رواية اشتد قيد الهوى الفصل العشرون 20 - بقلم دهب عطية

     

رواية اشتد قيد الهوى الفصل العشرون 20 - بقلم دهب عطية

                                         
                                              
بلاش تنسوا التفاعل على البارت حمسوني
للاستمرار في الكتابة
...........................................................
عندما يصعب علاج الألم ويزداد شراسة نلجأ إلى المسكنات لعلّها تخفّف الوجع ولو قليلًا...



تعمل المسكنات بطريقة عجيبة تمنح هدنة مؤقتة للوجع ثم يعود بعنف يداهمك بلا 
رحمة كطعنة مباغتة تتبعها سيلٌ من الطعنات...



وكل ما عليك فعله هو الصمود حتى النهاية تلجأ إلى المسكنات وتنتظر المفعول...



لمدة أسبوع ظلّ يلجأ إلى المسكنات بضراوة محاولًا أن يقحم نفسه في صحبة امرأة أخرى حتى ينساها. وحين ظنّ أنه اندمج مع أخرى ونسيها عاد الألم يفتك به بشراسة... 



والمسكنات لم تعد تجدي نفعًا.



وبالطبع لا تجدي نفعًا فحين رآها صباح اليوم تحرّك قلبه من موضعه وكأنه نهض من سباته الطويل وشُفي من آلامه... فسعة عينيها السوداوين فضاءٌ يحوي ألف مجرة لا يراها سواه... وحدها كانت قادرة على أن تنسيه الألم...لكنها فشلت في أن تنسيه كرامته المجروحة بعد أن رفضته...



كيف يتقبّل الأمر... وكيف يعود معها كما كان؟
كل شيء انتهى بيديها... أو ربما بيده...



فهو من ركض كالأحمق يشي بسرّ السنوات يفضح مشاعره أمام حبيبة أنانية صُنعت 
من الجليد....



باردة الى درجة يحترق المرء وهي تقف لتشاهد بملامح متصلبة....



لماذا لا يساعده قلبه على النسيان؟



لماذا لا يستجيب للمسكّنات ويهدأ وينزع هذا الحب بعذابه؟...



لماذا هو ضعيف بهذا الشكل المُخزِي في حبها؟



"الهدية جميلة أوي يا ياسين... ذوقك يجنّن.. "



انتبه إلى الصوت الأنثوي الذي اخترق ضجيج أفكاره رفع عينيه مندهشًا وكأنه نسي وجوده هنا... بصحبة ميار (المسكن).



لقد نسي حتى أنهما يتناولان وجبة الإفطار في أحد المطاعم الفاخرة وأنه قدّم لها هدية عيد ميلادها....



هدية نسي تفاصيلها... ربما حصل عليها سريعًا من أحد المتاجر عطرٍ... أو ساعة نسائية...



لا يتذكّر....كلّ ما يتذكّره أنه أحضر هدية اعتيادية لا تستحق هذا الانبهار والامتنان
الذي يلمع في عينيها وهي تنظر إليه وكأنه أحضر لها العالم.



شعر بالاختناق وعدم الارتياح من تلك الخطوة التي يقوم بها مع فتاة... كل ذنبها أنها تهتمّ به وربما معجبة وهو يستغلّ تلك النقطة كمنفذ لأوجاعه....



انظر يا قلبي... إلى أين أوصلتني...



"ياسين... انت كويس؟ ساكت ليه؟ مش عادتك يعني.... دا انت حتى مفطرتش..."



عاد صوتها الناعم يخترق صراع أفكاره...



فأعطاها كامل تركيزه وهو يقول...


 
 
"مفيش حاجة يا ميار... أنا كويس كمّلي فطارك..."



ثم نهض فجأة من مكانه فنظرت إليه بدهشة متسائلة...



"رايح فين؟... "



ردّ بملامح متجهمة...



"هشرب سجارة برّه... وجاي."



قالت ميار بعدم رضا....



"معقول بعد صيام طول النهار هتفطّر على سجاير؟!"



ألقى عليها نظرة محتدّة وبمبالغة منه صاح



"أنــا حُــر.... "



تراجعت في مقعدها بخوف منه وهي تقول باضطراب...



"أنا مش قصدي حاجة... أنا بس عليك مش أكتر..."



أخرج ياسين أنفاسه بعصبية وهو يغمض عينيه لثانيتين ثم فتحهما قائلًا بصعوبة



"معلش يا ميار... أنا مش في المود النهاردة.
أنا عايز أمشي..."



عقدت حاجبيها بدهشة وتابعت بحيرة...



"بس إحنا مفطرناش.. وملحقناش نسهر مع بعض دا المغرب لسه مأذّن مبقلهوش ربع ساعة..."



ردّ مقتضبًا دون اكتراث...



"افطري إنتي على مهلك... أنا هدفع الحساب وأنا خارج... سلام.... "



ثم تركها وغادر دون أن يمنحها فرصة للرد بينما هي تجمّدت في مكانها وظلّت تحدّق في الفراغ وأمارات الصدمة والغيظ تعلو وجهها الشاحب...
................................................................
ظلّ لساعات يجوب المدينة بالسيارة حتى منتصف الليل وحينها وصل إلى البيت وصعد إلى الأعلى حيث السطح وفتح الغرفة التي كانت لسنوات طويلة ملاذهما ومكان لعبهما وحديثهما حتى كبرا… فبقيت كما هي مكانهما المفضّل....



لمح ياسين الجيتار مركونًا في أحد الأركان وكأنه يناديه... أو يستفز ضعفه ووجعه.



كان صديقه لسنوات عديدة لكنه في تلك الساعة تحديدًا يراه عدوًا يود التخلّص منه.



اشتعل صدره بمشاعر عنيفة وتعامل بمنتهى الهمجية مع الشيء الذي كان مسكن لألمه لسنواتٍ طويلة....



أمسك الجيتار وبكل قوته ضربه في الحائط مرارًا وهو يصرخ بغضب يزأر كأسدٍ جريح يظنه الجميع لا يعرف الخيبات ولا يُرفض
أبدًا....



لكنها رفضته... كما فعلت أمه من قبل.



"ياسين..."



من الغباء أن تظهر أمامه الآن. كان عليها أن تتوارى عن أنظاره لأيامٍ حتى يستعيد توازنه... لكنها ظهرت في لحظة هي الأسوأ...في أشد لحظاته ضعفًا وغضبًا.



استدار ينظر إليها بوجهٍ أحمر متعرق وأنفاسٍ هائجة عاليةوجسده ينتفض من شدة العصبية بينما عيناه تنظران إليها بشراسة وكأنه على وشك أن ينقضّ عليها.




        
          
                
كانت تقف عند الباب بإسدال الصلاة كفريسةٍ ضعيفة تنتظر مصيرها المحتوم مترددة خائفة... لكنها ترفض التراجع.



لاحظ احمرار مقلتيها من البكاء وشحوب وجهها الملحوظ... وكأنها انكبت على أحزانها لساعات تبكي دون توقّف....



قالت بصوت مرتعش...



"ياسين... إنت كويس؟"



ظهورها كان غلطة لكن هذا السؤال تحديدًا
هو الشعرة الفاصلة بين الثبات والانفجار.



وقد كان... فقد صرخ في وجهها بعنف وهو يقترب منها ويدفعها للخروج...



"إنتي مالك؟... كويس ولا متزفت امشي اطلعي برا... "



قاومت أبرار دفعاته القوية وهي تلاحظ الخدوش في يديه والدماء تتقاطر منها.



"إيدك بتنزف.... وريني..."



وحين أمسكت بيده انتفض بنفورٍ غاضب وكأن حيّة لدغته !....



نظرت إليه بصدمة مبهوتة بينما عاد يصرخ بقسوة...



"ملكيش دعوة بيا.... اطلعي برااا... "



رفضت أبرار بعناد...



"مش هطلع قبل ما أعرف مالك... "



أجابها بسخط دون ذرة ملل...



"أبدًا... لقيت نفسي فاضي فقولت أتنيل أجن شوية.... يلا غوري... "



فغرت فاها بصدمة متألمة



"أغور؟!... "



أومأ برأسه بملامح قاسية ونظرة نارية قاتمة



"أيوه غوري مش عايز أشوف وشك هنا تاني... ولا حتى في أي حتة أكون فيها... ساااامعة؟!"



أغمضت عينيها بخوف وهو يصرخ في وجهها كثورٍ هائج...



فتحت عينيها لتواجه غضبه بأعصابٍ باردة..



"إنت في وعيك؟.... بتكلمني أنا كده؟"



زجرها وهو يرمقها باستخفاف مهين...



"أيوه بكلمك إنتي كده تطلعي مين إنتي
في حياتي؟!"



شعرت بطعنة مباغته في قلبها وأخرى تجرح أنوثتها فصرخت بغيرة...



"وفين كلامك ليا؟!... ولا كان كلام في الهوا واتغير أول ما قابلت ميار بتاعتك؟!"



أرجع رأسه للخلف وقال بنزق....



"آه قولي كده إنتي جاية لحد هنا... عشان تسأليني عنها؟!"



أومأت برأسها دون إنكار وهي تصيح 
بتملّك...



"أيوه إيه اللي بينك وبينها؟! ليه رجعت تشوفها وتكلّمها؟!"



لم تزده غيرتها وتملكها إلا غضبًا ونفورًا منها فأجابها بطريقة تشفي غليله...



"عجباني وأنا عجبها... وإنتي بقى دخلك إيه؟!"




        
          
                
اشتد نشيجها وهي تسمع إجابته الجارحة...



"دخلي إنك قولت إنك بتحبني... وإنك..."



قاطعها بصوت ساخر قاسٍ مسنّن...



"قولت إيه إني بحبك؟!... أُحبك إنتي أحب واحدة زيّك أنانية مبتفكرش غير في نفسها عايزة تكون محور الكون... هي وبس... وطـز في الباقي..."



تراجعت أبرار خطوتين إلى الخلف بصدمة ووجع وكأنها تلقّت منه صفعات دامية على وجنتيها....



هتفت بصوت ضعيف متألم...



"إنت بتقول كده عشان توجعني زي ما وجعتك... أنا معترفة إني غلطت واتسرعت... بس عايزاك تفهمني..."



قاطعها بنفس الأسلوب الجارح...



"بالعكس... أنا اللي اتسرعت لما فكرت فيكي إنتي متستاهليش حاجة... أنانية... "



ترقرقت الدموع في عينيها وقلبها يئنّ من 
وقع كلماته القاسية...



"ياسين... متقولش كده... أنا مش أنانية ولا وحشة... أنا بس..."



صرخ في وجهها يذبحها بنصل كلماته ومعها يذبح قلبه...



"لأ أنانية بدليل إنك جاية تسأليني عن ميار... إزاي نسيتك بسهولة كده وشوفت غيرك؟! أنانية عايزاني أفضل معاكي حتى بعد اللي عملتيه وقولتيه..."



ثم أضاف بكراهية شديدة...



"اتعامل عادي وابقى تحت أمر الملكة أبرار... دلوعة العيلة... اللي مبتغلطش... واللي حتى في غلطها عايزة ياسين يفضل في ضهرها يشجعها ويلّم من وراها..."



شقّ شفتيه بابتسامة منفعلة وهو يهتف باهتياج....



