رواية مديري مستر فرعون الفصل الاول 1 - بقلم رحاب ابراهيم

 رواية مديري مستر فرعون (كاملة جميع الفصول) حصريا عبر دليل الروايات بقلم رحاب ابراهيم

رواية مديري مستر فرعون الفصل الاول 1 - بقلم رحاب ابراهيم

تسحبت تلك البائسة ليلًا وهي تكافح الّا يستيقظ أحد من هؤلاء العقارب أسرة عمها المضجعين في فراشهم ويغطون في سُباتٍ عميق، حتى دخلت بترقب لغرفة على يمينها، وسحبت ببطء ورقة جريدة تعلن عن وظيفة هامة بشركة سياحة تم افتتاحها حديثا منذ سنة تقريبًا بعد فترة تجديد بالمبنى أخذ أشهر وتم تسلميها للمالك الجديد، فباتت ذات صيت في فترة وجيزة بعد حالة ركود استمرت لسنوات.

وتنفست الصعداء وتهللت أساريرها عندما وجدت ورقة الإعلان مندسة بملف به أوراق وشهادات أبنة عمها "شاهندة" .. تلك الفتاة البغيضة التي لا تنفك عن السخرية منها ومن مظهرها وجميع تصرفاتها بلا أدنى شفقة أو رحمة.

حذرت " ليلة العيد" أن لا تصدر أي صوت وهي تنسحب مرةً أخرى وتغادر الغرفة قبل أن ينكشف أمرها .. وبلحظاتٍ قليلة عادت لغرفتها الصغيرة المكدسة بكتب جميعها تتحدث عن تاريخ المصريين القدماء وذلك العصر القديم الذهبي الذي يفتنها القراءة عنه منذ سنوات .. والذي كانت فيه الأرض المصرية أرضا للملوك والكنوز والتقدم بين ظلام وعجاف كان يسود السواد الأعظم من بلاد العالم.
جلست على فراشها وتنهدت بقلق هامسةً لنفسها بخفوت وهي تقرأ الإعلان على مهلٍ وتفكر بشروط الوظيفة المُعلن عنها، فقالت بضجر:
_ طب وايه العمل بقا، ده مش بس محتاجين شهادات علمية معتمدة، ده كمان طالبين خبرة مش أقل من ٣ سنين ؟! كالعادة يعني!!.

وعندما تابعت القراءة ابتسمت بأمل اخيرًا وهي ترفع نظارتها الطبية السميكة على أعلى عظمة أنفها وهمست لنفسها بدعم :
_ معايا لغة ومستوايا ممتاز فيها .. وشرط التفرغ موجود، والسفر هوافق عليه طبعا، ده حتى اترحم من الخلق اللي ما يعلم بيها غير ربنا وعايشة معاهم دول .. بس الشهادة والخبرة دول بقا الأزمة.

وعاد السأم يغزو محياها، حتى لمحت شرطاً أضافي مكتوب هامشيًا بآخر الشروط، وقرأته ببطء وضيقا ملأ نفسها :
_ وتكون حسنة المظهر ..!!

ضيقت عينيها للحظات على ذلك الشرط، ثم نهضت من فراشها وتوجهت نحو المرآة الكبيرة المتقشرة بغرفتها، ونظرت لنفسها بتمعن وصمتٍ .. لمحت بشرتها الباهتة وعينيها المختبأة خلف نظارة سميكة بشعة المظهر وكأنها قطعتان من اللحم المقدد المحروق تضعهما على عينيها، عدى عن وجهها العابس دائمًا والذي لا يسر الناظرين بأول طلّة:
_ ربنا يستر بقا .. ما هو أكيد يعني مش ده أهم حاجة!!.

ماءت قطتها السوداء "شفيقة" وهي ترفع رقبتها القصيرة ذات الفرو الناعم وتبرق بعينيها الخضراء بنظرة حادة، فنظرت لها "ليلة العيد" وقالت تخاطبها وهي على حافة أن تجهش بالبكاء:
_ عارفة أني مش حسنة المظهر بلاش تبصيلي كده ! .. ولا أنتي جعانة ولا إيه ؟!

