رواية ثنايا الروح "الريح والغيامة" الفصل السابع عشر 17 - بقلم رانيا الخولي

 رواية ثنايا الروح "الريح والغيامة" الفصل السابع عشر 17 - بقلم رانيا الخولي 

ثنايا الروح 

السابع عشر 

..................


مالك، كان غارقًا في حزنه الخاص، رفع عينيه والتقط نظرتها

شعر على الفور بأن شيئًا ما خطأ، رأى الانكسار خلف ابتسامتها المصطنعة، ورأى عمقًا من الألم في عينيها لم يره من قبل، لم يفهم السبب لكن قلبه انقبض من أجلها.


في تلك الأثناء، كانت وعد تحاول جاهدة أن تلعب دور الزوجة السعيدة. 

أرادت أن تظهر للجميع، ولسند على وجه الخصوص أنها راضية. 

مالت نحو روح بابتسامة ودودة، في محاولة لخلق حديث جانبي بين العروستين.

_لو سمحتي يا روح، ناوليني الطبج اللي چامبك.


وبحركة عفوية تمامًا، مدت وعد يدها وأمسكت بذراع روح لتلفت انتباهها عندما لم تجد منها رد. 

لم تكن قبضتها قوية، لكنها جاءت بالضبط فوق مكان الجرح الخفي تحت الأكمام الطويلة.


"آآه!"


انطلقت من روح صرخة ألم حادة ومكتومة، لم تكن عالية لكنها كانت كافية لتقطع الصمت المطبق على المائدة. 

سحبت ذراعها بسرعة، وظهر على وجهها تعابير الألم الحقيقي قبل أن تتمكن من إخفائها خلف قناع من الارتباك.

سألت وعد بقلق حقيقي، وهي تسحب يدها بسرعة.

_مالك يا روح؟ في إيه؟

تمتمت روح بسرعة، وهي تفرك ذراعها من فوق الفستان. 

_م... مفيش.

بس... دراعي تقريبا نايمة عليه غلط، فبيوجعني شوية، مفيش حاجة.


الجميع نظر إليهما للحظات، ثم عادوا إلى طعامهم متقبلين التفسير السطحي. 

الجميع، إلا شخصين.


عدي الذي كان يجلس بجانبها، تجمد في مكانه. 

لقد سمع صرختها وعرف مصدرها. 

شعر بوخزة من الذنب الحارق، لكنه لم يجرؤ على النظر إليها أو حتى لمسها. 

لقد كان هو سبب هذا الألم، وعجزه جعله يظل صامتًا.


ومالك.


لم يقتنع مالك بالتفسير أبدًا. 

لقد سمع الصرخة ورأى نظرة الهلع التي ظهرت في عيني روح للحظة، ورأى كيف سحبت ذراعها بطريقة دفاعية. 

لقد كانت صرخة ألم حقيقي، لا مجرد تنميل. 

شكوكه التي بدأت بنظرتها الحزينة، تعمقت الآن، شيء ما حدث لروح في ليلتها، شيء مؤلم. 

شيء لا يريد أحد التحدث عنه.


ظل يراقبها طوال فترة الإفطار، يرى كيف تحمي ذراعها، وكيف تتجنب النظر إلى زوجها، وبدأ لغز جديد ومقلق يتشكل في ذهنه، لغز يضاف إلى كل الألغاز والأحزان التي تحيط بعائلته.


ما إن انتهت وجبة الإفطار المشحونة، وبدأ الجميع في التفرق، حتى نهض مالك بهدوء واتجه نحو عدي.

_عدي عايزك في كلمة على انفراد.


قال بنبرة هادئة لكنها لا تقبل الرفض.

نظر إليه عدي بوجه خالٍ من التعبير، ثم أومأ برأسه بصمت وتبعه. 

لم يتبادلا كلمة واحدة وهما يصعدان الدرج، كل منهما غارق في أفكاره. 


دخل مالك إلى غرفته، وأشار لعدي بالدخول، ثم أغلق الباب خلفهما عازلاً إياهما عن بقية العالم.


وقف مالك في منتصف الغرفة، ويداه داخل جيبه وعيناه مثبتتان على عدي بنظرة حادة وفاحصة.

_إيه اللي حصل لروح؟

سأل مباشرة دون أي مقدمات.


رفع عدي حاجبيه بتصنع للدهشة. _جصدك إيه؟ محصلش حاچة.


قال مالك بحدة، وقد بدأ صبره ينفد. _متستعبطش يا عدي أنا شوفتها على الفطار وشوفت صرختها لما وعد مسكت دراعها. 

الصرخة دي مش صرخة واحدة دراعها نامت عليه دي صرخة ألم ألم بجد.


اقترب منه خطوة، وخفض صوته إلى نبرة اتهام واضحة.

_أنت عملتلها إيه امبارح؟


صمت عدي وأشاح بوجهه بعيدًا، ينظر من النافذة إلى أي شيء سوى عيني مالك هذا الصمت وهذا الهروب زادا من شكوك مالك وأشعل غضبه.

_كنت جاسي معاها مش إكدة؟

واصل مالك الضغط عليه، وهو يفسر صمت عدي بطريقته الخاصة، بناءً على ما يعرفه عن قسوة الرجال في مثل هذه المواقف. 

_فاكر إنك لما تفرغ فيها غضبك من اللي حصلنا، ده هيريحك؟ هي ذنبها إيه في كل ده؟ دي مرتك، أمانة في رجبتك مش كيس ملاكمة تطلع فيه قهرك!


كانت كلمات مالك كالسياط، كل كلمة تجلد عدي وتصيب الهدف، ولكن ليس بالطريقة التي يظنها مالك.

لقد اتهمه بالقسوة في العلاقة، بينما الحقيقة كانت أقسى وأكثر إذلالاً الحقيقة هي أنه لم يقربها من الأساس، بل جرحها بيده ليزيف علاقة لم تحدث. 

هذا الاتهام الخاطئ كان أكثر إهانة من الحقيقة نفسها.


استدار عدي فجأة وواجهه، وعيناه تشتعلان بمزيج من الألم والغضب والدفاع عن النفس.

_أنت مش فاهم حاچة!

صرخ في وجهه. 

