رواية ثنايا الروح "الريح والغيامة" الفصل الرابع عشر 14 - بقلم رانيا الخولي
ثنايا الروح
الفصل الرابع عشر
...........
هنا التفت إليها، ورأى الحزن يغلف ملامحها، والدموع تلمع في عينيها في ضوء القمر الخافت.
_مش عارفة أفرح يا مالك.
قالتها، وانهار سد مقاومتها، فبدأت الدموع تنزل بصمت.
_كل حاچة حواليا بتجولي المفروض أكون أسعد واحدة في الدنيا فرحي بكرة، وكل حاچة چاهزة بس أنا مش حاسة بحاچة كل ما أبص على سريري، أتخيلها كانت جاعدة عليه بتضحك معاي كل ما أفتح دولابي، أشوف الفستان اللي اختارته معايا صوتها، ضحكتها، هزارها... كل حاچة ناجصة البيت فاضي من غيرها.
أخذت نفسًا عميقًا وتابعت بصوت مكسور.
_أنا عارفة إنها عايشة، وإنها قريبة منينا، بس بحس إنها في دنيا تانية بعيدة جوي بحس إنهم سرجوها منينا، سرقوا روحها قبل ما ياخدوا جسمها خايفة عليها يا مالك خايفة من اللي اسمه جاسر ده.
خايفة يكون بيعذبها، بيقهرها نغم متستحملش الجسوة دي، جلبها رهيف زي ورقة الشجر.
صمتت للحظة، ثم نظرت إليه برجاء.
_هنفضل ساكتين إكدة؟ هنسيبها معاهم؟
تنهد مالك وأشاح بوجهه عن نظراتها التي كانت تخترق روحه اقترب منها، وقال بحكمة كانت تحمل في طياتها ألمًا عميقًا.
_ده مش سكوت يا روح، ده هدوء قبل العاصفة اللي حصل ده مكنش خطف عادي، دي كانت لعبة متخططلها زين جوي، لعبة أجبرت نغم إنها توافج إحنا كلنا مجبورين على اللي بيحصل ده ودلوجت مجبورين نمشي على الشوك عشان منجرحهاش أكتر.
التفت إليها، وعيناه تحملان تصميمًا قاطعًا.
_بس ده مش معناه إني هسكت، أو هسيبها لوحدها أني وعدتها إني هكون في ضهرها، والوعد ده دين في رقبتي ليوم الدين
جاسر فاكر إنه كسب المعركة، بس هو ميعرفش إن الحرب لسه مبتدتش.
شعرت روح ببعض الطمأنينة من كلماته، لكن حزنها الشخصي عاد ليغلبها.
_كل حاجة ملهاش طعم من غيرها. حتى التحضيرات اللي كنت فرحانة بيها، بقيت بعملها غصب عني بحس إني لوحدي في كل حاچة.
قالت جملتها الأخيرة بمرارة، وغفلت عن معناها المزدوج لكن مالك لم يغفل التقط الكلمة، وشعر بوخزة قلق حادة.
_لوحدك كيف؟ وعدي فين من كل ده؟ المفروض يكون چنبك أكتر واحد في الوجت ده.
ارتبكت روح، وأدركت أنها أخطأت
لم تكن تريد أن تظهر عدي بصورة سيئة أمام أخيه وخاصة مع مالك الذي يفهمها دون ان تتحدث
حاولت تدارك الموقف بسرعة.
_لا... لا مش جصدي عدي... عدي مشغول مع الرچالة، وبيحاول يلاجي حل
هو بس... طبعه صعب شوية، مبيعرفش يواسي بالكلام.
نظر إليها مالك نظرة طويلة، فاحصة لم يصدقها لقد رأى الحقيقة في عينيها المرتجفتين قبل أن تنطق بالكذبة رأى ظل الوحدة الذي يحيط بها، والذي لا علاقة له بغياب نغم فقط.
لقد تأكد الآن من شكه القديم أخوه يهملها.
لم يضغط عليها، لكنه قال بهدوء يحمل في طياته تحذيرًا مبطنًا.
_ماشي يا روح.
ثم اقترب منها، وربت على كتفها بحنان أخوي، حنان كان يمزقه من الداخل.
_متخافيش على نغم و متخافيش على نفسك أنا موچود وعمري ما هسيب أي واحدة فيكم لوحدها مفهوم؟
أومأت برأسها، وشعرت بالدفء يتسلل إلى قلبها من لمسته وكلماته كانت دائمًا تجد الأمان لديه
لكن مالك بينما كان يطمئنها، كان قلبه يشتعل بنارين: نار القلق على نغم، ونار غضب جديدة بدأت تتأجج تجاه أخيه الذي أهمل الجوهرة التي بين يديه.
❈-❈-❈
وفي تلك الاثناء
كان منزل وهدان يستعد لعقد القران والعائلة بأكملها داخل المنزل وخارجه.
كانوا جميعاً مجبورين على الابتسام واظهار فرحة رغم صدقها إلا انها ناقصة.
الكل يتألم ولا أحد منهم يعرف سبب آلم الآخر
ليل على فراق ابنتها التي لا تعرف حتى الآن ما حل بها.
وروح التي تشعر بقلبها يئن على اختها
وكذلك الأمر مع وعد التي حلمت بذلك اليوم اعوام
وعندما تحقق جاء معه جرح لن يندمل.
سند الذي وقف بكمد لم يستطيع اخفاءه
وعدي الذي كان منزويًا يخطط بشر كيف يأخذ نغم من حفيد التهامي
خطط كثيرة تراوضه لكن واحدة فقط من راقت له وسينفذها عندما يحين وقتها.