ماءت قطتها مرةً أخرى واقتربت وهي تتمسح بقدميها برجاء، فرفعتها اليها وضمتها "ليلة العيد" وقالت وهي تربت على ظهر قطتها السوداء بحنان :
_ والله يا شفيقة أنتي أنضف حد أعرفه وأحن قلب عليا .. من يوم ما لقيتك في رحلة الأقصر من شهر و بقيتي كل حاجة ليا.

قبلّت قطتها برقة ووضعتها أرضاً حتى تذهب وتأت إليها بطعامها الخاص، وحينما كانت بالمطبخ تُعد لقطتها بعض أجنحة الدجاج المسلوقة استندت بظهرها على رخامة المطبخ وشردت بعض الشيء، وعينيها نظرت بشرود للسماء الحالكة بالظلام من خلال نافذة المطبخ المفتوحة .. وهمست لنفسها بتمنّي:
_ ياريت لو كان بإيدي حياتي كلها تتقلب وتبقى حياة تانية .. حتى لو في زمن تاني ومع ناس تانية .. حاسة أن الزمن ده لا زماني ولا المكان ده ينفع يبقى مكاني.

وظلت تُحدث نفسها بأماني من المستحيل أن تتحقق بكل سُبل المنطق والعقل، وعندما مر بعض الوقت استدارت للموقد حتى تطفئه وتفاجئت بقطتها وهي تنظر لها بنظرة غريبة، لم ترتاب "ليلة العيد" ولم تكترث لشيء واعدت طعام القطة بهدوء .. وعندما وضعت للقطة الطعام التهمته القطة بشهية عالية وأصدرت مواءّ محبب دلالاة الرضا عن الوجبة اللذيذة .. فشاكستها بابتسامة مداعبة وتركتها، ثم عادت لغرفتها الضيقة تفكر بكيفية طلب التقديم لتلك الوظيفة.
ولكن بعد لحظات انضمت لها القطة السوداء شفيقة بالفراش، وسبحت ليلة العيد في نوم عميق والقطة تطالعها بمحبة ...

(وبأحلامها ....)
كانت تركض وسط الضباب ومكان تنخرط فيه البدائية والكآبة بجميع الاتجاهات، كانت تركض بذعر كأنها تهرب من وحشا مخيف .. حتى تلقفتها يدًا مجهولة وأخرجتها من ذلك المكان الموحش إلى بستان مليء بالزهور والرمال المتلألأة تحت ضوء شمس الغروب الدافئة ..

نظرت " ليلة العيد" لليد لتجد أن صاحبة تلك اليد امرأة اكتمل ظهورها بلحظة وكأنها نفرًا من الجن !!
وابتسمت لها المرأة برقة وقالت :
_ متخافيش أنا جانبك وهساعدك تحققي كل أحلامك.

سألتها ليلة العيد باهتمام وتوجس، خصيصا أن تلك المرأة يبدو عليها وكأنها آتية من العصور القديمة بمظهرها وزينتها النادرة :
_ أنتي مين ؟!

ابتسمت المرأة التي يبدو عليها وكأنها ستغادر سن الأربعين بعد عامين على الأكثر وقالت :
_ مش مهم تعرفي دلوقتي، بس أنتي ساعدتيني وأنقذتيني من الجوع بعد ما اختفت كل قوتي لما هربت من زماني .. أنا هساعدك زي ما ساعدتيني.

لم تفهم " ليلة العيد " مقصدها تمامًا، فقالت المرأة بابتسامة عريضة وهي تشير للبستان :
_ على ما قوتي ترجعلي هكون جانبك في كل مكان وأحاول اساعدك توصلي لأحلامك .. ولما قوتي ترجعلي كلها هحققلك كل اللي بتحلمي بيه فورًا ..