_مش فاهم أي حاجة خالص!

رد مالك بنفس الحدة. 

_أفهم إيه؟!

أفهم إنك بدل ما تطبطب عليها وتكون سندها في يوم زي ده، كنت بتعذبها؟ أفهم إنك حولت ليلة فرحها لجحيم؟

انفجر عدي، وقد وصل إلى حافة الانهيار. 

_أيوة! عملت إكده!

كنت جاسي وكنت زفت وعذبتها ارتحت إكده؟ ده اللي أنت رايد تسمعه؟


كانت كلماته اعترافًا صريحًا، لكنها كانت أيضًا درعًا يخفي خلفه الحقيقة الأكثر إيلامًا. 

لقد فضل أن يظهر في عيني مالك كزوج قاسٍ، على أن يظهر كزوج عاجز جبان، لم يستطع حتى أن يمنح زوجته حقوقها الشرعية لأنه غارق في حبه لامرأة أخرى.


نظر مالك إليه بصدمة وخيبة أمل. 

لم يكن يتوقع هذا الاعتراف الصريح تراجع خطوة إلى الوراء، وهو يهز رأسه بأسف.

_أنا مش مصدج، أنت مش عدي اللي أعرفه أنت اتغيرت.


_كلنا اتغيرنا يا مالك. 

قال عدي بصوت مكسور، وقد خفت حدته فجأة وحل محلها يأس عميق. 

_البيت ده كله اتغير ومبجاش فيه حد بريء.


استدار عدي واتجه نحو الباب. _سيبني في حالي يا مالك، وسيب روح في حالها، دي حياتنا إحنا، ومحدش له صالح بيها.


خرج من الغرفة وأغلق الباب بقوة، تاركًا مالك واقفًا في مكانه، يشعر بمزيج من الغضب والشفقة والعجز. 


لقد تأكد من أن روح تتألم، لكنه أدرك أيضًا أن عدي يتألم هو الآخر، وأن الجرح الذي يجمع هذين الاثنين أعمق وأكثر تعقيدًا مما كان يتخيل. 

وأدرك أن مهمة حماية روح أصبحت الآن أصعب بكثير.


❈-❈-❈


استيقظت نغم على شعور غريب بالأمان لم تعهده منذ أيام كانت مستلقية في حضن أم جاسر التي يبدو أنها قضت الليل كله جالسة بجانبها على الفراش شعرت بثقل في جفونها ورأسها من أثر البكاء الطويل الذي استنزف كل طاقتها. 

تحركت قليلًا، فشعرت بها أم جاسر وفتحت عينيها على الفور، وتطلعت إليها بابتسامة دافئة وحنونة، ابتسامة كانت كأول شعاع شمس بعد ليلة عاصفة.

_صباح الخير يا نغم.


ردت نغم بصوت مبحوح وجاف من شدة البكاء، صوت بالكاد خرج من حنجرتها.

_صباح النور.


قامت أم جاسر بهدوء، وحركاتها كانت تحمل وقارًا وحنانًا.

_جومي بقى، أحضرلك الحمام، وأجيبلك هدوم من عندي تلبسيها، لحد ما أبعت البت فرح تنادي لأم سعيد تنجي منها اللي أنتِ رايداه.


انتبهت نغم في تلك اللحظة إلى أنها لم تغير ملابسها منذ أن جاءت إلى هذا المكان المشؤوم. 

ملابس الجامعة التي شهدت انهيار عالمها لا تزال تلتصق بجسدها شعرت بالخجل والضيق، وقالت بامتنان خافت.

_تعبتك معايا.


ابتسمت أم جاسر بود حقيقي، وربتت على يدها.

_تعبك راحة يا غالية جومي بقى اتحممي، الماية السخنة هتريح جسمك.


وافقت نغم بصمت لم تكن تملك طاقة للرفض ولأول مرة، شعرت بأنها لا تريد أن ترفض لطف هذه المرأة.

دلفت إلى المرحاض الفسيح، ووقفت تحت زخات الماء الساخن، وأغمضت عينيها، متمنية لو أن الماء يستطيع أن يزيل عنها ما عانته، أن يغسل روحها من بصمات القهر والمهانة.


في الخارج، أحضرت لها أم جاسر ملابس نظيفة من ملابسها الخاصة، عباءة منزلية بسيطة ومحتشمة، وطرحة قطنية ناعمة كانت كل حركة تقوم بها تحمل رسالة صامتة: 

"أنا هنا. أنا أفهم ما انتى فيه أنتِ في أمان معي".


وأثناء وجود نغم في المرحاض، انفتح باب الجناح فجأة. 

عاد جاسر كان قد عاد لتوه من سفر قصير اضطر إليه، وقد ظهر عليه الإرهاق بوضوح 

كانت عيناه محمرتين، وذقنه غير حليقة، وملابسه مجعدة دلفت والدته خلفه، متفاجئة بعودته في هذا الوقت المبكر.

_جاسر! حمد لله على السلامة يا ولدي.


التفت إليها وفي لحظة، ذاب قناع الجليد الذي يرتديه دائمًا، وظهرت لهجة دافئة لا تظهر إلا لها.

_الله يسلمك يا أمي.


عاد بنظره لداخل الغرفة، عيناه تمسحان المكان تبحثان عنها لم يجدها سأل والدته بصوت عاد لبروده المعتاد.

_هي فين؟

دلفت والدته وهي تحمل الملابس المطوية بعناية.

_بتتحمم جوه.


أشارت على الملابس التي في يدها، وقالت.

_أني جبتلها هدوم من عندي، لحد ما تجيب لها أنت ولا أخلي فرح تجيب أم سعيد تنجي منها اللي يريحها.


ابتسم جاسر ابتسامة خفيفة عند ذكر "أم سعيد"، تلك البائعة المتجولة التي تأتي إلى منزلهم منذ سنوات، وتبيع ما يناسب عمر والدته وزوجة عمه.

_لا، أني هتصرف وأجيب لها النهاردة.


نظر حوله، ثم قال وهو يخلع سترته ويرميها على أقرب مقعد.


_أني هدخل الحمام التاني أتحمم فيه هاتيلي هدومي هناك.


