رواية ثنايا الروح "الريح والغيامة" الفصل الخامس عشر 15 - بقلم رانيا الخولي

 رواية ثنايا الروح "الريح والغيامة" الفصل الخامس عشر 15 - بقلم رانيا الخولي 

ثنايا الروح 

الفصل الخامس عشر 

..........................

كانت الحديقة الخلفية لمنزل الرفاعي غارقة في الظلام إلا من ضوء القمر الباهت الذي كان يتسلل بين أغصان الأشجار العتيقة. 

وقف عدي هناك وحيداً كشبح، يذرع الممر الحجري ذهاباً وإياباً، والهاتف في يده كأنه قطعة من الجليد لم يستطع البقاء في الداخل، حيث الأجواء مشحونة بصمت ثقيل واستعدادات زائفة لفرح أشبه بمأتم.

كانت عيناه تحملان بريقاً غريباً، بريقاً لا يشبه حزن أبيه أو غضب سند المكسور

كان بريقاً هادئاً، حاداً، ومخيفاً بريق رجل يرى ما لا يراه الآخرون، ويفكر في لعبة مختلفة تماماً عن تلك التي يلعبونها في الداخل.

لم يكن يفكر في 

"شكل العيلة" أو "كلام الناس". 

هذه المفاهيم بدت له تافهة وساذجة في مواجهة ما حدث. 

هو لم يرى في ما حدث هزيمة، بل رآه تغييراً في قواعد اللعبة وجاسر التهامي بكل جبروته، قد فتح باباً لم يكن يجب أن يُفتح أبداً.

توقف عن المشي فجأة، ورفع الهاتف إلى أذنه. 

لم يكن ينتظر مكالمة، بل كان هو من يبادر بالاتصال 

ضغط على رقم لم يكن مسجلاً باسم، مجرد سلسلة من الأرقام المحفوظة في ذاكرته.

رنة واحدة، ثم جاء صوت من الطرف الآخر. لم يتحدث عدي، بل استمع فقط. كان الصمت من جانبه أبلغ من أي كلام.

بعد لحظات، تحدث عدي أخيراً، بصوتٍ منخفض وحيادي، صوت لا يحمل أي عاطفة، وكأنه يقرأ قائمة مشتريات.

_عملت ايه؟

.....

_لا مش عايز أي أذى جسدي.

قالها ببرود، ثم أضاف جملة غامضة جعلت نواياه أكثر إبهاماً.

_الخوف أداة أجوى من الألم خليه يعرف إن كل حاچة بيحبها ممكن تختفي في أي لحظة، خليه يحس بنفس الإحساس.

أنهى المكالمة دون كلمة وداع.

لم يكن يخطط لقتل أو مواجهة. 

خطته كانت أكثر دهاءً، وأكثر خطورة. 

هو لن ينقذ نغم بالطريقة التي يتوقعها الجميع. 

هو سيفعل شيئاً يقلب الطاولة على جاسر نفسه، شيئاً يجعله يدرك أن خطف فتاة من عائلة الرفاعي لم يكن انتصاراً، بل كان أكبر خطأ ارتكبه في حياته.

استدار عدي واختفى في الظلام، تاركاً وراءه سؤالاً واحداً معلقاً في الهواء: ما الذي ينوي فعله؟ ومن هو الشخص الذي كان يتحدث معه على الهاتف؟

❈-❈-❈

كانت كلمة "قتلته" لا تزال تتردد في أذني نغم بينما العالم من حولها يضيق ويتحول إلى نفق مظلم لا نهاية له. 

لم تستطع أن ترمش ولم تستطع أن تتنفس. 

كانت تحدق في وجه جاسر تبحث عن أي أثر لكذبة لأي مزحة مريضة، لكنها لم تجد سوى حقيقة قاسية ومرعبة. 

لقد أصبح هذا الوحش زوجها رسمياً قبل ساعات.

رأى جاسر الصدمة وهي تشل ملامحها، ورأى الرعب وهو يجمد الدم في عروقها. 

لم يشعر بالرضا، بل شعر باللامبالاة

كانت هذه هي قوانين عالمه، والآن بعد أن أصبحت زوجته، كان عليها أن تتعلمها بسرعة.

مد يده ببطء نحو وجهها جفلت نغم وتراجعت للخلف، فاصطدم ظهرها بمسند الأريكة الصلب. 

لم يعد لديها مكان آخر لتهرب إليه

تجاهل جاسر رد فعلها وأكمل حركته، لكنه لم يلمسها بدلاً من ذلك، التقط خصلة شعر تمردت وخرجت من تحت حجابها، وأعادها برفق إلى مكانها. 

كانت لمسته خفيفة، لكنها حملت ثقل تهديد مميت.

همس بصوتٍ هادئ ومخيف

_شفتي؟

أني بحافظ على حاجتي كويس جوي ومبحبش حد يلمسها غيري."

كانت كلماته تحمل معنى مزدوجاً، هو لم يقتل السائق لأنه تهجم عليها، بل لأنه تجرأ ولمس "ملكيته". 

لم يكن الأمر يتعلق بحمايتها، بل بحماية ممتلكاته.

أخيراً وجدت نغم صوتها، لكنه خرج متقطعاً ومبحوحاً بالرعب. 

_أ... أنت... أنت وحش.

ابتسم جاسر ابتسامة باهتة، خالية من أي دفء. 

_ممكن بس الوحش ده هو اللي بجيتي تحملي اسمه خلاص. 

وهو الوحيد اللي هيحميكي في الدنيا دي هيحميكي من الكل... حتى من نفسك.

استقام في وقفته وبدأ في تزرير قميصه ببطء، فاردًا جسده القوي في استعراض متعمد للقوة والسيطرة.

لم يعد هناك باب ليخرج منه ويغلقه لقد انتهى وقت التهديدات البعيدة، وبدأ واقع العيش معه.

اتجه نحو السرير الضخم، ورفع الغطاء الحريري الرمادي بحركة واحدة سلسة.

_ده سريري ومبحبش حد يشاركني فيه.

ثم أشار برأسه نحو الأريكة التي تجلس عليها دون أن ينظر إليها مباشرة.

_مكانك هناك على الكنبة.