ابتسمت ليلة العيد بدهشة وقالت :
_ يعني أخيرًا هفرح وأبطل أخاف من كل اللي حواليا وأخد حقي وأعيش حياتي؟

ربتت المرأة على يد ليلة العيد بحنان واكدت:
_ أيوة ، هحاول احققلك كل اللي بتتمنيه قبل قمر ليلة ٣٠ في الشهر ده ... بعد الليلة دي مش متأكدة هكون موجودة هنا ولا لأ .. وعشان كده من النهاردة أوعدك أني ببقايا القوة اللي معايا هحاول أساعدك حتى لو بقيت زي ظلك.

سألتها ليلة العيد بلهفة وقلق :
_ هتروحي فين ؟

أجابت المرأة بابتسامة حنونة كأم تلاطف أبنتها:
_ هكون بخير أطمني ، بس في زمن تاني .. ومع ناس تانية ، زمن غير زمانكم .. لناس مستنياني.

وربتت المرأة على يد ليلة العيد بحنان أمومي شديد، حتى استيقظت ليلة من ذاك الحلم فجأة وانتبهت لجلوس قطتها السوداء ثابتة ومحدقة فيها بنظرة هادئة تمامًا، ورغم ذلك تدعو للقلق .. ولكنها لم تكترث كثيرًا وتجاهلت الأمر، ثم فركت عينيها واخذت القطة بين ذراعيها بمحبة وخلدت للنوم مجددًا ..

__________________________

وباليوم التاليــ

تسللت أشعة الشمس عبر نافذة غرفتها المظلمة وفتحت ليلة العيد عينيها ببطء، تثاءبت بكسل وهي تحرك ساقيها قليلًا قبل مغادرة الفراش لتحرر الدماء فيهما.. ولكنها انتبهت لنظرة القطة "شفيقة " وهي تنظر لها بتمعن ودقة، اخذت نظارتها السميكة وارتدتها سريعا لتصحح الرؤية الضبابية، ثم ابتسمت للقطة وهي تجثو لتحملها وتدللها وهمست بلطف :
_ هقوم اجيبلك الفطار يا شفشق.

وسرعان ما ذهبت للمطبخ وهي تتثاءب بعينان نصف مفتوحةً، ولكن ما أستوقفها هو حديث أبنة عمها شاهندة وهي تتحدث بعصبية على مائدة الافطار مع أمها وأشقائها وتقول بحدة:
_ كنت جيبالكم ورقة الأعلان اوريهالكم عشان تصدقوني بس ضاعت مني للأسف ومش لقياها في الملف بتاعي، تخيلوا الغبي ده خلاني قدمت استقالتي عشان مش عاجبه الأكسنت بتاعي !! .. واللي يغيظ أنه طالب في الاعلان مؤهلات أقل من اللي معايا ؟!... طب طردني ليه ؟!.

ارتشفت شقيقتها الصغرى "سالي" القليل من كوب مشروبها الدافئ وقالت بابتسامة ساخرة تفسر بعدم أقتناعها لمَ تقوله شاهندة:
_ ما هو انتي برضه يا شاهندة الاكسنت بتاعك في الانجليزي مش واو يعني .. ودي شركة سياحة يا حبيبتي، يعني كل شغلكم مع اجانب تقريبًا .. وبيشتكوا في أقل غلطة.

نفخت شاهندة بنظرة غاضبة من شقيقتها وهتفت بوجهها وهي تستشيط غضبًا :
_ تعرفي تنقطينا بسكاتك يابت أنتي ؟! .. أنا فيا اللي مكفيني.

تدخلت الأم " سميرة" وقالت هاتفة بأبنتيها ليتوقفا عن الجدال الغير مثمر :
_ مش عايزة كلام في الموضوع ده تاني، وأنتي يا شاهندة هتشتغلي في المصنع مع أبوكي .. وبلاها تنطيط من شغلانة لشغلانة وكل يوم عملالي موال ومشاكل !!.