أومأت والدته، وعيناها تلمعان بحب لا حدود له لابنها الوحيد.

_من عينيه يا غالي.


انصرف جاسر إلى غرفة والدته المجاورة، بينما طرقت هي على باب المرحاض برفق.

_نغم... افتحي خدي الهدوم يا بتي.


فتحت نغم الباب بحذر، وأخرجت يدها فقط لتأخذ الملابس، ثم أغلقت الباب مرة أخرى، دون أن ترى أن من كان سبب مأساتها قد عاد، وأنه الآن على بعد أمتار قليلة منها، يفصل بينهما جدار واحد فقط.


خرجت نغم من المرحاض، كانت قد ارتدت العباءة البسيطة التي أحضرتها لها أم جاسر، والتي كانت تفوح منها رائحة  هادئة بسيطة.

شعرت بأنها إنسانة مختلفة عن تلك التي دخلت قبل قليل، جسدها كان أكثر استرخاءً، لكن روحها كانت لا تزال جريحة.

وجدتها في انتظارها، وقد أعدت لها كوبًا من اللبن وبجانبه طبق فايش على صينية صغيرة ابتسمت لها بحنان.

_تعالي يا بتي، اقعدي نشفي شعرك.


جلست نغم بصمت على طرف السرير، وأخذت منها الكوب ويداها ترتجفان قليلًا. 

بدأت أم جاسر في تجفيف شعرها بفوطة ناعمة، بحركات بطيئة وحنونة، حركات أمومية كانت نغم في أمس الحاجة إليها.

_بصراحة كان نفسي في بت اهتم بها وتهتم بيا واعمل معها زي ما بعمل دلوجت، بس نصيبي من الدنيا أخرج بإبن واحد.


ساد الصمت لعدة دقائق، لم يكن صمتًا محرجًا بل كان صمتًا مريحًا، كهدنة قصيرة في حرب طويلة حتى انتهت من تمشيط خصلاتها

ثم تحدثت بهدوء، وصوتها كان دافئًا كلمساتها وهي تجعل نغم تستدير إليها 

_عارفة إن الكلام دلوجت تجيل على جلبك، وعارفة إنك شايلة منه ومن الدنيا كلها.


لم ترد نغم، لكنها شعرت بغصة في حلقها.

تابعت أم جاسر، وكأنها تقرأ أفكارها.

_جاسر ولدي، وأنا أدرى الناس بيه طبعه واعر زي ما عمه الله يسامحه رباه، راسه يابسة واللي يحطه في دماغه لازم يعمله مهما كان التمن.

عشان إكدة، عايزة أجولك كلمتين تحطيهم حلجة في ودنك الكلمتين دول هما اللي هيخلوكي تعيشي أهنه.


كانت نغم تستمع، وقلبها يخفق بترقب.

_إياكِ... إياكِ تجفي جصاده.


قالتها بنبرة جادة، خالية من أي تهديد بل كانت نصيحة خالصة.

_جاسر عامل زي السيل، لو وجفتي في وشه، هيشيلك ويكسرك، هو بيستمد قوته من العناد والمقاومة كل ما تعاندي، كل ما هيزيد في جسوته عشان يثبت لنفسه إنه الأقوى وهو دايمًا لازم يكون الأقوى.


صدمت نغم من هذا الكلام هل تطلب منها أن تكون جارية؟ أن تمحو شخصيتها؟ رأت أم جاسر الحيرة والرفض في عينيها، فابتسمت ابتسامة حكيمة وتابعت.

_أني مخبراش إنك هتفهميني غلط. 

أني مش بجولك خليكي ضعيفة، بالعكس أنا بجولك خليكي ذكية ذكية أكتر منه.

مالت عليها قليلًا، وخفضت صوتها كأنها تبوح لها بسر.

_طاوعيه لما يطلب حاچة، اعمليها

لما يجول يمين، جولي يمين 

لما يجول شمال، جولي شمال. 

اجتلي چواه الوحش اللي بيتغذى على العناد. 

لو طاوعتيه في كل حاچة، مش هتديله الفرصة إنه يحس بجوته عليكي، لإنك ببساطة مش بتديله معركة عشان ينتصر فيها.

نظرت نغم إليها بعدم فهم.

_كيف يعني؟


_يعني لما يلاجيكي مش بتجاومي، هيبطل يهاجم

لما يلاجيكي هادية ومطيعة، سلاحه اللي هو الجسوة هيبجى ملوش لازمة وجتها بس، هيبدأ يشوفك أنتِ مش هيشوف فيكي بنت أعدائه اللي لازم يكسرها. 

وجتها بس هتبدأي أنتِ اللي تسيطري، بهدوئك، مش بعنادك هتكوني زي الماية هادية وساكنة، بس قادرة تفتتي الصخر على مهل.


كانت نصيحة معقدة، وفلسفة غريبة في التعامل مع طاغية. 

كانت أم جاسر تطلب منها أن تخوض حربًا نفسية، لا حربًا مباشرة. 

أن تنتصر بالاستسلام الظاهري لا بالمواجهة الخاسرة.


صمتت نغم، تحاول استيعاب هذا المنطق هل تستطيع فعل ذلك؟ هل تستطيع أن تقتل كبرياءها وتطيع الرجل الذي دمر حياتها، على أمل أن تنتصر في النهاية؟


ربتت أم جاسر على يدها مرة أخرى.


_أنتِ دلوجت مرته، وده قدرك

يا تجبليه وتحاولي تنجي منيه، يا ترفضيه وتفضلي طول عمرك في حرب معاه، وحرب معاه؛ أنتِ بس اللي هتخسريها. 

فكري في كلامي زين يا بتي فكري زين.

.....


خرج جاسر من غرفة الأخرى بعد أن أبدل ملابسه، مرتدياً جلباباً منزلياً مريحاً بلون داكن زاد من هيبته. 

توجه إلى جناحه كعادته ودخل دون استئذان كأنه يقتحم قلعة يملكها

توقع أن يجد والدته بجانبها لكنه وجد نغم تجلس وحدها على حافة الفراش، ظهرها مستقيم، ويداها متشابكتان في حجرها بهدوء غريب.


