رواية من انا الفصل الثلاثون 30 - بقلم حليمة عدادي

 رواية من انا الفصل الثلاثون 30 - بقلم حليمة عدادي 

البارت 30

من أنا 

مع غروب الشمس، وتسلّل نسيم الهواء بين الأشجار، وامتزاج أصوات الهمسات غير المفهومة، فتح "يونس" عينيه ببطء، محاولًا استيعاب ما حوله. 


فتحهما وأغلقهما مرارًا، حتى بدأ يدرك أنه مُلقى على الأرض، وكان مجموعة من الأطفال يلتفون حوله. انتفض فجأة، مستعيدًا ذكرياته عن آخر لحظة قبل أن يُغمى عليه، حين شعر بشيء يُلقى على وجهه! 

نظر حوله بلهفة، وعيناه مليئتان بالذعر، فعثر على والده مُلقى بالقرب منه، يحاول فتح عينيه. 

نهض "يونس" بسرعة، وهرع إلى والده، وأمسك بيده ليُعينه على النهوض، ثم هتف بلهفة وهو يتساءل:" 

-بابا، أنت كويس؟ حصل إيه؟ وإزاي وصلنا هنا؟ 


ساعد والده على النهوض، بينما كان ينظر حوله بعينيه الواسعتين، يحاول استيعاب ما يحدث. ثم أجاب قائلاً: 


-أنا كويس، بس شكلهم مش عايزين حد يعرف المكان. بعد ما اغمى علينا ، رمونا هنا بره. يلا نروح. 


"تفرّق الأطفال الذين كانوا يحيطون بهم، ثم تحرّك "يونس" ووالده في صمتٍ شديد نحو المكان الذي تركا فيه سيارتهما. كان كلٌّ منهما غارقًا في أفكاره. 

"يونس" كان يفكّر في كيفية التخلّص من هذه اللعنة، وفي الوقت ذاته كان يخشى أن يتسبّب في ضرر لزوجته. بداخله صراعٌ داخليٌّ مرير، لا يعرف إن كان سينتصر فيه أم لا. 

مجرد فكرة أن يكون سببًا في حزنها كانت تقتله من الداخل. كان يفضّل أن يعيش هكذا طَوال حياته على أن يكون سببًا في ألمها. 

وحين وصلوا إلى السيارة، قطع شروده صوت والده: 

-بلاش تفكر كتير يا ابني. احكي لها  وهي هتفكر معاك، وتلاقوا حل. 

جلس "يونس" في مقعده وهو يشعر بثقل كبير في قلبه، ثم رد بحسم: 


-مش هقول لها حاجه، علشان أنا عارف هي هتعمل أي حاجة علشاني. 


أجاب والده بحكمة: 


-بس يا ابني، هي هتديك شويه دم، وأكيد مش هيحصل لها حاجة. فكر كويس. 


تنهد "يونس" بقلق شديد، و قلبه ينبض بسرعة، بينما كان الألم والصداع يسيطران على رأسه. لا يعرف ما الذي عليه أن يفعله: هل يتبع نصيحة والده ويُخلص نفسه من هذه اللعنة ليعيش هو وعائلته بسعادة، أم يترك "تقى" بعيدة عن كل هذا، مهما كانت التكاليف، ويظل محاطًا بهذه اللعنة، في عالمه المظلم المملوء بالتعقيد؟ 


عقله مليئًا بالشكوك والتساؤلات التي تلاحقه كالعواصف، وكلما حاول أن يقرر، ازداد التوتر في قلبه. كانت تلك اللحظات بمثابة حافة الجنون التي كان على وشك السقوط فيها. 


جلست "تقى" بعد صلاة المغرب، والقلق ينهش قلبها، لم تكن قادرة على الجلوس كأن الأرض تضيق بها، وصدرها يزداد ثقلاً. 

لم يهدأ لها بال، ولم تعرف طمأنينة، حتى تراه أمامها بخير، حتى تسمع صوته. ولكن ما دام لا أثر له، ولا خبر، فلا راحة لها. 