كانت كلماته صفعة غير متوقعة لم تكن تتوقع منه رحمة أو حباً، لكنها أيضاً لم تتوقع هذه الإهانة الصريحة مؤكداً على مكانتها الحقيقية في هذا المنزل: مجرد سجينة، غنيمة حرب، وليست زوجة.

وقفت نغم، وشعرت بدمها يغلي

الكره الذي شعرت به نحوه تحول إلى غضب ناري.

_وأني مستحيل أنام في أوضة واحدة مع واحد جاتل.

رفع الغطاء عن الفراش ليستلقي عليه وقال بعدم اكتراث

_حاليًا ده آمن مكان ليكي وأنصح بلاش تتحديني لأن محدش هيخسر غيرك.

ثم أضاف ببرود قاطع، وهو يطفئ المصباح الذي بجانبه، ليغرق جانبها من الغرفة في شبه ظلام:

"بس لو سمعت صوت نفسك بعد دلوجت، أو حسيت إنك بتفكري تعملي أي حاچة غبية... افتكري السواج. 

وافتكري إن بنت عمك وأهلك هما اللي هيدفعوا التمن بعده.

أعطاها ظهره، وسحب الغطاء عليه متجاهلاً وجودها تماماً.

بقيت نغم واقفة في الظلام، تشعر بالبرد والإهانة والغضب يعصفون بداخلها. 

لقد أجبرها على الزواج منه، ثم حكم عليها بالنوم على أريكة كخادمة منبوذة. 

أدركت في تلك اللحظة أن حربه معها لن تكون حرب جسد، بل حرب لإذلال الروح. 

وهو قد بدأ للتو في الاستمتاع بفصولها الأولى.

انتظرت نغم في الظلام، كل حواسها متيقظة، تستمع إلى إيقاع أنفاس جاسر وهو يغرق في نوم عميق على الأريكة في زاوية الغرفة

لقد أصر على النوم في نفس الغرفة، كحارس سجن يراقب سجينته. 

كان كل نفس يأخذه بمثابة عد تنازلي للحظة التي ستخاطر فيها بكل شيء.

عندما تأكدت من أنه نام تمامًا، تحركت بخفة الأشباح انزلقت من على السرير، وقدماها الحافيتان لا تصدران أي صوت على الأرضية الباردة. 

وصلت إلى حقيبتها ، وأدخلت يدها المرتجفة حتى لمست أصابعها برودة هاتفها الذي خبأته بعناية. 

كانت تلك القطعة الصغيرة من المعدن والزجاج هي حبل نجاتها الوحيد، وصلتها الوحيدة بالعالم الذي سُحبت منه.

تسللت نحو الشرفة، وفتحت الباب الزجاجي ببطء لا نهائي، تتجنب أي صوت قد يوقظ الوحش النائم. 

ما إن خرجت إلى هواء الليل البارد، أغلقت الباب خلفها وشعرت بأنها تستطيع التنفس لأول مرة منذ ساعات.

بأصابع ترتجف كأوراق الخريف بحثت نغم عن اسم "روح" في جهات الاتصال كان هذا هو الخيط الأخير الذي يربطها بعالمها القديم وعليها أن تتأكد هل قُطع هذا الخيط بالفعل أم أن كل ما قاله جاسر كان مجرد لعبة أخرى من ألعابه النفسية السادية. 

ضغطت على زر الاتصال ووضعت الهاتف على أذنها وقلبها يدق بعنف حتى كاد يكسر أضلاعها. 

كل رنة كانت كالأبدية صدى لفراغ يتربص بها.

على الجانب الآخر في منزل الرفاعي الذي كان يومًا منزلها.

دخلت روح غرفتها كطيفٍ حزين، كان البيت كله يضج باستعدادات زائفة لفرح لا روح فيه، لكن غرفتها كانت ملاذها الوحيد للحداد، نظرت إلى فراش نغم الفارغ وشعرت بحنين جارف يمزق صدرها، كيف يمكن أن يكون مكان أختها فارغاً وبارداً هكذا.

استلقت عليه ودفنت وجهها في وسادة نغم تستنشق رائحتها المتبقية كأنها آخر أثر من وجودها، وهنا انهار السد بكت كما لم تبكِ من قبل، لم يكن بكاءً هادئاً بل نحيباً عميقاً وموجوعاً بكاءً يشبه بكاءها يوم وفاة أبيها.

فاليوم مات شيء بداخلها مرة أخرى، لقد فقدت أختها توأم روحها التي انشغل الجميع عنها في دوامة الحفاظ على المظاهر.

"نغم" 

رددت اسمها بلوعة أرهقتها وازداد نحيبها حتى اهتز جسدها بالكامل.

وسط دموعها لم تنتبه في البداية لاهتزاز هاتفها بيد مرتعشة أمسكته على أمل يائس أن يكون "مالك" أو أي شخص يحمل خبراً لكن ما إن رأت اسم 

"نغم"

يضيء الشاشة حتى توقف قلبها للحظة ثم قفز إلى حلقها، شهقت وجلست في فراشها بسرعة البرق تمسح دموعها بعنف وتجيب بصوتٍ هو مزيج من اللهفة والخوف والهمس كأنها تخشى أن يكون حلماً.

_نغم؟

بمجرد أن تسلل صوت أختها الدافئ إلى أذنها، شعرت نغم بسد منيع داخلها يبدأ في التصدع والانهيار، صوت روح كان حقيقياً يحمل حناناً فقدته ومختلفاً تماماً عن البرود القاتل الذي يحيط بها، أغمضت عينيها بقوة محاولة حبس طوفان الدموع

_روح أنا....

انقطع صوتها وخانتها شهقة بكاء مكتومة لم تستطع إكمال الجملة

شعرت روح بوجع أختها عبر الأثير وكأنه سكين يخترق قلبها هي

_نغم حبيبتي فيكي إيه هو هو عملك حاچة أذاكي.

سألت بقلق محموم

حاولت نغم التوقف عن البكاء وأخذت نفساً عميقاً ومتقطعاً

_متخافيش عليا بس طمنيني أمي كيفها؟

قالت روح بحزن عميق

_مبطلتش عياط من وجت اللي حصل قاعدة زي اللي تايها منها روحها

مسحت نغم دمعة غادرة

_طمنيها وجوليلها إني بخير خليكي چانبها ومتسيبهاش

أومأت روح وكأن نغم تراها

_متخافيش بس انتي خلي بالك من نفسك.