"عايزة ياسين يدلع ويدادي ويحب وهي تاخد كل حاجة على الجاهز وفي الاخر.... احنا أخوات... اخوات وولاد عم..... "



ثم زالت الابتسامة وقال بعينين جامدتين...



"خلاص... خلينا إخوات بس إخوات بجد مش كده وكده أعرف اللي أعرفه وأمشي مع اللي تعجبني ومصيري هتجوز اللي تدخل دماغي"



سألته والدموع تسيل بغزارة على 
وجنتاها...



"وبالنسبة لقلبك؟!"



رد بجمود...



"طالما غلط وحب واحدة أنانية زيك يبقى مصيره يبدّلك بالأحسن..."



خرجت كلماتها المعترضة مع شهقات بكائها...



"أنا مش أنانية... بطل تقول الكلمة دي..."



لم يرأف بحالها بل أكّد بقسوة..



"لا أنانية اللي تعمل كده تبقى أنانية.. انتي مش بتعملي كده معايا انا بس.. إنتي حتى أبوكي حرماه يعيش حياته بأنانيتك... مش مكفيكي عشر سنين من عمره عيزاه يكمل
بقيت عمره لوحده... "



"بس عشان مفيش واحدة تانية تاخده منك مع إنك مش مهتمة بحد غير نفسك... "



"حتى شروق... صحبتِها بس عشان ما تفكرش تقرب من أبوكي"




        
          
                
هزّت رأسها نفيًا ودموعها تتسابق مع شهقاتها المرتعشة...



"محصلش... إنت بتظلمني... صحبتها عادي مفيش في دماغي حاجة... كفاية تجريح... كفاية... "



لكنّه لم يرحمها وهدر بإهانة لاذعة...



"دا مش تجريح دي حقيقتك انتي واحده أنانية مش بتفكري غير في نفسك... وبكرة تصحي متلقيش حد جمبك بسبب انانيتك المقرفة...."



نظرت إليه بصدمة منهارة وكلماته تطعن في قلبها بضراوة.. فرأت قسمات وجهه متصلبة 
بقسوة وعيناه اللتان غادرهما الحنان والحب أصبحتا قاسيتين جافتين في تعبيرهما
نحوها.....



قالت بصوت اختنق من شدة الوجع...



"أنا مش مقرفة... أنا بحبكم... وعمري ما تمنّيت لحد فيكم الأذى... يمكن طريقتي 
في الحب غلط... بس مش أنانية والله..."



انهمرت دموعها فمسحتها بعنف وقالت 
بحرقة...



"بس إنت عندك حق... أنا فعلاً زوّدتها مع بابا... ومن حقه يعيش ويتجوز ويخلف كمان..."



"وكمان إنت... من حقك تنساني وتحِب 
واحدة تانية..."



أولت ظهرها مبتعدة تنوي الخروج لكنها توقفت عند الباب واستدارت نحوه لتقول بنبرة نادمة....



"بس كنت عايزة أعترف لك بحاجة... أنا مش رفضة مشاعرك... أنا بس اتوترت... ومعرفتش أعبّر عن اللي جوايا..."



لم تلن ملامحه ولا عينيه لكنها تابعت رغم الانهيار...



"مكنتش فاهمة بالظبط إذا كان اللي جوايا ناحيتك ده عشان إنت ابن عمي... ولا عشان حاجة تانية... واتأكدت النهاردة لما شوفتك معاها..."



عقب بسخرية قاتمة...



"اتأكدتي من إيه؟...... إنك مغرمة بيا؟!"



رمقته بعينين تصرخان بالرحمة قبل أن تعترف بغصة مريرة...



"اتأكدت إن الموت أهون عليا من إني أشوفك مع واحدة تانية..."



اهتزت عضلة في وجهه تأثرًا... أو أنها تتوهّم.



فتابعت بثبات رغم انهيارها...



"وبلاش تقول إني أنانية... عشان أنا مش هقف قدام سعادتك لو فعلاً اخترت ميار وحبتها..."



ثم أنهت باعتراف شجاع....



"ربنا يسعدك... إنت بجد تستاهل حد أحسن مني.. أنا فعلًا مستاهلش حاجة زي ما قولت..."



غادرت....



وتركته واقفًا مكانه جسده متشنج ونيران الغضب تتغذى على ما تبقى منه... بينما عيناه معلقتان بالباب الذي خرجت منه لتوها ينظر إليه بعينين غائرتين... يسكنهما الندم !...



................................................................
انحنت لتضع الصينية في الفرن بعد أن أخرجت غيرها ثم جلست على الأرض تملأ علبة متوسطة الحجم بالكعك... كانت رائحة المخبوزات تملأ الشقة وكانت ملك تدخل إليها كل دقيقتين لتأخذ قطعتين وتخرج لدرجة أن شروق قالت لها هذه المرة باستياء...




        
          
                
"هتفضلي تحوّلي فيهم يا ملك لحد العيد
مش هنلاقي حاجة نفطر بيها..."



ردّت ملك بتلذذ وهي تضع الكعكة الصغيرة في فمها دفعة واحدة..



"طعمه حلو أوي يا ماما بيدوب في البوق... ولا البسكوت..."



مدّت يدها لتفتح العلبة التي وضعت فيها شروق بسكويت العيد التي انهت خبزه للتو فضربتها شروق على يدها موبّخة...



"إنتي لسه واكلة طبقين... كفاية كده..."



هتفت ملك بضيق..



"هتحسديني يا ماما..."



ردّت شروق بنبرة حانية...



"مش هحسدك، بس عشان معدتك... عمالة تلخبطي وفي الآخر بتيجي على دماغي أنا."



أومأت ملك برأسها على مضض وهي تقول بابتسامة واسعة....



"مش مصدقة إن كلها كام يوم والعيد ييجي ماما لازم نشتري الهدوم بكرة... إنتي
وعدتيني."



قالت شروق وهي تنقل الكعك إلى طبق زجاجي أنيق...



"مش بكرة النهارده... هطلع لأبرار أقولها
يمكن تيجي معانا... تشتري حاجة للعيد."



قالت ملك بابتهاج...



"يعني ألبس عشان هنخرج؟!"



أكّدت شروق وهي تفتح علبة البسكويت وتضع منه في طبق آخر مطابق...



"أيوه البسي... أنا هطلع الطبق ده لخالتي وأقولها وكده كده دي آخر صينية في الفرن وبكرة أعمل الغُريبة والبيتي فور..."



قفزت ملك من مكانها بسعادة خارجة من المطبخ....



"ماشي كلامك يا شوشو... طيارة هتلاقيني جاهزة... "



أطلقت شروق تنهيدة طويلة وهي تنظر إلى الطبقين بتردد... فرغم يقينها من أنه في الخارج في هذا التوقيت تحديدًا إلا أنها 
خائفة من الصعود للأعلى...



لم تكن حريصة هكذا في البداية وربما جرأتها وعدم مبالاتها بتصرفاتها معه هي ما جعلها تصل إلى هذه النقطة الفاصلة...



فلم يعد هو (الشيخ) ولم تعد هي (المرأة
التي يُحسن إليها)...



(أيوه...... عايز أتجوزك...)



توقفت طويلًا عند هذه الجملة. ظلت عيناها تحدّقان فيه بلا تعبير وملامحها مشدودة مذهولة...



حينها تصرف كما عرفته وكما جذبها إليه...



تحرك بالسيارة ملتزمًا الصمت مكتفيًا بكلمتين قاطعتين...



(هستنى ردّك...)



وكيف يكون الرد؟... القبول بالحلم المستحيل جريمة ستُعاقب عليها من الناس ومن ابنته ومن ابنتها... والرفض؟ هو الندم. سيظل غُصّة مريرة في قلبها المتيم بالشيخ...



نعم متيمة به وهل تُنكر أنها مغرمة بشدة؟
وأنها كانت تحلم بتلك اللحظة المستحيلة؟



لكن كان حلمًا... وظلّ حلمًا لا يتجاوز حدود الواقع....




        
          
                
كيف تسلّل حلمها إليه فأصبح طلبًا يحتاج ردًا؟



وهل تملك الإجابة بعد كل ما ذُكر؟...



صعدت إلى الأعلى بخطوات هادئة وبين يديها صينية متوسطة الحجم تحوي الطبقين 
كعك وبسكويت العيد.والرائحة القوية الشهية تحكي عن مدى إبداعها في خبزهما...



كانت ترتدي عباءة منزلية أنيقة وحجابًا وضعته على رأسها بعشوائية لكنه لا يُظهر خصلة منه....



وصلت إلى الطابق الثالث وطرقت على الباب منتظرة أن تفتح لها الجدة أبرار...



لكن الباب فُتح من قبل جَبَلٍ شامخ...



عقدت حاجبيها بتوجّس وهي ترفع عينيها إليه...



تلاقت بخضار عينيه اللتين لم ترهما منذ أكثر من أسبوع منذ أن عرض طلبه وانتظر الرد وهي تتجاهل كل سُبل التواصل المكالمات الرسائل وحتى وجوده في البيت...



لماذا ظهر اليوم تحديدًا أيّ حظ تعيس 
جعلهما يتصادفان اليوم؟...



بلعت ريقها بارتباك وأسدلت جفنيها تهربًا منه وكأن الأدوار تبدلت فجأة بينهما وأصبح هو المبادر الوحيد في تلك العلاقة...



أي علاقة؟!...



لن تكون هناك علاقة... مستحيل...



"إيه؟...... بتفكري تهربي؟"



كلماته جمّدت الدماء في عروقها أكثر فرفعت عينيها إليه مجددًا والصينية ترتجف بين يديها.... توترها أمامه يرسل ذبذبات عنيفة
إليه كلها تصب في أنه يريدها... لا محالة



"ههرب من إيه... مفيش حاجة... أنا كنت جايبة ده لخالتي..."



مدّت له الصينية كي يأخذها... ورغم أنه كان يود ذلك لأن الصينية تهتز بوضوح وربما تقع من يدها إلا أنه رفض متمسكًا خوفًا من أن تهرب بعدها فقال وهو يفسح لها الطريق...



"دخليها لخالتك بنفسك..."



قالها بصوتٍ ممازح عابث.... وهذا لا يخرج من الشيخ ماذا دهاه؟...



هل نسيتي يا غبية أنه رجل... وكل الرجال تُجيد التلاعب؟



لماذا تظنين أن كونه "شيخًا" يعني أنه "مَلَكٌ" نزل من السماء؟...



زمت فمها بسأم ووضعت الصينية على أقرب طاولة ثم استدارت لتراه يغلق الباب.



قالت بخوف...



"متقفلش الباب..."



قطب صالح جبينه متعجبًا وقال بنبرة خشنة صارمة...



"أمي في المطبخ وأبرار في أوضتها... اطمني إحنا مش لوحدنا..."



أخفضت رأسها بحرج... فهي تتصرف كمراهقة لا كامرأة شابة عاقلة...



وهل ترك لها الشيخ عقلًا؟!



يريد أن يتزوجها... هي؟!



"مردّتيش عليا..."




        
          
                
نظرت إليه بعينين واسعتين وقالت بتلعثم



"في إيه؟... أنا لسه بفكر..."



ابتسم صالح متعجبًا متشدقًا...



"في إيه ولسه بتفكري؟!.... دي جديدة..."



