رواية أحفاد المعز الفصل الثاني و العشرون 22 - بقلم زينب محروس
الفصل الثاني و العشرون
اتسعت حدقتي داليا، و فرغ فاهها، و نطق بصدمة شديدة:
- حامل ازاي؟!!!
أدمعت عينيها، و تشدقت بصوت يختنق:
- مش عارفة دا حصل ازاي، كام غصب عني و الله!
- غصب عنك يعني ايه؟ غصب عنك يعني!
كانت داليا تضرب على وجهها كفًا تلو الآخر، حتى احمرت وجنتاها من شدة الضرب، و تردد تلك الكلمات بحسرة كبيرة، فهي تعلم أن ابنة أخيها لما تتزوج بعد، فمن أين لها بهذا الجنين القابع في أحشائها.
تجاهلت ميار الدموع الراكضة على وجهها، و توسلت إليها:
- عشان خاطري تساعديني يا عمتي، عشان خاطر بابا حتى.
أطبقت داليا قبضتيها على ذراعي ميار، و جعلت تهزها بغضب شديد و هي تسألها:
- هساعدك ازاي! أنتي عاملة مصيبة!
أردفت ميار بهدوء يسبق العاصفة:
- جوزيني حسام.
****************
في ذات اليوم التي أدلت فيه أروى شهادتها، تم استدعاء مريم التي سبق و أن اتفقت معها أروى، و بذلك فقد توحدت أقوال الشهود و تطابقت مع ما قاله باسل.
و بعد مرور أسبوعين على اعتقال باسل، جاء اليوم الفاصل في القضية، أحضر الشرطي باسل إلى غرفة وكيل النيابة و تبعه شريف المحامي، أشار لهما وكيل النيابة بالجلوس، ليبدأ حديثه مشيرًا إلى ملفي ورقي أمامه:
- هذا الملف هو تقرير عن الأدلة التي قدمت إلينا.
نظر شريف إلى باسل مطمئنًا، لا يعلم أن ما كُسيت به قسمات وجهه ما هي إلا حزن و خذلان من المقربتين إليه، عاد وكيل النيابة ليقطع الصمت قائلًا:
- بناءًا على الأدلة، النيابة ترى أن المتهم كان واقعًا تحت الإكراه و قد تعرض للتهديد، مما ينتفى معه القصد الجنائي، و ذلك يتم تحويل القضية للتحقيق في الشبكة الإجرامية، و هذا يعنى أنك تستطيع العودة إلى وطنك يا باسل، أنت لست معتقل بعد الآن.
حرك باسل رأسها بابتسامة بسيطة تنم عن الامتنان، في حين نطق شريف شاكرًا:
- شكرًا سيادة وكيل النيابة.
خرج باسل من البناء برفقة المحامي، فأقبل فارس و حسام إليه مهنئين، و تلحق بهما أروى بخطوات متثاقلة، تقدم الأحفاد إلى المحامي بعبارات الشكر و الامتنان، فأخبرهم أنه لم يفعل شيء سوى اتباعه لأوامر رمزي.
حاولت أروى أن تتحدث إلي باسل لكنه تجاهلها مجددًا، و جذب فارس من ذراعها بعيدًا، ليسأله باهتمام واضح:
- عملتوا ايه مع أمي ؟
- الخطة مشيت زي ما إحنا عايزين، و والدتك اعترفت بكل حاجة، بس أروى خسرت الدليل اللي بتثبت حق والدها.
عقد باسل ما بين حاجبيه سائلًا:
- خسرتها ازاي؟
أوضح فارس الأمر قائلًا:
- خطتنا نجحت بس مش زي ما رسمنا، لأن مرات عمي خطفت العيلة كلها و هددت بقتلنا لو أروى مسلمتهاش العقود اللي معاها، و أجبرتها تحرقهم بإيدها.
***************
هرعوا إلى بابا القصر ليستقبلوا القادمين من الكويت، علت وجوههم ابتسامات عريضة، سبقهن رمزي محتضنًا باسل بترحاب شديد و هو يتلفظ بكلمات طيبة، و من بعده زوجتا عميه.