أما مالك فقد كان يرحب بالمدعوين بابتسامة تخفي حزن السنين بداخله
يتمنى أن ينتهي ذلك اليوم كي يستطيع الاختلاء بنفسه
حتى جاء من ينقذه
أكمل
_فضيت نفسي بمعجزة وجيتلك، عقبالك يا سيدي.
صافحه مالك بترحيب أخوي ثم قال
_جيت في وقتك انا عايز أخلع ومش عارف.
دلف معه أكمل للداخل
_ماشي بس الاول عاملين اكل ولا أروح آكل عند جدي انا جيت من المطار على هنا.
أغلق مالك باب المكتب خلفهم
_عندنا الأكل بس ادخل ارتاح الاول من الطريق
جلس أكمل على المقعد وهو يقول
_بصراحة الطريق من المطار للنجع هنا متعب اوي.
_ثواني هخليهم يچهزوا الوكل.
خرج مالك وصاح هاتف أكمل بالرنين
اخرجه من سترته بضجر ظنا منه أنها ليلى
لكن تلك المرة كان جده
_السلام عليكم.
رد أكمل بسرور
_وعليكم السلام يا حاج كيفك؟
_شكلك چيت على الفرح طوالي.
ضحك أكمل
_ما انا قايلك اني هحضر كتب الكتاب وأجيلك، وبعدين بعد ما قلت هتيجي تحضره غيرت رأيك.
حاول .....اخفاء تعبه
_نخليها في الفرح بكرة.
_ماشي يا جدي اللي تشوفه وانا اول ما يخلصوا هجيلك على طول.
اغلق أكمل الهاتف وتطلع إلى مالك الذي دخل
_ثواني والاكل يكون جاهز.
جلس بجواره وسأله
_عملت ايه مع خطيبتك، لسة زعلانين.
رد أكمل بدون اهتمام
_ده العادي نتصالح ونتخاصم بقى روتين لا يمكن الاستغناء عنه.
مش ناوي تعملها وتعيش الدور زيي.
ابتسم مالك بحزن
_دلوجت لا، بس شوية.
ترك الباب ودلفت سعدة بالطعام لتضعه على الطاولة الصغيرة بجوار المكتب ثم انصرفت.
نهض اكمل ليجلس أمام الطاولة وقال
_احكيلي ايه اللي حصل بالظبط.
❈-❈-❈
كان الليل قد أرخى سدوله على القصر، لكن مكتب صخر التهامي كان لا يزال مُضاءً، ينبض بالترقب والتربص
كان صخر يجلس خلف مكتبه الفخم وعيناه تلمعان بترقب وحشي.
فُتح الباب دون استئذان، ودخل جاسر بهدوئه المعتاد الذي لا يتناسب مع العاصفة التي أثارها.
أغلق الباب خلفه وتحرك ليجلس على المقعد المقابل لعمه، واضعًا ساقًا فوق الأخرى في استرخاء تام وكانه يجلس أمام ند له وليس عمه
_خير؟
تحدث صخر بصوته الأجش الذي يشبه حفيف الصخور
_طمني لول كيف حالها بنت الرفاعي؟ أتمنى تكون عرفت مجامها زين.
لم ينظر جاسر إليه مباشرة، بل ترك عينيه تتجولان في أرجاء المكتب قبل أن تستقر على وجه عمه.
_بنت الرفاعي في مكانها الطبيعي دلوجت... في بيتي وتحت اسمي وده المهم.
ابتسم صخر ابتسامة صفراء، كاشفًا عن حقده الدفين
_زين... زين جوي دلوجت أكيد كلهم منكسين رؤوسهم، وفرحهم اللي كانوا يتفاخرون بيه اتحول لميتم.
هنا، ارتسمت على شفي جاسر شبه ابتسامة ساخرة
_للأسف الميتم لسه مجاش وجته يا عمي الأخبار اللي عندي بتجول غير إكده.
قطّب صخر حاجبيه، وانحنى بجسده الضخم إلى الأمام.
_كيف يعني؟ اتكلم دغري.
_الرفاعية... هيعملوا الفرح في ميعاده.
اتسعت عينا صخر بدهشة لم يستطع إخفاءها، ثم تحولت الدهشة إلى غضب مكبوت.
_فرح؟! فرح مين ولمين؟ بعد ما خطيبته سابته واتجوزت عدوه؟ اتجنوا دول باك ولا ايه عايزين يضحكوا الناس عليهم؟
_الرفاعية أخبث من إكده يا عمي هما صحيح خسروا بنتهم، بس معندهمش مانع يضحوا بغيرها عشان يحفظوا شكلهم جدام الناس.
صمت صخر للحظة، العروق تنبض في صدغه وهو يستوعب ما قيل ثم قال من بين أسنانه
_قصدك... هيجوزوا العريس لبنت عمه التانية؟
أومأ جاسر برأسه ببطء، وعيناه تراقبان رد فعل عمه بذكاء حاد.
_بالظبط الفرح هيتم في نفس الليلة، بنفس المعازيم، وبنفس العريس... بس العروسة هي اللي اتغيرت هيجوزوه لـ بنت سالم بنت عمه التانية.
باكده جدام الناس، كرامتهم متهزتش، والفرح تم، ومحدش يجدر يفتح خشمه بكلمة.
ضرب صخر بقبضته على سطح المكتب بقوة، محدثًا صوتًا مدويًا لم يكن غاضبًا من الرفاعية، بل كان معجبًا بدهائهم الذي ينافس دهاءه.
_ولاد الأفاعي... بيغيروا جلدهم عشان يهربوا من الضربة،حسبوها صح.
عشان إكدة جولتلك نشهر بچوازتك منيها ونفضحهم.