شهقت شاهندة بصدمة، بينما ضحك أخوتها سالي وحسام عليها، وبعدما خرجت شاهندة من صدمتها قالت برفض واحتقار للفكرة وهي لا تتخيل أنها ستفعل ذلك بيوم من الأيام :
_ بقا عايزاني أنا شاهندة اشتغل في مصنع صابون ؟!

تمتم حسام بسخرية وشيء من الملل والسأم لمدى سطحية شاهندة ونكرانها الدائم لسنوات الفقر التي أخذت الكثير من طفولتهم :
_ الله يرحم.

نظرت لها الام سميرة بحدة وقررت بحسم :
_ مكنتش عايزة كده، لكن بما أنك كل ما تروحي لشغلانة تعملي مشاكل الدنيا مع زمايلك ويمشوكي فالأحسن تشتغلي بكرامتك في مصنع أبوكي .. على الأقل دي شغلانة لا محتاجة اكسنت عالي ولا محتاجة غير حضورك، مش كفاية دراستك اللي خلتينا دفعنا فيها دم قلبنا عشان بس تعدي وتنجحي!.

تدخل حسام مذكرًا والدته بخبث :
_ بس المصنع ده مش بتاع بابا في الأساس يا أمي، أنتي ناسية أنه بتاع عمي سعيد الله يرحمه.

حدجته أمه سميرة بنظرة عنيفة جعلته يلتزم الصمت ولا يتابع حديثه، فألتوى فمه بضيق ونهض مغادرًا المنزل وهو يجري اتصال هاتفي لفتاة من قائمة طويلة من الفتيات الذي يواعدهن، وانتبهت لهذا المشهد استماعا " ليلة العيد" وهي تفتح باب الثلاجة وتأخذ قطعا من الجبن المحبب لقطتها،
وازدرت ريقها بمرارة وما باتت تسأل نفسها ذلك السؤال المُحير الذي لازمها لسنوات ..
كيف لهذه السيدة زوجة عمها أن تبدو قاسية لهذا الحد وهي أيضا خالتها ؟! .. فهي شقيقة والدتها الراحلة أيضاً، ولكن شتان بينها وبين أمها تلك السيدة العطوف الطيبة المعشر ..
أغلقت باب الثلاجة وهي تتنهد بثقل وحاولت أن تبعد تلك الافكار المؤلمة عنها، وتابعت عودتها لغرفتها في هدوء زائف...

_____________________________

وفي طريق عودتها أتت اليها القطة راكضة بالصالة الواسعة وماءت بلهفة للجبن الممتلئة به يد " ليلة العيد" .. فقالت لها وهي تحملها وتتحاشى النظر لهؤلاء المُسلطة أعينهم عليها باستخفاف وسخرية:
_ تعالي افطرك في أوضتنا احسن يا شفيقة.

فقالت زوجة عمها وخالتها أيضا "سميرة" بغيظ ونفور وهي تنظر للقطة بكراهية :
_ القطة المقرفة دي لازم تمشي من هنا وده آخر تحذير ليكي، ده كفاية شكلها المرعب ده!.

حاولت أن تتحكم ليلة العيد بأعصابها وردت بهدوء زائف:
_ دي قطتي وهتفضل معايا وأظن أنها مش مسببة لأي حد أزعاج هنا ..

قالت شاهندة بحدة وكأنها وجدت شيء تفرغ فيه غضبها المكبوت لطردها من وظيفتها :
_ كلام ماما يتسمع وإلّا يومك مش معدي ..

زمت ليلة العيد شفتيها وكافحت لتكظم غيظها بشتى الطرق حتى لا يحدث شجارا بينهما كالمعتاد وتخرج منه خاسرة كالعادة عندما يلتفون حولها الثلاثة ويتناوبون بالشتائم والسباب وأحيانا اللكمات .. فتوجهت لغرفتها وتجاهلت تلك السخيفة أبنة عمها، مما أثار غيظ شاهندة وجعلها على حافة الجنون، فنهضت وتوجهت خلفها وهي تضمر الشر.