جلسوا معًا يتناولون الغداء بعدما انزاحت تلك الغمة عن حياتهم، لكن هذا لا يمحو التشاحن السلبي بين باسل و أروى، التي يتجنبها بشكل واضح، جعلها تعيسة رغمًا عنها.
انسحب باسل من بينهم ليسرتح في حجرته، و لحقت به أروى حيث أغلقت الباب خلفهما بإحكام، فالتفت ورائه إثر سماع صوت الباب، لكنه لم ينبت ببنت شفة، و إنما تحرك إلى خزانة ملابسه، و انتقى لنفسه ثوب منزليًا مريح.
أوصد باب الخزانة مرة أخرى، و قبل أن يرفع قدميه عن الأرض وقفت أروى أمامه مباشرة، و تلفظت بنبرة حزينة:
- ممكن بلاش الصمت العقابي ده؟
أشاح بوجهه بعيدًا عنها، و أخذ خطوة للأمام لم تلحق بها أخرى، حيث أمسكته من زراعه قائلة:
- باسل أرجوك، بلاش تخاصمني.
زفر زفرة حارة، و نفض قبضتها بعيدًا عنه، و توجه إلى دورة المياه، كانت تجلس على تلك الأريكة الجانبية عندما تمدد باسل بجسده على الفراش، فاقتربت منه مجددًا، لكنه أولاها ظهره، فقررت الانسحاب و تركه يأخذ قسطًا من الراحة، لكنها ما إن استوت على قدميها، اجتاحها دوارٌ مفاجئ، و سقطت مغشيًا عليها.
انتفض من موضعه إثر ارتطامها بأرضية الغرفة، دنا منها ناطقًا باسمها، لكنها لم تجبه، فحملها عن الأرض، ثم وضعها على الفراش، و ضرب على وجنتيها بخفة، و النتيجة أنه لم يحصل على ردٍ منها، فاستعان بعطره النفاذ، فنجحت هذه المحاولة في إيقاظها.
عزم على النهوض عندما اطمئن عليها، لكنها منعته من الذهاب عندما أمسكته من معصمه، و أردفت بندم صادق:
- أنا آسفة!
حل قبضة يدها عن رثغه بجفاء، و نزل إلى الطابق السفلي، حيث كانت وفاء تتناقش مع ابنها حول خطوبة شقيقته، فنطق فارس قائلًا:
- خلينا نأجل الموضوع دا شوية يا أمي، باسل دلوقت مش أحسن حاجة.
- عايزين تأجلوا ايه؟
كان هذا صوت باسل الذي تناهى إلى سمعهم، قبل أن يتحرك ليجلس مجاورًا لزوجة عمه، التي نقلت نظرها بينه و بين فارس قبل أن تجيبه قائلة بتردد:
- في عريس عايز يخطب فداء، فبنفكر نأجل الموضوع شوية عشان الظروف اللي احنا فيها.
ضيق ما بين حاجبيه قائلًا:
- ظروف ايه! ما احنا الحمدلله وضعنا بقى زي الفل اهو، لو الشاب كويس و ظروفه مناسبة و فداء موافقة عليه يبقى فين المشكلة.
رد عليه فارس قائلًا:
- أنا بقول لو نستنى شوية، و لا أنت ايه رأيك؟
أجابه باسل:
- أنا من رأي يجيب أهله و يجوا نتفق و لو مش مختلفين على حاجة يبقى تمام على بركة الله، بس أهم حاجة تكون فداء موافقة.
قالت وفاء بدورها:
- من ناحية فداء هي موافقة.
*************
علي صعيد آخر.
كان حسام يرتب ثيابه برفقة والدته التي تعبث بقطعة الملابس في يدها بعقل شارد، فتمعن حسام في وجهها سائلًا:
- مالك يا دودو؟ ايه اللي شاغل بالك.
انتبهت إليه داليا و ردت بتلعثم:
- اه...اه مفيش.
سائلها بنبرة من الشك الظاهر على عينيه التي ضاقت:
- متأكدة مفيش حاجة؟
ازدردت ريقها و قالت:
- ميار جت زارتني من كام يوم.