ثم سألتها نغم بأمل التكذيب بصوتٍ خافت كأنه سر مؤلم

_صحيح.....صحيح اللي جالوه إن سند كتب كتابه على وعد

ساد صمت طويل وموجع على الخط لم تستطع روح الإجابة فهربت إلى الصمت الذي كان في حد ذاته إجابة مدوية.

أخذت نغم نفساً عميقاً ومريراً وشعرت ببرودة جليدية تزحف إلى أطرافها لقد تأكدت الشائعة، همست بصوتٍ أجش

_يعني حجيجي؟

هيعملوا الفرح بكرة هيجوزوا وعد لسند

لم تستطع روح إخفاء الوجع في صوتها وهي تجيب

_آه يا نغم حجيجي، جدك وعمامك جالوا لازم الفرح يتم عشان كلام الناس عشان يحفظوا شكل العيلة.

هنا لم تعد نغم قادرة على التحمل انزلقت دمعة حارقة على خدها دمعة واحدة تحمل كل مشاعر الخذلان والوحدة في العالم

_يحفظوا شكل العيلة؟

همست بسخرية مؤلمة وضحكت ضحكة قصيرة خالية من أي مرح ضحكة تشبه البكاء

_يحفظوه على حسابي وعلى حساب وعد؟ بالسهولة دي باعوني بالسرعة دي ولقوا لي بديل؟

بدأت روح تبكي في صمت على الطرف الآخر من الخط

_غصب عنيهم يا نغم، والله غصب عنيهم، محدش هنا جادر يفتح بقه.

البيت كله عامل زي ما يكون فيه ميتم بس لابسين وش الفرح، ووعد وعد حبست نفسها في أوضتها من امبارح ومبتكلمش حد.

كل كلمة كانت مسماراً جديداً يُدق في نعش علاقتها بهم لم تعد تشعر بالغضب بل بحزن عميق لا قرار له وبخيبة أمل هائلة جعلت كل ما فعله جاسر يبدو تافهاً لقد تأكدت الآن من كل شيء لم يتخلوا عنها فحسب بل محوها استبدلوها وأكملوا الحياة وكأنها لم تكن.

_روح..

قالت نغم بصوتٍ مبحوح لكنه الآن يحمل برودة وقوة غريبة قوة من وُلد من رحم اليأس

_اسمعيني زين، متجوليش لحد إني اتصلت أبدًا واحذفي المكالمة دي.

توسلت روح بيأس

_نغم استني، هنعمل إيه أنا مش هسيبك كده.

ردت نغم وفي صوتها كان هناك استسلام جليدي وقرار نهائي.

_مفيش حاچة تتعمل خلاص

أنا طريجي بجى معروف بس أنتم حاولوا تعيشوا.

_نغم أرجوكي.....

لكن نغم أنهت المكالمة، لقد قطعت الخيط الأخير بنفسها

أسندت ظهرها على الحائط البارد للشرفة والهاتف ينزلق من يدها المرتعشة نظرت إلى الظلام أمامها وشعرت بأنها هي نفسها أصبحت جزءًا من هذا الظلام، لقد تأكدت من الحقيقة والحقيقة كانت أقسى وأكثر إيلامًا من أي تهديد نطق به جاسر. 

هو سجن جسدها لكن أهلها قتلوا روحها وفي تلك اللحظة اتخذت قرارها لم تعد نغم الرفاعي لقد ماتت تلك الفتاة ومن الآن فصاعداً ستمحوهم من قلبها وذاكرتها تماماً كما محوها هم من حياتهم، لقد كانت وحيدة بالفعل والآن أصبحت حرة من حبهم الذي خذلها.

بأقدام واهنة خطت لداخل الغرفة، فتنصدم بذلك الذي يقف أمامها بعينين ثابتتين بهما وميض لم تراه من قبل

لكن الرؤية اختفت فجأة حين شعرت بدوار جذبها لعالم بعيد تماماً عن عالمهم.

لم تعد لديها القدرة على التحمل أكثر من ذلك.

لذا رحبت بظلام دامس يجذبها بعيدًا عن عالمهم القاسي.

❈-❈-❈

كان سالم يجلس في بهو بيته الفسيح، لكن المكان بدا له ضيقًا كقبر

كان الصمت يلف كل شيء، صمت ثقيل لا يقطعه سوى صوت عقارب الساعة التي كانت تدق كالمطارق على رأسه، تذكره بكل لحظة تمر ونغم بعيدة عنهم، في عرين عدوهم. 

كان يمسك بهاتفه في يده، يقلبه بين الحين والآخر، ينتظر لم يكن يعرف ماذا ينتظر بالضبط ربما معجزة، ربما خبرًا يريح قلبه، أو ربما الكارثة التي يتوقعها.

فجأة، اهتز الهاتف في يده رأى رقمًا غريبًا على الشاشة، لكن قلبه انقبض شعر بأن هذا هو الاتصال الذي كان يخشاه وينتظره في آن واحد أجاب بصوت أجش.

_السلام عليكم.

جاءه صوت فتاة خائف ومتردد من الطرف الآخر.

_وعليكم السلام الحاج سالم بيه؟ أني... أني فرح، الخدامة اللي في سرايا التهامي.

اعتدل سالم في جلسته، وتمسّك بالهاتف بقوة.

_أيوه يا بتي في حاجة؟ نغم زينة؟

صمتت فرح للحظات، وكأنها تجمع شجاعتها لتقول ما يجب أن تقوله ثم تحدثت بسرعة، بصوت خفيض كأنها تخشى أن يسمعها أحد.

_هي... هي مخرجتش خالص من الأوضة من ساعة ما رجعت من عندكم.

شعر سالم بقلبه يهبط.

_وكلت؟

_لا يا بيه رفضت الوكل والست  ونس بعتتلها وكل تاني برضك رفضته. جالتلي خدي الوكل ومش عايزة حاجة.

أغمض سالم عينيه بألم ابنته التي كان يتحايل عليها لتأكل لقمة زائدة، الآن تجوّع نفسها عمدًا.

طيب هي... هي بتعمل إيه؟ حالها كيف؟

ترددت فرح مرة أخرى، ثم قالت بصوت يملؤه الأسف.