وعندما ما كادت أن تجلس ليلة العيد على فراشها وتطعم القطة وجدت شاهندة آتية بكامل غضبها وتصرخ فيها بغضب مبالغ فيه:
_ القطة دي لو فضلت هنا ساعة واحدة كمان هحطلها سم أو ارميها من الشباك.

حاولت أن تتحكم ليلة بأعصابها ولكن لم تستطع، فنهضت لها قائلة بعصبية وقد نفد رباط الجأش:
_ أنتي عايزة ايه مني بالضبط ؟! .. ما أنتي مربية كلب ومحدش اتكلم ولا اعترض، اشمعنى القطة بتاعتي اللي عملالك أزمة ؟!... ولا هو الغل اللي مالي قلبك من ناحيتي ؟!.

اتسعت عينان شاهندة بذهول وهي تجوب بنظرتها ليلة من أعلاها لأخمص قدميها بسخرية وازدراء، ثم صاحت باحتقار وغضب وهي تندفع اليها بشر :
_ أغل منك أنتي يا أم اربع عيون على ايه ؟! ... أنتي مش شايفة نفسك ولا معندكيش مراية تشوفي شكلك العرة ده يا بت؟! .. والله وبقا ليكي صوت وبقيتي تردي عليا وتوقفي قدامي كمان ؟!.

وأتى الجميع خلف شاهندة عندما بدأ الشجار وارتفع صوتها، فقالت سالي بأحتقار لليلة العيد:
_ شكلك نسيتي علقة كل مرة .. ما هو بابا السبب، من ساعة ما بعدنا عنك آخر مرة وخلصك من ايدينا وأنتي طيحتي فينا ومابقاش حد عارف يوقفك !...

تقدمت خالتها سميرة بنظرات حاقدة لأبنة أختها وقالت بشراسة وهي تشير لها بتهديد وتحذير:
_ والله لو ما احترمتي نفسك ولميتي لسانك لأعرفك مقامك، انا غلطانة اللي سكتلك الفترة اللي فاتت ومعلمتكيش الأدب اللي ما أتربتيش عليه .. يا قليلة الادب والرباية !.

نفد رباط الجأش من أعصاب ليلة وقالت بشراسة ودموعها تنزف من عينيها :
_ أمي الله يرحمها ربتني أحسن تربية، محدش خلاني أرد واتكلم بعد ما كنت قطة مغمضة غيركوا، من صغري وانتوا بتذلوني وبتتلموا عليا وتضربوني .. ولا نسيتي يا خالتي أنك بعد موت أمي جيتي وخدتي كل حاجتها غصب عني ، قعدتوا في بيت ابويا وأمي بالأجبار وعاملتوني على أني خدامة، حتى المصنع ما بيوصلنيش منه غير شوية ملاليم وفكة .. حتى القطة بتاعتي عايزين تمشوها غصب عني كيد فيا .. بس خلاص انا مش هسكتلكم تاني .. والبيت ده بيت أبويا وانتوا اللي اغراب وضيوف، ولو كان عمي بقا ليه نصيب في ورث ابويا فأنا وهو حسابنا مع بعض مش معاكوا .. من النهاردة ترجعوا لشقتكم القديمة اللي كانت هتقع عليكم لولا موت أبويا ومجيكم هنا ...

باتت عينان سميرة جمرتان من الغضب ودوت على وجه ليلة العيد بصفعات متتالية وقاسية وهي تعنفها وتسبها، فصرخت ليلة وقالت بأنهيار وهي تستشيط غضبا:
_ أنا بكرهك .. طول عمرك بتغيري من أمي ومن عيشتها وبتحقدي عليها، ما استنتيش لحظة بعد وفاتها وقبل ما تاخدي عزاها كنتي هنا وواخدة كل هدومها ودهبها والضحكة والفرحة مالية عنيكي كأنك لقيتي كنز .. سكوتي كان عشان طفلة صغيرة ومش مستوعبة، لكن كل سنة كنت بكبر فيها كان بينكشف ليا طمعك وحقدك .. بتضربيني وأنتي عايشة في بيتي ومن خير أبويا !! .. المرادي مش هسكتلك.