- طب و فين المشكلة؟
سألته داليا باندفاع:
- ايه رأيك تتجوزها؟
ولدت الإجابة على شفتيه قبل أن تنهي سؤالها، فقال:
- لاء طبعًا، دا مستحيل.
- مستحيل ليه يا حسام، مش كنت بتحبها؟
أجابها نافيًا:
- كنت، في الماضي يا ماما، لكن دلوقت لاء مبقتش بحبها بقت زي أخت مش أكتر.
ألقت داليا قطعة الملابس من يدها و قالت بإصرار:
- بس أنا عايزاك تتجوزها.
تلوت شفتيه ببمسة ساخرة حين قال:
- هو الجواز عافية و لا ايه، بقولك مبحبهاش، و هي أصلا مش هتوافق.
- لاء هي هتوافق، أنا متأكدة.
طالعها بنظرات من الشك:
- هو في ايه يا ماما؟ أنا مش مطمن!
اخفضت صوتها قليلًا و غمغمت:
- ميار حامل.
صُعق من جملتها، فهتف بنبرة من الازدراء:
- نعم! يعني ايه حامل! و أصلا اتجوزها ليه و هي حامل!
- وطي صوتك مش لازم حد يسمع.
- ما اللي يسمع يسمع، كدا كدا مفيش حاجة بتستخبي.
سألته باهتمام:
- طيب و هنعمل ايه، دي في الشهر التالت.
- كمان في التالت، يعني بطنها قربت تبان، يا دي الفضايح اللي إحنا فيها!
قالت داليا بتوسل:
- ما عشان متبقاش فضايح استر عليها عشان خاطر خالك، سمعته هتبقى في الطين.
- ما تتهبب على عينها و تتجوز اللي غلطت معاه، أنا مالي أشيل شيلة غيري ليه!
- ممدوح اللي كان صاحبك ده هو ابو الولد، بس ضحك عليها و سابها و سافر، عشان كدا لازم تتجوزها، عشان خاطري يا حسام، وافق عشان خاطري، و لو أنت حابب تتجوز واحدة تانية بعدين مفيش مشكلة، بس أهم حاجة تتجوز ميار دلوقت حتي لحد ما تولد، اهو نثبت قدام الناس إنها كانت متجوزة و خلاص.
أردف حسام مستنكرًا:
- دي لو قاصدة تدمر لي حياتي مش هتعمل كدا، لما كنت بحبها و طلبت اتجوزها رفضت و دلوقت لما حبيت غيرها جاية و عايزة تشيلني نتيجة غلطها!!
************
استيقظت أروى لصلاة الفجر، فاكتشفت أنها نسيت سجادتها و مصحفها الخاص في حجرة زوجها، فذهبت لأخذهم، كانت تفتح الباب بحذرٍ شديد لكنها دفعته بحركة سريعة عندما سمعت تلك الشهقات الصادرة من الغرفة.
دخلت و هي تبحث عنه بعينيه، فصدمت من هيأته عندما وجدته ينزوي بنفسه أرضًا ليستند بظهره على محيط سريره، فكان يبكي بكاءًا مريرًا، تتقطع لأجله نياط القلوب.
اقتربت منه سريعًا، لتجثو أمامه عبر ركبتيه، و سألته بقلق و لهفة:
- مالك يا باسل؟
انتبهت إلي تلك الصورة في يده، و التي لم تكن سوى لأمه سميرة، فهمت الآن سبب بكاءه، فكما توقعت أن يمر عليه ما حد كمرور الكرام، أحتضنته سريعًا، و جعلت تربت على ظهره و هي تحاول تهدأته و تقديم عبارات المواساة، لكنه دفعها بعيدًا عنه، استعدادًا لانفجار بركان الغضب المكتوم بداخله، ذلك البركان التي وضعت والدته حجر أثاثه و جاءت من بعدها أروى و تسببت في تمدده بالغدر و الخذلان، فقد نهض قاذفًا الإطار الزجاجي في عرض الحائط ليتهشم إلى قطع صغيرة، و صرخ في وجهها قائلًا:
- ابعدي عني، متعمليش نفسك بريئة، أنتي كمان زيها، أنتي كمان غدارة و قاسية و معندكيش رحمة، متحاوليش تقربي مني تاني.