_ لما دخلت عندها الأوضة، كانت مكسرة حاجات بسيطة، والفرش متبهدل كانت بتعيط يا حاج ولما جولتلها إنك موصيني عليها، حسيت إنها اتضايجت أكتر.

كل كلمة كانت سكينًا يغرس في قلبه يستطيع أن يتخيلها الآن، وحيدة في تلك الغرفة الغريبة، تحارب حزنها وغضبها بتحطيم الأشياء، تبكي بصمت حتى لا تسمعهم صوت انكسارها ويشعر بالعجز

عجز رهيب ومقيت يلتهم روحه هو سالم الرفاعي، الذي كان يستطيع أن يحرك الجبال من أجلها، يقف الآن مكتوف الأيدي، لا يملك سوى أن يستمع إلى تقرير عن عذاب ابنته عبر الهاتف.

_في حاجة تانية حوصلت؟

سأل بصوت بالكاد كان مسموعًا وهنا جاءت الطعنة الأقوى.

_جاسر بيه... هو اللي جالي أكلمك.

اتسعت عينا سالم بصدمة.

_كيف يعني؟

_هو اللي أمرني أجولك كل حاچة.... كل حاچة بتحصل معاها لما سمعني بكلمها عليك، وسمحلي أبلغك بكل حاچة بتحصل عادي

هو... هو عايزك تعرف.

هنا فهم سالم كل شيء لم تكن هذه مكالمة للاطمئنان كانت هذه جلسة تعذيب نفسي، خطط لها جاسر ببرود شيطاني هو لا يريد فقط أن يسجن نغم، بل يريد أن يجعلهم سجناء معها، يشاركونها كل لحظة من ألمها وهم عاجزون عن فعل أي شيء يريد أن يذيقهم نفس القهر الذي تشعر به.

شعر سالم بغصة حارقة في حلقه، وبغضب عارم يغلي في دمه، لكنه غضب مشلول، لا يستطيع أن يفعل به شيئًا لو كان جاسر أمامه الآن، لقتله بيديه لكنه بعيد، وهو هنا، لا يملك سوى أن يستمع.

أنهى المكالمة دون أن ينطق بكلمة أخرى وضع الهاتف بجانبه، وظل جالسًا في مكانه، يحدق في الفراغ لم تعد الساعة تدق، بل كان يسمع صوت بكاء نغم في أذنيه يرى صورتها وهي تحطم الأشياء، يرى انطفاء روحها في عينيها.

وضع رأسه بين يديه، وشعر لأول مرة في حياته بمعنى العجز الحقيقي ليس عجز القوة أو المال، بل عجز الأب الذي لا يستطيع أن يحمي ابنته، 

الذي لا يستطيع أن يمسح دمعتها، 

الذي لا يستطيع أن يضمها إلى صدره ويخبرها أن كل شيء سيكون على ما يرام لأنه يعلم في قرارة نفسه، أن لا شيء سيكون على ما يرام بعد الآن.

❈-❈-❈

_نغم...

أصوات خافتة، وكأنها آتية من بئر عميق، تنادي باسمها

شعرت بوخز حاد في ذراعها آلمها قليلًا، ثم بيد حانية تمسك بيدها تربت عليها بلطف، كأنها تحثها على العودة من ذلك الظلام البارد الذي سقطت فيه.

_أمي...

تمتمت بالكلمة، ظنًا منها أنها تستيقظ أخيرًا من ذلك الكابوس المريع الذي أرهقها، وأنها ستجد وجه والدتها الحنون أول ما تراه.

فتحت عينيها بتثاقل كانت الرؤية ضبابية، والأشكال غير واضحة، حركت عينيها بوهن، تحاول تمييز الوجوه.

_روح...

_حمد لله على سلامتك يا بنتي.

لم يكن صوت والدتها، ولا صوت زوجة عمها كان صوتًا غريبًا، يحمل دفئًا لم تتوقعه في هذا الكابوس.

_نغم... سامعاني؟

بدأت الرؤية تتضح أمامها رويدًا رويدًا، حتى ظهرت أمامها امرأة في منتصف العمر، وجهها طيب الملامح، وبجانبها فتاة شابة ترفع يدها لتجس نبضها.

_الحمد لله، فاقت يا مرت عمي.

لم تفهم نغم شيئًا من شدة الدوار الذي كان يهاجمها تمتمت بضعف، وصوتها كان بالكاد مسموعًا.

_أني... أني فين؟

_أنتِ في بيت جوزك يا بنتي.

أغمضت نغم عينيها بألم حارق إذن، ما عاشته كان حقيقة، ولم يكن كما ظنت. لم يكن كابوسًا ستستيقظ منه، بل واقعًا ستعيشه كل يوم.

قالت الفتاة الشابة، التي يبدو أنها طبيبة.

_الحمد لله، الضغط اتظبط شوية.

نظرت نغم إليها، فوجدت امرأة صغيرة السن، وجهها هادئ ومبتسم، لا ينتمي أبدًا لتلك العائلة الجاحدة ذات الوجوه القاسية.

دلفت فرح وهي تحمل صينية عليها طبق حساء ساخن، فأخذته منها الطبيبة.

_متشكرة يا فرح روحي نامي أنتِ، تعبناكي معانا.

قالت فرح بصدق.

_تعبك راحة يا ست الدكتورة المهم إن ست نغم بخير.

خرجت فرح، وجلست الطبيبة بجوار نغم على طرف السرير.

_اسنديها يا مرات عمي، عشان أسقيها الشوربة دي.

هزت نغم رأسها برفض، وتمتمت بوهن.

_مش... عايزة.

قالت أم جاسر، التي كانت تجلس على الجانب الآخر.

_مينفعش يا بنتي، أنتِ وجعتي من طولك عشان معدتك خاوية لازم تاكلي أي حاچة عشان تجويكي.

ظلت نغم على رفضها، عيناها مغمضتان بعناد فقالت الطبيبة بمزاح لطيف.

_لاا، دي شكلها مبتجيش بالذوق زي جوزها.

وضعت الصينية على الطاولة، وعادت لنغم، ووضعت الوسادة خلف ظهرها رغم تمنعها.

_يلا، اتسندي على المخدة عشان تاكلي.