هدر به جاسر لكن عينيه لا تخلوا من فتورها المعتاد وهذا ما زاده حزم وقوة
_جولت مش رايد حديت كتير ملوش عازة، هي بجت مرتي وطالما بجيت مرتي يبجى مينفعش سمعتها تكون على كل لسان
نهض جاسر ووقف شامخًا، ونظر إلى عمه من علٍ بنظرة تحمل ثقة مطلقة.
_هما حسبوها صوح على الورج بس افتكروا إنهم بكده بيلموا الفضيحة وبيحافظوا على سمعتهم بس اللي ميعرفهوش... إنهم باكده رموا رجابهم تحت رچلينا.
التفت جاسر ليهم بالمغادرة، ثم توقف عند الباب وأضاف دون أن يستدير
_هما فاكرين إنهم خلصوا المعركة بالخطوة دي... بس الحجيجة، هما بكده فتحوا على نفسهم باب جديد.
خرج جاسر وأغلق الباب خلفه، تاركًا صخر يبتسم ابتسامة شريرة حقيقية هذه المرة.
لقد أعجبه دهاء ابن أخيه وقراءته العميقة لخصومه، رغم حنقه من تعنده أمام فضحيهم بتلك الزيجة.
لم تكن خطوة الرفاعية نهاية للإذلال، بل كانت مجرد بداية لجولة جديدة أكثر إثارة وتشويقًا في لعبة القوة والانتقام التي يعشقها آل التهامي.
❈-❈-❈
ظلت نغم جامدة في مكانها لوقت طويل بعد خروجه، كلماته الأخيرة كانت كالسهم الذي أصاب كبد الحقيقة. _عيشي عشان تحاربي يوم تاني.
هل كان الموت جوعًا وعنادًا انتصارًا حقًا؟
أم أنه مجرد هروب من مواجهة مصيرها؟ ستكون مجرد قصة تروى، "ابنة الرفاعي التي ماتت ضعفًا".
أما هو، فسيستمر في حياته قوياً منتصراً، لم يخسر شيئًا.
ببطء، وكأنها تحمل جبالاً على كتفيها، نهضت.
تحركت ساقاها بتثاقل نحو الفراش المقلوب.
كل حركة كانت طعنة في كبريائها، وكل نفس كان شهقة مكتومة.
بدأت بترتيب الفوضى، يداها ترتجفان من الإرهاق والجوع والإهانة.
أعادت الفراش الثقيل إلى مكانه بصعوبة بالغة، ثم انحنت لتلتقط الوسائد والملاءات المبعثرة، وتنفض عنها غبار الهزيمة.
كانت تعمل في صمت، دموعها محبوسة في عينيها، ترفض أن تمنحه شرف رؤيتها منكسرة.
مع كل قطعة تعيدها إلى مكانها، كانت تشعر وكأنها تتخلى عن جزء من نفسها، لكن في أعماقها، كان هناك صوت آخر يهمس، صوت بارد وحازم يشبه صوت جاسر نفسه: هذا ليس استسلامًا، بل هدنة
هدنة لأستعيد قوتي.
طُرق الباب طرقات خفيفة ومترددة. انتفضت نغم، وأسرعت تمحو آثار دموعها بكف يدها، وتستجمع بقايا كبريائها المبعثر.
لم تكن تريد أن يرى أحد منهم انكسارها، فهذا هو انتصارهم الحقيقي.
عدّلت من جلستها، وقالت بصوت حاولت جاهدة أن تجعله ثابتًا.
أدخل.
انفتح الباب ببطء، ودخلت فتاة لم تبلغ العشرين من عمرها، تحمل بيدها صينية طعام فضية تفوح منها رائحة شهية.
_إزيك يا ست نغم...
توقفت الفتاة فجأة عن الحديث، واتسعت عيناها بدهشة وهي ترى منظر الغرفة.
الوسائد ملقاة على الأرض، والأغطية مكومة في زاوية، وبعض قطع الزينة الصغيرة محطمة بجانب الحائط.
أسرعت بوضع الصينية على أقرب طاولة، وقالت بصوت متعاطف.
_خليكي أنتِ يا ست نغم، ارتاحي أني هعمل كل حاجة بدل عنك.
مالت الفتاة لتلتقط الأشياء المتناثرة من على الأرض، لكن نغم منعتها بصوت حاد لم تعتد عليه.
_لا سيبي كل حاچة أني هعملها.
ردت الفتاة بإصرار لطيف، محاولة ألا تغضبها.
_مينفعش، لا يمكن أبدًا أنتِ ست البيت.
مالت على أذن نغم، وقالت بهمس كأنها تشاركها سرًا عظيمًا.
_الحاج سالم بيه الله يخليه، وصاني أخد بالي منك ومخليكيش تعملي حاچة واصل.
سخرت نغم في نفسها بمرارة.
"هذا كل ما استطاعوا فعله؟ أن يزرعوا جاسوسة لتطمئنتهم؟"
هذا الشعور بالخذلان جعلها تصر على الرفض بعناد أكبر.
_لا، كتر خيرك أنا جادرة أكمل متجلجيش عليا.
_بس يا ست...
قاطعتها نغم بقوة، ونظراتها أصبحت جليدية.
_جولتلك خلاص مش محتاچة حاچة دلوجت.
وافقت الفتاة على مضض تحت إصرارها، وقالت بصوت خفيض.
_أني اسمي فرح لو احتاجتي أي حاجة أي حاجة، نادي عليا بس وهجيلك طوالي.
أشارت إلى صينية الطعام، وتابعت.
_الست ونس.. جالت أچيبلك الوكل، لإنها خرچت من ساعة إكدة.
الست ونس... والدته
يبدو أنه لم يخبر والدته بما حدث، أو ربما أخبرها بالنسخة التي تناسبه.