حركت رأسها برفض متتابع و استوت على قدميها قائلة:
- أنا عارفة إني غلطانة في حقك، بس انا مش كدا و الله، أنا عمري ما كنت غدارة و لا قاسية و الله، كل اللي حصل كان سوء تفاهم، كان الانتقام عامي على عيني، لكن عشان خاطري اعطيني فرصة أخيرة و ثق فيا.
هدر في وجهها معاتبًا:
- و أنتي موثقتيش فيا ليه! حكمتي عليا و نفذتِ العقاب اللي شوفتي إني استحقه، من غير ما تفكري فيا و لو لثانية، استغلتيني في لعبتك أكتر من مرة و أنا سكت و متكلمتش، لكن مش هسكت دلوقت أنا مبقتش عايز اشوفك، اخرجي من حياتي، مش عايز اشوفك تاني.
كانت تعلم أنها حتمًا ستسمع منه عبارات قاسية و تلك، و له كل الحق في ذلك، لكنها لم تنتحب أكسر من ذلك، بل مسحت الدموع عن خديها و قالت:
- لاء مش همشي، ازعل مني و خاصمني و اطردني زي ما أنت عايز بس أنا مش همشي، مش هقولك مش غلطانة، لاء غلطانة بس أنا مش هسيبك و لا هبعد عنك.
قبض باسل على ذراعيها بعنفٍ شديد، ليهزها بعنفٍ مسترسلًا:
- احنا مش هننفع مع بعد، لا أنتي بتثقي فيا و لا أنا هثق فيكي تاني، علاقتنا بدأت مصلحة و اتحولت انتقام يبقى مستحيل تكون علاقة طبيعية، و لا هنعرف نكون زي أي ثنائى.
حاولت إقناعه فقالت:
- خلينا نعتبر نفسنا في تعارف من أول و جديد، كدا كدا أي اتنين بيدخلوا حياة بعض بتكون الثقة بينهم مش موجودة في الأول.
رفع ذراعيه عنها و قال:
- بس برضو مبتكونش الثقة منعدمة بينهم، بيكون عندهم أساس للثقة بإيدهم يحولوه لعمود متين تتبني عليه علاقتهم، إنما بيني و بينك مفيش أساس للثقة أصلاً.
كانت تأمل بفرصة جديدة في علاقتهما فقالت:
- مش مشكلة، خلينا نبدأ من تحت السفر و نأسس علاقتنا من جديد.
ارتخت نبرة صوتها مردفًا:
- صعب يا أروى، صعب علاقتنا تنجح.
خرجت من حجرته و هي تجر معها أذيال الخيبة، جلست موضعها بعدما انتهت من تأدية فرضها، كانت تفكر بوجه عابس، تتردد كلماته في أذنيها، جُرحت من قسوته عليها لكنها التمست له العُذر، و بالرغم من تمسكها الشديد و إصرارها على إنشاء علاقة ناجحة معه، إلا أنها قررت الابتعاد لبعض الوقت، كي تمنحه مساحة ليتقبل ما حدث مؤخرًا و يفكر في علاقتهما معًا.
************
في صباح اليوم التالي، كان رمزي يتناول الطعام مع زوجته التي بدأت الحديث بسؤالها:
- تعتقد باسل هيسامح روضة على اللي عملته؟
ابتلع ما في حلقه من طعام ثم أجابها:
- مش هيسامحها، و بصراحة معاه عذره، أنا لو مكانه أصلا و مراتي عملت حاجة زي كدا كنت طلقتها.
دافعت عنها عمتها فقالت:
- بس أروى فهمت الموضوع غلط.
- ما دا كمان دافع أكبر يخليه يطلقها، ايه اللي يخلي واحد يستحمل يعيش مع واحدة حاولت تسجنه و كمان مش بتثق فيه، و اكيد باللي حصل ده هو مش هيثق فيها تاني، فبالمنطق كدا مفيش سبب يخلي علاقتهم تستمر.
- لاء في، الحب يقدر يتغلب على كل ده.
ارتشف رمزي من كوب الشاي الخاص به، قبل أن يضعه على المنضدة قائلاً:
- أنا أتمني علاقتهم تستمر، بس أنا بقولك وجهة نظري.