ثم استرسل قائلًا بنبرة خشنة جادة...



"وطالما لسه بتفكّري ليه مش بتردي عليا؟! قوليلي الكلمتين دول..... وبعدين اقفلي.
أنا مش طالب أكتر من كده... أكيد مش هتكلم معاكي طالما لسه ما كتبناش الكتاب..."



جفّ حلقها بصدمة وهي تخرج الكلمتين بصعوبة....



"نكتب الكتاب؟..."



أومأ برأسه متحدثًا بمنتهى الثبات...



"طبيعي...ما دي الخطوة اللي المفروض ناخدها بعد ما أعرف ردّك..."



زاد شحوب وجهها وهي تُبعد عينيها عنه بحرج... فقال صالح بنبرة قلقة...



"إنتي كويسة يا شروق؟ من آخر مرة وإنتي متغيّرة..."



وقبل أن ترد أتت عليهما والدته قائلة بحفاوة



"شروق.... إنتي هنا... "



اقتربت منها شروق وعانقتها بمحبة قائلة..



"كل سنة وإنتي طيبة يا خالتي.. جبتلك كحك وبسكوت عمايل إيديا... عملتهم النهاردة..."



ابتسمت والدته وقالت بمودة..



"يا حبيبتي وإنتي طيبة... ريحتهم وصلت
لحد المطبخ..."



انحنت شروق وأخذت الطبق وناولته لها 
قائلة...



"طب دوقي.... وقوليلي رأيك..."



أخذت والدته واحدة وأكلتها وحين أعجبها المذاق قالت بعفوية يشوبها الحزن...



"تسلم ايدك.... رجعتيني لأيام زمان
يا شروق... كنت بحب أعمل حاجات العيد كلها في البيت... بس دلوقتي بقيت أشتري جاهز... من بعد موت جميلة وأنا بطّلت أعمله في البيت..كانت شاطرة كده زيّك وبتحب تعمل كل حاجة..."



رفعت شروق عينيها إلى صالح لترى ردّ فعله فرأت عينيه شاردتين،.... غائمتين بالحزن...
و... بالحنين...



يبدو أنه يشعر نحوها بالانجذاب فقط...
أما قلبه فهو بعيد... بعيد جدًا...



ابتسمت شروق بحزن وقالت...



"ربنا يرحمها يا خالتي... تعيشي وتفتكري..."



شعرت والدته بالحرج لفتح هذا الحديث أمام الجميع فحاولت أن تُبدّد الجو بقولها وهي تمد يدها إلى صالح بطبق الكعك...



"تحب تدوق يا صالح؟"



ودون كلمة مدّ يده وأخذ واحدة من الكعك... كان شكلها ومذاقها مختلفين صغيرة وخفيفة ورقيقة الطعم... لا حشو بها لكن طعمها شهيّ كأنها وضعت بها سحرًا... تمامًا كما فعلت معه على مرّ أشهر من تواجدها هنا...




        
          
                
أخذ صالح واحدة أخرى ورغم الحزن المتشبع من عينيها ووجهها ابتسمت شروق بظفر وهي ترى ملامح وجهه يعلوها الإعجاب والرضا.



نظر إليها صالح وقال وهو يأخذ الرابعة في قضمة واحدة وبنفس التلذذ...



"تسلم إيدِك... يا أم ملك... "



نعم أمام الجميع يناديها (أم ملك)...



أما بينه وبينها... فهي (شروق)...



يبدو أن بينهما علاقة سرية منذ فترة وهي لم تعلم إلا منذ أيام...



"بالف هنا.."



ودّت لو تسأله هل مذاق الكعك يُشبه ذاك الذي كانت تخبزه زوجتك؟...



لكنها تراجعت سريعًا عاقدةً حاجبيها بصدمة...
كيف تُعطي لنفسها الحق في المقارنة؟



هل حقًا تُفكّر في طلبه؟....



"هي أبرار فين؟ عايزة أشوفها..."



قالتها شروق بصوتٍ عالٍ وفجأة مما جعل صالح يرفع حاجبه بدهشة...



إنها تبحث عن أبرار لعلّها توقف ضجيج أفكارها...ومنها تساعد نفسها على الرفض...



قالت الجدة بهدوء...



"في الأوضة يا حبيبتي... ادخلي ليها."



بالفعل تحركت بسرعة نحو غرفة أبرار هاربةً منه...



ومن تلك المشاعر التي تنتابها بشدة في حضور الشيخ



بينما هو ظل واقفًا في مكانه ينظر إلى آثارها بحيرة وقلق...فهو يخشى من ردّها الذي
طال !...



فتحت شروق الباب بعدما سمحت لها أبرار بالدخول فرأتها تجلس على الفراش تضم ساقيها إلى صدرها متكورة على نفسها 
بصورة موجعة. وجهها شاحب كشحوب الأموات وعيناها غائرتان حمراوان كالدم.



شهقت شروق وهي تغلق الباب في اللحظة التالية واقتربت منها بسرعة...



"مالك يا أبرار قاعدة كده ليه؟! وإيه اللي عملاه في نفسك ده"



رفعت أبرار عينيها إليها ثم قالت بصوت خافت مبحوح...



"مفيش حاجة... كنتي جاية ليه؟"



مدت شروق يدها ووضعتها على ركبة أبرار قائلة بصوت حنون...



"لا في... متخبيش عني... احنا مش أصحاب مالك..... انتي اتكلمتي مع ياسين؟"



تجمعت الدموع في عيني أبرار ولم ترد بل انسابت دموعها على وجنتيها كإجابة صريحة فقالت شروق بشراسة...



"بتعيطي؟!... يبقى اتكلمتي معاه. قالك إيه؟ والله لو قال حاجة زعلتك لأشوف صرفه معاه معقول مش قادر يحتويكي ويحتوي الموقف؟ أمال بيحبك إزاي؟!"



قالت أبرار بحسرة...



"مش بيحبني... هو بيحب ميار."



سألتها شروق....




        
          
                
"وميـن دي كمان؟"



أجابتها بكره...



"دي واحدة شغالة معاه في المصنع."



"هو قالك كده؟.. " سألتها شروق فأومأت مؤكدة فقالت شروق...



"كداب ده بيموت فيكي..وميقدرش يكون مع حد غيرك..."



التوى ثغر أبرار بسخرية مريرة...



"لا قدر... وقدر يجرحني بالكلام وقال كل حاجة عشان يكسّرني."



قالت شروق بمواساة...



"ماتخديش على كلامه وقت الغضب. وقت الغضب بيعمّي البصيرة... بكرا يرجع ويتأسفلك...."



صاحت أبرار باهتياج...



"مش عايزاه يتأسفلي أنا خلاص طلعته 
من حساباتي... زي ما هو عمل."



مطّت شروق شفتيها هازئة...



"ما هو باين على وشك وعينيكي إنك طلعتيه فعلًا من حساباتك..."



رمقتها أبرار بحدة...



"أنا مبهزرش... "



لكزتها شروق باستهزاء...



"ما هو باين على وشك إنك هتموتي عليه
يا هبلة.... بتكدبي على مين؟"



هتفت أبرار بصوت محتد...



"عايزة أحرق دمه زي ما حرق دمي هموت من الغيظ بيغيظني بيها يا شروق... هموت وغيظه زي ما بيعمل... "



ضاقت عينا شروق بخبث أنثوي...



"واللي يعملك كده... تعملي معاه إيه؟"



سألتها أبرار بغلاظة....



"عايزة إيه؟.. "



قالت شروق مبتسمة...



"هننزل أنا ومَلك نشتري لبس العيد... تعالي معانا يمكن تعجبك حاجة... "



رفضت أبرار وهي تحرّك كتفيها ببؤس...



"مش عايزة أجيب حاجة... أصلًا مش حاسة لا برمضان ولا بالعيد من ساعة اللي حصل."



حاولت شروق إقناعها...



"ما عشان كده بقولك تعالي معانا تفكي عن نفسك شوية..."



رفضت بفظاظة...



"لأ...."



قالت شروق بضيق...



"يبقى خلاص... مش هساعدك في حاجة وخليكي اهري وكلي في نفسك... "



رمقتها أبرار شزرًا...



"تصدقي إنك مستفزة... ولا تنفعي صاحبة
ولا نيلة... "



لم تهتم شروق وهي ترد ببرود...



"لا وانتي اللي جدعة أوي بقولك تعالي معايا نشم شوية هوا.... تقولي لأ؟!"



تململت أبرار...



"يعني يا كده يا كده؟!"



هزّت شروق كتفها بلؤم...




        
          
                
"والله خدمة قصاد خدمة... "



"ده صوت ياسين!.. "



قالتها أبرار منتفضة في جلستها وهي تسمع صوته في الخارج مع الجدة...



ابتسمت شروق بدهاء أنثوي وقالت لها



"حلو أوي... البسي بقى حاجة عليكي 
واطلعي هنستأذن منهم إننا هنخرج نشتري الهدوم ومش عايزاكي برا غير تقولي (آه) و(بفكر)... اتفقنا؟"



عقدت أبرار حاجبيها بعدم فهم...



"أقول (آه) و(بفكر) على إيه؟"



"هتعرفي... اصبري."



بعد لحظات خرجت أبرار بصحبة شروق وكان ياسين والجدة يجلسان على الأريكة بينما صالح قد غادر منذ دقائق لصلاة التراويح.



حين رأتهما الجدة سألت مبتسمة...



"مش هتروحوا تصلوا ولا إيه؟"



أجابتها شروق بنبرة عادية...



"هنروح دلوقتي... بس بصراحة هنروح جامع تاني غير اللي بنروحه.... "



ظلت أبرار واقفة بجوارها ملتزمة الصمت 
ولم ترفع عينيها عليه بينما هو كان ينهال منها بنظرات حنين صامت بقدر عجاف أسابيع ابتعد فيهما عنها وقد انتهى به الحال بأنها
هي التي تبتعد !....



جذبت شروق انتباهه بقولها...



"عامل إيه يا ياسين؟... محدش بيشوفك."



تنحنح ياسين وأبعد عينيه عن أبرار 
بصعوبة...



"الحمد لله يا أمّ مَلك... الشغل بقى أنتي عارفة...."



قالت شروق....



"ربنا يعينك."



ناولَت الجدة كوب العصير لياسين قائلة بملامح واجمة غير راضية عن حالته 
فقد خسر الكثير من وزنه وزادت صلابته وأصبحت ملامحه أكثر حدّة وقساوة...



"اشرب العصير يا ياسين... مش عارفة إنت خاسس كده ليه أدي آخِرَة أكل المطاعم
اعمل حسابك من بكرة هترجع تفطر معانا. مش عايزة أعذار... سامع؟"



"هحاول يا تيتة... هحاول..."



أجابها ثم رفع عينيه إلى أبرار التي كانت
تنظر إليه بعينين غاضبتين... مخاصِمَتين.



قالت الجدة بتذكّر....



"صحيح يا شروق. ليه هتروحوا جامع 
تاني؟.... خير؟"



قالت شروق بأسلوب متقن...



"أصل في واحدة قريبة من سني كده معجبة خالص بأبرار.... ونفسها تاخدها لأخوها..."



توقف العصير في حلقه فجأة مما جعله يختنق وبدأ يسعل بشدة بينما نظرت أبرار إلى شروق بصدمة فغمزت لها بخبث....