قالت برفض قاطع، ليس لأنها لا تريد الطعام، بل لأنها لا تريد أي شيء منهم.
خدي الوكل معاكي لما أجوع هبعتلك.
قالت فرح بقلق حقيقي، وقد لاحظت شحوب وجهها.
_بس أنتِ مكلتيش حاچة واصل من إمبارح حتى وكل إمبارح لساته زي ما هو.
_جولتلك خلاص خدي الوكل ولما أحتاجه هبعتلك!
أخذت فرح صينية الطعام، وخرجت من الغرفة بصمت وقلبها يخفق من حدة نبرة "الست الجديدة".
وأثناء نزولها الدرج بخطوات حذرة، تفاجأت بصوت بارد وحازم يناديها من أسفل، صوت جعلها تتجمد في مكانها.
"فرح."
التفتت بسرعة، ورأت جاسر يقف أمام باب مكتبه المفتوح، يراقبها بنظرات ثاقبة كادت أن تخترق روحها.
_دخلي الوكل المطبخ، وتعاليلي على المكتب.
انقبض قلب الفتاة برعب لم تكن قد تعاملت معه مباشرة من قبل، لكن هيبته كانت تملأ القصر وتجعل الجميع يسير على أطراف أصابعه
أومأت برأسها بسرعة، ودلفت إلى المطبخ لتترك الطعام ثم عادت بخطوات بطيئة، وكأنها تسير إلى حتفها.
وقفت أمامه، وازدردت لعابها بصعوبة وهي تشعر بنظراته تحللها.
_نعم يا بيه؟
التزم الصمت لثوانٍ طويلة، يتلاعب بأعصابها يستمتع برؤية الخوف في عينيها ثم تحدث بصوت ثابت، لكنه كان أشبه بالجحيم.
_خبرتيهم ولا لسه؟
اهتزت نظراتها بوجل واضح، وتلعثمت.
_خـ... خبرت مين يا بيه؟ لا مؤاخذة.
رفع حاجبيه ببطء، في حركة بسيطة كانت تحمل تهديدًا لا حدود له.
_هتتلاوعي معاي؟
هزت رأسها بنفي سريع، ويداها ترتجفان.
_لا... لا.....والعياذ بالله كل الحكاية إن الحاچ سالم طلب مني... طلب مني بس إني أوصله أخبار بنت أخوه، أطمنه عليها بس والله العظيم ما جولت حاچة لسه.
تقدم منها خطوة واحدة، خطوة كانت كافية لجعل الفتاة تتصبب عرقًا باردًا قال بصوت أقرب للهمس، لكنه كان مرعبًا.
_خبريهم.
صمتت فرح، تحاول استيعاب ما قاله فتابع بنفس النبرة الآمرة.
_خبريهم بكل شيء كل حاچة تحصل معاها أهنه، تجوليلهم عليها بالتفصيل. لما تكسر حاچة، لما تعيط، لما ترفض تاكل حتى اللي حوصل من شوي ده، تجوليه بالحرف فاهمة؟
هزت رأسها بموافقة سريعة، عاجزة عن النطق بأي شيء لقد فهمت الآن هو لا يريد منعها من نقل الأخبار، بل يريدها أن تنقل الأخبار التي يختارها هو يريد أن يرسل لهم تقارير يومية عن انهيارها، عن عذابها ليجعلهم يتألمون معها عن بعد.
لاذت بالفرار عندما أشار لها بيده بالذهاب، بينما عاد هو إلى مكتبه وعلى شفتيه شبه ابتسامة باردة
لقد أحكم قبضته على كل شيء، حتى على أنفاسها وآلامها التي ستصل إلى أعدائه كما يريد هو تمامًا.
❈-❈-❈
بعد أن انتهت من ترتيب الغرفة وجعلها تبدو وكأن شيئًا لم يحدث، وقفت في المنتصف، تتنفس بصعوبة لم تشعر بالرضا، بل بالخواء
وكأن روحها ودعتها
جلست على الأريكة كي ترتاح قليلاً فقد بذلت مجهود لم تفعل مثله من قبل
فتح الباب فجأة فوجدته يقف عند الباب يراقبها للحظات، وقد ارتسمت على شفتيه مجددًا تلك الابتسامة الخفيفة التي لا يمكن تفسيرها.
لقد فاز في جولة اليوم، لكنه أدرك من نظرتها أنها لم تُهزم بعد
لقد أجبرها على الطاعة، لكنه بذلك قد أيقظ بداخلها شيئًا أعمق وأكثر خطورة من مجرد الكبرياء... لقد أيقظ فيها الرغبة في البقاء من أجل رد الانتقام.
تطلع إلى الغرفة التي عادت كما كانت بنفس ترتيبها ثم عاد بنظره إليها والذي اشاحت به بعيدا عنه.
أغلق الباب خلفه بهدوء، ثم سار ليقف أمامها، حجب ظله الطويل بقايا الضوء عنها انتظر أن ترفع عينيها إليه، لكنها لم تفعل.
هذا التجاهل الصامت، الذي كان في الأمس تحديًا، أصبح الآن جزءًا من تكتيكها الجديد للبقاء.
_كنت مع عمي دلوجت.
بدأ الحديث بنبرة عادية، وكأنه يشاركها تفاصيل يومه.
لم ترد فتابع هو صوته يحمل نبرة ساخرة.
_كان مضايج جوي... بيحسب إننا حطينا راس اهلك في الطين بس طلع الرفاعي أذكى مما افتكرنا.
عند ذكر أهلها، لاحظ حركة طفيفة في كتفيها لقد أصاب وتراً حساساً انحنى قليلاً، ليسيطر على حواسها.