قبل أن تنطق عمتها بكلمة أخرى، وجدا كلاهما أروى تدخل إليهما بعدما فتحت الباب بنسختها الخاصة، و قد أحضرت حقيبة أغراضها، تحركت إليها عمتها و هي تسألها بقلق:
- ايه اللي حصل يا أروى؟ اتخانقتي مع باسل؟
أومأت برأسها تأكيدًا، و قالت:
- أيوه يا عمتي، و هقعد معاكم هنا يومين على ما باسل نفسيته ترتاح.
اعترضت عمتها قائلة:
- لاء طبعًا مش هتقعدي هنا، أنتي هترجعي على بيت جوزك.
تدخل رمزي ناهرًا زوجته:
- إيه اللي بتقوليه دا، ما دا بيتها و تقعد هنا زي ما تحب.
أوضحت عمتها قصدها:
- أيوه بيتها و أنا مش بطردها، بس عشان مصلحتها فهي لازم ترجع عند باسل، اسمعيني يا أروى لو سبنا النار تهدى لوحدها هتاكل كل حاجة، لكن لو طفينا النار في الأول كدا هننقذ جزء كبير من التدمير، و ساعتها هيكون سهل علينا نصلح الجزء الصغير، عشان كدا لازم ترجعي قصر المعز و متسبيش باسل لحظة واحدة، حتى و هو في شغله اختلقي الفرص عشان تتكلمي معاه و تراضيه.
*************
كان باسل عائدًا إلى مكتبه و بجواره فارس الذي يتناقش معه في أمور العمل، و لكن ما إن دلفا من عتبة الباب و جدا أروى تستند برأسها على ذراعيها فوق المكتبه و قد غلبها النعاس، التفت فارس إلى باسل قائلًا:
- أنا هخرج و نبقى نتكلم بعدين، بس عايزة اقولك حاجة، أنا عارف إن العلاقة بينكم متوترة اليومين دول، بس صدقني أروى بنت كويسة و بتحبك بجد، عارف إنك اتظلمت بينها و بين والدتك بس متنساش ان أروى بقالها ٣ سنين بتعاني، و لو أنت اتوجعت و اتظلمت فهي كمان اتظلمت و اتوجعت أضعافك، فبلاش تخسرها يا باسل.
خرج فارس و أغلق معه الباب، في حين اقترب باسل من أروى بخطوات مترددة ثم جلس على الكرسي المقابل لها، و هو يتأمل قسمات وجهها الطفولية، لاح على شفتيه شبح ابتسامة و غمغم متمنيًا من بين أسنانه:
- ياريتنا اتقابلنا في ظروف أحسن.
أطلق زفرة حارة، و تحرك ليكمل عمله دون أن يزعجها، و لكن كان لهاتفها رأي آخر، حيث صدح معلنًا عن إتصالٍ من صديقتها سلوى، فاستيقظت و تحدثت إليها تحت مراقبة منه و اختلاسه بعض النظرات إليها دون أن تشعر، فكانت لديه رغبة شديدة في معرفة هوية المتصل و تحديدًا أنها كانت تتحدث باختصار دون أن توضح هوية المتصل أو حتى محتوى الحوار.
انشغل في ملف أمامه عندما وجدها تنهي المكالمة بابتسامة على وجهها، فاقتربت إليه أروى بشخصية مرحة تتنافى عن ما حدث بينهما مؤخرًا، و قالت بدلالٍ و حماس:
- ايه رأيك نخرج نتغدى برا؟
رد عليها باقتضاب:
- مش فاضي.
- بس دا وقت الغدا و كل الموظفين واخدين بريك دلوقت.
كان يرد عليها دون أن ينظر إليها:
- قولتلك مش فاضي، و بعدين أنا مش موظف، أنا الرئيس التنفيذي.
اقتربت منه أكثر و مالت برأسها و قالت:
- طيب بعد إذن الرئيس التنفيذي ينفع يخرج يتغدى مع مراته؟
رفع عينيه ناظرًا إليها، لكن أربكه قربها الزائد، فأشاح بنظره بعيدًا:
- لاء مش هينفع.