قالت الجدة بهلع وهي تربّت على ظهر حفيدها....



"اسم الله عليك.... أشهد أن لا إله إلا الله"




        
          
                
ثم أمرت أبرار بصوتٍ عالٍ...



"اتشاهد يا حبيبي..... هاتي مَيّة يا أبرار"



أحضرت أبرار كوب الماء وناولته له...



"اتفضل..."



رفع ياسين عينيه عليها بقسوة قادرة على ابتلاعها في ظلام موحش... أخذ رشفة من الماء ثم وضع الكوب بعصبية مكتومة.



سألت الجدة بفضول...



"بتقولي أخوها؟"



أومأت شروق متابعة الحديث...



"أيوه قعدت تحكي عنه قدام أبرار... طول بعرض ودكتور أسنان معروف. قالت اسمه بس أنا نسيته... وقالت إيه يا خالتي حكت له عن أبرار..... ووَصَفَتها له."



تشدق ياسين بصدمة.....



"وصفتها؟!"



قالت شروق بثبات...



"من حيث الأدب والأخلاق والجمال... وأخوها قال نتوكل على الله ونشوفها ونقعد مع أهلها. فإحنا بصراحة قولنا نبعد شوية لحد ما نشوف أبرار... أصلها بتفكر تبلغ أبوها... مش كده؟"



لكزت أبرار في كتفها فأكدت هي بدورها...



"آه... بفكر."



اشتعل صدر ياسين كأتون حارق وهو يكوّر يديه بقوة حتى ابيضت مفاصله وأعطاها نظرة كالسِّهام المسننة....



قالت الجدة باستحسان...



"دكتور أسنان؟!.. طب والله كويس إنت إيه رأيك يا ياسين..... نكلم صالح ونعرفه؟"



استشاط ياسين غضبًا وقال بتقريع...



"نعرفه إيه... هي الهانم بتروح تصلي ولا بتروح تصطاد عريس؟!.. "



أوغر صدر أبرار بالغيظ وقالت بدفاع...



"وأنا هاصطاد ليه؟!.. مش محتاجة اصطاد أخته هي اللي شافتني وكلمتني.. "



ضرب على ذراع المقعد بغضب مكتوم...



"وحضرتك ما صدقتي؟!"



توسّعت ابتسامة أبرار حتى ظهر صفّ أسنانها الناصع وهي تقول باستفزاز...



"والله من كلامها عنه بدأت... بدأت أفكر... 
إنت إيه رأيك؟... "



عضّ ياسين على شفته وقال بتحذير..



"بلاش تضحكي الضحكة المستفزة دي! هتخليني أقوم أنزل صف سنانك ده كله!"



عقبت أبرار بدلال.... مستفزة إياه...



"ومالُه.... كده هضطر أروح أكشف في عيادته... وبالمجان كمان... "



"والله....."



في لمح البصر وقف ياسين وتحرك نحوها كأنه يهمّ بالانقضاض عليها مما جعلها تصرخ وتهرع إلى غرفتها فلحق بها وأغلق الباب خلفهما بعنف... اتسعت عينا شروق وهي تطرق الباب بقلق على أبرار فهي صاحبة هذا السيناريو الرائع الذي أخذ منحًى خطيرًا وغير متوقّع.




        
          
                
"بيحبها..."



التفتت شروق بصدمة إلى الجدة أبرار فرأتها شاردة بحزن... ويبدو أنها نطقت عبارتها في غفلة من أفكارها دون أن تنتبه أنها قالتها على الملأ. كانت نظراتها حزينة وكأنها لا تفضّل تلك الحقيقة....



ما المشكلة إن أحبّها؟ لماذا بدت غير راضية عن تلك الحقيقة؟



وإن كان هذا هو حالها فماذا سيكون موقف
صالح إذًا علم ؟!....



دفعت أبرار الباب بعنف وهي تصرخ بانفعال



"افتح الباب... إيه اللي مدخّلك أوضتي؟! 
اطلع برا.. "



شهقت بصدمة حين أحاط خصرها بكلتا يديه بتملّك ثم دفع ظهرها على الباب المغلق هاتفًا بشراسة من بين أسنانه المطبقة...



"مين ده اللي بتفكري تتجوزيه؟!.. انتي اتجننتي.... ولا جرا حاجة  لمخك ... "



نظرت إليه بعناد وصوتها بالكاد يُسمع...



"وأنت مالك؟.... أنا حرّة أشوف حياتي."



اتكأ على خصرها بقوة فتأوهت بتألم بينما هو يهمس برأسه المائل عليها بضراوة
العشق....



"حياتك معايا أنا... غصب عنك هتبقي معايا غصب عنك..... عاجبك أو لأ."



تلوّت بين يديه تقاوم بكل ما أوتيت من قوة وهي تصرخ بغيرة...



"وبالنسبة ليها إيه؟!... هتبقى معانا إحنا الاتنين؟!... "



رد بجمود...



"آه... إذا كان عاجبك."



تجمدت مكانها مصعوقة ثم في اللحظة التالية بدأت تلكمه في صدره....



"مش عاجبني ولو فاكر إنك بتحرق دمي بيها تبقى غلطان... أنا مش—"



أمسك يدها يمنعها من المتابعة وقال بصوتٍ مثقَل بالجراح...



"عارف إنك مش بتحبيني... بس بُكرة تحبيني. أنا هحاول أخليكي تحبيني."



نظرت إليه بصدمة وقد وخزها قلبها بندمٍ على الحالة التي وصل إليها بسببها... ومع ذلك كان جرحها منه لا يزال ينبض بالوجع فقالت بسخرية...



"وعلى كده..... هتخليني أنسى اللي قولته؟"



رد ياسين بنظرة جامدة...



"كل اللي قولته الحقيقة وإنتي عارفة إنها الحقيقة... عشان كده وجعاكي... "



فغرت فمها بصدمة مؤلمة فقد ظنت للحظة أنه سيحاول ان ينال رضاها ويحسن موقفه
كعادته لكنه على عكس توقعاتها أكّد الأمر 
دون أن يرف له جفن....



"يعني هي دي حقيقتي؟!"



أشارت إلى نفسها بعينين تصرخان بالوجع فاكتفى بإيماءة باردة كنظراته نحوها...



توحّشت نظراتها كما توحش حديثها وهي تدفعه بعيدًا عنها...



"تمام... اخرج برا وماتكلّمش مع واحدة أنانية ووحشة زيي.... ولعلمك... هرد على أخته وهرتبط بغيرك... "




        
          
                
وكأنها تزيح جبلًا من أمامها لكنه لم يتحرك ولم يحل وثاقها بل شدّد على إمساكها بجرأة وهو يقول بصوتٍ خشن منفعل...



"يبقى بموتك... مش هتتجوزي حد غيري... انتي مراتي اصلًا من زمان.. "



توقفت عن إبعاده تنظر إليه بذهول تخفي هدير قلبها الذي يعلو على إيقاع كلماته المجنونة...... قالت بتحدٍ سافر...



"بس أنا مش مراتك."



مال ياسين عليها يلقي رأسه على كتفها هامسًا بخفوت خشن يشوبه غصّة بكاء مكتوم..



"مراتي وحبيبتي... وهتجوزك غصب عنك وعن الكل.... ويِبقى حد يقف قصادي..."



حاولت إبعاده عنها وهي ترتجف بين ذراعيه بضعفٍ أنثوي متأثرة بهذا القرب الذي يُضعف فؤادها وموقفها معه....



"سيبني يا ياسين... اللي بتعمله ده غلط..."



حرّك ذراعيه من عند خصرها إلى ظهرها يضمّها إليه أكثر همست باعتراض....



"ياسين... بطل جنان..."



لم يرد بل ترك احضانه تجيب على كل أسئلتها وربما يداوي الجرح الذي سبّبه لها بمنتهى الغباء....



ومرّت الثواني وامتلأت عيناها بالدموع ثم انهارت بين ذراعيه قائلة بحرقة...



"بكرهك... بكرهك وعمري ما هحبك بكرهك ومش هسامحك على اللي قولته مش هسامحك... سامع؟!..... مهما عملت..."



زاد في ضمّها إلى صدره وأغمض عينيه بقوة هامسًا بصوتٍ متحشرج ويبدو أنه بكى على كتفها دون أن تشعر فصوت بكائها وشهقاتها المتقطعة كانا يملآن الغرفة بأكملها...



"هششش... اسكتي... كفاية..."



.............................................................
لمست بإبهامها ذلك الفانوس الخشبي الصغير الذي يحمل أول حرف من اسمها واسمه وقد وضعته في سلسلة مفاتيح البيت....



تنهدت بهيام وهي تنظر من نافذة الترام متذكرة آخر لقاء بينهما حين تناولا الإفطار على الشاطئ...



وقعت نهاد جالسة على الرمال الناعمة بتعب وهي تلهث بقوة ناظرة إليه بعينين ضاحكتين كثغرها الشهي...



ألقى سلامة جسده جوارها على الرمال لكنه استلقى على ظهره ينظم أنفاسه السريعة 
وهو ينظر إلى السماء القاتمة التي تزينها
لمعان النجوم والقمر...



قمر في الأعلى وقمر بجواره... أي دعوة تلك التي نالها ليحظى بها في حياته القاتمة ؟....



(إنت نفسك قصير أوي...)



قالتها نهاد ممازحة بعينين شقيتين....



(بس في الآخر مسكتك...)



مطّت نهاد شفتيها قائلة بقنوط...



(أنا اللي خليتك تمسكني..حسيتك بدأت تمل.)




        
          
                
اعتدل سلامة وجلس بجوارها قائلًا بتأهُّب..



(بتلمّحي لإيه يا دكتورة؟)



قالت نهاد بنظرة صريحة...



(دي شخصيتك...نفسك قصير ومش صبور.)



لم يجادلها سلامة فهو يعلم أن هذه صفة 
من صفاته الغير مستحبه...



(حاجة وحشة.... صح؟...)



زمّت فمها قائلة بوجوم....



(كلنا عندنا عيوب... مفيش حد كامل الأوصاف...)



رد عليها سلامة وعيناه تنهال من حسنها الخلاب...
(بس أنا بشوفك كاملة الأوصاف... بشوفك حاجة كبيرة أوي يا نهاد..حاجة كبيرة عليّا.)



رمقته نهاد بعتاب ناري وكأنه قلل منها بهذا المديح....



(إنت ليه متعمد تقلل من نفسك؟.. إنت مش وحش يا سلامة... إنت من حقك تحب 
وتتجوز وتحلم كمان... إيه مشكلتك؟...)



ردّ عليها دون أدنى تردد..



( انتي مشكلتي...خايف لما ييجي وقتها 
أيوب يرفضني... وإمك وأختك كمان...)



هتفت نهاد بحمائية...
(محدش ليه دعو دي حياتي. وطالما سعادتي معاك هما عمرهم ما هيقفوا قصادها. اطمن 
أنا في ضهرك...)



كانت الكلمة كموجةٍ باردةٍ انسكبت على نيرانٍ مستعرةٍ في صدره فحدّق بها طويلًا قبل أن يقول بتردد كطفلٍ يتشبث بعباءة أمه



(هتفضلي في ضهري دايمًا... ولا ممكن يأثروا عليكي... يقولولِك يعني إنّي... تربية ملجأ وحرامي وملوش أهل و...)