القلق كان يمزقها، والخوف ينهشها من الداخل، فصارت تتحرك في المنزل بلا هدى، تمسح وجهها بكفها، وهي عادة قديمة عند الخوف. 

وفي خضم هلعها، أنقذها من حالتها طرقات على الباب. هرعت بلهفة تركض، تكاد تتعثر من شدة العجلة، لكنها لم تهتم، وكأن قلبها يسبقها، يخبرها أنه هو. 

فتحت الباب بسرعة، وما إن رأته واقفًا أمامها حتى انقضت عليه، تعلقت برقبته واحتضنته، واجهشت بالبكاء. كانت تمسك به بقوة كأنها تخشى أن يفرّ منها. 


أما "أحمد"، فتركهما ودخل إلى الداخل وحده، بينما "يونس" لفّ ذراعيه حولها، يحتضنها بحنو، كأنه يعالج خوفها بحضنه، وكأن الحياة عادتإليه من جديد. 

ابتعدت عنه قليلًا، أمسكت وجهه بين يديها، وبصوت تغلبه الدموع والخوف، قالت: 


–يونس، طمني عليك، إنت كويس؟ إنت بخير؟ ليه تخوفني عليك كده؟ 


أمسك يديها بين كفيه، وقبّلهما بحب، وعيناه لا تفارقان عينيها، كأن فيهما يجد موطنه وسكينته، ثم قال: 


– حقك عليا يا قلبي، بس والله ما قدرت أكلمك ولا أطمنك، أنا آسف. 


نظرت إليه مطولًا، تتفحص وجهه، تتحقق من أنه بخير، ثم أمسكت بيده وقالت: 


–الحمد لله إنك رجعتلي بخير. وبلاش تعمل فيا كده تاني. تعال، نقعد نتكلم... ومرة تانية، رجلي على رجلك... كنت فين؟ 


أمسك بيدها برفق، وكأنّ يده تستمد منها طمأنينة خافتة، وتقدّما سويًا إلى الداخل، حيث كانت العائلة مجتمعة في الصالة الواسعة. 

كانت الأنوار خافتة، وصوت المروحة يتداخل مع همسات القلق التي تسكن المكان. عيونهم اتجهت إليه بمجرد دخوله، وكأنهم ينتظرون منه إجابة لكل ما يدور في عقولهم. 

ألقى عليهم التحية بصوت منخفض، ثم جلس بينهم وقد ارتسم على وجهه الإرهاق، وانطفأت في عينيه شرارة لم تكن لتختفي لولا ثقل ما يحمله. تبادلوا النظرات، ثم انهالت عليه الأسئلة: 

ـ حصل إيه هناك؟ في أي خبر عن الست يا  "يونس"؟ 

ـ طمّنا يا "أحمد" إنت . 


بدأ "أحمد" يسرد ما جرى، وكلماته تخرج بتأنٍ، كأنه يحاول انتقاءها بعناية كي لا يزرع فيهم رعبًا أكبر مما يكفيهم. 

وعندما اقترب من ذكر ما طلبته الساحرة، قاطعه "يونس" سريعًا، بصوت حمل توترًا واضحًا: 


-خلاص يا بابا، ده اللي حصل بس، والمرة الجاية هنعرف أكتر. 


رفع "أحمد" حاجبيه، وأدار وجهه نحوه بحدة، ثم قال بتصميم: 


-بلاش نخبي عليهم يا أحمد! مراتك لازم تفهم، وتعرف كل حاجة. 


تبدلت ملامح "يونس" في لحظة، وبدا كمن سُحب منه الهواء. أراد الاعتراض، لكن لسانه انعقد، ووسط هذا التوتر، كانت "تقى" تنظر إليه بقلق متزايد. شفتيها ترتعشان، وعيناها متسعتان في ترقّب. 

لم تفهم المقصود بكلمات أحمد، لكنها شعرت بأنها تحمل شيئًا خطيرًا. 

نظر إليها "يونس"، وكانت عينيه تطلبان المغفرة. تمنى لو يستطيع أن يمنع أحمد، أن يحجب عنها الحقيقة. لكنه لم يفلح، إذ قال أحمد بصوت حازم: 


-علاج يونس وفك اللعنة مرتبط بتقى! هي اللي تقدر تنقذه. 