أجبرتها بلطفها وإصرارها على تناول بضع ملاعق من الحساء الساخن، الذي بدأ يعيد الدفء إلى جسدها البارد.

_أحب بقى أعرفك بنفسي أنا زينة، بنت عم جاسر متجوزة وعايشة مع أهل جوزي، ومخلفة ولدين.

كانت زينة تتحدث كي تشغلها عن التفكير، وتجعلها تتناول طعامها دون أن تشعر.

قالت أم جاسر.

_اسمها زينة، وهي زينة أول ما جاسر خبرها، جات مع جوزها طوالي.

_معقول يا مرات عمي أتأخر عن مرات جاسر؟ أنتِ خابرة غلاوته عندي، وأكيد مرته هتكون بنفس غلاوته.

سخرت نغم في نفسها من مدحها لذلك الحاقد، وكأنها تتحدث عن شخص آخر، شخص لم يظلم ولم يقهر. 

عندما لاحظت زينة نظرة الحزن العميقة في عيني نغم، أشفق قلبها عليها، فهي تعلم جيدًا مدى قسوة ابن عمها عندما يريد.

أبعدت نغم الملعقة بعيدًا وهي تقول.

_خلاص... شبعت مش قادرة تاني.

قالت أم جاسر.

_أنتِ مكلتيش حاجة يا بنتي.

ردت نغم بإرهاق.

_صدقيني، شبعت.

حملت زينة الصينية وهي تنهض، قائلة.

_خلاص معلش يا نغم، مضطرة أروح دلوقت عشان الولاد نايمين لوحدهم، ومردتش أصحي حماتي وأقلقها.

_كتر خيرك يا بنيتي، تعبناكي.

حملت زينة حقيبتها.

_لو احتاجتوني، كلموني على طول أول ما المحلول يخلص، اعملي زي ما قولتلك يا مرت عمي.

نظرت لنغم.

_المحلول ده هيخليكي تنامي، والصبح إن شاء الله هتكوني كويسة بعد إذنكم.

جذبت أم جاسر الغطاء على نغم، وقالت بحنان أمومي حقيقي.

_نامي دلوجت، والصبح هتكوني زينة.

شعرت نغم بالألفة معها، ألفة لم تكن تتوقعها، قبل أن تغمض عينيها، قالت برجاء طفولي.

_خليكي جنبي... متسيبنيش.

ربتت أم جاسر على يدها بحنان.

_أني چنبك يا بتي، متخافيش.

خرجت زينة من الغرفة، فتفاجأت بشروق تقف في الرواق، تنتظرها كصقر يتربص بفريسته وفور رؤيتها، سألتها بحدة.

_خير؟ مالها الهانم؟

تنهدت زينة، وقالت بهدوء.

_واحدة ودي ليلة دخلتها، تفتكري هيكون إيه؟

قطبت شروق جبينها بصدمة، وعيناها اتسعتا.

_تجصدي إيه؟

_أقصد اللي فهمتيه يظهر إن جاسر اتسرع شوية عن إذنك، أسلم على أمي قبل ما أمشي.

ذهبت زينة، وتركت شروق تنظر إلى باب الغرفة المغلق بسخط وحقد لقد وعدها والدها بأن تكون هي الأولى، بأن تكون هي زوجة جاسر لكن هذه اللعينة هذه الغريبة، سبقتها إليه، وسرقت منها كل شيء في ليلة واحدة شعرت بالنار تشتعل في صدرها، وأقسمت في سرها أن حياة هذه الوافدة الجديدة ستكون جحيم.

.......

_يعني لولا الهانم دي، مكنتيش جيتي شوفتي أمك.

قالتها الأم بامتعاض، فاقتربت زينة منها وجلست بجانبها، ثم قبلت يدها بابتسامة دافئة.

_غصب  عني والله يا أمه أنتِ عارفة البيت والولاد، وكمان العيادة اللي فتحتها جديد حقيقي مبقاش عندي وقت خالص راسي دي هتنفجر من كتر التفكير.

نظرت إليها الأم بجانب عينيها، نظرة لم تخلُ من الشك ولكنها بدأت تلين أمام حنان ابنتها.

_ماشي، هصدجك المرة دي بس كنتي جبتي الولاد معاكي وبيتي وحشوني جوي.

نهضت زينة وهي تعدل من ملابسها.

_خليها مرة تانية، أكون فاضية لهم خالص أمشي أنا بقى عشان الولاد لوحدهم ووليد زمانه زهق.

خرجت زينة مع زوجها وليد وجاسر من باب المنزل الرئيسي

كان وليد رجلاً هادئ الطباع، يحترم زوجته ويقدر حكمتها تقدم نحو السيارة ليقوم بتشغيلها وتدفئتها في برد الليل، بينما وقفت زينة للحظات عند أعلى الدرج، بجوار جاسر

كان يقف كانه مجرد خيال أسود صامت، يراقب رحيلهم

لم تتردد، بل توجهت نحوه مباشرة، ووقفت أمامه.

_جاسر...

لم تكن نبرتها تحمل لومًا، بل عتابًا عميقًا، عتاب من تعرفه جيدًا وتخشى عليه من نفسه.

قاطعها بصوته البارد الحاسم، قبل أن تنطق بأي كلمة أخرى كان يعلم تمامًا ما تود قوله

_وفري أي حديت هتجوليه ملوش عازة أني واعي للي بعمله.

لكن زينة لم تكن كأي شخص آخر لم ترتعب من نبرته، بل ثبتت نظراتها في عينيه، وقالت بثقة هادئة كانت أقوى من أي صراخ.

_أنت مش واعي أنت غرقان

غرقان في تار قديم بيحرق فيك قبل ما يحرق فيهم أنت بتعاقب روح بريئة على ذنب معملتهوش، وفاكر إن ده انتصار.

تغيرت ملامح جاسر قليلًا، وظهرت ومضة خطيرة في عينيه من جرأتها لكنها تابعت دون خوف لأنها.           تعلم معزتها في قلبه مهما أخفى ذلك

_البنت اللي فوق دي، شفت في عينيها حاجة انكسرت والكسر ده لو معلمش فيك أنت، يبقى قلبك خلاص مات ياريت بكرة متندمش على اللي بتعمله دلوقت 

الندم لما بيجي متأخر بيكون أقسى من أي انتقام.