توقف للحظة، عيناه تمسحان الغرفة، ثم استقرتا عليها. 

سألها بفتوره المعتاد صوت خالٍ من أي عاطفة.

_أمي فين؟


ردت نغم بهدوء واستسلام، صوتها كان متساوي النبرة، لم يحمل تحدياً ولا انكساراً.

_بتحضر الفطار تحت.


ضيق عينيه الجليديتين بشك هذا الهدوء لم يكن طبيعياً أين ذهبت الفتاة التي كانت تصرخ وتنهار بالأمس؟ أخذ ينظر إليها بنظرات ثاقبة، يحاول أن يخترق قناعها لكنه لم يرى سوى استسلام حقيقي لم يستوعبه هل هو سلاح جديد تستخدمه ضده؟ فلتتحمل إذن عواقب لعبتها.


قال بسخرية لاذعة، محاولاً استفزازها.

_وأنتِ بجا، مستنية أمي تعملك الوكل وتجيبه لحد عندك؟


ردت على نفس وتيرة استسلامها، دون أن ترفع عينيها من على نقطة ثابتة على الأرض.

_لا أني كنت نازلة أساعدها.


قطب جبينه بحيرة وهو يراها تقوم بهدوء وتتجه نحو الباب حركتها كانت بطيئة، لكنها لم تكن مترددة.

_رايحة فين؟


توقفت عند الباب، واستدارت نحوه بجسدها فقط، وقالت بنفس الهدوء القاتل.

_رايحة أساعدها، في حاچة تاني؟


تأكد الآن هذا سلاحها الجديد هذا الهدوء ليس استسلاماً، بل هو شكل من أشكال الحرب الباردة

حسناً إذا كانت تريد أن تلعب، فهو سيضع قواعد اللعبة.

_في كلمتين لازم تعرفيهم جبل أي شيء.


تقدم منها خطوة، وسد عليها طريق الخروج اضطرت لرفع رأسها والنظر إليه.

_المفروض إنك دلوجت مرتي. والمفروض برضك، إنك تبجي مسؤولة عن كل حاچة تخصني، وتخص أمي يعني مينفعش أكون متچوز وآكل من يد الشغالين، ولا واحدة منهم تنضف أوضتي أو مكتبي، وحتى هدومي.

صمت للحظة وعيناه لم تفارق عينيها، يبحث عن أي ردة فعل.

_واللي أنتِ مخدتيش بالك منيه...


أشار برأسه إلى باب جانبي كبير، لم تكن قد انتبهت له من قبل.


_إن ده جناح، مش أوضة، فيه أوضة تانية وحمام تاني، ومطبخ تحضيري صغير. 

كل ده هيكون مسؤول منك أنتِ من النهاردة، فرح أو غيرها ممنوع يدخلوا الجناح ده إلا بإذني مفهوم؟


كان ينتظر منها أن تعترض، أن تنهار، أن تصرخ لكنها فقط أومأت برأسها إيماءة خفيفة، وقالت بصوت خفيض.

_مفهوم.


ثم تنحت جانباً، منتظرة أن يفسح لها الطريق 

حيرته تحولت إلى غضب مكبوت لقد سلبت منه متعة رؤية انكسارها تنحى هو عن الباب بحدة، وتركها تخرج.


...........


عندما دخلت نغم المطبخ السفلي على أم جاسر، سألتها بحيرة

_نغم، ايه اللي نزلك من اوضتك.

_بنفذ اللي جولتي عليه، طلب مني اعمل الفطار

ابتسمت ونس بروية

_عين العقل، تعالي بجا اجعدي اهنه و فرح هتعمل الفطور.

رفضت بإصرار

_لأ انا محتاچة اتوه شوية خليني اساعدكم.


كان جاسر يجلس على رأس طاولة الإفطار الضخمة بمفرده، يحتسي قهوته السوداء ويتصفح هاتفه.

 رفع عينيه عندما دخلتا كانت نظرته فاحصة، مرت على والدته بامتنان صامت، ثم استقرت على نغم كصقر يراقب فريسته.


رأى فيها شيئًا مختلفًا

لم تكن نظرة التحدي الساذج التي رآها في الجامعة، ولا نظرة الانكسار المهين التي رآها بالأمس. 

كانت عيناها هادئتين، لكنه كان هدوءًا فارغًا، كهدوء ساحة معركة بعد انتهاء القتال. 

لم تعد هناك مقاومة لكن لم يكن هناك استسلام حقيقي أيضًا كان هناك... قبول  ولكنه قبول بارد للواقع، قبول كان أكثر استفزازًا من أي تمرد.


جلست بصمت على الكرسي الذي أشارت إليه أم جاسر، وبدأت في تناول طعامها ببطء، دون أن تنظر إليه

كان يشعر بأنه يراقب شبحًا، جسدًا يتحرك ويأكل، لكن روحه ليست هنا وهذا الهدوء هذا الصمت، كان يثير جنونه أكثر من أي صراخ.

لقد بدأت حرب الأعصاب، وكان عليه أن يعترف ولو لنفسه فقط أن خصمه ليس بالضعف الذي كان يتوقعه.


في تلك اللحظة، دخلت شروق، متألقة كعادتها، وعلى وجهها ابتسامة نصر مصطنعة.

_صباح الخير يا جماعة صباح الخير يا... حبيبي.

قالت الكلمة الأخيرة ببطء وتلذذ، وهي تنظر إلى نغم من أعلى إلى أسفل، ملاحظة ملابسها البسيطة التي لا تليق بفتاة بسنها


لم ترد نغم، ولم ترفع عينيها من طبقها الفارغ هذا التجاهل التام كان أكثر إثارة للغضب من أي رد.

_إيه ده يا مرت عمي هي محدش من أهلها بعتلها حتى هدمه تلبسها.

قبل أن ترد أم جاسر، جاء صوت جاسر حادًا وقاطعًا كالسيف دون أن يرفع عينيه عن طبقه

_شروق صوتك عالي على الصبح.


تجمدت شروق في مكانها، وابتلعت بقية كلماتها كانت رسالته واضحة

"النقاش انتهى" 


لأول مرة، شعرت نغم بشيء غريب لم يكن امتنانًا، بل كان إدراكًا

إدراك أن حمايتها الوحيدة في هذا البيت بشكل مفارق، هي سلطة الرجل الذي دمر حياتها هو الوحيد الذي يستطيع أن يلجم الأفاعي الأخرى.