قاطعته نهاد بنظرة قوية عنيدة...



(يقولوا اللي يقولوه... محدش شايفك بعيني. محدش عارف إنك أحسن وأجدع من ناس كتير معاهم شهادات...)



ثم استرسلت بملامح منزعجة...



(وبعدين مش ذنبك إنك جيت الدنيا يتيم. مين بيحاسب الواحد على يتمه وقلة حيلته؟ محدش بيختار أهله ولا مستواه. ممكن تبطل تفكر بالطريقة دي وتخليك معايا؟..)



هتف سلامة بحرارة الحب...



(معاكي يا نهاد...معاكي للآخر. بس... 
خايف... خايف أخسرك وأخسر حبك...)



قالت نهاد بملامح رصينة ونظرة جادة 
محذّرة



(مش هتخسر حبي إلا في حالة واحدة بس... لو اكتشفت إنك مش جدير بيا. ومش بسبب الحاجات اللي قولتها...لا بس لو خذلتني وخذلت قلبي انسَى إني في يوم  أسامحك...)



مسك سلامة يدها يحتضنها بكلتا يديه قائلًا بتوله..



(مقدرش... إنتي روحي يا نهاد حياتي كلها... ومحدش بيأذي روحه.)



توردت وجنتاها وهي تترك يدها بين راحتيه قائلة بصوتٍ ناعم رقيق...



(مصدقاك... مصدقاك يا حبيبي...)




        
          
                
انعكست الأنوار في عينيه كالألعاب النارية وهو يرمش كأنه لا يصدق ما سمعه للتو... ابتلع ريقه سائلًا بدهشة...



(مصدقاني يا إيه؟!...)



أسدلت نهاد جفنيها بحياء قائلة بدلال



(يا حبيبي... إيه مستغرب ليه مش إنت حبيبي؟...)



اتكأ على يدها وهو يقول بصوتٍ أجش..



(حبيبك بس لما بتقوليها... بتبقى حاجة 
تانية... أنا حبيبك صح؟..) 



لعقت شفتيها بخجل وهي تنظر إلى عينيه
إلى عمقهما...



(حبيبي وكل حاجة حلوة في حياتي كمان.)



رفع سلامة يدها وطبع قبلة عليها. سحبت نهاد يدها وهي تنظر إليه بضيق....



(سلامة...)



اعتذر منها وشعور الحرج ينتابه بقربها وكأنه لم يقترب من النساء يومًا...



(حقك عليّا... من الفرحة. افتحي إيدك...)



نظرت إليه بتوجس..
(هتعمل إيه؟)



عقد سلامة حاجبيه مبتسمًا...



(بلاش البصة دي... مش هاكلها. هاتي يا دكتورة...)



ناولته يدها مجددًا، فنظر إلى كفها الصغير الأبيض فقالت ممازحة..



(بتعرف تقرأ الكف؟..)



نظر إلى خطوط كفها طويلًا مدعيًا الأمر
ثم قال بمزاح ثقيل...



(ده أنا أستاذ... اسمعي شكلك بتحبيني أوي بس أنا مش هتجوزك...)



لكزته في كتفه بغيظ بكفها الآخر...



(والله هنقضيها صحوبية بقى؟..)



ضحك وهو يزيد الطين بلة



(هتجوز غيرك...)



رفعت يديها الاثنتين ووجّهت له عدة لكمات بقوة وغيظ شديد وهي تصيح..



(دا انا كنت ادبحك...وشرب من دمك...)



ثم أمسكت يده ترد له الصاع صاعين بالقول



(هات إيدك هتعيش ندمان طول عمرك لو فكرت تبدلني بواحدة. هتدوّر عليا فيها 
ومش هتلاقيني..)



مسك سلامة يدها قبل أن تبعدها عنه وداهم عينيها بعينين تفيضان عشقًا قائلًا...



(لا عشت ولا كنت... مين يقدر ياخد مكانك 
في قلبي؟..)



نظرت إلى كف يدها لترى الفانوس الصغير يقبع بين راحتيها... قالت بانبهار



(إيه ده؟... انت جبته بجد....)



رد سلامة مبتسمًا...



(عليه حرف S & N... عجبك؟..)



ومضت عينا نهاد بالسعادة. وهي تقول..



(يجنن حلو أوي... هحطّه في سلسلة المفاتيح. شكرًا يا سلامة...)



عقّب سلامة بنبرة حزينة...




        
          
                
(على إيه يا دكتورة كان نفسي الهدية تكون دهب... مش فانوس خشب.)



عبست ملامحها وهي تنظر إليه بحزم...



(ده عندي أحسن من الدهب. كفاية منك... 
وبُكرة ربنا يكرمك وتهديني بالدهب... ليه لأ؟)



(يا رب...)



تمتم بها وعيناه ترفضان الابتعاد عن وجهها المليح وتلك الابتسامة المتألقة على ثغرها...



فاقت من شرودها على صوتٍ عابث لرجل جلس بجوارها على المقعد..



"صباح الخير يا دكتورة..."



اتسعت ابتسامتها وهي تنظر إليه فقد تقابلا في الترام بعد أيام عدة لم تره فيها..



"صباح النور... رايح فين؟"



ردّ سلامة غامزًا وهو يرجع خصلات شعره الناعمة للخلف..



"مكان ما تروحي..."



قالت نهاد برقة...



"بس أنا رايحة الجامعة..."



رد وعيناه تجوبان ملامحها بتأمل محب...



"يبقى أوصلك... كنتي سرحانة في إيه؟"



ردّت عليه دون مواربة...



"فيك... هيكون في مين؟"



عدّل ياقة قميصه بزهو..



"لدرجادي شاغل تفكيرك؟"



ضاقت عيناها بدلال...



"عندك شك؟"



هز رأسه نفيًا وهو يميل عليها قليلًا هامسًا بحرارة...



"وحشتيني أوي على فكرة..."



افترت شفتيها في ابتسامة جميلة...



"وإنت أكتر على فكرة... عامل إيه صحيح؟"



ردّ بعد تنهيدة شوق...



"بخير... طالما معاكي وجنبك فأنا بخير."



ثم سألها متذكرًا...



"هتروحي فين في العيد؟"



مطّت شفتيها مفكرة قليلًا ثم أجابت
بهدوء...



"العيد بالنسبة ليا وقت الصلاة وخلاص. 
ممكن نخرج أنا وندى وممكن نقضيها قدام التلفزيون... بس الأكيد إن عندي خطوبة واحدة صاحبتي تاني يوم العيد وناوية أحضر... "



سألها باهتمام...



"لوحدك؟..."



قالت نهاد بوجوم...



"ندى مش عايزة تروح... عشان دي زميلتي
أنا في الجامعة.. فمش حابة تكون في مكان متعرفش فيه حد... وإنت عارف بقى حتة الشبه اللي بينا بتخنقها شوية."



أومأ سلامة متذكرًا بدهشة..



"تقريبًا نسيت إنكم توأم... أصل أنا عمري ما شفتكم شبه بعض."




        
          
                
قالت بنظرة لئيمة..



"ده عشان بتحبني بس."



ابتسم سلامة ممازحًا..



"ودي أحسن حاجة... إني بحبك."



قالت نهاد فجأة...



"إيه رأيك تيجي معايا؟"



سألها بعدم فهم...



"على فين؟"



أجابته بصبر...



"خطوبة صاحبتي... عاملينها في قاعة.. إيه رأيك نحضر سوا... عشان مبقاش لوحدي؟"



سألها بتجهم..



"وبصفتي إيه؟"



رمقته بدهشة وهي تعقب بحنق..



"إنت اللي بتسألني؟! بصفتك خطيبي مش المفروض إنك هتتقدملي؟"



تردد سلامة وهو يقول بتحفظ...



"آه هتقدم بس مش دلوقتي يا نهاد. أنا مش جاهز... ومينفعش نظهر قدام الناس دلوقتي إننا مخطوبين وأنا لسه مكمّلتش أيوب..."



اندفعت نهاد بجرأة لطالما انهزم أمامها...



"فين الناس؟ دول زمايلي في الجامعة ومفيهاش حاجة لو قولنا ليهم إننا قرينا الفاتحة.. وخطوبتنا قريب. هتيجي ولا لأ؟"



نظر سلامة أمامه مفكرًا ثم قال بعد برهة..



"لما ييجي وقتها... مش لسه تاني يوم العيد؟"



رفعت سبابتها أمام وجهه مُصرّة على أن تأخذ وعدًا منه...



"بس هتيجي معايا... لازم نواجه يا سلامة طالما اخترتني واخترتك.... "



أطلق سلامة تنهيدةً طويلة واكتفى بإيماءةٍ بسيطة لكن ملامح التردد والتراجع ارتسمت جليةً على وجهه وفي عينيه...



كان دومًا يفعل ما يشاء لا يأبه بنظرات الآخرين ولا بكلامهم أما اليوم فقد بات
يخشى الجميع...



إنه يقترب من أرض المعركة وحده. لا سلاح في يده ولا جيش يناصره...يحارب فقط
لأجل أن يفوز بها !...
............................................................. 
قلبها يهفو إليه وعيناها مهما ابتعدتا تعودان إليه بلهفةٍ لم تستطع إخفاءها...



يجب أن تخفيها الآن فالجميع حولها على طاولة الاجتماع يتحدثون بجدية حول العروض التي تأتيهم باستمرار منذ نجاحهما في المسابقة...



كانت تجلس على رأس الطاولة بينما هو يجلس في الجهة المقابلة على بُعد مقعدين تجلس بجواره ليان التي تستغل الفرصة لتتحدث إليه ناظرةً إلى عينيه...



كان صدرها يشتعل غيرةً كعيونها النارية عليهما... فلِمَ يرد عليها بكل هذا اللطف؟! ولماذا يتودد إليها بتلك الطريقة المستفزة؟!



وجّه أحد الموظفين الحديث اليها فأجابته بمنتهى العملية



"والله أنا شايفة إننا نقبل أهم العروض اللي هتضيف للشركة.... ونأجل الباقي."




        
          
                
نظرت إلى أيوب فغمز لها في الخفاء. جحظت عيناها واحمرّت وجنتاها ما جعل الموظف يسألها بريبة...



"في حاجة يا نغم هانم؟.... حضرتك كويسة؟"



أخفض أيوب رأسه وهو يبتسم بتسلية 
بينما هي جزّت على أسنانها من تلاعبه بها
ثم نظرت إلى الموظف قائلةً بتحفّظ...



"بصراحة الاجتماع خد أكتر من وقته... خلينا نكمل بكرة ونشتغل على الحاجات اللي وقفنا عليها... "



"تمام..... زي ما تحبي."



قالها الموظف وهمّ بالمغادرة ولحق به الباقون بينما بقي أيوب في مكانه ينتظر خروجهم.



انتبهت ليان إلى جلوسه فقالت باهتمام..



"أيوب..... إنت مش هتخرج؟"



اتكأت نغم على القلم بين قبضتيها تنظر إليهما بملامح هادئة، بينما عواصف غضبها تنطلق من رماديتيها المحدقتين بهما....



رد أيوب وهو ينظر إلى نغم بخبث..