تقلّصت المسافة بين الزمن والدهشة داخلها، وامتلأت عيناها ببريق مفاجئ. سعادة ولهفة امتزجتا في قلبها، كأن روحها استعادت نبضها من جديد. 

لم تتردد، أمسكت بيد "يونس" بقوة، وابتسامة مشرقة ارتسمت على وجهها، ثم قالت: 

-أنا مستعدة يا بابا، أعمل أي حاجة! قولّي إزاي أساعده؟ 


في تلك اللحظة، غاص قلب "يونس" بين صراعين. يعلم يقينًا أنها لن تتراجع، لكنه لن يسمح لنفسه بأن يضحي بها. زفر بعمق، وكأن صدره اختنق بثقل القرار، ثم أمسك يديها بين يديه وقال: 

-مش هتعملي حاجة يا تقى، ماشي؟ ولا هقبل إنك تتعرضي للخطر. 


شهقت بهدوء، ثم بلعت ريقها بصعوبة. كانت عيناها تتحركان ببطء على وجوه من حولها، كأنها تبحث عن تأييد، أو ربما عن مخرج. لكنها وجدت فقط نظرات القلق، والصمت المطبق. عقدت حاجبيها، وكأنها تستعد لمعركة، ثم قالت بعزم لا يلين: 


-هعمل يا "يونس" كل حاجة أقدر عليها! بابا، قولّي. طلبت منكم إيه؟ وأنا هعمله. مفهوم؟ 


-تقى، أنا قلت بلـ... 


توقفت الكلمات على شفتيه، حين رفع والده يده في هدوء، مشيرًا له بالتوقف. التفت إليها ثم قال بنبرة هادئة، ولكنها محمّلة بالثقل: 


-بنتي،أنا هقولك، بس بلاش تاخدي قرار وإنتي مستعجلة. الدجالة طلبت شوية دم منك، وخصلة من شعرك، وهدوم فرحكم.  وأنك تيجي معانا. 

ساد صمت قصير. حتى أنفاسهم أصبحت محسوبة. الجميع ينظر "لتقى"، ينتظر ردة فعلها. 

" أحمد" كان يراقب ملامح وجهها، لعله يجد تردّدًا، أو حتى لمحة خوف. لكنه لم يرَ إلا نظرة حادة، فيها من الإصرار أكثر مما توقع! هي لن تتراجع. 


ساد الصمت لعدة ثوانٍ، والأنظار كلها تتجه نحو "تُقى". منهم من رأى في عينيها أملاً، ومنهم من ترجّاها بصمت أن تتراجع، وآخرون أظهروا القلق من قرارها المرتقب. 

لكن لم يدرك أيٌّ منهم أنها قد اتخذت قرارها منذ زمن، ولم تعد بحاجة إلى تفكير. 

كانت تنظر إليه فقط، تكلّمه بعينيها، تخبره بما يعجز لسانها عن قوله، حتى قطعت لحظة التوتر والترقب بصوت حاسم، قائلة: 

–عمي.... يونس. من بُكرة تجهّزوا نفسكم، هنروح للدجالة. 


قالت كلماتها بإصرار وعزيمة لم تترك مجالًا للاعتراض، رغم علمها التام برفض "يونس" القاطع للفكرة. 

لكنها لم تكن تنوي التراجع، فهي مستعدة أن تفدي من تحب بروحها دون أن يطرف لها جفن. 

لم يحتمل "يونس" إصرارها؛ إذ شعر كأن كلماتها خنجر يمزق قلبه، وهلع يعصف بروحه كلما فكّر أنها ستذهب معه بقدميها إلى وكر شيطان. كيف سيقبل عقله أو قلبه بذلك؟ 

لم يرد على كلماتها، بل وقف من مكانه وسط نظرات الجميع القلقة تجاه صمته، وقد احترموا خوفه على زوجته. نظر إليهم بعينين ممتلئتين بالضيق، ثم قال بصوت مخنوق كأن أنفاسه تُثقل صدره: 


–استأذن يا جماعة… هرتاح شوية لحد وقت العشا. 