❈-❈-❈


قضى أكمل بقية الليلة مع جده، يتحدثان في شتى الأمور، محاولاً أن يملأ صمت المنزل بوجوده قدر الإمكان لكن مع بزوغ الفجر، حان وقت الرحيل نهض أكمل وبدأ في جمع أغراضه القليلة، وشعر بثقل يضغط على صدره مع كل حركة.


كان جده يراقبه في صمت من على كرسيه، ووجهه يحمل تعبيرًا من الحزن الهادئ.

_ما تخليك يا ولدي... يومين كمان.

قال الجد بصوتٍ فيه رجاء خفي. 

_البيت بينور بوجودك يومين بس يطمنوا جلبي لحد ما ترچع تاني.


توقف أكمل ونظر إلى جده، وشعر بقلبه يتمزق. 

_يا ريت يا جدي... يا ريت أقدر أنت عارف شغل النيابة، مفيش فيه يوم زيادة لازم أكون في مكتبي بكرة الصبح بدري.


تنهد الجد تنهيدة طويلة، وأشاح بوجهه نحو النافذة التي بدأت تستقبل ضوء الصباح الباهت.

_عارف يا ولدي... عارف ربنا يقويك.

ثم صمت للحظة، وأضاف بصوتٍ خافت كاد يكون همسًا، 

_بس أني بخاف، بخاف يجي أجلي وأنت بعيد عني، بخاف أغمض عيني للمرة الأخيرة ومشوفش وشك جدامي.


كانت هذه الكلمات هي المطرقة التي حطمت رباطة جأش أكمل.

لقد عبر جده عن أعمق مخاوفه بصراحة مؤلمة، وهذا الخوف انتقل فورًا إلى قلب أكمل. 

فكرة أن يأتيه خبر وفاة جده وهو بعيد عنه في القاهرة، فكرة أن يفوّت فرصة توديعه، كانت فكرة لا تطاق.


جلس أمامه على ركبتيه، وأمسك بيد جده المجعدة والباردة.

_يا جدي، عشان خاطري عشان الخوف ده اللي في قلبي وقلبك تعالى معايا القاهرة والله لأشيلك في عنيا هتبقى وسطينا، ومش هتبقى لوحدك لحظة واحدة لا بالليل ولا بالنهار.


هز الجد رأسه ببطء وعناد، وابتسامة حزينة ارتسمت على شفتيه.

_مجدرش يا أكمل مجدرش أسيب أرضي لو طلعت من ٱهنه، يبقى طلعت روحي معايا هنا ريحة أبوك وهو صغير، وهنا ذكرياتي مع جدتك، وهنا قبري اللي جنب قبرها ده مكاني يا ولدي.


نظر في عيني حفيده بحب عميق. _متجلجش عليا، ربنا كريم وهو اللي بيحدد الميعاد والمكان.


أدرك أكمل أنه يخوض معركة خاسرة عناد جده وحبه لهذه الأرض أقوى من أي خوف لم يكن أمامه سوى الاستسلام للواقع المرير.


نهض وانحنى وقبّل يدي جده وجبينه _هتوحشني يا جدي.


_وأنت كمان يا قلب جدك خلي بالك من نفسك، ومتنساش تتصل تطمني عليك كل يوم.


_أوعدك.

قال أكمل وصوته متحشرج. 

_وأوعدك أول ما آخد إجازة طويلة، هجيلك على طول وهقعد معاك أسبوع بحاله.

_مستنيك يا ولدي.


حمل أكمل حقيبته الصغيرة، وسار نحو الباب بخطوات ثقيلة عند الباب، التفت وألقى نظرة أخيرة على جده، الجالس في كرسيه، يبدو صغيرًا وهشًا في ضوء الصباح

لوّح له بيده، وخرج وأغلق الباب خلفه، تاركًا قطعة من قلبه في ذلك المنزل الصغير.


ركب سيارة الاجرة التي اتى بها حسان الذي لم يرتاح له مطلقاً،

يعرف انه يهتم بجده لكنه أيضاً يشعر بأن وراه سر، 

القى نظرة اخيرة على المنزل وانطلق على الطريق الطويل العائد إلى المطار، وكلمات جده الأخيرة ترن في أذنيه: "بخاف أموت لوحدي". 

شعر بقلق عميق ينهش روحه، ودعا من كل قلبه أن يطيل الله في عمر جده حتى يتمكن من الوفاء بوعده والعودة إليه مرة أخرى.


❈-❈-❈


خرج عدي من غرفة مالك، وأغلق الباب خلفه بهدوء حاسم لكن هذا الهدوء كان مجرد قشرة خارجية تخفي بركانًا من الغضب والعجز والارتباك. 

ترك وراءه صمتًا مدويًا، وكلمات اعتراف قاسية ألقاها في وجه أخيه، كلمات كانت بمثابة إعلان حرب على ضعفه الشخصي.


لم يعد إلى جناحه لم يستطع مجرد التفكير في مواجهة روح الآلم كان كافيًا لشل حركته. 

كيف سيواجه عينيها؟ تلك النظرات الفارغة التي أصبحت مرآة للخراب الذي أحدثه كيف سيواجه صمتها الذي كان أعلى من أي صراخ؟


بدلًا من ذلك، نزل الدرج بخطوات سريعة وعصبية، وتوجه إلى حديقة المنزل الخلفية بعيدًا عن الأضواء والعيون جلس على مقعد حجري منعزل تحت شجرة زيتون قديمة، أغصانها الملتوية تشبه روحه المعقدة كان الهواء باردًا، لكنه لم يشعر به كل حواسه كانت مركزة على العاصفة التي تدور في رأسه.


أخرج هاتفه، وشاشة الهاتف المضيئة كانت النور الوحيد في ظلامه بدأ يبحث في جهات الاتصال، وعقله يعمل بسرعة محمومة، يقفز من فكرة إلى أخرى، من خطة إلى خطة، كل واحدة أكثر تهورًا من سابقتها.


