رواية لطيفها عاشق الفصل الثالث عشر 13 - بقلم سميه رشاد
" في لحظة واحدة يدفعك التهور لفعل ما يصدم قلبك، وهذه اللحظة؛ إما أن تكون المنجية من ظلمات قذفتنا الدنيا بداخلها, أو تكون استكمالًا للحظات الهلاك التي تعيشها"
خرجت إلى الجميع بعدما محت ما على وجهها ولكن مازال هناك بعض الأثر الذي لم تنتبه إليه.
قابلتهم بالاحتضان والترحاب الشديد الذي جعل عقولهم تصدق السعادة المزيفة التي أجادت هي وعبدالرحمن نقش صورتها على وجوههما.
جلس الرجال بالداخل والنساء في بهو المنزل
إلا أن عبدالرحمن لم يبخل على دنيا بتلك النظرة الغاضبة التي رمقها بها قبل دخوله مع الرجال.
تناول الجميع في الجهتين أحاديثهم المرحة حتى ارتفعت الضحكات التي خرجت من قلوبهم رغمًا عن الهموم التي كانت تقبض عليها بشدة..
اقتربت رقية في مجلسها من دنيا لعلها تستطيع الاطمئنان منها عليها لتوميء لها دنيا بإيجاب تطمئنها ولا تدري على أي شيء تفعل..
زفرت رقية بعدم تصديق..
لا تدري لما تشعر بدنيا تصنع تمثيلية هي وعبدالرحمن ويوجبان على الجميع تصديقهما بضحكاتهما المصطنعة..
استغلت قيام دنيا لجلب واجب الضيافة فدلفت خلفها لتلتفت إليها دنيا تعانقها بشدة متيقنة من أنها هي..
اهتاج قلب رقية فزعًا من فعلتها التي باغتتها بها..
لتنتظر قليلًا قبل أن تبتعد عنها وتنظر إلى وجهها باستفهام فأشارت إليها دنيا بالنفي مما جعل رقية تزفر بقلة حيلة عاجزة عن فعل ما يساعدهما معًا..
كادت رقية أن تتحدث إلا أن حمحمة عبدالرحمن القريبة جعلتها تقف مبتعدة عنها بهدوء كي لا تثير غضبه أكثر من ذلك..
تفحص عبدالرحمن وجه دنيا الذي يقص الهموم على من ينظر إليه فابتلع تلك الغصة التي وقفت في حلقه بصعوبة..
كل ما يعيشه معها الآن لا يرتضيه..
لم يكن يرسم علاقتهما معًا أن تسير على هذا النحو القاسي المؤلم ولكن ماذا بإمكانه أن يفعل!
وكيف له أن يتناسى فعلتها وكأن لم تفعل شيء؟
بل كيف له أن يلملم شتات ثقته بها التي هشمتها وبعثرت أشلائها على أرض يصعب على كبريائه أن ينحني بظهره ويلملمه خلفها؟!
رفعت دنيا عيناها إليه ترى ماذا يريد ليستقر الندم والقهر بقلبها على حالته التي تقصها عليها عيناه اللتان تفيضان حزنًا..
لم يرد أن ينتظر أكثر من ذلك..
أراد أن يهرب من أمامها قبل أن يعيد قلبه ثورته عليه مرة أخرى فأشار إلى العصائر التي كانت جاهزة بالفعل فابتعدت دنيا من أمامها مما جعله يتقدم بهدوء ويرحل بعدما جعلتها عيناه تندم للمرة التي لا تعلم عددها..
ربتت رقية على ظهرها حينما رأت تلك الدموع التي بدأت في الاصطفاف خلف جفونها مرة أخرى ثم تمتت وهي تساعدها في حمل الحلوى كي لا تتأخران عن العائلة أكثر من ذلك:
- كل حاجة هتعدي يا دنيا بس اصبري.. واتحملي هو غضب عنه وحاولي بكل قوتك توضحي له الموضوع من وجهة نظرك وإن كان هيضايقه بردوا بس أكيد أسهل من اللي وصل له.
-
أومأت دنيا إليها بإيجاب..