خرجت كلماته بصعوبة، ثم تحرّك مسرعًا نحو غرفته. تتبعته "تقى" بعينيها، مدركة لقلقه وخوفه عليها، لكنها أيضًا تخشاه عليه؛ من ألمه، ومن حزنه الذي لا يهدأ. 

تنهدت بحزن، ثم وقفت من مكانها ولحقت به. فتحت الباب بهدوء، فوجدته جالسًا على إحدى الأرائك، رأسه بين يديه، شاردًا لا يشعر بوجودها. 

أغلقت الباب خلفها، ثم جثت على ركبتيها أمامه، ومدّت يدها تمسك يده، فشعر بوجودها. رفع رأسه، وبعينين يملؤهما الرجاء، وبقلب يتوسل، قال بصوت مرتعش: 


–بلاش يا تُقى، بلاش تعملي كده وتحرقي قلبي عليك. 

أبصرت في عينيه مزيجًا من الخوف والهلع، ذلك الذي كان يعتريه ويطفو على نبرة صوته المتوسلة. 

لكنها لم تسمح لنفسها بالتراجع. لا مجال للتوقف الآن. هذه مهمتها التي يحملها قلبها، ولن تتخلى عنها مهما كلّفها الأمر حتى إن أدى ذلك إلى خلاف بينهما. 


رغبت في تهدئة الموقف، لا بالصدام بل بالإقناع. اقتربت منه، وأمسكت بيديه بين راحتيها، كأنها تواسيه وتمنحه شيئًا من الطمأنينة، ونظرت إليه بعينين تحملان حبًا كبيرًا وهمست: 

-"يونس"، بلاش تعمل في نفسك كده، هو انت عايز تموت نفسك من الزعل؟! 


مسح بكفه على شعره، ثم أنزل يده على صدره، الذي كان يعلو ويهبط بتسارعٍ واضح، يعكس قلقًا بات ينهشه من الداخل. أمسك يدها مرة أخرى، لكن هذه المرة بحنو، ثم قال بصوت متحشرج: 


-عايزاني أعمل إيه يا "تقى"؟ وأنا مش عايز أضحّي بيكي علشان أتعافى أنا! ليه مش عايزة تسمعي مني؟ بلاش. 


لم ترد عليه مباشرة، بل انتقلت إلى جواره وجلست، لتشاركه القرب قبل أن تسأله بهدوء: 


-"يونس"، لو أنا إللي كنت مريضة وكنت محتاجة حد يتبرّعلي بدم، وإنت نفس الفصيلة، كنت هتعمل إيه؟ 


كان سؤالها كالسهم، لا مفرّ منه، ولا مفرّ من جوابه. حاول أن يهرب بعينيه منها، وكأنها تسحبه إلى هاوية يرفض السقوط فيها، لكنه أدرك أن "تقى" مصرّة على وضعه في وجه الحقيقة. 

وحين تلاقت نظراتهما، كانت نظراتها تخبرها "أنها تحبه و مستعدة للمخاطرة من أجله، بينما هو يخبرها كيف له أن يسمح لها بالمخاطرة بنفسها؟ 

تنهد بعمق، وبلع غصته التي خنقته، ثم قال بصوت أقرب للهمس: 


–أولًا، بعد الشر عليك ِ. وثاني حاجه، روحي فداكِ، مش بس نقطة دم. بس المستشفى مش زي أي مكان تاني يا "تقى"!. 


ظهرت على ملامحها علامات الحزن، لكنها لم تتراجع. عنادها كان أقوى من أي كلمة. وقفت وقالت بإصرارٍ لا يقبل النقاش: 

-بص يا "يونس"، أنا مش هغير رأيي. لو عرفت إني هموت، هموت وأنا معاك. حتى لو على الموت، ماشي. هقوم أساعد ماما في الطبخ. 


أنهت كلماتها، واستدارت لتغادر الغرفة، لكن فجأة، أحست بيده تسحبها من ذراعها، فارتطمت بصدره. 