"لازم أكلم أكمل... هو وكيل نيابة، أكيد يعرف ثغرة في القانون... ثغرة تخلّي العقد ده باطل أي حاجة... تزوير، إكراه... لازم يكون فيه مخرج."


مرر إصبعه بسرعة على الأسماء، ثم توقف.


"لا... القانون بطيء، والوقت بيجري. يمكن حد من رجالتنا اللي في البلد التانية... اللي ليهم شغل مع التهامية لازم أعرف أي معلومة عن البيت اللي هي فيه مين بيحرسه، مين بيدخل، مين بيخرج لازم أعرف نقطة ضعفهم."


كان غارقًا تمامًا في مهمته لإنقاذ نغم لقد تحولت نغم في عقله من مجرد ابنة عمه التي يجب حمايتها، إلى قضية شخصية، إلى مهمة مقدسة كانت هي مهربه المثالي مهربه من مواجهة الخراب الذي أحدثه في حياته وحياه روح.


كل دقيقة يقضيها في التخطيط لإنقاذ نغم كانت دقيقة لا يضطر فيها للتفكير في الجرح الذي حفره في ذراع روح، أو الجرح الأعمق الذي غرسه في قلبها. 

كل مكالمة يجريها كانت تصرخ في وجه نفسه:

"أنا لست فاشلاً! أنا رجل أفعال! أنا أحمي عائلتي!". 

كان يحاول أن يثبت رجولته في ساحة معركة بعيدة، لأنه فشل في إثباتها في ساحة المعركة الأقرب والأهم: بيته.


كان تفكيره خاطئًا ومتهورًا. 

لم يفكر في العواقب لم يفكر في أن أي حركة غبية قد تضع نغم في خطر أكبر، أو تشعل حربًا حقيقية بين العائلتين. 

كان مدفوعًا بالأنا المجروحة والغيرة المكبوتة والرغبة في الظهور كبطل، البطل الذي لم يستطع أن يكونه في عيون زوجته.


نظر إلى شاشة هاتفه مرة أخرى، وضغط على رقم أحد رجاله الموثوقين في البلدة المجاورة والذي يقوم بمساعدته.


"اسمعني زين..." بدأ يتحدث بنبرة آمرة، يلقي بالتعليمات، ويرسم الخطط كان يشعر بالقوة، بالسيطرة

لكنها كانت قوة زائفة، وسيطرة وهمية كان كمن يحاول إطفاء حريق ضخم في بيت جاره، بينما بيته هو يحترق من الداخل، وهو من أشعل فيه النار بيديه.


***


في الطابق العلوي، وقف مالك في غرفته مصدوماً، كمن تلقى لكمة قوية أطاحت به أرضاً، اعتراف عدي الصريح والبارد كان كالصخرة التي أُلقيت في مياه هادئة، أحدثت تموجات عنيفة من الغضب والأسف والارتباك. 

لم يستطع أن يصدق أن عدي، أخاه الهادئ الحنون، يمكن أن يتحول إلى هذه النسخة القاسية التي تتحدث عن تعذيب زوجته وكأنه أمر عادي.


كل ما فكر فيه هو "روح". 

كيف قضت ليلتها؟ كيف تحملت تلك القسوة؟ وكيف ستعيش أيامها القادمة مع رجل يعترف ببرود أنه "عذبها"؟


لم يستطع الجلوس مكتوف الأيدي. 

دفعه شعور قوي بالمسؤولية والحماية، غريزة قديمة لحماية المرأة التي أحبها بصمت، نهض، ومشى خطوتين نحو الباب، ثم توقف.

 إلى أين سيذهب؟ وماذا سيفعل؟ هل سيواجه أخاه؟ هل سيحاول التحدث مع روح؟


مرة أخرى، جلس على حافة سريره عاجزاً، يضرب بقبضته على فخذه في إحباط صامت. 

لقد أدرك الحقيقة المرة، الجرح أعمق مما تصور، روح لم تعد مجرد ضحية تنتظر الإنقاذ. 

لقد أصبحت باعتراف عدي نفسه، حارسة لسجنها. 

هي التي تدافع عن هذه العلاقة السامة أمام الجميع.


لم يعد يعرف من يجب أن يحمي، ومن يجب أن يلوم. 

هل يلوم أخاه على قسوته، أم يلوم روح على صمتها الذي يحميه؟ كل ما عرفه هو أن هذه العائلة تتهاوى، وأن الأسرار التي تختبئ خلف الأبواب المغلقة أشد فتكًا من أي عداوة معلنة.


في غرفة عدي وروح


في نفس اللحظة، دخلت روح إلى غرفتها وحيدة. 

ما إن أغلقت الباب خلفها، حتى سقط قناع السرور الهادئ الذي كانت ترتديه طوال اليوم. 

استندت بظهرها على الباب الخشبي، كأنها تبحث عن أي شيء صلب يمنعها من الانهيار. 

ثم انزلقت ببطء على الأرض، وضمت ركبتيها إلى صدرها، وانفجرت في بكاء صامت ومكتوم، بكاء يهز جسدها دون صوت. 

كانت تبكي على كرامتها التي تدافع عنها بأسنانها، وعلى الكذبة الكبيرة التي أُجبرت على حمايتها للحفاظ على ما تبقى من سلام هش.


وسط دموعها، لم تستطع منع عقلها من المقارنة.


تذكرت نظرات "سند" لـ "وعد" خلال الفرح. 

كانت نظراته تحمل ثقلاً حزناً، ومسؤولية. 

كان ينظر إليها كشريكة في حمله، كرفيقة في معركة فرضت عليهما. 

كان هناك احترام في عينيه، اعتراف ضمني بالألم المشترك. 

كان زواجهما مبنياً على أنقاض، لكنهما كانا يقفان معاً وسط هذه الأنقاض، يعترفان بوجودها.


ثم تذكرت نظرات "عدي" إليها. 

كانت نظراته مختلفة تماماً، لم تكن تحمل حزناً، بل كانت تحمل ضيق. 

لم يكن يراها شريكة بل يراها ابتلاء،  

كانت نظراته حادة، تخترقها، تذكرها في كل لحظة أنه ليس لها، وأن ما يحدث بينهما في الغرفة المغلقة هو سرهما وحدهما، حربهما الخاصة التي لا يجب أن يراها أحد.