- عشان خاطري يا بيسو.
أغمض عينيه متحكمًا بانفعاله، فهذا اللقب الطفولي التي تدعوه به، يعطيه رغبة في التخلص من غضبه منها، فهتف بغضبٍ مصطنع:
- اخرجي من مكتبي فورًا.
كُسيت ملامح وجهها بشعور الإحباط، فتراجعت بيأس و غادرت، فتشدق باسل من بين شفتيه بحنق، و هو يطالع أثرها:
- يخرب بيت الحب اللي مش هيخليني أعرف أخد موقف!
عاد ثلاثتهم إلى القصر بعد إنهاء عملهم، توجه حسام سريعًا إلى مطبخ القصر و هو يسألهن بحماس:
- شامم ريحة كيك، ممكن ادوق؟؟
ردت عليه فداء و قالت مشاكسة:
- دي كيكة الحب، يعني مش ليك.
لم يفهم مقصدها و لكن أيقظت جملتها شيء بداخله، فغمغم بنبرة من الحزن:
- ما لازم تكون مش ليا، دا أنا و الحب أعداء.
استفسرت فداء عن حديثه:
- بتقول ايه؟ مش سامعة!
- و لا حاجة، و لا حاجة.
************
دلف إلى حجرته كي يستبدل ثيابه بأخرى، فوجدها تقترب منه حاملة كعكته المفضلة، بادرت أروى بالقول:
- عملتلك كيكة القهوة اللي بتحبها.
نظر إليها ساهمًا قبل أن يتلفظ ساخرًا:
- يا ترى المرة دي هتسرقي ايه! المرة اللي فاتت كنتي بتغفليني و عايشة دور الزوجة عشان تسرقي مني العقود، المرة دي عايزة ايه!!!
تعمد باسل أن يوقظ في نفسها وخز الذنب، و بالفعل قد نجح في ذلك، لكنها استطاعت أن تبدو ثابتة، بل و أظهرت لثام المرح و المشاكسة، فأشارت إلى موضع قلبه و قالت:
- المرة دي ناوية أسرق حاجة اكبر و أعظم و أغلى، المرة دي ناوية أسرق منك قلبك للأبد.
أردف ساخرًا:
- مش عيب الإنسان يحلم، بس لازم تعرفي إن مش كل الأحلام بتتحقق!
رفضت جملته بحركة من رأسها وقالت:
- معاك حق، حلمي مش هيتحقق لو تنازلت عنه، لكن لما يبقى الحلم هو الشغف و الحياة ساعتها إجباري عن رغبتك و رفضك هقدر برضو أحقق حلمي و هنرجع نبني علاقتنا من أول و جديد.
- كمان بتتكلمي بصيغة الجمع!
- مينفعش اتكلم غير بصيغة الجمع، عشان أنا مش موجودة من غيرك و أنت مش موجود من غيري، و لا ايه رأيك يا بيسو؟؟
تلفظت بسؤالها الأخير و هي تطالعه بترقب، و لوهلة تلاقت عينيه بخاصتها، فأشاح بنظره بعيدًا، فتبسمت و قالت:
- خد وقتك و ازعل مني براحتك، تجاهلني، و زعق لي، و اجرح مشاعري لو لزم الأمر، بس دا كله و أنا معاك، و لازم تعرف إن النار مش هتفضل مشتعلة طول الوقت و مسيرك ترجعلي بحبك و حنيتك تاني.
تحرك إلى خزانة الملابس، فوضعت الطبق من يدها جانبًا، و أخذت ثوب جديد قد وضعته على الفراش سابقًا، و اقتربت منه قائلة:
- أنا جهزت لك طقم بيتي، إلبسه.
التقطه من يدها و ألقاه بعيدًا، فذهبت لتأخذه مجددًا، و لكن في تلك اللحظة اجتاحها دوار شديد، أفقدها توازنها فسقطت مغشيًا عليها.
انتفض قلبه عليها، حملها فوق قدميه و هو ينادى اسمها، لكن دون رد منها، استعان بعطره كالمرة السابقة، و عندما عادت إلى وعيها سألها بنبرة يتطاير منها القلق:
- أنتي كويسة؟؟
منحته ابتسامة باهته و جلست بنصفها العلوي و أجابت:
- كويسة، متقلقش.