_الفرح اللي كان المفروض يبجى فرحك... هيتعمل بدري عن ميعاده بكرة، والنهاردة كان كتب الكتاب.
هنا رفعت نغم رأسها ببطء نظرت إليه مباشرة لأول مرة منذ دخوله.
اتسعت عيناها قليلاً بالصدمة وعدم التصديق.
كيف يمكن أن يقيموا فرحًا وهي هنا، سجينة في بيت عدوهم؟
قرأ جاسر السؤال في عينيها، فارتسمت على شفتيه ابتسامة باردة.
_متستغربيش، هما لقوا عروسة بديلة، هيجوزوا ابن عمك لـ بنت سالم، بيجولوا......(تظاهر بالتفكير)...وعد صوح إكدة؟
اهتزت نغم وكأنها تلقت صفعة غير مرئية.
هل سيضحون بوعد بهذه السهولة كما ضحوا بها فقط ليحافظوا على مظهرهم الاجتماعي؟ شعرت بالغثيان لم يكن الأمر يتعلق بها فقط، بل بمدى قسوة عائلتها واستعدادهم للتضحية بأي شخص في سبيل كبريائهم.
رأى جاسر أثر كلماته على وجهها، فرأى فيها الألم والصدمة، وبداية الإدراك هذه هي نقطة ضعفها الجديدة التي اكتشفها.
_بس ما دام هما بيعرفوا يلعبوا زين، يبجى لازم نلعب معاهم بنفس طريجتهم
جالي إن وعد دي... ممكن تدخل دايرة الانتقام هي كمان.
بدل ما نكسر الرفاعي في بنت واحدة بس، نكسره في الاتنين.
تجمد الدم في عروق نغم
ونظرت إليه برعب حقيقي، رعب لم تظهره من قبل.
كان خوفها على نفسها شيئًا، لكن خوفها على وعد كان شيئًا آخر تمامًا.
اقترب جاسر خطوة أخيرة، حتى كاد يلامسها خفض صوته إلى همس قاسٍ، لا يسمعه سواها.
_وأني جولت... إن ده يتوقف عليكي انتي.
حدقت فيه، عيناها تتوسلان دون كلام فتقدم منها ليمسك يدها بقوة آلمتها
_عندك خيارين يا بنت الرفاعي، ومفيش تالت ليهم.
قالها وهو يرفع يدها ويضغط على أصابعها ببطء، كأنه يسحق عظامها وعنادها معًا.
الخيار الأول: هتفضلي على تمردك وعنادك ده، وساعتها اعتبري إن وعد دخلت اللعبة دي رسميًا.
وكل ألم هرفض أشوفه في عنيكي، هشوف أضعافه في عنيها هي.
وكل إهانة هترفضيها، هي اللي هتدفع تمنها.
زاد من ضغطته، فظهر الألم على وجهها.
_أما الخيار التاني...
خفف قبضته قليلاً، لكن عينيه ظلتا قاسيتين.
_تكوني مرتي مش بالاسم بس، لأ... بالفعل تطيعي أوامري، وتجبلي وچودي، وتنسي إن ليكي كبرياء أو أهل
تكوني ملكي أنا وبس.
وفي المقابل... أني هنسى إن فيه واحدة اسمها وعد الرفاعي على وش الدنيا، وهتفضل بعيدة عن كل ده.
سحب يده وابتعد عنها، مانحًا إياها مساحة لتتنفس، ولتختار.
_القرار قرارك يا إما تضحي بكبريائك عشان تحميها، يا إما تضحي بيها هي عشان تحافظي على كبريائك.
استدار واتجه نحو الخزانة يخرج ملابس له، ثم أضاف بنبرة نهائية لا تقبل الجدال
_بكرة الصبح... عايز أشوف قررتي إيه.
دلف وأغلق الباب، تاركًا نغم في مواجهة خيارٍ أقسى من الموت.
لقد حاصرها ببراعة، لم يهددها هي، بل هددها بأكثر شخصٍ تحبه.
أدركت في تلك اللحظة أن جاسر التهامي لا يكسر العظام، بل يكسر الروح، وأنه قد وجد للتو المطرقة المثالية لتحطيم روحها.
لم يبالي بالقرابة بينهما وأنها من دمه، بل حتى هي اراد استخدامها في انتقامه، ومثل ذلك لا يقبل جدالا في قرار اتخذه.
❈-❈-❈
_بارك لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير
كانت هذه الجملة آخر ما نطق به المأذون في آخر عقد قران وهو سند ووعد.
تعالت الزغاريد من نساء العائلة أمام عروستين رغم فرحتهما إلا إنها ناقصة لم تكتمل
كان الجميع يسأل عن نغم وكانوا يخبروهم بأنها تعيد ترتيب غرف العروسين.
شعر مالك بأن روحه انسحبت منه بالفعل وهو يجلس مع الجميع والكل يحفزه ان يكون هو العريس المنتظر
اهتز جسده لولا يد أكمل التي دعمته
_اثبت يا مالك متخليش حد يلاحظ.
اقولك تعالى معايا..
وقف أكمل وهو يبارك
_ألف مبروك يا جماعة استئذن انا عشان الوقت آتاخر.
نظر إلى مالك
_تعالى وصلني لاني مش معايا عربية.
خرج مالك خلف أكمل، يشعر وكأن جدران المنزل تطبق على صدره.
كل زغرودة كانت كالسهم تخترق قلبه، وكل وجه مبتسم كان يذكره بالوجه الوحيد الذي أراد أن يراه سعيدًا بجانبه، لا بجانب أخيه.
الهواء في الخارج كان أبرد، لكنه لم يفعل شيئًا لإطفاء الحريق المشتعل في صدره.