سند ووعد كانا ضحيتين للظروف، يحاولان بناء شيء من لا شيء.

أما هي وعدي، فكانا في مسرحية متقنة. 

هو المخرج القاسي، وهي الممثلة المطيعة التي تؤدي دور الزوجة السعيدة أمام الجمهور، بينما في الكواليس، تعيش تحت رحمته وتقلباته.


مسحت دموعها بقوة. 

أدركت في تلك اللحظة أن وضعها أسوأ بكثير من وضع وعد. 

فوعد تعرف الظروف والماضي. 

أما هي فلا.

نهضت عن الأرض، ونظرت إلى انعكاسها في المرآة. 

رأت امرأة لا تعرفها، امرأة ذات عينين متعبتين، وابتسامة زائفة جاهزة للاستخدام. 

وتساءلت في رعب صامت: إلى متى ستستطيع الاستمرار في هذه التمثيلية قبل أن تنهار وتكشف كل شيء؟ أم أنها ستفقد نفسها تماماً وتتحول إلى مجرد ظل، مجرد صدى لما كانت عليه يوماً ما؟


❈-❈-❈


جناح سند ووعد..


عندما أُغلق باب جناحهما، ساد صمتٌ كثيف لكنه لم يكن صمتًا عدائيًا، بل كان صمتًا مليئًا بالترقب والحذر

وقفت وعد في منتصف الغرفة، وثوبها الأبيض الهادئ يبدو كشبح من الماضي، وقلبها يخفق بترقب وخوف.


سند بوقاره المعتاد، واجهها مباشرة، مدركًا ثقل اللحظة ومسؤوليته تجاهها.


_وعد..

بدأ بصوت هادئ وعميق، 

_أنا عارف إن دي مش الطريجة اللي كنا بنحلم بيها. 

وعارف إن جلوبنا فيها وجع وحزن على اللي حصل بس إحنا دلوجتي جدام الأمر الواقع.

تقدم نحوها خطوة، وعيناه تحملان صدقًا ومسؤولية. 

_إحنا دلوجت بجينا متزوچين. ومجدرش أبدأ حياتي معاكي على كدبة

الماضي مش هيتمحي، بس نجدر نختار إنه ميكسرش مستجبلنا

نجدر نبني حاچة حجيجية من وسط كل الخراب ده.


كانت كلماته عملية، لكنها كانت أيضًا محترمة لم يعدها بالحب الذي لا يملكه، لكنه وعدها بالاحترام والبداية الصادقة.


نظرت إليه وعد، ورأت في عينيه الرجل الذي طالما حلمت به، رجل شريف يحاول فعل الصواب حتى في أصعب الظروف أدركت أن هذه هي فرصتها إما أن تظل أسيرة دور "البديلة"، أو أن تكون شريكته في بناء هذا الجسر.

قالت بصوت خافت لكنه ثابت.

_وأنا كمان رايدة أبدأ بداية حقيقية 


ابتسم سند ابتسامة خفيفة، كانت الأولى الحقيقية في ذلك النهار

كانت ابتسامة تحمل ارتياحًا وامتنانًا.


كان هناك سؤال يؤلمها، سؤال يجب أن تسأله لتستطيع أن تتنفس، لتستطيع أن تكون زوجته بالكامل.


همست باسمه بصوت خفيض، كأنها تخشى إيقاظ وحش نائم.

_سند...


نظر إليها بحنو، بعينين تحملان دفئًا جديدًا لم تعهده من قبل

كان ينتظر حديثها بصبر، مستعدًا لسماع أي شيء ورغم ترددها، رغم خوفها من ردة فعله، إلا أنها قالتها أخيرًا، الكلمة التي كانت معلقة في حلقها.

_نغم...


في لحظة، تحولت نظراته الهادئة إلى قناع جليدي، نظرة مبهمة احتارت في تفسيرها. 

رأت فيها غضبًا مكبوتًا وألمًا عميقًا، وحسمًا قاطعًا

تجمدت في مكانها وندمت على أنها تحدثت لكن سند، رغم الغضب الذي شعر به عند سماع اسمها، رأى الخوف في عينيها، وفهم أنها لا تسأل لتلومه، بل لتطمئن. 

فتحدث بروية بصوت هادئ لكنه كان يحمل قوة الفولاذ.

_نغم اختارت جحيمها بإيديها وكسرتنا كلنا قدام التهامية ومن يومها، وهي بجت خارج حياتي.


همت بالمعارضة، أرادت أن تدافع عن عنها، أن تقول له إنها أُجبرت لكنه منعها بحركة رقيقة وحاسمة وضع أنامله على شفتيها، وأسكتها.


_ششششش مش عايز كلام تاني في الموضوع ده، لأنه اتجفل معاي.


جذبها إليه برفق، يقربها منه حتى أصبحت أنفاسهما تختلط. 

تطلع بعمق في عينيها، وقال بصدق هز كيانها.


_من وجت ما وافجت على چوازي منك، شيلت كل الحسابات من دماغي أني مش خاين عشان أكون متجوز واحدة وأفكر في غيرها، حتى لو كانت من دمي، نغم بنت عمي، ولو احتاجتني في يوم، هكون ضهر تتسند عليه غير كدة لا

أنتِ مرتي يا وعد، وأنتِ وبس اللي ليكي كل اهتمامي وحياتي.


أراحها حديثه لم يمحُ قلقها على أختها، لكنه طمأنها بأن نغم لم تعد وحدها بالكامل، وأن سند رغم غضبه لن يتخلى عن واجبه كابن عم لها 

والأهم من ذلك، أنه أكد لها مكانتها في قلبه، مكانة لم تكن تحلم بها.


قرّبها سند إليه أكثر، حتى التصق جسدها به مال عليها، وقبلها قبلة كانت مختلفة تمامًا عن أي شيء مضى لم تكن قبلة واجب، بل كانت قبلة تحمل في طياتها بداية جديدة، اعترافًا صامتًا بوجودها، ورغبة حقيقية في اكتشافها.