"هخرج وراكي على طول بس في حاجة تخص الشغل هتكلم فيها مع نـغـم..."



خفق قلب نغم وتوتّرت وهي تشيح بوجهها عنه فقالت ليان بهدوء...



"تمام... هستناك في وقت البريك... نقعد ندردش شوية."



أومأ أيوب برأسه موافقًا بينما غادرت ليان بعد أن ألقت على نغم ابتسامة وداع....



وحين أغلقت ليان الباب خلفها انطلق سؤال نغم كسهمٍ مسنّن...



"بتقعدوا مع بعض وقت البريك ده من إمتى؟!"



ردّ عليها أيوب وهو يتأمّل عينيها الغاضبتين



"مش على طول... معظم البريك بيبقى معاكي إنتِي.... ولا هتنكري؟"



هتفت نغم من بين أسنانها بغيرة...



"واضح إنها عاجباك.... شايفاك بتتعامل معاها عادي ومش بتصدّها!"



سألها أيوب ببرود...



"والمفروض أصدّها إزاي؟"



هتفت نغم من باحتقان....



"تعرّفها إنك بتحب واحدة تانية... إيه مش مليّا عينك أنا... "



استقام أيوب واقفًا ثم سار نحو المقعد الذي تجلس عليه مال عليها قليلًا ساند كفّه على سطح المكتب والآخر على ظهر كرسيها وبينهما مسافة مربِكة...



همس بصوتٍ أجش...



"إنتي ماليّة العين والقلب. ليان زميلة شغل أما إنتي... كلّ الحب.... معقولة هقولّهالك تاني ركّزي بقى."



رفعت عينيها الرماديتين إليه وقالت بضيقٍ مكتوم



"أنا مركّزة... ومركّزة قوي كمان وواضح إنها عينها منك... "



زمّ شفتيه بلا مبالاة وهو يسحب مقعدًا وجلس إلى جوارها...



"مش مهم هي عينيها على مين... المهم أنا عيني على مين وعايز مين... دي اللي تفرق معاكي... مش كده؟"




        
          
                
أومأت برأسها على مضض فقال أيوب وعيناه لا تفارقانها...



"ممكن بقى نخفّ غيرة ونركّز في حاجات تانية؟... "



سألته عابسة..



"زي إيه؟"



سألها بفضول...



"زي إن بكرة العيد... هتصلي صلاة العيد فين؟"



ردّت بسأم..



"مش بصليها..... بنام."



مطّ فمه بعدم رضا...



"ده كلام؟!... حد يفوّت صلاة العيد وفرحة العيد؟!"



قطبت نغم حاجبيها وقالت بفتور...



"العيد بالنسبالي يوم زي أي يوم عادي... مفيش فرق... وبعدين إحنا كبرنا على فرحة العيد."



جادلها أيوب بخشونة...



"مفيش حد بيكبر على الأيام الحلوة... كلنا محتاجينها... حتى لو قوحتي وقولتي لأ."



رفعت حاجبها بحيرة...



"إنت عايز إيه مني بالضبط؟"



داعبها بنظرةٍ خاصة...



"هنصلي صلاة العيد سوا ونخرج مع بعض... زي أي اتنين مرتبطين وبيحبوا بعض."



ابتسمت نغم وقالت بمناكفة...



"مرتبطين؟!..... وإحنا إمتى ارتبطنا؟"



ردّ بلهجة حاسمة رغم خفوت صوته...



"طالما قولتلك بحبك... وإنتي جاوبتيني
يبقى إحنا في حكم المخطوبين."



ضاقت عيناها بجرأةٍ شقيّة... وسألته..



"وإمتى هنبقى مخطوبين بجد؟"



رد بصوتٍ حازم...



"من دلوقتي... لو تحبّي... أنا شاري المهم إنتي."



نال الرد رضاها لدرجة أنها شعرت بأن المقعد يرتفع عن الأرض ويحلّق بسعادة... تمامًا كما قلبها الآن....



نظرت إلى سطح الطاولة اللامع تخفي عينيها الصارختين بالفرح ثم قالت بثبات...



"نأجل الخطوة دي لحد ما بابا يرجع بيته بالسلامة. ساعتها تيجي تطلب إيدي منه."



سألها أيوب بدهشةٍ خفيفة...



"يعني مش فارق معاكي فرق المستوى اللي بينّا؟.... "



نظرت إليه بحيرة ثم عقّبت بهدوء...



"ماله المستوى؟!... إنت لو ركّزت على موهبتك هتبقى أغنى مننا بمراحل... فأنا كده كده مقتنعة إني هتجوز مليونير."



اندهش معقبًا....



"مليونير مرة واحدة؟!"



أومأت برأسها مؤكدة...



"طبعًا.... بكرة تصدّق لما توصل وأنا جمبك."



لم يُعقّب أيوب سيظل ذلك الحلم معلقًا في سماء بعيدة كنجومٍ لا تُطال بالقفزات... ولن تشفق عليك وتهبط من تلقاء نفسها.




        
          
                
هكذا هي أحلامنا... تحتاج إلى معجزة....



سألها بعد لحظة صمت...



"هتيجي بكرة صح؟"



ردّت عليه بصوتٍ أنثويٍّ مغرٍ...



"أفكّر..."



حينها نهض أيوب عن مقعده يهمّ بمغادرة مكتبها وهو يقول...



"هستناكي... يا كلّ الحب."



وحين أدار لها ظهره نادت عليه بصوتٍ متلهف



"أيــوب... "



ودون أن يستدير ليسمع باقي كلامها قال بصبر...



"وقت البريك..هاجي أقعد معاكي اطمني."



توسعت عيناها بدهشة... فكيف علم أنها كانت ستطلب منه أن يأتي إليها؟
.............................................................
خرج أيوب من الحمّام يجفف وجهه بالمنشفة وقد أنهى لتوّه ارتداء ملابسه والتي كانت عبارة عن جلباب ناصع البياض زاده جاذبية مع لحيته المشذّبة وشعره الأسود المُصفَّف بعناية....



وضع المنشفة جانبًا وأمام مرآة غرفته بدأ يرتدي ساعته ويرش عطره المفضل...



أمسك الهاتف وأرسل لها رسالة صوتية...



"إنتي فين يا حبيبتي... اتأخرتي عليا..."



وضع أيوب الهاتف منتظرًا وهو ينظر إلى نفسه في المرآة... صدح الهاتف برسالة واردة أمسكه بسرعة ليسمع رسالتها الصوتية



(شوية وجاية... إنت خلصت؟...)



أجابها كتابة ثم وضع الهاتف في جيبه وخرج من الغرفة...



قابل والدته حول طاولة السفرة تضع فطور العيد والذي كان يحوي كل ما لذ وطاب... أشياء لا تتواجد إلا في عيد الفطر لذلك لها مذاق مختلف وفرحة خاصة...



"إيه الوليمة دي كلها يا صفصف؟"



قالها أيوب وهو يقترب منها مقبّلًا رأسها.



فقالت والدته بمحبة...



"بالهنا يا حبيبي... كل سنة وإنت طيب..."



أجابها مبتسمًا بمحبة...



"وانتي طيبة يا ست الكل... البنات فين؟"



قالت والدته بضيق...



"لسه بيلبسوا جوه..."



عبس أيوب وهو يتجه نحو غرفتهن قائلًا بعدم رضا...



"هنروح متأخر زي كل سنة يعني... الدنيا زحمة والناس فوق بعض في الجوامع..."



ثم طرق على الباب بتعجُّل صائحًا...



"ندى... نهاد... والله لو ما خرجتوش بعد عشر دقايق.... أنا همشي واسيبكم..."



تأفّفت نهاد وهي تقف أمام المرآة تعيد لفّ الوشاح للمرة التي فقدت عدّها...



"حاسّة إن الطرحة مش مظبوطة وكأني أول مرة ألفّ طرح... أحيه بجد مش عارفة فيه إيه..."



زمّت ندى شفتيها وقد أنهت للتوّ ارتداء ملابسها والتي كانت عبارة عن بنطال بساقٍ واسعة تعلوه بلوزة أنيقة تلائمه...




        
          
                
رفعت يدها للأعلى تنظر إلى أظافرها السوداء بقهر...



"إنتي كل مشكلتك في لفة الطرحة أنا خيبتي خيبة... الحنة الحجر خربتلي ضُفري حاسة
إني بقيت شبه الساحرة الشريرة..."



ثم عضّت على شفتها بغيظ مسترسلة...



"قلت لأبرار الندلة تيجي تعملهالي زي كل سنة ترد تقولي هعملها مع شروق وملك.. مين دول كمان؟.... البِت دي اتغيّرت علينا من ساعة ما الست دي سكنت عندهم..."



تململت نهاد بعدم اهتمام...



"إحنا مالنا يا ستي براحتها... ندى الطرحة دي قماشتها مش حلوة ياريتني ما اشتريتها..."



اقترحت ندى بوجوم...



"الدولاب مليان طرح وفيه قريب من لون الفستان اللي إنتي لابساه... وفّقي عليها... "



زفرت نهاد بغضب وهي تصيح...



"يعني ألبس طرحة قديمة؟ والطرحة اللي جايباها بـ٤٠٠ جني دي أرميها؟!"



رفعت ندى سبّابتها على فمها تُرمقها
بتحذير....



"وطي صوتك... إحنا قايلين لمامتك إنها 
بـ٧٠ بس... واستغلتها كمان... "



قالت نهاد بنظرة متوسّلة...



"تعالي ظبطيها يا ندى ليا... أنا ممكن يجرالي حاجة لو ما نزلتش بيها..."



اقتربت ندى منها تساعدها بهدوء ثم انتبهت إلى زينة وجه توأمها فضاقت عيناها بتساؤل..



"إنتي مكترّة ليه في الميكب؟ هو إنتي ناوية تقابليه؟.. "



توردت وجنتاها وهي تجيب بخجل...



"أكيد ممكن أشوفه.. ما هو بيصلي في نفس الجامع..."



تبرّمت ندى وهي تعقّب بسخط...



"تقي قوي حضرته... من إمتى بيصلي صلاة العيد أصلاً؟"



امتقع وجه نهاد وقالت بضيق...



"من دلوقتي وياريت تخفّي من الكلام ده عشان أنا بزعل عليه..."



هتفت ندى باستهجان...



"والله ما يستاهل حتى زعلك مش حبك"



نظرت لها بضيق...



"ما خلصنا يا ندى..."



قالت ندى بازدراء...



"بُكرة تندمي يا نهاد... أنا سايباكي على راحتك لأني تعبت من الكلام معاكي..."



قابلتها نهاد بردٍّ سريع...



"بُكرة تحبي وتفهميني..."



افترّت شفتي ندى في ابتسامة باهتة وقالت بحزم...



"يوم ما أحب هحب جوزي اللي هختاره بعقلي... بمواصفات وشروط حطاها من دلوقتي... لكن حب الروايات والمسلسلات الهبطة دي مش بيأكّل عيش معايا... "




        
          
                
زمّت نهاد شفتيها باستياء..



"أنا أعرف إن الرسامين عندهم دم وإحساس أول مرة أشوف واحدة تلاجة.. "



لم تهتم ندى بالرد عليها فطالما كانت الدكتورة حالمة إلى درجة مُغيظة...