وهل تملك غير الإيجاب بهذا الوقت!
لتخرج خلف رقية التي اتسعت ابتسامتها فور رؤيتها لصغيرة أحمد تهرول تجاهها وكأنها تركتها منذ دهر.
انشغل الجميع في الأحاديث المرحة والساخرة من عبدالرحمن الذي كانوا يحاولون إثارة حياءه الذي لم يبخل في زيارته أمامهم..
ارتفعت الضحكات في كلا الجانبين غافلين عن باب المنزل المفتوح على مصراعيه والذي كان غنيمة لذاك الكائن الصغير الذي كان يدور بحثًا عن طعام فأتت له الفرصة على طبق من ذهب.. ليدلف إلى المنزل ويختبيء في أحد الأركان غير مشفقًا على العروس التي لم تفرح بشقتها الجديدة بعد!
انصرف الجميع ولم يتبقَ سواهما..
عادا إلى نفس النقطة التي كانا عليها..
حيث يقفان بمقابل بعضهما..
أحدهما تغمره مشاعر الندم والحزن بينما الآخر غارقًا في بوتقة مليئة بالمشاعر السامة والكراهية الموازية لحب يحلق بحياء في الخفاء..
نظرت إليه دنيا بتردد..
تنتظر أن تواتيها الفرصة وتتحدث إليه علها تنحت قليلًا من جبل القسوة الذي بناه حدًا بينهما..
إلا أنه قوى من ذاك الجبل قبل أن يرمقها بتلك النظرة التي عجزت عن تفسيرها..
لا تعلم أتحتوي على الكره أم تخفي حبًا لم يبخل عليها يومًا به..
أتشتمل على احتقار كما يصور لها أم أن قلبها يصدق ويخفي حنانًا وشفقة بل وتفهم خلف هذا الاحتقار المصطنع..
ليباغتها بقوله الغاصب مرة أخرى
- أنا مش قلت لك تمسحي القرف اللي على وشك دا؟!
أفزعها صوته الغاضب..
فلم تتوقع مبادرته تلك..
بل توقعت انعزاله كما كان يفعل لتجيبه باندفاع:
- مسحته والله
هز رأسه ساخرًا قبل أن يردد
- كل حاجة عندك ليها رد وتبرير حتى لو كانت غير اللي شايفينه..إزاي اسكتي لازم تردي..
لتستكين لرغبته هذه المرة فزفر بضيق من حجابها القصير الذي ود لو أحرقه لها وألبسها آخر شرعي إلا أنه تريس كي لا يسبب لها التعقيد والنفور من طريقته في دعوتها فتركها واتجه إلى غرفته التي يبدو أنه لم يمل منها فنظرت دنيا إلى أثره بضيق من رفضه لإعطائها الفرصة للتحدث إليه بل وإلقائه التهم جزافًا دون وجه حق..
ويبدو أنها دعت على تلك الغرفة التي تخبئه عن عينيها فلم يلبس أن ارتفعت صرخته وفتح الباب بسرعة البرق وهرول تجاه باب المنزل يفتحه بعدما قال
- في فار هنا
بدت من نظراتها أنها لم تفهم ما قال وكأنه تحدث بلغة غريبة لتطالعه بعدم فهم فأشار إلى الغرفة مرددًا حديثه بخوف سببه التقزز من الفئران
- في فار شوفته بعيني
لم يشغلها أمر الفأر أكثر من انتباهها لمبادرته في التحدث إليها فاقتربت من باب الغرفة التي كان يجلس بها والذي أغلقه فور خروجه منها كي لا يستطيع الفأر الخروج إليه فهتف يسألها بصوت مرتعب
- راحة فين؟
التفتت إليه وكادت أن تجيبه بأنها ستفتح باب الغرفة كي يخرج الفأر إلى أن وقفته المتحفزة بتلك المنفضة الطويلة التي يمسكها بين يديه بوضع الهجوم جعلت ضحكاتها ترتفع بقوة ولم تقدر على السيطرة عليها..