توجه بها إلى الفراش كانت هذه المرة عكس الليلة الماضية تمامًا في المرة السابقة، كان هناك حاجز غير مرئي بينهما، كان كل منهما يؤدي دورًا

أما الآن، فقد انهار الحاجز كانت لمساته حقيقية، تحمل شغفًا وحنانًا كان ينظر إليها كأنه يراها للمرة الأولى، يكتشف تفاصيل وجهها، نعومة بشرتها، لمعان عينيها.


لم تكن تقضية واجب، بل كانت استكشافًا، كان كل منهما يستكشف الآخر، ويبحث عن ملاذ في حضنه من عواصف الخارج كان هناك شيء جديد يولد بينهما في تلك اللحظة، شيء لا هو ولا هي يعرفان كنهه بعد، لكنهما شعرا به شعرا بأن هذه الليلة ليست مجرد ليلة في زواج مرتب، بل هي الفصل الأول في قصة لم تُكتب بعد، قصة قد تحمل في طياتها حبًا لم يكن في الحسبان.

كانت ليلة زفافهما الثانية، لكنها كانت الأولى حقًا 

في الليلة الماضية، كان كل شيء ضبابيًا، مجرد طقوس باهتة يؤديانها كواجب اجتماعي، وقلوبهما كانت في مكان آخر. 

أما الآن فكانت الغرفة هادئة والأضواء خافتة، ولم يكن هناك سوى هما الاثنان وعبء الأسئلة التي لم تُطرح بعد.


كانت تشعر بأنها تغرق في نعومة الحرير، لكن قلبها كان مثقلًا بحجر كانت سعيدة بقربها من سند، سعيدة بشكل لم تجرؤ على الاعتراف به حتى لنفسها لكن سعادتها كانت منقوصة، يطاردها شبح تلك التي تركت خلفها فراغًا مؤلمًا. 


❈-❈-❈


في المساء جلس سالم في شرفة غرفتهما، يحدق في الظلام بشرود وكوب الشاي في يده قد برد تمامًا كان جسده هنا، لكن عقله وروحه كانا في مكان آخر، في تلك السرايا التي تسجن ابنته، يتخيل كل تفصيل مؤلم تخبره به "فرح" في تقاريرها اليومية التي أصبحت كجرعات السم.


خرجت ورد من الغرفة، وقد ارتدت رداءً خفيفًا فوق ملابس نومها

رأته جالسًا وحيدًا، وشعرت بقلبها ينقبض لأجله اقتربت منه بهدوء، ووضعت يدها على كتفه لم يلتفت، لكنه ربت على يدها برفق.

جلست على الكرسي المجاور له، وقالت بصوت حنان.

_لسه صاحي يا سالم؟ مش هتنام؟ انت منمتش طول الليل.


تنهد سالم تنهيدة عميقة، خرجت من أعماق روحه المعذبة.

_النوم مجافيني يا ورد كيف أنام وبتي هناك معرفش حالها إيه؟


_ربنا معاها يا حبيبي ربنا كبير ومش هيسيبها.


صمت ساد المكان للحظات، لم يقطعه سوى صوت اصوات الليل. 

كانت ورد تراقبه ترى خطوط القهر والتعب محفورة على وجهه لكن كان هناك قلق آخر يؤرقها، قلق جديد بدأ ينمو في قلبها.

_سالم...

تطلع إليها 

_خير يا ورد؟


ترددت قليلًا، ثم قالت بصوت خفيض.

_أني حاسة إن في حاجة مش طبيعية بين روح وعدي.


التفت إليها سالم أخيرًا، وقطب حاجبيه.

_مش طبيعية كيف يعني؟


_مخبراش. 

بس... حاسة إنهم بعاد عن بعض عدي الصبح خرج من البيت، عارف يعني ايه عريس يطلع يوم صبحيته، ولما رجع كان مكشر ومبيكلمش حد. 

وروح... روح دبلانة يا سالم الفرحة مطفية في عينيها النهاردة شوفتها قاعدة على الفطار مكسورة، سرحانة وباين عليها الهم

وعدي كان جاعد جانبها ده مش حال عرسان لسه في أول أيامهم.


كان سالم يستمع إليها، وكل كلمة كانت تضيف حملًا جديدًا فوق الحمل الذي ينوء به. 

هو نفسه كان مذبوحًا من الداخل بسبب الأخبار التي تصله عن نغم، عن رفضها للطعام، عن بكائها الصامت عن انكسارها الذي ينقله له جاسر عمدًا. 

لم يكن لديه القدرة على تحمل مشكلة أخرى، كارثة جديدة تلوح في الأفق.


أجبر نفسه على رسم ابتسامة باهتة، وحاول أن يطمئنها، وكأنه بذلك يطمئن نفسه.

_يا ورد يا حبيبتي، أنتِ بس اللي جلجانة زيادة. 

اللي حصل لنغم كسرنا كلنا، أكيد أثر عليهم عدي طبعه حامي، وأكيد غيرته على بنت عمه واكلاه وروح متعلقة بنغم جوي، طبيعي تكون زعلانة عشانها. 

اديهم بس شوية وقت، وهتلاقيهم أحسن من السمن على العسل.


لم تقتنع ورد تمامًا، حدسها كأم كان يصرخ بأن هناك ما هو أعمق من ذلك.

_ياريت يا سالم ياريت يكون إحساسي غلط قلبي مش مستحمل وجع تاني.


مد سالم يده وأمسك بيدها، وضغط عليها برفق.

_متخافيش كله هيبجى زين المهم دلوجت ندعي لنغم ربنا يقويها ويصبرها.


نظر إلى الظلام مرة أخرى، وعاد عقله إلى ابنته الأسيرة كان يطمئن زوجته، بينما هو نفسه كان يغرق في بحر من العجز كل همه، كل تفكيره، كان منصبًا على إيجاد طريقة، أي طريقة، لينقذ بها نغم من جحيمها، حتى لو كان الثمن هو حياته لم يكن يعلم كيف، لكنه أقسم في سره أنه لن يتركها فريسة لهم طويلًا.


❈-❈-❈


•تابع الفصل التالي "رواية ثنايا الروح" الريح والغيامة" اضغط على اسم الرواية 

تعليقات