رفعت رأسها نحوه، فوجدته ينظر إليها بجمودٍ، ملامحه متصلبة لا تبشّر بخير... ظلّت تحدّق فيه لدقائق، تنتظر منه أي رد، حتى تسلل القلق إلى قلبها، وقالت بصوتٍ خافت: 

-مالك يا "يونس"؟ في إيه؟ إنت كويس؟ 


زفر الهواء كمن يحاول طرد قلقٍ متجذر، ثم ترك ذراعها، ووضع يده على خدها برفق، وقال: 


–غلبت معاكِ يا توته، مش عارف أعمل معاكِ إيه... بفكر أحبسك هنا في الأوضة؛ علشان ما تعمليش حاجة مجنونة. 


ضحكت بخفة، تلك الضحكة التي تسرق قلبه في كل مرة، وأسندت رأسها على كتفه، وقالت وسط ضحكاتها: 


–عايز تحبسني يا "يونس"؟ بس ما تنساش، حتى لو حبستني لآخر العمر، هطلع، وهعمل اللي أقدر عليه. 


طبعت قُبلةً خاطفةً على خده، ثم انسحبت بخجل نحو الخارج، تسرع في خطواتها كأنها تفرّ من نفسها، تاركةً إياه واقفًا في مكانه، يضع يده على موضع القبلة، كأن دفئها لا يزال عالقًا على بشرته. شعر بوخزٍ في قلبه، وارتسمت على وجهه ابتسامة صغيرة، تسارعت معها دقات قلبه، ثم همس لنفسه: 

-مجنونة، بس بحبها، لا دنا بموت فيها... يا رب أقدر أحميها. 


افاق من شروده على صوت الحديث بالخارج، التقط أنفاسه بعمق ثم خرج حيث يجلس الجميع، وجلس يتحدث معهم في مواضيع شتى، حتى أخبرتهم "منة" بقرارها العودة إلى منزلها. 

ورغم اعتراض الجميع، خاصةً "تقى" التي بدا الحزن على وجهها، إلا أن أمها كانت مُصرّة على قرارها، مؤكدة أنها ستعود لزيارتهم من حين إلى آخر. 


استمر الحديث العائلي في جو دافئ، حتى لاحظ "أحمد" غياب "مؤمن" عن المنزل، فتلفّت بنظره في أرجاء المكان ثم سأل: 

-"حسام"، هو "مؤمن" راح فين؟ شكله  طلع اول ما جه من المطعم  يرتاح في أوضته. 


- لا يا بابا، "مؤمن" قال إنه عنده شغل بالليل في مكان تاني، وأول ما خلص معايا ، طلع على هناك على طول. 


لم يعلّق "أحمد"، لكنه شعر بمزيج من الفرح والحزن في آنٍ واحد؛ سعادته كانت في تأكده من حب "مؤمن" الصادق لابنته، وأنه يعمل ليلًا ونهارًا ليجمع بينهما، يجاهد قسوة الحياة لأجلها، أما الحزن، فكان من أجل تعبه وإرهاقه، وتساؤلاته التي لم تغب عن ذهنه: «أين سينام؟ هل سيعمل الليل بطوله؟ ومتى سيأكل؟» 

تنهد، ثم رفع نظره نحو ابنه وسأله: 


–"حسام"، طيب هو ماقلش  هيبات فين؟ دا احنأ لسه ما قلناش له على مكان البيت اللي "يونس" أداه له. 


أجابه "حسام" مطمئنًا: 


–هو قال هيبات في مكان الشغل، ده إللي رايح يشتغل فيه. 


انتهوا من  الحديث بشأن "مؤمن"، ثم جاءت الفتيات بالعشاء ورتبن الطعام على المائدة. تناولوا وجبتهم سويًا، ثم انصرف كلٌّ منهم إلى غرفته استعدادًا ليوم الغد؛" منة" وابنتها حضرا حقائبهما والسفر إلى منزلهما، و"يونس" ليستعد للذهاب إلى "الساحرة". 