فأن ترى عبدالرحمن الذي لم يرعبها أكثر منه في الفترة الأخيرة واقفًا هكذا خائفًا من فأر أمر مضحك للغاية..
لا تصدق..
أهذا الذي ترتعد الفتيات بالدرس فور دخوله خشية من أن يكتشف تدلل إحداهن فيزجرها أو يطردها نهائيًا من الدرس؟!
أهذا نفسه الذي تتهامس عليه كل نساء الحارة كلما مر من أمامهن تنعتنه بالجدية والشدة!
حاولت التحكم في ضحكاتها فور رؤيتها الغضب المرتسم على وجهه من سخريتها منه..
تعلم أنه لا يخشى الفئران كي لا يأذونه..
وإنما خوفه ليس بدافع شيء سوى التقزز منهم..
تعجبت من ضحكتها التي توقفت على الفور فور إرادتها إيقافها..
فهي كثيرًا ما تغلب عليها الضحك في مواقف عديدة ولم تستطع التمكن منه فلماذا الآن تستمع إلى رغبته وتصمت؟! أحقًا الرغبة في إرضاء من نحب تجبرنا على فعل ما لم نتوقع يومًا أن نتمكن من فعله؟!
عفوًا ماذا قالت؟!
إرضاء من نحب؟!
أعبدالرحمن حقًا من تحب؟!
أخرست ضجيج عقلها الذي يعمل في وقت غير مناسب وهي ترى تملل عبدالرحمن في وقفته فاقتربت أكثر من باب غرفته ورددت وهي تفتحه بقلق داخلي هي الأخرى
- لازم نحاول نخرجه ابعد عن الباب عشان لو خرج.
بدا أنه غير مقتنعًا بما قالت ولكنه نفذ مرغمًا فتابعتها عيناه وهي تلتمس شجاعة لا تتحلى بها وتدلف الغرفة ممسكة بإحدى أدوات التنظيف الطويلة فلم يقبل قلبه أن يتركها هكذا وحدها في مقاومة الفأر حتى وإن كان مجرد فأر!
اندهشت من دخوله الغرفة وهو الذي كان منذ قليل يقف على باب البيت خائفًا إلا أنها لم تعقب..
بل بدأت في ضرب الآثاث بما بيدها فشعرا بحركة سريعة مما جعل عبدالرحمن يصيح وهو يهرول خارج الغرفة ولن ينسى قلبه أن يجبر يداه على التقاط قبضتها وجرها خلفه فأسرتها حركته التي جعلتها لا تعلم أتبكي فرحًا لتعلق قلبه بها وخوفه عليها إلى هذه الدرجة أم تضحك على مظهره الذي يجعل من يراه يسقط من فرط ضحكه..
بعدما تمالكت أعصابها سألته بهدوء
- وبعدين.. هنسيبه كدا؟ ممكن يبوظ لنا الحاجة..
ليصمت قليلًا بتفكير قبل أن تلمع عيناه بفكرة جعلته يسحبها من يدها وينزل بها إلى الأسفل..
بعد قليل كان أحمد والحاج رفيق وزوجته هما من يتصارعان مع الفأر بينما عبدالرحمن مختليًا بدنيا في منزل أبيه بعدما أغلق الباب عليهما كي لا يتمكن الفأر من الوصول إليهما..
كانت دنيا تجلس أمامه ولا تستطيع التحكم في الضحك هذه المرة.. فذاك الوقور العاقل أزعق والده وأحمد ووكل إليهما مهمة إخراخ الفأر وجلس هو بالأسفل حتى أن والدته أخذتها الحمية وجعلتها تصعد للانتقام من الفأر الذي أزعح ولدها العريس..
ارتفعت ضحكات دنيا بقوة وهي تستمع إلى صيحات عمها تارة ودعوات زوجة عمها على الفأر وتوعدها له تارة أخرى بينما الجالس أمامها ترتسم على وجهه جميع التعبيرات كلما وصل إليه صوت أحدهم..