سارا في صمت لعدة أمتار بعيدًا عن أضواء المنزل وضجيج الاحتفال، حتى وصلا إلى سيارة مالك الواقفة في الظلام.
لم يفتح مالك السيارة، بل استند بظهره إليها، ورفع رأسه نحو السماء المظلمة، في محاولة يائسة للبحث عن نسمة هواء لا تحمل رائحة هزيمته.
وقف أكمل بجانبه، لم يقل شيئًا في البداية، مانحًا صديقه لحظة ليلتقط أنفاسه المبعثرة كان يرى الارتجاف الخفيف في كتفيه، ويرى كيف يضغط على قبضة يده حتى ابيضت مفاصله.
_حاسس ان روحي بتنسحب مني.
نطقها مالك بصوت أجش، مكسور، وكأنه يلفظ سرًا سامًا
لم تكن مجرد كلمات، بل كانت اعترافًا كاملاً بعمق الألم الذي يعصف به.
لم يجد أكمل كلمات يواسي بها صديقه
_بكرة ربنا يعوضك باحسن منها.
ابتسم بمرارة وهو يفصح عن مشاعره
_كنت بحلم باليوم ده من يوم ما لجتها بتكبر جدامي على الدنيا، يا أكمل.
كل تفصيلة في الفرح ده، كل زينة، كل أغنية... كنت بتخيلها معاها هي.
كنت بعد الأيام عشان أطلب إيدها رسمي، مستني بس الوجت المناسب. وفي الآخر... تكون من نصيب أخويا.
أغمض عينيه بقوة، وكأن صورة روح بفستانها الأبيض بجانب أخيه محفورة خلف جفونه، تطعنه بلا رحمة.
_كنت بشوف الفرحة في عنيها وهي بتبص له؟ هي بتحبه يا أكمل... بتحبه بجد وده اللي بيجتلني لو كانت مغصوبة، لو كانت حزينة، كنت ممكن ألاجي لنفسي أي عذر عشان أتدخل، عشان أعمل أي حاچة بس سعيدة... سعيدة معاه هو.
وضع أكمل يده على كتف صديقه، ضغط عليها بقوة، لم تكن ضغطة مواساة رقيقة، بل ضغطة دعم وصلابة.
_أنا عارف... وعارف إن مفيش كلام في الدنيا هيخفف اللي أنت حاسس بيه دلوقت، الوجع ده لازم ياخد وقته معاك.
صمت أكمل للحظة، ثم أكمل بنبرة أكثر جدية
_بس اللي لازم تعرفه يا مالك، إنك راجل.
والرجولة مش بس في إنك تاخد اللي بتحبها، الرجولة كمان في إنك تشوفها سعيدة وتتمنى لها الخير، حتى لو السعادة دي مش معاك.
أنت محبتهاش عشان تمتلكها، أنت حبيتها عشانها هي.
نظر مالك إلى صديقه، عيناه تلمعان بدموع محبوسة، دموع قهر ورجولة مدمرة.
_صعب... صعب جوي يا أكمل.
_عارف إنه صعب،
رد أكمل بحزم.
وهيفضل صعب لفترة بس أنت أقوى من كده.
النهاردة أنت وقفت زي الجبل وشوفت أخوك بيفرح، وشوفتها هي بتحقق حلمها أنت دعمتهم بصمتك، وده في حد ذاته قوة محدش يفهمها غير اللي مجربها.
دلوقتي دورك تدعم نفسك اركب عربيتك، وسوق... سوق لأي مكان بعيد اصرخ، طلع كل اللي جواك، بس لما ترجع... ترجع مالك اللي أعرفه اللي بيعرف يقف على رجليه تاني مهما كانت الوقعة شديدة.
نظر مالك إلى مفتاح السيارة في يده، ثم إلى الطريق المظلم أمامه كانت كلمات أكمل كمرساة في وسط عاصفة هوجاء لم تمحُ الألم، لكنها أعطته مسارًا ليتبعه، طريقًا للنجاة.
تطلع إلى أكمل وتمتم بامتنان لدعمه الدائم له
_أنت صاحب بجد يا أكمل.
_وأنت أخويا يا مالك يلا... اتحرك الليل لسه طويل.
فتح مالك باب السيارة، وجلس خلف المقود وبجواره أكمل لم ينظر خلفه، بل انطلق بالسيارة في قلب الظلام، تاركًا وراءه أضواء الفرح الذي كان من المفترض أن يكون فرحه، متجهًا نحو المجهول، مسلحًا بوجعه، وبدعم صديقٍ يعرف معنى الأخوة الحقيقية.
❈-❈-❈
قاد مالك سيارته بلا وجهة، يلتهم الإسفلت تحت عجلاتها كما يلتهم القهر روحه.
لم يكن يرى الطريق، بل كانت الصور تتراقص أمام عينيه بلا رحمة: ابتسامة روح الخجولة وهي تنظر إلى عدي، يد أخيه وهي تمسك بيدها، همسات المباركات، والزغاريد التي كانت تبدو وكأنها رثاء لأحلامه الميتة.
ابتعد عن أضواء القرية، وانطلق في طريق زراعي قديم، محاط بحقول القصب الشاهقة التي كانت تحجب عنه العالم، وتخلق له عزلة تامة
أخيرًا، أوقف السيارة في بقعة نائية، حيث لا يوجد سوى صمت الليل المطبق وصوت حفيف القصب الذي يشبه همسات الأشباح.
أطفأ المحرك وفجأة، غلفه صمتٌ يصم الآذان.
في هذا الصمت، لم يعد هناك ما يشتت انتباهه عن الألم.
