثنايا الروح" الريح والغيامة" اضغط على اسم الرواية 
تعليقات