ورغم عقلها الفذ وذكائها الذي أوصلها إلى جامعة القمة إلا أنها أمام الحب تُصبح امرأة بلا عقل...



والدليل إنها تحب هذا السلامة ومُتعلّقة به تعلق مريض قادر على إن يوقف حياتها ويرجعها خطوات للوراء فتصبح لا شيء لمجرد إنها تحبه...



"شوفي كده... إيه رأيك؟"



تركتها ندى تنظر إلى صورتها المنعكسة في المرآة فنالت لفة الحجاب رضاها فمالت تُقبّل أختها وتعانقها...



"شكرًا... شكرًا..."



على رنين الهاتف أخذته نهاد وتهلّلت أساريرها وهي تقول لأختها همسًا...



"ده سلااامة..."



رمقتها ندى بغيظ وامتعضت شفتيها وهي تقول بكره...



"استغفر الله العظيم... انجزي عشان أيوب على آخره بره..."



خرجت ندى وأغلقت الباب خلفها بقوة بينما جلست نهاد على الفراش هامسة بحب...



"ألو... يا حبيبي..."



جاء صوته العميق يفيض عشقًا...



(كل سنة وانتي طيبة يا دكتورة... السنة الجاية تبقي في بيتي...)



توسعت ابتسامتها بالفرح وهي تقول...



"وإنت طيب... إن شاء الله... إنت فين؟"



رد سلامة...



(هقابلكم عند الجامع... خلصتي؟)



قالت برقة...



"آه...... دقيقتين وهننزل..."



رد بصوتٍ متلهف...



(طب بلاش تتأخري عشان نلحق الصلاة... والحق أشوفك...)



"حاضر... باي..."



أغلقت الخط ووضعت الهاتف على صدرها ثم أغلقت جفنيها بهيام متنهدة بلوعة ناعمة وقلبها يرقص على أوتار الحب...



"نهاااااااااااد.... "



انتفضت في مكانها بصدمة وهي تسقط من أعلى السحب الوردية على صوت أيوب الحانق والذي كان يصرخ باسمها فقد نوى المغادرة دونها كما أخبرهم منذ دقائق...



نهضت من مكانها بسرعة تلتقط حقيبتها وتخرج راكضة إليه...



وأمام باب البيت كان صوت التكبيرات يعلو من المساجد القريبة... بعض الناس يمرّون أمامهما كلٌّ منهم برفقة زوجته وأولاده... يردّدون التكبيرات وعلى وجوههم ابتسامات تغمرها السعادة والبهجة وكأنهم يهرولون لاستقبال العيد في المساجد...




        
          
                
لطالما كانت فرحة العيد تكمن في الصلاة مع الأحبة ولمّة العائلة و"العيدية" التي رغم زهد أوراقها تظلّ في أعيننا كنزًا ثمينًا.



أخرج أيوب عدّة أوراق مالية وأمام البيت أعطاها لشقيقتيه قائلاً...



"عشان منساش... عيديتكم."



أخذتها نهاد وقالت بابتسامة ممتنّة...



"ربنا يخليك لينا يا أيوب... كل سنة وانت طيب."



بينما عبست ملامح ندى وهي تنظر إلى الأوراق قائلة....



"إيه دا يا بوب؟!... أنا قولت إنك هتديني
ألف جني... "



تشدّق أيوب عابسًا...



"ألف مرة واحدة... والمصروف اللي لسه لاهفاه مني من يومين مش من ضمن المصاريف؟!"



قالت ندى مجادِلة....



"المصروف حاجة والعيدية حاجة تانية.. "



ردّ أيوب بصبر....



"خلصي اللي معاكي ولما تعوزي هبقى أديكي...."



قالت ندى وهي تدسّ الأوراق في حقيبتها



"إذا كان كده ماشي... إنت اللي قولت.. "



مدّ أيوب يده وقرص وجنة ندى قائلاً بمحبة



"أنا عيني ليكم... هو أنا بشتغل عشان مين يعني؟... "



قالت نهاد بتودد...



"ربنا يباركلنا فيك يا أيوب... إنت أحسن أخ في الدنيا...."



ردّ أيوب...



"وإنتوا أحسن أخوات في الدنيا."



"وأنا مليش شوية من الحب ده؟!"



رفع أيوب عينيه مندهشًا وهو يعرف هذا الصوت الموسيقي المشبع بالعنجهية، فرآها تقترب منهما ترتدي طقماً أنيقًا محتشمًا ترفع شعرها في كعكة أنيقة رفيعة وعطرها يتوغّل في المكان كحضورها الخلّاب... بلع ريقه وعيناه مسمّرتان عليها.



اقتربت نهاد منها تعانقها مرحّبة...



"نـغـم..... إيه الصدفة الحلوة دي؟!"



بادلتها نغم العناق وهي تقول بابتسامة حلوة..



"إيه رأيك؟ جاية أصلّي معاكي في الجامع."



قالت نهاد بحفاوة...



"بجد؟! نوّرتي الشارع والمكان كله كلمتك من يومين... ليه ما قولتيش؟"



نظرت إلى أيوب ثم عادت إلى نهاد قائلة بهدوء...



"حبيت أعملها مفاجأة... كل سنة وانتوا طيبين."



ردّ التوأم بابتسامة ودودة...حينها أتت إحدى صديقات ندى تسحبها من يدها قائلة..



"ندى..... رايحين أنه جامع؟"



ردّت ندى...



"الجامع الكبير اللي على أول الشارع."



سحبتها صديقتها وهي تقول بتعجّل...




        
          
                
"طب يلّا..... لحسن دا زحمة أوي."



قالت نهاد وهي تلحق بأختها...



"أيوب هنسبقك... تعالي يا نغم."



تقدّمت نغم خطوتين فأمسك أيوب بذراعها يمنعها قائلاً لأخته...



"خليكم قدام.... وأنا ونغم وراكم."



تورّدت وجنة نهاد وعيناها الحالمتان تنتقلان بين وجهيهما وكفّ أيوب الموضوع على ذراع نغم...



وكانت تخطّط الآن للون الفستان الذي سيناسب حفل زفافهما... هل هو السماوي أم الوردي؟!.... يجب أن تشتري اسورة عليها
(أخت العريس)والتي ستضعها في يدها
حينها..



لحقت نهاد بأختها كي تحكي لها عن آخر الأخبار ربما تساعدها في اختيار اللون..



سار أيوب بجوار نغم خلف التوأم على بُعد خطوات. قال أيوب بصوت شغوف...



"اتأخرتي عليا..."



قالت نغم بصوت رقيق...



"مش أوي... شكلك حلو بالقفطان."



عدّل ياقة العباءة وهو يقول بلؤم...



"يعني أعجب؟"



سألته بنظرة تحذير...



"يعجب مين بالظبط؟"



ردّ بزهو...



"البنات الحلوة اللي هنقلبهم... "



توهّجت نظراتها بشرارة الغيرة وسبقت خطواته مبتعدة عنه....



أمسك أيوب بذراعها يمنعها من الابتعاد...



"رايحة فين؟"



قالت بنظرة متجهمة...



"همشي مع إخواتك."



ضحك أيوب معقبًا بدهشة...



"إنتي مجنونة... "



مطت شفتيها وهي تقول بغلّ وتحذير...



"أنا غيرتي نار... فبلاش تحاول تلعب على النقطة دي... اتفقنا؟"



أومأ برأسه وهو يضع يده في جيبه ويخرج عدّة أوراق نقدية...



"اتفقنا... كل سنة وانتي طيبة."



نظرت نغم إليه بدهشة سائلة بعينيها فقال مبتسمًا وهو يضع المال في يدها..



"دي عيديتِك."



نظرت إلى الأوراق بذهول...



"عيديتي؟!"



سألها بحيرة من ردة فعلها الغريبة...



"إيه؟....... قليلة؟"



لانَت شفتيها في ابتسامة حزينة تجلّى بها الحنين وشعور غريب يحتويها وهي تقبض على الأوراق بين كفّيها وكأنها منحتها شعورًا خاصًا بتلك "العيدية" كما تُسمى...



"مش حتة قليلة... الفكرة إني آخر مرة خدت فيها عيدية كنت صغيرة أوي... كانت من بابا وقتها... مش عارفة ليه بطل يديني... يمكن عشان كبرت."




        
          
                
قال أيوب بنظرة شقية مداعبة...



"مفيش حد بيكبر على العيدية... لما نتجوّز إن شاء الله.... هتاخدي عيدية انتي وربوش."



فغرت فمها بصدمة...



"ربوش؟!..... هتسمي بنتي ربوش؟!"



أومأ برأسه قائلاً ببراءة...



"ده الدلع... اسمها هيبقى رُبَى."



نظرت للأعلى باستياء قائلة....



"ممم... نشوف الموضوع ده لما نتجوّز."



عاد الصمت مجددًا بينهما وهما يسيران إلى المسجد قال أيوب بمناغشة...



"بس إيه الحلاوة دي... هو إنتي في رمضان شكل وفي العيد شكل تاني"



ضحكت نغم وقالت بغرور...



"كل يوم جديد... عشان متزهقش."



نظر إلى رماديتيها وسألها بجدّية...



"يعني دي عنيكي؟..... مش عدسات؟"



تأوّهت بملل وقالت بابتسامة سمجة...



"ما قولتلك عدسات...بطل تسأل السؤال ده"



ردّ أيوب بمناكفة...



"مش لما تجاوبيني انتي الأول صح؟"



قالت بنفاد صبر...



"وطالما عارف إنها عنيا... بتسأل ليه؟!"



ابتسم أيوب إلى عينيها وقال بصوت فاض عشقًا...



"بـحـبـك يا نـغـم..."



نظرت إلى الجهة الأخرى وقالت بوله....



"وأنا كمان... رغم إنك بتختبر صبري وغيرتي عليك..."



لم يُعقّب أيوب على جملتها بل تابع بنشوة..



"السنة الجاية تبقي معايا... رايحين نصلّي العيد ورُبى على دراعك."



اتسعت عيناها بدهشة معقبة...



"بالسرعة دي؟!"



بنظرة وقحة قال أيوب باعتداد...



"إحنا عيلة سريعة أوي... أنا أبويا جابني بعد تسع شهور من الجواز.... جاي في التامن.. "



نظرت إليه بشك قائلة..



"أنا أسمع إن فيه ناس تيجي في السابع أو التاسع لكن التامن دي جديدة... "



هتف أيوب بنبرة صادقة..



"اسألي صفصف... جابتني في التامن وكل الجيران كانوا بيخوّفوها بيقولولها ابن التامن ميت.....واهوه عاش وبيحب كمان.. "



اندفعت نغم بلهفة تقول...



"بعد الشر عليك... العمر كله ليك."



رد عليها بنظرة تحتويها بالحب والدفء
مجيبًا...



"وإنتي معايا... عمري اللي جاي يبقى معاكي. مش هقبل بأقل من كده."



"إيه  يا بو الصحاب..... كل ده تأخير؟!"




        
          
                
قالها سلامة وهو يقترب منهم ليسلّم على أيوب بعد أن وصلا أمام المسجد... انعقد حاجبا أيوب متعجبًا...



"غريبة.... أول مرة أشوفك بتصلي صلاة العيد... "



"أصل السنة دي... تختلف."