لم تنتظر منه ردًا استدارت بهدوء، ونزلت الدرج بخطوات ثابتة، واستقلت السيارة بجوار زوجها الذي كان يراقب المشهد الصامت عن بعد انطلقت السيارة، وهي تدعو في سرها أن ينجي الله نغم من جحيم ابن عمها، وأن ينجي ابن عمها من جحيمه الشخصي.

أما هو، فلم يتحرك من مكانه. ظلت كلماتها تتردد في أذنيه. 

"أنت غرقان"

"قلبك خلاص مات"

"الندم".

لم يصعد إلى غرفته لم يستطع 

لم يكن يخشى مواجهتها، بل كان يخشى مواجهة الصمت الذي سيجمعه بها في غرفة واحدة الصمت الذي سيجبره على سماع صوت أنفاسها، ورؤية ضعفها، وربما... الشعور بشيء لا يريد أن يشعر به.

استدار، وعاد إلى مكتبه المظلم أغلق الباب خلفه، واستلقى بكامل ملابسه على الأريكة الجلدية الباردة للمرة الثانية

أغمض عينيه، لكن صورة وجهها الشاحب وعينيها المطفأتين كانت محفورة خلف جفونه، ترفض أن تتركه بسلام.

ليس تعاطف أو لوم بل ليس هذا ما سعى إليه 

يريد قوة يسيطر عليها وليس ذلك الضعف الذي يراه.

❈-❈-❈

في الصباح الباكر، تسللت خيوط الشمس الأولى إلى الغرفة، لتجد نغم تغط في نوم عميق بفعل المحلول كانت أم جاسر لا تزال بجانبها، لم تفارقها طوال الليل، تمسك بيدها وكأنها تحاول أن تنقل إليها بعضًا من الأمان الذي سُلب منها.

فتح جاسر باب الغرفة بهدوء، كانت ملامحه متجهمة كالعادة، لكن عينيه اتجهتا فورًا نحو السرير. 

رأى والدته تجلس بجانب نغم، ورأى وجه نغم الشاحب الذي بدا أكثر هدوءًا وطفولة في نومها. 

شعر بوخزة غريبة في صدره، مزيج من الذنب والمسؤولية، لكنه سرعان ما طرد هذا الشعور، مذكرًا نفسه بأن كل ما يفعله ضروري.

قال بصوت خافت حتى لا يوقظها.

_صباح الخير يا أمي.

رفعت والدته رأسها، وبدا الإرهاق واضحًا على وجهها. 

نظرت إليه بعتاب صامت.

_صباح النور يا ولدي، محتاچ حاچة اعملهالك؟

هز جاسر رأسه بالنفي، ثم تقدم نحو السرير ووقف بالقرب منها، يتأملها من بعيد.

_زينة جالت إيه؟

_جالت ضغطها كان واطي من قلة الأكل والخوف، اديتها محلول ومقويات، بس يا جاسر...

ترددت ونس، ثم أكملت بحزم وحنان _البنت دي أمانة في رجبتك دلوجت، اللي بتعمله ده مش هيرضي ربنا ولا حد واصل.

نظر إليها جاسر بحدة خفيفة. 

_أني واعي للي بعمله يا أمي ومحدش يجولي اعمل ايه.

قالت الأم بصوت خافت كي لا تستيقظ

_والبنت دي ذنبها إيه في حربكم؟  

دي لحم ودم، وليها إحساس هتكسرها يا ولدي، ولو اتكسر هتخسرها.

لم يرد جاسر، بل استدار واخرج ملابس له من الخزانة ثم قال بفتور

_أني مسافر مصر دلوجت عندي قضية هخلصها واحتمال مرچعش النهاردة

مش هوصيكي عينك تكون عليها.

تنهدت بقلة حيلة 

_توصل بالسلامة يا ولدي.

دلف المرحاض كي يبدل ملابسه 

تاركًا كلمات والدته تتردد في أذنيه، لكنه كان قد قطع شوطًا طويلاً في طريق الانتقام، ولم يكن يعرف كيف يعود.

❈-❈-❈

استيقظ أكمل من نومه وهو يشعر براحة عجيبة

لا يشعر بها إلا في ذلك المنزل

منزل جده.

نهض بتثاقل وكم كان يود النوم أكثر لكن عليه أن ينهض لأجل جده الذي من المؤكد بأنه لم يتناول فطوره حتى الآن.

دلف المرحاض وابدل ملابسه ثم نزل ليجد جده جالساً في بهو المنزل ينتظره.

المنزل الكبير والبراح المريح لكنه كان يحمل صمتًا ثقيلًا، صمت الوحدة.

_صباحك كله خير يا جدي.

_صباح النور يا ولدي، ها نومت زين

قبّل أكمل يد جده، ثم جلس على الأريكة بجواره.

_كويس جداً انا قومت بمعجزه.

صب الجد كوبين من القهوة الذي كان يعدها لنفسه، وقدم أحدهما لحفيده. 

_لسة متعود تشرب الجهوة جبل ما تفطر؟

أخذ الفنجان من يده 

_هو انا جبته من برة، ما انا طالع زيك بحب القهوة قبل الفطار

ضحك قاسم

_واني النهاردة وصيت على فطار ملوكي هيعچبك جوي.

حسان.

دلف رجل في عقده الأربعيني يتقدم منه

_خير يا حچ.

_خلي چماعتك يچيبوا الفطار.

اوما الرجل ودلف للمطبخ كي يطلب من زوجته أن تقوم بتحضير السفرة

أما اكمل فسأل جده

_عامل ايه يا جدي؟

_هعمل ايه يا ولدي النهار طويل، والليل أطول. 

بقضيه بين الأخبار والذكريات.

ثم صمت للحظة، ونظر إلى حفيده نظرة عميقة. 

_بس أنت وشك فيه كلام رايد تجوله.

تنهد أكمل. 

جده يقرأه دائمًا ككتاب مفتوح لكنه أراد أن يلاوع

_لا أبدًا مفيش بس مالك... صاحبي كان يوم صعب أوي عليه.

_عشان بنت عمه؟

سأل الجد بحكمة العارفين وتابع

_الحب وجعه واعر يا ولدي، بتمنى له يلاقي اللي يونس وحدته. 