ليستمعّا أخيرًا إلى صيحات الظفر والانتصار فتهللت تعابيرهما وتبادلا الضحكات للمرة الأولى منذ زواجهما وظلا هكذا إلى أن نزل الجميع من الشقة وأخبروهما بالخلاص من الفأر فعادا إلى شقتهما مرة أخرى بعدما انتشر بين جميع العائلة فضيحة العريس الخائف من الفأر..
****************
"امسحي يا رحمة الصور دي عشان مجيش أطربقها فوق دماغك"
رسالة قرأتها باستمتاع وهي تتلذذ بارتشاف قهوتها المفضلة لتتبعها أخرى
" ومين اللي معاكِ في الصور دا.. أنتِ اتجننتي"
ومن رسالته الأخيرة تيقنت من أنه هو من جن حقًا بسبب صورها التي وضعتها على حسابها..
تعلم أنها ستتلقى توبيخّا من عائلتها..
ولكن لا بأس..
كل هذا ستتحمله في سبيل الشعور بالسعادة لنيلها منه..
فهي تعمدت حينما انتهت من أخذ دورة اللغة الإنجليزية أن يُلتقط لها ولزملائها العديد من الصور كي تضعها وتشعر بما تشعر به الآن..
فلحظها أن هناك شابًا وحيدًا كان يأخذ معها الدورة وكما المعتاد التقطت الفتيات الصور لهم جميعًا كذكرى ربما لن تتكرر مرة ثانية..
آهٍ من سعادتها وهي ترى رسالته الأولى بعدما رأى صورتها وحدها وهو الذي حذرها كثيرّا من وضع صورها..
لتباغته بالأخرى برفقة فتاتان وذلك الشاب الذي كان ينظر إليها بالصورة لسبب ما لا تتذكره فأشعل فتيل غيرة ذاك الذي تغنى بعدم الاهتمام يومًا..
مكالمة وردت إلى هاتفها من رقم أجنبي لترتفع ضحكاتها وهي تعلم صاحبه جيدًا فأغلقت هاتفها نهائيًا وتركته على الكمود بجوارها ممتثلة لرغبة عينيها في النوم بعدما نجحت فيما أرادته غير مدركة بأنها أثارت غضب الحليم ولم تتقه لتنالها فيما بعد مقوله"اتقِ شر الحليم إذا غضب".
*****************
الغرفة مرة ثانية..
لا لن تسمح لذاك الباب أن يفصل بينهما مرة أخرى..
حتما هناك طريقة للتحدث بينهما..
لابد أن تدافع عن نفسها حتى وإن أجرمت ببعض المواقف فلن تصل لتلك الدرجة التي أخبرتها بها عيناه أنه يراها عليها..
لن تسمح لسوء الظن أن يفسد عليهما حياتهما..
أليس هذا من حول حياتها إلى شقاء متعللًا بالتدين؟
إذًا فليستمع إلى أمر الدين ولا يظلمها بسوء الظن..
دون أي مقدمات وجد عبدالرحمن طرقًا خفيفًا على باب الغرفة تبعه فتحه مباشرة ليغزوه الاندهاش من دخول دنيا السريع الذي تبعه إغلاقها لباب الغرفة عليهما بالمفتاح فزجرها بنظراته رغم فضوله الذي ينهش قلبه ليسمعها تنطق بصوت جاهدت على إخراجه قويًا
- لازم تسمعني..
أشاح بوجهه إلى الجهة الأخرى كعلامة على إعراضه عن سماعها وسرعان من نطق ببرود اعتادته منه
-زي ما دخلتِ اخرجي وخدي الباب وراكي..
إلا أنها تمسكت بحبال الإصرار بين يديها لتدير مفتاح الباب تؤكد على غلقه قبل أن تخرجه منه وتتجه إلى الشباك تفتحه بهدوء أدهش عبدالرحمن الذي استعجب من فعلتها ولكن لم يدم استعجابه بل تبدل إلى صدمة وغضب جم وهو يراها تقذف المفتاح قبل أن تقول
- وريني هتخرجني إزاي.. مفيش خروج قبل ما نتكلم.
•تابع الفصل التالي "رواية لطيفها عاشق" اضغط على اسم الرواية