انفجر السد الذي كان يبنيه طوال اليوم، وضرب بقبضتيه على عجلة القيادة بكل ما أوتي من قوة، مرة، ومرتين، وثلاث.
لييييييه؟!
صرخ بأعلى صوته، صرخة ممزقة خرجت من أعماق روحه، تردد صداها بين الحقول الخاوية لم تكن سؤالاً ينتظر إجابة، بل كانت تفريغًا لبركان من المشاعر المتضاربة: حب، غيرة، غضب، وحزن لا قرار له.
أسند رأسه على عجلة القيادة، وجسده يهتز من فرط الانفعال المكتوم لم يبكي، فالرجال في عالمه لا يبكون، لكن روحه كانت تنزف.
شعر بالخيانة، ليس من أخيه أو منها، بل من القدر نفسه لقد كان دائمًا الابن المطيع، الأخ السند، الصديق الوفي كان ينتظر دوره بصبر، يؤمن بأن الأشياء الجيدة تأتي لمن ينتظر والآن، أدرك بمرارة أن القدر لا يمنح مكافآت، بل يوزع أوراقه بعشوائية قاسية.
تذكر كل اللحظات المسروقة: نظرة خاطفة كان يظن أنها له، ابتسامة كان يعتقد أنها تخفي وعدًا، كلمة طيبة فسرها قلبه على أنها بداية لى قصة.
هل كان أحمقًا طوال هذا الوقت؟ هل كان يبني قصورًا من الرمال في رأسه، بينما كانت هي تبني حياتها مع شخص آخر، مع أخيه؟
الشعور بالقهر كان أشد من الحزن القهر من ضعفه، من عدم قدرته على الاعتراف بحبه في الوقت المناسب القهر من رؤية أخيه يحصل على كل شيء بسهولة، بينما هو يكافح ليجمع شتات نفسه لم يكن يكره أخاه، وهذا ما زاد من عذابه كان يحب عدي، لكنه في هذه اللحظة، كان يكره دوره في حياته، يكره كونه الأخ الذي يجب أن يفرح لسعادة أخيه بينما قلبه يتمزق.
فتح باب السيارة وخرج، وقف في مواجهة الظلام استنشق الهواء البارد المشبع برائحة التراب الندي، محاولاً أن يملأ به الفراغ الذي استقر في صدره.
نظر إلى السماء التي بلا نجوم، وشعر بأنه وحيد تمامًا.
خلاص... خلصت.
همس لنفسه، وكأنه يلقن قلبه حقيقة يجب أن يتقبلها.
القصة التي عاشها في خياله لسنوات، انتهت قبل أن تبدأ.
لم يكن بطلها، ولم يكن حتى شخصية ثانوية فيها. .
بقي واقفًا هناك لوقت طويل، لا يعرف كم من الزمن مر لم يكن هناك ما يفعله سوى أن يترك الألم يأخذ مجراه، أن يشعر به كاملاً، دون مقاومة كانت هذه ليلته، ليلة وداعه لحب حياته، وليلة مواجهته لأقسى حقيقة
❈-❈-❈
أما نغم فقد كانت منزوية في الغرفة
وقد كانت كلمات جاسر الأخيرة تتردد في رأسها كقرع طبول الحرب، كل كلمة تدق مسمارًا في نعش كبريائها.
انهارت على الأرض، لم تعد قدماها قادرتين على حملها لم تكن تبكي، كانت قد تجاوزت مرحلة الدموع.
كانت في مرحلة الصدمة الباردة، حيث يتجمد كل شيء في الداخل، ويتحول الشعور إلى كتلة ثقيلة من الجليد تستقر في الصدر.
"اتخلوا عني..."
همست بها في الفراغ، والكلمات تخدش حنجرتها وهي تخرج.
لم تكن مجرد فكرة، بل كانت حقيقة دامغة.
أهلها، عشيرتها، عمها الذي كانت تظن أنها قرة عينه، تخلوا عنها بسهولة مذهلة.
لم تكن خسارتهم خسارة ابنة، بل كانت مجرد خدش في كبريائهم عالجوه بسرعة، واستبدلوها كقطعة أثاث مكسورة.
لقد أقاموا الفرح، سيعيشون حياتهم، سيضحكون، بينما هي هنا، وحيدة، منبوذة، مجرد أداة في حرب لا ذنب لها فيها
لأول مرة في حياتها، شعرت بأنها يتيمة.
لو كان والدها على قيد الحياة ما تركها هكذا
شعرت بأنها بلا جذور، ورقة شجر اقتلعتها عاصفة عنيفة وألقت بها في أرض غريبة ومعادية.
كل ما كانت تؤمن به، كل ما كانت تستمد منه قوتها - اسمها، عائلتها، كرامتها - تبخر في لحظة، وتحول إلى سراب.
ثم جاء الإحساس الأشد فتكًا: الخوف على وعد
لقد استخدم جاسر ببراعة شيطانية نقطة ضعفها الوحيدة المتبقية.
لم يهددها هي، فهو يعلم أن روحها المتمردة قد تختار الموت على الخضوع.
لكنه هددها بروح أخرى بريئة.
وضع مصير وعد بين يديها، وحوّل حبها وقلقها على ابنة عمها إلى سلسلة يقيدها بها.
شعرت بالغثيان وهي تتخيل وعد، تلك الفتاة الرقيقة، تُلقى في نفس الجحيم الذي تعيشه.
كيف يمكنها أن تسمح بذلك؟ كيف يمكنها أن تعيش مع نفسها وهي تعلم أنها ضحت بوعد في سبيل كبرياء فارغ لم يعد له أي قيمة؟
وهنا، أدركت الحقيقة المرة.