الوحدة دي... كربة، بتنهش في الروح جبل الجسد. 

ساعات بجوم بالليل على صوت الكحة بتاعتي، وأبص حواليا، ملاجيش حد أجوله اديني كوباية مية، أفتح التلفزيون عشان أسمع صوت بني آدمين، بس بيفضل البيت فاضي.

نظر أكمل إلى جده، وشعر بقلبه ينقبض رأى في عينيه خوفًا لم يره من قبل، فقام بفتح الأمر معه

_يا جدي... أنا قولتلك ميت مرة سيبك من البيت ده وتعالى عيش معانا في القاهرة. 

شقتنا كبيرة، وأوضتك هتبقى جاهزة، وأمي وأبويا هيفرحوا بيك، وأنا هبقى معاك.

ابتسم الجد ابتسامة باهتة وحزينة. _القاهرة؟ أعمل إيه في القاهرة يا أكمل؟ أنا عامل زي الشجرة العجوزة دي اللي في الچنينة، لو شلتني من أرضي، أموت . 

هنا صحابي اللي فاضلين بنتقابل على المصطبة، وهنا الجامع اللي بصلي فيه من وأنا عيل، وهنا جبر جدتك اللي لازم أعدي عليه كل يوم أقرالها الفاتحة. 

هناك هبجى سجين بين أربع حيطان، هبص من الشباك أشوف عمارات خرسانة بدل الزرع.

قال أكمل برجاء.

_بس هنا أنت لوحدك يا جدي

أنا بخاف عليك.

تنهد الجد تنهيدة طويلة، ووضع كوب القهوة جانباً. 

_وأنا بخاف أموت لوحدي يا ولدي بخاف يجي أجلي ومحدش يحس بيا غير بعد أيام. 

ده الخوف الوحيد اللي فاضلي في الدنيا.

مد يده المرتجفة وربت على قدم أكمل. 

_بس ده قدري وأنا راضي بيه كفاية عليا إنك بتاجي تزورني كل ما تنزل البلد. 

شوفتك دي بترد فيا الروح، وبتخليني أقدر أستحمل الوحدة كام شهر كمان.

نظر أكمل في عيني جده، ورأى عنادًا وحبًا للأرض لا يمكن كسره. 

أدرك أنه لن يستطيع إقناعه أبدًا. 

كل ما يمكنه فعله هو أن يكون هنا كلما استطاع، وأن يدعو الله ألا يتحقق خوف جده الأكبر أبدًا.

❈-❈-❈

اخترقت أشعة الشمس الحارقة زجاج السيارة، لتوقظ مالك من غفوته المتقطعة. 

فتح عينيه ببطء، وشعر بألم حاد في رقبته وظهره من أثر النوم في وضعية غير مريحة. 

للحظة، لم يدرك أين هو. 

كل ما حوله كان حقول قصب صامتة، والسيارة التي أصبحت كفرن صغير تحت شمس الصباح.

ثم كالطوفان، عادت إليه ذكريات الليلة الماضية. 

صوت المأذون، وهروبه إلى هذا المكان الموحش. 

شعر بثقل الحقيقة يهبط على صدره من جديد، ثقل لم يخففه النوم، بل زادته قسوة الصباح وضوحًا.

مسح وجهه بيديه، وشعر بالخشونة الخفيفة لذقنه التي لم يحلقها، وبالإرهاق الذي استقر في كل خلية من جسده. 

كان يشعر بالخواء، كأنه نسخة باهتة من نفسه.

في تلك اللحظة، انطلق صوت رنين حاد كسر الصمت، جاعلاً إياه ينتفض في مكانه. 

كان هاتفه الذي ألقاه على المقعد المجاور يهتز بعنف. 

نظر إلى الشاشة، فرأى اسم "أكمل" يضيء عليها.

تردد للحظة، لم يكن يريد التحدث إلى أي شخص. 

كان يريد أن يظل في عزلته، في شرنقته من الألم. 

لكنه يعلم أن أكمل لن يتركه، وأن قلقه حقيقي. 

تنهد بعمق، وضغط على زر الرد بصوت أجش وبالكاد مسموع.

_...ألو.

جاء صوت أكمل قلقًا وسريعًا من الطرف الآخر. 

مالك أنت فين يا ابني؟ قلقتني عليك رنيت عليك ميت مرة من بالليل ومبتردش.

أغمض مالك عينيه، مستندًا برأسه إلى مسند المقعد. 

_أنا زين يا أكمل متجلجش.

رد أكمل بحدة. 

_كويس إزاى وأنت مش في بيتك؟

ابوك لسة مكلمني وبيسأل عليك بيكلمك على الرقم اللي معاه غير متاح

أنت فين بالظبط؟

نظر مالك حوله إلى الحقول الممتدة. _في أي حتة؟!... مش عارف. 

طريج زراعي جديم وخلاص.

صمت أكمل للحظة، وقد فهم كل شيء من نبرة صوت صديقه الفارغة. 

خفف من حدة صوته، وتحدث بنبرة أكثر هدوءًا ودعمًا.

_طيب... اسمعني اللي حصل امبارح حصل، ومحدش يقدر يغيره. 

بس النهاردة يوم جديد، وأنت لازم تقوم على رجلك مش هينفع تفضل حابس نفسك كده.

_أقوم أعمل إيه؟ مش قادر أمثل اكتر من إكدة.

قال أكمل بحزم. 

_محدش طلب منك تمثل.

بس طلب منك تكون راجل زي ما أنت طول عمرك. 

جدك في البيت سأل عليك، وأبوك وأمك زمانهم قلقانين. 

حياتك مش هتقف عشان قلبك اتوجع.

الوجع ده بتاعك أنت لوحدك، محدش هيشيله عنك، بس العالم اللي بره لازم يمشي، وأنت لازم تمشي معاه.

تنهد مالك، وشعر بأن كلمات أكمل رغم قسوتها، هي الحقيقة التي يحتاجها.