- لازم تشوفي دكتور، دي تاني مرة تفقدي الوعي.
- لاء مفيش داعي لدكاترة، هتلاقي ضغطي نزل شوية بس.
- انتي اكلتي.
حركت رأسها نفيًا، فحملها بين ذراعيه واضعًا إياها على الفراش، و طلب منها أن تبقى كما هي إلى حين عودته، غاب عن غرفته لعدة دقائق قبل أن يأتي إليها بطعام أعدته فداء لأجلها، وضع أمامها الطعام قائلًا:
- لازم تاكلي عشان صحتك.
- يبقى تاكل معايا.
- لاء، أنا فعلاً مش جعان.
صمتت لوهلة لتفكر، ثم قالت:
- خلاص يبقى تاكل من كيكة القهوة اللي عملتها عشانك.
اصغى باسل لطلبها دون اعتراض منه، و بالفعل شرع يتناول كل منهما ما أحضره الآخر، و كلاهما يختلصان النظرات إلى بعضهما البعض.
*********
كانت فداء تُعد كعكة من أجل حسام، حينما جاء إليها فارس قائلًا:
- بقولك يا فداء.
التفتت إليه بعدما أخرجت كعكتها و تركتها حتى تبرد، و قالت:
- في ايه؟
سألها فارس بقلق غلب فضوله:
- هي دينا ردت على فيديو الشرح اللي قولتلك تبعتيه؟؟
حركت رأسها نفيًا و قالت:
- لاء هي مفتحتش نت أصلا، و لا شافت الفيديو عشان ترد عليه.
سكت فارس ساهمًا و تشدق مردفًا:
- غريبة! دي حتى مش بترد عليا، تعتقدي زعلت عشان اتأخرت على ما بعتلها الشرح؟
حركت شقيقته كتفيها دللالة على جهلها بباطن الأمر، و قالت:
- مش عارفة و الله يا فارس، طب ما لو معاك رقم والدتها تواصل معاها و اسألها هي مش بترد علينا و لا بتفتح النت ليه؟
- مش معايا رقمها.
تلفظت فداء بنبرة توحي بعدم الاهتمام:
- خلاص فكك، خد ل حسام من الكيكة دي و أنت طالع، أنا رايحة اصلي المغرب.
زفر فارس بحرارة و قال بوجهٍ مقتضب:
- وديها أنتي أنا خارج.
كانت في طريقها إلى غرفته، لكنها توقفت عندما وجدته يهبط على درجات السلم، فابتسمت و قالت:
- عملتلك كيكة مخصوص عشان متزعلش.
التقط قطعة منها ليتذوقها، فبدا متلذذًا بتناولها، و مع ذلك أعاد إليها ما تبقي قائلًا:
- شكرًا، تسلم إيدك.
كان في طريقه ليتخطاها و لكنها أوقفته حين سألته:
- أنت خارج؟؟
استدار قائلاً:
- أيوه عايزة حاجة؟؟
هزت رأسها سريعًا بنفي، قبل أن تسأله:
- رايح فين؟ شكلك مستعجل.
- هقابل ميار.
شهقت فداء و قالت بفزع:
- أنت هترجع تخرج معاها و تروحوا الأماكن الهباب دي تاني!!
أوضح لها قائلًا:
- لاء طبعًا، مش عشان كدا، بس هنتكلم في موضوع ضروري.
- موضوع ايه؟
- حاجة خاصة.
- خاصة ازاي! لو فعلاً مش هتروحوا الأماكن دي ما تخليها تيجي و تتكلم معاك هنا.
- مينفعش.
- خلاص خدني معاك.
- لاء طبعًا.
- يبقى بتكذب عليا.
صرخ حسام في وجهها قائلًا:
- فداء أنا مش صغير، و بعدين أنا مش خايف منك لو عايز أرجع لشخصيتي القديمة مش هاخد إذنك، دي حياتي و أنا حر.
أدمعت عينيها، فطأطات رأسها و همست:
- أنا آسفة.
- يتبع الفصل التالي اضغط على (أحفاد المعز) اسم الرواية