لقد فاز جاسر
لم يفز لأنه الأقوى جسديًا، بل لأنه فهم النفس البشرية بعمق قاسٍ لقد جرّدها من كل شيء: عائلتها، حريتها، كبريائها، والآن هو يجردها حتى من خيار التمرد.
لم يعد أمامها خيار.
لم يعد الأمر يتعلق بالانتصار أو الهزيمة، بل باختيار أقل الخسائر فداحة.
كان عليها أن تبتلع كرامتها، وتدوس على ما تبقى من روحها، وتدخل إلى عرين الأسد طواعية، ليس كفريسة، بل كقربان.
في تلك اللحظة، في عمق وحدتها ويأسها، اتخذت قرارها. ستخضع. ستكون "زوجة" جاسر التهامي ستلعب دوره الذي رسمه لها.
لكن في قلبها المكسور، ولدت بذرة جديدة، بذرة مختلفة عن الكبرياء. بذرة باردة، صبورة، وحاقدة.
بذرة انتقام لم تعد موجهة ضد جاسر وحده، بل ضد الجميع ضد جاسر الذي سلبها حياتها، وضد أهلها الذين تخلوا عنها.
لقد ماتت نغم الرفاعي في تلك الليلة، ومن رمادها، بدأت تتشكل امرأة أخرى، امرأة لا تملك شيئًا لتخسره.
خرج جاسر من الحمام، والبخار يتبعه كشبحٍ عابر.
كان يرتدي بنطالاً منزلياً أسود فقط، تاركاً صدره العريض وقطرات الماء التي تسيل على عضلاته المشدودة ظاهرة للعيان، كأنه بتلك الطريقة يخبرها بأن ما يريده يكون
لم يكن مظهره يوحي بالراحة، بل بالقوة الخام كتمثال من صخر الجرانيت نُحت بدقة قاسية.
توقفت عيناه على نغم كانت تجلس على الأريكة الجلدية الداكنة، منكمشة على نفسها، تحدق في نقطة وهمية على الأرض لم تعد فيها تلك الشرارة من التحدي التي واجهته بها قبل قليل.
الآن، لم يكن يرى سوى صمت واستسلام ثقيل أدرك على الفور أنها تعيد حساباتها، وأنها وصلت إلى الحقيقة المرة: لا مفر.
لم يتحدث سار بخطوات بطيئة وثابتة نحو خزانة ملابسه، وكل حركة من حركاته كانت محسوبة وهادئة، كهدوء ما قبل العاصفة هذا الصمت المتعمد كان أشد وطأة من أي تهديد.
كان يتركها تغرق في أفكارها، ويترك الرعب يتسلل إلى قلبها ببطء.
قطعت نغم الصمت بصوتٍ خافت، بالكاد يُسمع، وكأنها تسأل نفسها أكثر مما تسأله هو.
"السواق..."
توقف جاسر عن ارتداء قميصه، وظهره ما زال مواجهاً لها عضلات ظهره القوية انقبضت قليلاً عند سماع الكلمة، لكنه لم يلتفت.
رفعت نغم رأسها قليلاً، وتابعت بصوتٍ أقوى هذه المرة، صوت يحمل بقايا أمل يائس في العثور على أي ذرة رحمة فيه.
_السواق اللي حاول... اللي سرقني... أنت رجعتلي حاجتي. عملت فيه إيه؟
كان سؤالها معلقاً في الهواء المتوتر.
كانت تأمل في إجابة تمنحها سبباً لتصدق أنه ليس شراً مطلقاً، ربما سلمه للشرطة؟ ربما لقنه درساً قاسياً؟ أي شيء إلا...
أنهى جاسر ارتداء قميصه، ثم استدار ببطء شديد ليواجهها، كانت عيناه باردتين كجليد القطب الشمالي، وخاليتين من أي تعبير، لم تكن هناك شفقة، ولا غضب، ولا حتى انتصار.
كان هناك فراغ مخيف.
اقترب منها بخطوة واحدة، ثم خطوة أخرى، حتى وقف أمامها مباشرة، شامخاً كجبل، يلقي بظله الطويل عليها.
انحنى قليلاً ليس في حركة ودودة، بل كحيوان مفترس يقترب من فريسته.
حبست نغم أنفاسها، وشعرت بقلبها يتوقف عن النبض وهو ينتظر رده.
نظر في عينيها مباشرة، وقال ببرود مطلق، ببطء، وكأنه يلقي بحكم لا رجعة فيه:
_جتلته.
سقطت الكلمة في صمت الغرفة كصخرة في بحيرة راكدة، محدثة تموجات من الرعب الصافي لم يرمش له جفن لم يتغير صوته.
قالها ببساطة كما لو كان يقول إنه شرب كوباً من الماء.
تجمدت نغم، واتسعت عيناها في صدمة ورعب، الهواء هرب من رئتيها.
استقام جاسر في وقفته الشامخة، وتابع بنفس النبرة الجليدية
_اللي بيفكر مجرد تفكير يجرب من حاچة تخص جاسر التهامي... مينفعش يعيش لحظة واحدة بعدها."
لم يكن يتباهى، لم يكن يهدد، كان يقرر حقيقة كونية من وجهة نظره.
في عالمه هو القانون، وهو القاضي، وهو الجلاد.
ونغم في تلك اللحظة، لم تكن مجرد فتاة، بل أصبحت "حاجة تخصه". وأدركت بحقيقة مرعبة أن هذا المصير الذي لقيه السائق، هو مصير أي شخص آخر يحاول الاقتراب منها، أو حتى مساعدتها لقد وضع حولها سياجاً من الموت.
•تابع الفصل التالي "رواية ثنايا الروح" الريح والغيامة" اضغط على اسم الرواية