_عايز مني إيه يا أكمل؟

_عايزك تدور العربية دي دلوقت، وترجع على بيتك

خد دش، وغير هدومك، وحاول تاكل أي حاجة وبعدها... روح لجدك الراجل الكبير ده محتاج يشوفك، وأنت محتاج تشوف حد بيحبك بجد ومبيطلبش منك غير إنك تكون بخير تقدر تعمل ده؟

صمت مالك طويلاً، يفكر في كلمات صديقه الذهاب إلى جدة... الفكرة بدت كمرساة في بحر هائج. 

مكان هادئ، وحب غير مشروط، بعيدًا عن مسرحية الفرح والتهاني.

_ماشي.

قالها أخيرًا بصوت خافت. 

ماشي يا أكمل هروح له.

_تمام طمني لما توصل.

أنهى أكمل المكالمة، وترك مالك مع الصمت مرة أخرى لكن هذه المرة، كان الصمت أقل وطأة وضع الهاتف جانبًا، وأدار مفتاح التشغيل. 

زأر محرك السيارة، معلنًا عن نهاية ليلته الطويلة

قاد السيارة ببطء عائدًا من عزلته، ليس لأنه شُفي، بل لأنه أدرك أن أول خطوة للنجاة هي أن تجبر نفسك على الاستمرار في السير، حتى لو كانت قدماك تنزفان.

❈-❈-❈

استيقظت نغم على صوت همسات خافتة خارج باب غرفتها. 

فتحت عينيها بتثاقل، وشعرت بأن جسدها أقل وهنًا من الأمس. 

المحلول الذي أعطته لها زينة فعل فعله. 

التفتت بجانبها، فلم تجد أم جاسر وشعرت بوخزة من الخيبة والوحدة تعود لتغزوها.

نهضت من السرير ببطء، واتجهت نحو الباب الذي كان مواربًا قليلاً. 

ترددت للحظة، ثم دفعتها رغبة قوية لمعرفة ما يدور في هذا المنزل الغريب من خلال الفتحة الضيقة، رأت شروق تتحدث مع أم جاسر، في رواق الطابق العلوي.

_وبعدين يا مرت عمي يعني هتفضلي حابسة نفسك معاها في الأوضة أكدة.

قالت شروق بنبرة لا تخلو من الغيرة والامتعاض. 

_سيبيها، هي مش عيلة صغيرة ولا تكونش عملت عليكي حبتين صعبت عليكي؟

ردت أم جاسر بحزم هادئ

_عيب يا شروق البنت تعبانة وبعدين دي مرات ولدى، وواجب اراعيها  دي مبجاش لها حد غيرنا دلوجت.

ضحكت شروق بسخرية. 

_ملهاش حد كيف وأهلها عايشين وبيعملولها فرح النهاردة... جصدي بيعملوا فرح بنت عمها، هما بس اللي فهموا إنها متستاهلش، وسابوها للي يستاهلها.

شعرت نغم وكأن صفعة جليدية قد أصابت وجهها. 

سابوها للي يستاهلها. 

كانت الكلمات قاسية وحادة، وتكشف عن مدى الكراهية التي تكنها لها شروق. 

لم تكن مجرد غيرة، بل حقد دفين.

قالت أم جاسر بحدة

_اخرسي يا شروق  ولمي لسانك. 

جولتلك نغم مرات ولدى غصبت عنيكى وعن أي حدا. 

مكانتها محفوظة، واللي هيفكر يمسها بكلمة، كأنه بيمسني أنا.

ازدادت الغيرة بقلب شروق 

_ومالك بتتحمجي عليها إكدة، ما هو اني كمان هبجى مرات ابنك.

تراجعت نغم من أمام الباب قبل أن يتم اكتشافها، وعادت إلى السرير وقلبها يخفق بقوة. 

لقد أدركت الآن أن معركتها في هذا المنزل لن تكون مع جاسر وحده

هناك أعداء آخرون يتربصون بها في الظل، ينتظرون أي فرصة للانقضاض عليها

لكن كلمات أم جاسر الأخيرة، رغم قسوة الموقف، منحتها بصيصًا ضئيلاً من الدعم في هذا المحيط المعادي.

❈-❈-❈

في مكان آخر، في منزل الرفاعي، كان الصباح مختلفًا تمامًا

كان المنزل يعج بالاستعدادات للفرح كانت الزينة تُعلّق، والطعام يُعد، لكن الأجواء كانت مشحونة بالتوتر. 

لم تكن هناك فرحة حقيقية، بل مجرد تمثيلية متقنة للحفاظ على المظاهر.

في غرفتها، كانت وعد تجلس أمام المرآة، ترتدي فستان زفاف لم يكن لها.

كانت الفتاة التي ستصفف شعرها وتضع لها الزينة تعمل في صمت، تشعر بالجو المشحون.

كانت وعد تنظر إلى انعكاسها، لكنها لم ترَ نفسها. 

رأت وجهًا شاحبًا، وعينين فارغتين، وروحًا مسلوبة الإرادة.

طرقت ورد الباب ودخلت، تحمل في يدها كوبًا من العصير.

_وعد ... لازم تشربي حاجة هتتعبي إكده يابتى.

نظرت وعد إلى والدتها عبر المرآة، وابتسمت ابتسامة باهتة ومكسورة.

_أني زينة يما متجلجيش

جلست ورد بجانبها، وأمسكت بيدها الباردة لتقول بحنان 

_مش ده كان حلمك برضك، ايه اللي كسر فرحتك إكدة.

ابتسمت وعد بمرارة

_ مش بالطريجة دي ياما، كان نفسي في يكون باقتناع مش ضغط.

صمتت الاثنان، تتشاركان حزنًا وعجزًا واحدًا. 

أما في غرفة روح

فقد ظهر الحزن جاليا على وجهها منذ أن تحدثت مع أختها

محاولات كثيرة للاتصال بها لكن دائمًا مغلق.

كسرت فرحتها وفرحة والدتها بهما وهي جالسة جانبا لا تستطيع حتى التظاهر بالفرح

وفي الخارج، بدأت أصوات الموسيقى تتعالى، معلنةً بدء مراسم الفرح الذي كان في حقيقته مأتمًا لقلبين؛ قلب نغم الوحيد في بيت عدوها، وقلب وعد الذي سيُزف إلى رجل لا يحبها، ثمنًا لكرامة زائفة.

•تابع الفصل التالي "رواية ثنايا الروح" الريح والغيامة" اضغط على اسم الرواية 

تعليقات