وركضت خارج الشقة السكنية وجلست على درجة من السلم الرخامي وانتفضت بالبكاء .. ولحظات مرت عليها ثقيلة مليئة بالأسى والحزن، حتى انتبهت لمواء قطتها الخافت ونظرتها المواسية.. أخذتها ليلة العيد وضمتها وهي تبك، وبعد دقائق مسحت دموعها ودخلت الشقة مرة أخرى وقد قررت شيء ...

_______________________________

وبمكتب محامي كان صديقا قديما لوالدها الراحل ..
دخلت" ليلة العيد " بعينان متورمة من البكاء وجلست تنتظر دورها للدخول ..

وبعد أكثر من نصف ساعة دخلت سريعا للمكتب، وحينما رآها الرجل ابتسم لها بترحيب رغم نظرة شفقة بعيناه جاهد أن يخفيها، وبعدما جلست امامه ليلة العيد قالت وهي تتحكم بدموعها :
_ أنا عايزة أرفع قضية على عمي، مش عايز يسلمني ورثي ومخلي مراته وولاده يبهدلوني ويذلوني .. انا استحملت وصبرت كتير لكن كفاية كده ..

صمت الرجل لبعض الوقت وقال بأسف :
_ بصي يابنتي الكلام اللي هقولك عليه ده أنا شوفته بنفسي .. للأسف عمك باع لنفسه كل حاجة بالتوكيل اللي معاه.

صدمت وتجمدت وهي تنظر له، فتابع الرجل بضيق :
_ أبوكي الله يرحمه كان طيب وغلبان ومسلّم اخوه كل حاجة ، وعمك توفيق طول عمره زي التعابين عرف يستغل طيبة أبوكي كويس أوي في آخر أيامه قبل الحادثة.. عرف يمضيه على أوراق كتير من غير ما يحس ده غير التوكيل كمان .. ودلوقتي كل حاجة باسمه قانونيا .. يعني مش هناخد معاه لا حق ولا باطل، الكلام ده ما قولتهوش السنين اللي فاتت لانك كنتي صغيرة ومش هتستوعبيه، لكن من مصلحتك أنك تفضلي زي ما أنتي وماتعرفيش حد أنك عرفتي الحقيقة ..

وتابع حديثه بنصيحة وشعور متواري بالشفقة:
_ لو عرفوا انك اكتشفتي الحقيقة هيذلوكي أكتر ، استحملي شوية لحد ما ربنا يرزقك بأبن الحلال وتخلصي منهم وتبعدي عنهم .. وبالنسبة للورث صدقيني يابنتي المال الحرام بيتعب صاحبه أوي .. والحق بيرجع ولو بعد حين.

ارتعشت شفتي ليلة العيد بدموع، ثم قالت بقهر واختناق :
_ عشان كده خالتي مستقوية ومش هاممها أي كلام أقوله ، كنت جاية وكل أمل أني الاقي عندك الحل واخلص من العذاب اللي عايشة فيه .. لكن كده لو اتكلمت وعرفتهم هيرموني في الشارع ومش هيرفلهم جفن حتى !.

رد الرجل موضحا ومؤكدًا:
_ عمك سرق ورثك ومسابش دليل يدينه .. بس ربنا كبير أوي وهيرجعلك حقك، انزلي أشتغلي ومتقعديش في البيت كتير واصبري على الأبتلاء ده.. وكل شيء له آخر.

نزفت عينان ليلة العيد الدموع بغزارة أسفل نظارتها السميكة وقالت :
_ ده مش بس هو اللي سرقني، ده خالتي كمان سرقت دهب أمي كله وماسبتليش منه أي حاجة .. أنا حتى لو فكرت أهرب مش هيبقى معايا اللي يسترني وما يحوجنيش لحد ..