نام بعضهم نومًا عميقًا، ومنهم من طارد النوم جفونه فجلس قلقًا يراقب الليل في سكون، ومنهم من أنهكه العمل حتى غلبه وعليه النوم، ولكن لم يكن له راحة حقيقية، فعمله لم ينتهِ بعد. 

في صباح اليوم التالي، وبعدما أنهى الجميع وجبة الإفطار، انصرف كلٌّ إلى وجهته. رافق "يونس" والده في طريقه للساحرة ومعه "تقى"، التي كان كل شغلها الشاغل هو حبيبها فقط وكيف تنقذه. 

ساد الصمت بينهما طوال المسافة ، لم يكن هناك حديث، فقط أفكار ثقيلة ومشاعر متضاربة تملأ قلب "يونس". 

كان الخوف ينهش روحه، والانقباض يزداد في صدره. شعور مبهم يثقل كاهله؛ وكأن هذا الطريق ليس بداية، بل نهاية محتملة! 

الفكرة وحدها كانت تفتك به في صمت، تضعه بين نارين؛ إما أن يعود "بتقى" رغماً عنها، أو يستسلم لرغبتها ويكمل الطريق معها. 

وفي النهاية، لم يجد سوى التوكل على الله ملاذاً له، فراح يدعو في سرّه أن تمرّ الأمور بسلام، وأن تكون هذه الرحلة خيرًا لهما. 


أما "تقى"، فكان الترقب يملأها، حماسٌ حذر، يمتزج بشيء من التوتر. لكنها كانت تحمل في قلبها أملاً كبيرًا، أملًا بأن تكون هذه الخطوة التي أقدمت عليها هي الخلاص، وأن يعود زوجها كما كان، سعيدًا، معافى النفس. 

لطالما رأت حزنه يتسلل من عينيه، وجرحه يتجدد كلما سمع كلمات الناس. تمنت كثيرًا لو كان بيدها دواء يشفيه، وها هي الفرصة قد أتت، ولن تدعها تفلت من يدها. 


رفعت بصرها إليه، فرأته شارداً، كأن ذهنه تائه في عالم لا يعرفه سواها. مدت يدها إليه، وضغطت عليها برفق. انتبه لها، ووضع يده الأخرى فوق كفّها، كما لو أنه يحاول أن يجد فيها طمأنينته، ثم قال: 


-"تقى"، بصي، لو إللي هتطلبه السحارة دي هيأذيك، وأنا حسّيت إني مش مرتاح ولازم نمشي. بلاش عناد أدامها ، ماشي؟ 


رغم أنها كانت مستعدة للمضي قدمًا مهما كلفها الأمر، إلا أنها لم تشأ أن تزيد قلقه. اكتفت بابتسامة صغيرة وقالت: 


في صباح اليوم التالي، وبعدما أنهى الجميع وجبة الإفطار، انصرف كلٌّ إلى وجهته. رافق "يونس" والده في طريقه للساحرة ومعه "تقى"، التي كان كل شغلها الشاغل هو حبيبها فقط وكيف تنقذه. 

ساد الصمت بينهما طوال المسافة ، لم يكن هناك حديث، فقط أفكار ثقيلة ومشاعر متضاربة تملأ قلب "يونس". 

كان الخوف ينهش روحه، والانقباض يزداد في صدره. شعور مبهم يثقل كاهله؛ وكأن هذا الطريق ليس بداية، بل نهاية محتملة! 

الفكرة وحدها كانت تفتك به في صمت، تضعه بين نارين؛ إما أن يعود "بتقى" رغماً عنها، أو يستسلم لرغبتها ويكمل الطريق معها. 

وفي النهاية، لم يجد سوى التوكل على الله ملاذاً له، فراح يدعو في سرّه أن تمرّ الأمور بسلام، وأن تكون هذه الرحلة خيرًا لهما. 


أما "تقى"، فكان الترقب يملأها، حماسٌ حذر، يمتزج بشيء من التوتر. لكنها كانت تحمل في قلبها أملاً كبيرًا، أملًا بأن تكون هذه الخطوة التي أقدمت عليها هي الخلاص، وأن يعود زوجها كما كان، سعيدًا، معافى النفس. 