قالها سلامة وهو ينظر نحو نهاد التي كانت متألقة بجوارهما بثوبها الأنيق وحجابها الرائع ووجهها المشرق....



"كل سنة وانتوا طيبين."



وجّه إليهن الحديث وعيناه تخصّها به دون غيرها....ثم انتبه إلى وجود نغم فقال 
باحترام...



"إيه ده..... نغم هانم؟! كل سنة وإنتي طيبة... وأنا بقول المنطقة منورة كده ليه.. "



ردّت بفتور واضح...



"منوّرة بأهلها... أهلًا يا سلامة."



بلع غصّة مُسننة في حلقه وهو يشعر أنه أقل من أن يقف معهما ويتحدث إليهما. لماذا يراوده هذا الشعور وهو صديق أيوب منذ سنوات؟!...



"أهلًا بيكي... مش يلا بقى ولا إيه 
الصلاة هتبدأ... "



أومأ أيوب موافقًا وهو يشير إليهن...



"آه روحي مع البنات يا نغم.. وبعد الصلاة هتلاقونا مستنيينكم هنا.... "



تحرّكت الفتيات ودخلنَ مُصلّى السيّدات.



بدأ الشيخ في رفع الأذان وقبلها كانت نغم
قد أخرجت الوشاح من حقيبتها ووضعته على رأسها ثم وقفت في صفٍّ متساوٍ بجوار التوأم وبدأت الصلاة على صوت المؤذن صوته الرخيم التقي والذي يبث الرجفة في الجسد فور تلاوته للقرآن...



كان الشعور مختلفًا... يدغدغ القلب وهي تقف بين السيّدات تؤدي صلاة العيد لأول مرة...



بعد أن انتهت خرجت بصحبة التوأم واللتين لم تتوقفا عن الثرثرة والضحك...



رأت أيوب على الجهة الأخرى ينتظرهما في نفس المكان فأعطاها ابتسامة جذابة مع غمزة عابثة من عينيه وهو يشير للأعلى...



نظرت مثله إلى الأعلى بحيرة فرأت مجموعة كبيرة من البالونات الملوّنة مختلفة الأشكال تهبط فوق رأسها ومن حولها...



رفع أيوب هاتفه والتقط عدّة صور لها على هذا النحو المذهل. كانت متفاجئة مذهولة 
ثم ما لبثت أن استوعبت الموقف فظلت تضحك مع التوأم وهي تشاهد الجميع
صغارًا وكبارًا يهرولون لالتقاط البالونات...



"خفي يا عم الروميو مش كده..."



قالها سلامة وهو يلكز صديقه في كتفه بمزاح فقال أيوب وهو ينظر إلى الصور التي التقطها لها....



"الحب دا طلع حلو أوي ياض يا سلامة..."



رد عليه سلامة بمرارة وهو ينظر إلى نهاد التي تقترب مع الفتيات.....



"ما هو كده في أوله حلو... بس بعد كده... بتبدأ تخاف..."



رد أيوب وعيناه العاشقتان معلّقتان عليها...




        
          
                
"أنا فعلاً خايف... بس برضو مش مصدق إنها بتحبني... هو أنا في حلم ولا في علم.. نغم الموجي بتحبني أنا؟!"



شرد سلامة في نهاد وهو يتمتم...



"أنا كمان مش مصدق..."



نظر إليه أيوب باستفهام...



"مش مصدق إيه؟!"



هتف سلامة بنفس الشرود...



"إنها بتحبني..."



أمسك أيوب ذقن سلامة وأدار وجهه إليه قائلًا بنظرة محتدّة...



"هي مين دي... اللي بتحبك؟! أنت رجعت تصطبح تاني؟!"



فاق سلامة من شروده ثم تنحنح قائلا
بثبات....



"يا عم إحنا لسه خارجين من شهر صيام اصطبح إيه بس... أنا اندمجت في الحوار بس... بس انت جدع يا صاحبي وتستاهل كل خير..."



وقبل أن يرد عليه أيوب أتت الفتيات وقالت نهاد مبتسمة...



"ها هنروح ولا هنخرج؟"



قال أيوب مفكرًا وهو ينظر إلى نغم...



"تيجوا نروح بحري.... المرسي أبو العباس؟"



برقت عينا ندى بسعادة وهي تقول باستحسان



"والله فكرة أنا بقالي كتير مروحتش...."



وجه أيوب السؤال إلى نغم وعيناه تنهال
من جمالها الخالص...



"إيه رأيك يا نغم؟... تخرجي معانا؟"



"مفيش مشكلة..."



أجابته برقي الملكات وكأنها تتكرم عليه بصحبتها وكم يغيظه هذا... فمهما كانت جميلة ولا تُقاوَم إلا أنه يبغض عنجهيتها التي تظهر في كثير من المواقف...



أثناء اندماجه معها كان سلامة يخرج ورقة نقدية من فئة مئة جنيه ويعطيها لنهاد في الخفاء قائلًا...



"كل سنة وانتي طيبة..."



توسعت ابتسامة نهاد وهي تنظر إلى الورقة وكأنها حصلت على كنز يحوي الذهب والياقوت....



"دي عيديتي؟!"



قال سلامة بحرج شديد...



"حاجة بسيطة... لو كان معايا أكتر كنت اديتك..."



ترقّرقت الدموع في عينيها تأثرًا بجملته
وقلة الحيلة التي نطقت بها كلماته لذلك
كانت ابتسامتها تزداد اتساعًا وهي تقول بمحبة...



"مش بسيطة ولا حاجة دي أحسن عيدية خدتها في حياتي... كفاية إنها منك..."



تأوه سلامة بتعب هامسًا...



"آه منك يا دكتورة... بتعرفي تغلبيني بالكلام..."



ضحكت نهاد بخجل فانتبه أيوب لتهامسهما فقال بحدة....



"انتو بترغوا في إيه؟!"



انتفضا معًا وهما ينظران إلى أيوب بصدمة. أطْرقت ندى رأسها أرضًا بقنوط فـيومًا ما سينتهي هذا الحب المعطوب ومعه ستفقد أختها احترامها أمام الجميع وأولهم أخوها الأكبر !...




        
          
                
أجابته نهاد بهدوء...



"سلامة مش عايز يجي معانا فـ بقنعه..."



زمجر أيوب بغيرة وهو يشير إلى ندى...



"تعالي جنب أختك....ومالكيش دعوة بيه..."



شعر سلامة وكأن دلواً من الماء سُكب فوق رأسه وقد انتابه الحرج الشديد والاختناق فقال منسحبًا...



"طب استأذن أنا يا أبو الصحاب..."



قال أيوب بصعوبة...



"لو عايز تيجي معانا تعالى..."



رفض سلامة بملامح متجهمة...



"لا مش هينفع... أنا مطبق من إمبارح هروح أنام..."



غادر سلامة بينما تعلقت عينا نهاد به بحزن وقلبها يستجديه أن يبقى لكنه فضّل الانسحاب...



"نهااااد... يلااااا..."



على صوت أيوب من خلفها كي تلحق بهما ففعلت على مضض ولو كان الأمر بيدها لرفضت الخروج معهم لكنها إن فعلت 
ستضع نفسها تحت الشبهات ولا تريد أن
تثير شكوك أيوب حولها هي وسلامة...



أثناء سير نغم بجوار أيوب وندى صدح هاتفها برسالة... أخرجت الهاتف تنظر إليه مدعية الانشغال عن أيوب الذي لا يتوقف عن مداعبتها بالنظرات الشقية...



توقفت مكانها مصعوقة وهي تحدّق في شاشة الهاتف بصدمة وعدم تصديق...



(وحشتيني...)



كلمة واحدة تعبّر عن مدى اشتياق هذا الشخص لها لكنها لم تكن سبب الصدمة...



الصدمة الحقيقية التي جعلتها تقف فاغرة الفم متّسعة العينين برهبة هي الرقم الذي أرسل الرسالة...



رقم قديم محفوظ على هاتفها و مسجَّل 
باسم...



(أسر العزبي...)



................................................................
"استرها يا رب...حاول تاني يا صالح يا بني..."



هتفت والدته بتلك العبارة وهي تذرف الدموع والقلق يفترس قلبها. حتى أبرار كانت تجلس بجوارها على غير هوادة شاحبة الوجه نظراتها غائرة وألف سيناريو قاتم قد داهم عقلها منذ ليلة أمس....



تأفف صالح وهو يُنزل الهاتف عن أذنه...



"تلفونه مقفول..."



ضربت والدته على ركبتيها وهي تقول 
بلوعة...



"يعني إيه من امبارح مقفول؟! هيكون راح فين؟!.... "



رد صالح وهو ينظر إلى قائمة الأرقام التي أجرى بها عدة اتصالات منذ الأمس...



"أنا كلمت كل الناس اللي ممكن يكون عندهم محدش شافه من امبارح ولا راح عند حد..."



سالَت الدموع على خد والدته وهي تقول بصوت مرتعش....



"هيكون راح فين؟! وليه يقفل تليفونه ويوجع قلبي عليه؟!"



ربّتت أبرار على كتف جدتها وهي تتشبث بها بخوف تطمئنها بينما تفتقد هي الطمأنينة وقلبها في صراع مع مخاوفها...



"اهدي يا تيتة... إن شاء الله زمانه جاي...
يا رب."



التقط صالح مفاتيح سيارته وهو يقول 
بسرعة...



"أنا هروح أدور في المستشفيات وبعد كده هطلع على القسم...."



صدح جرس باب الشقة فانتفضت أجساد الجميع وكادت أبرار أن تقف صارخة باسمه...



لكن عندما فتح صالح الباب ورأت شروق التزمت الصمت وجمدت في مكانها...



تبادلت شروق مع صالح النظرات لبرهة قبل
أن تقول بحرج...



"إيه الأخبار؟ عرفتوا حاجة عن ياسين؟"



هزّ صالح رأسه نفيًا فقالت بابتسامة حنونة



"إن شاء الله خير... يمكن بات عند واحد من صحابه... "



أعاد صالح جملته على مسمع الجميع...



"أنا هنزل أدور عليه في المستشفيات..."



ثم نظر إلى شروق مستجديًا...



"خدي بالك منهم..."



كيف تبدّلنا الأيام وتغيّرنا بهذه الدرجة... تتذكّر أنه في الماضي كان يخشى على الجميع منها واليوم يوصيها عليهم !...



أشارت شروق إلى عينيها الاثنتين بابتسامة صغيرة تطمئنه....



"في عينيّ... اطمن."



وقبل أن يتحرك صالح خطوة واحدة صدح هاتفه برقم غير مسجل. فتح الهاتف والخوف يعصف بصدره استمع إلى المتصل بحاجب معقود واستفسر بصوت ضعيف مصدوم....



"أيوه أنا... حادثة عربية؟!"



انتفضت أبرار واقفة في مكانها وهي تصرخ



"ياااااااسين... "



بينما ضربت شروق على صدرها بصدمة أما الجدة فلم تحملها ساقاها للوقوف والاقتراب من ابنها فقد عجزها الهول وعادت إليها مرارة الفقد والرهبة من هذا الشعور المميت.



برزت عروق صالح وهو يتشنج صارخًا في الهاتف....



"اديني عنوان المستشفى بسرعة... "



... يتبع

 



        


تعليقات