لطالما رأت حزنه يتسلل من عينيه، وجرحه يتجدد كلما سمع كلمات الناس. تمنت كثيرًا لو كان بيدها دواء يشفيه، وها هي الفرصة قد أتت، ولن تدعها تفلت من يدها. 


رفعت بصرها إليه، فرأته شارداً، كأن ذهنه تائه في عالم لا يعرفه سواها. مدت يدها إليه، وضغطت عليها برفق. انتبه لها، ووضع يده الأخرى فوق كفّها، كما لو أنه يحاول أن يجد فيها طمأنينته، ثم قال: 


-"تقى"، بصي، لو إللي هتطلبه السحارة دي هيأذيك، وأنا حسّيت إني مش مرتاح ولازم نمشي. بلاش عناد أدامها ، ماشي؟ 


رغم أنها كانت مستعدة للمضي قدمًا مهما كلفها الأمر، إلا أنها لم تشأ أن تزيد قلقه. اكتفت بابتسامة صغيرة وقالت: 

-ماشي يا "يونس"، إهدى كده، وبلاش تقلق كل حاجة هتبقى تمام إن شاء الله. 


اكتفى هو الآخر بابتسامة باهتة، ثم نظر إلى الأمام، غارقًا في صمته حتى وصلا إلى القرية. 

توقفا في نفس المكان الذي توقفا فيه سابقًا، ونزلا من السيارة. مدّ يده إليها، وكأنّه يبحث في لمستها عن قوة تساعده على تجاوز هذا الخوف الذي يتملّكه. 

تقدما سويًّا، حتى وقفا أمام الأشجار التي يعرفانها جيدًا. كان "أحمد" يسير أمامهم، وهما خلفه، بنفس الخُطى التي سلكوها من قبل. 

حين لمحت "تقى" الحديقة، انتابها الذعر، وتشنّج جسدها، وجفّ ريقها. لاحظ "يونس" ارتجافها حين أمسكت بذراعه بشدة، وضغطت عليه بلا وعي. اقترب منها، وهمس بصوت دافئ: 


-"تقى"، لو خايفه، نرجع... بلاش ندخل. 


أرخَت قبضتها على ذراعه، وأخذت نفسًا عميقًا محاولة التماسك حتى لا تتراجع. ثم سحبت يدها من ذراعه، ووقفت بثبات، مسيطرة على توترها، ثم قالت بصوت هادئ: 

-أنا بخير يا "يونس"، ياله نكمل اللي جينا علشانه. 


وما إن أنهت كلماتها، حتى تحركا سويًا نحو تلك البوابة السوداء. وما إن وقف أمامها، حتى خرج ثلاثة رجال أمامهم فجأة. 

انتفض جسد "تقى" من منظرهم المريب الذي يبعث الرعب في النفوس، فتراجعت خطوة إلى الخلف! 

لاحظ "يونس" ذلك، ونظر إليها بعينٍ يملأها العتاب، كأنه يقول لها: 

"لماذا أجبرتِ نفسكِ على المجيء إلى هذا الوكر؟" 


كلما لمح الخوف في عينيها، انقبض قلبه؛ لم يكن يرغب في أن يرى ذلك الهلع فيها. عاد إليها، وأمسك بيدها، ثم تقدم ليقف إلى جانب والده.. وعندما فتحت البوابة، أدرك أنها ستجزع من المشهد، فرفع ذراعه وضمّها إليه، فهدأت كأنها وجدت سكينتها. 

دخلوا معًا إلى الداخل، حيث استمر ذلك الهواء العفن الكريه في ملء المكان. واصلوا السير عبر الممر الطويل، حتى وصلوا إلى تلك الغرفة التي دخلوها من قبل، لكنها هذه المرة بدت مختلفة؛ كانت غارقة في ظلام دامس، لا شموع مضيئة، ولا أي ضوء... فقط أصوات مرعبة تملأ الفراغ؟! 


تشبثت "تقى" بذراع "يونس"، وتعلقت به بقوة حتى كادت تلتصق به، كأنهما جسدٌ واحد! 

أنفاسها تلفح عنقه، فطوّقها بذراعيه ليطمئنها. حينها، بدأ الرجال بإشعال الشموع في أركان الغرفة وفي مركزها، شيئًا فشيئًا انكشف المشهد أمامهم بوضوح. 

ظهرت الساحرة أمامهم بوضوح، وبدأت توقد النار التي اشتعلت أمامها بسرعة غير معتادة. ثم هتفت بصوت خشن قائلة: 

-اقعدوا و هاتوا إللي طلبته. 


عندما سمعت "تقى" صوتها، انتفض قلبها داخل صدرها، فابتعدت قليلاً عن "يونس" ثم نظرت إلى المكان بتفحص. أطراف أصابعها كانت ترتجف بشدة. جلسوا جميعًا على الأرض الرطبة فوق التراب، وما إن لامست أجسادهم الأرض حتى شعروا بحرارة غير عادية!! 

التصقت "تقى" بيونس، ممسكة بذراعه، بينما هو قام بإنزال حقيبته الصغيرة من على ظهره. كان ينظر إلى الساحرة، منتظرًا أن تعجل بالأمر لكي يخرج بسرعة قبل أن يستفرغ ما في بطنه بسبب القلق الذي يعتصره، وتلك الروائح التي تفوح من المكان. 

قطع لحظة السكون صوت الساحرة الذي كان يحمل في طياته الرعب، رغم كبر سنها، قائلة: 


-هات هدومكم أنت و مراتك، وهات خصلات من شعرها. 


فتح "يونس" الحقيبة، وأخرج منها ما طلبت، بالإضافة إلى بعض خصلات شعر زوجته التي أخذها من مشطها، ثم قدمها إلى الساحرة. مسكت الساحرة الثياب، ثم نظرت إلى الخصلات. تغيرت ملامحها بشكل واضح، وظهرت بعض العروق على وجهها كما لو كانت ستنفجر من وراء جلدها، ثم قالت: 


-عايزه خصلات من شعرها مقطوعة بمقص، مش نازلة في المسط. هاتوا حته من شعرها. 


ختمت كلامها ثم قدمت له مقصًا أسود كبير الحجم. قبض "يونس" على المقص، وكانت يداه ترتجفان من الغضب، فقد كان يشعر بشيء من الانكسار، لكنه لم يستطع أن يرفض. 

كانت الغضب واضحًا على وجهه، لكنه لم يمسك المقص بقوة كما لو كان يرفض أن يقص شعر زوجته. 

حين جلست "تقى" أمامه، لم تترك له خيارًا. قالت له بنبرة هادئة لكنها حازمة: 


-خد يا "يونس"، قص من شعري، مش عايزه أي اعتراض. 


ثم استدارت، وجعلت وجهها مقابلًا لوجهه، وطلبت منه أن يرفع حجابها قليلاً، حيث لا يرى أحد شعرها، وهي ستقصه. فعل يونس ما طلبته، بيد مرتجفة وعينين مليئتين بالدموع والاعتذار عن ما يحدث لها بسببه. 

لكن نظراتها كانت تطمئنه، تخبره أنها أسعد إنسانة في العالم، وأنها تفعل هذا من أجله. قصت بعض الخصلات، وضعتها جانبًا، ثم بدأ "يونس" في ترتيب حجابها كما كان من قبل. 

وما إن انتهى من ذلك حتى طبع قبلة على جفنها، كأنها قد بثت فيه الأمان والدفء. ثم عادت إلى مكانها، بينما قدم "يونس" الشعر للساحرة. 


مسكت الشعر بيدها، وربطت به الثياب كما لو كان حبلًا، ثم بدأت تتحرك شفتيها بصوت هامس، وتقول بعض الكلمات التي لم يفهمها أحد. 

عندما انتهت، نظرت إليهم وقالت بصوت منخفض: 


-فين قطرات الدم من زوجتك، وقطرات منك أنت؟! 

 •تابع الفصل التالي "رواية من انا"  اضغط على اسم الرواية

تعليقات