اعترض الرجل وقال بتحذير :
_ اوعي تعملي كده، أنتي بنت والدنيا مليانة وحوش يابنتي والكل هيطمع فيكي، هما بكل جحودهم هيبقوا أفضل من الغرب وأنتي لوحدك .. أصبري لحد ما ربنا يكرمك.

وقفت بجسدها الذي وكأن أصابه الوهن فجأة وغادرت من المكتب دون أضافة المزيد ..

وضمت حقيبتها لصدرها وهي تبك وتسير بالطريق وسط المارة والزحام ولم تكترث للنظرات المشفقة على حالتها التي يرثى لها، وظلت هكذا حتى اوقفت سيارة أجرة ... وسألها السائق عن العنوان عندما جلست بالمقعد الخلفي شاردة وباكية :
_ العنوان يا آنسة ؟! ...... يا آنسة ؟!

خرجت من شرودها وأخبرته بعنوان منزلها بصوت متحشرج، الذي وبالأصح لم يعد منزلها، وعندما تحركت السيارة نظرت لحقيبتها وطرأ بفكرها شيء متهور، نظرت لساعة يدها وتمتمت :
_ الساعة ١٠ صباحا .. يعني لسه في وقت ..

وحمدت ربها أنها كانت تحتفظ بورقة شهادتها الوحيدة للثانوية العامة بداخل الحقيبة منذ ليلة الأمس وهي تفكر بالوظيفة، واخرجت الورقة وتفحصتها بتمعن ودموع، خصيصا عندما وقعت نظرتها على مجموعها بالقسم الأدبي، وقالت بحسرة وبكاء:
_ ٩٥٪ .. منك لله يا عمي انت ومراتك وولادك، دمرتوا مستقبلي وغصبتوني مكملش .. كان زماني دلوقتي رايحة أقدم للوظيفة وأنا مطمنة ومش خايفة ..

لم تتوقع رد السائق العجوز عليها بعدما انتبه لحديثها وفهم نبذة عن ما تعانيه وحدثها برفق :
_ محدش بياخد أكتر من نصيبه يابنتي .. قدمي يمكن ربنا يكرمك.

ردت ليلة العيد ببكاء وشعور خانق بالضعف:
_ ده انا لو قدمت الشهادة اللي معايا وبس ممكن يطردوني برا .. أنا بحلم من سنين بالشغلانة دي، بس الوصول ليها مستحيل تقريبًا..

سألها السائق عن ماهية الوظيفة التي تتحدث عنها، وعندما أخبرته ابتسم وقال بحبور :
_ ده الشركة دي عاملة ضجة فعلًا ... بنت أختي لسه متوظفة فيها من أسبوعين، مكنتش مصدقة نفسها برضه، أصل المدير بتاع الشركة دي بيقولوا شاب صغير وبينقي الموظفين بتوعه على الفرازة ، بعد ما المدير الاولاني تقاعد وباعه شركته ليه. بصي اللي فهمته يعني أنه بيختار الكفاءة مش الشهادة .. فقدمي وربنا ييسر الحال.

قالت ليلة العيد وهي تمسح دموعها بشيء من الامل :
_ أنا برضه سمعت كده، هتوكل على الله وزي ما تيجي تيجي بقا، معلش ممكن توديني على عنوان الشركة وتغير الطريق.

وافق السائق العجوز وتبسم بصدق :
_ ربنا يجعلك فيها مكانة كبيرة يابنتي احسن من اللي بتحلمي بيها .. أنا برضه وصلت بنت أختي يومها وكنت بدعيلها والحمد لله ربنا كرمها ومبسوطة أوي في الشغل .. وبإذن الله يكون وشي حلو عليكي أنتي كمان.

بث الأمل ليلة العيد من بشاشة هذا الرجل وحديثه الطيب معها، وبعد مرور بعض الوقت وقفت السيارة الأجرة أمام مبنى ضخم مغلف من الخارج بخامة تشبه الزجاج الملون بلون السماء الزرقاء الصافية، ارتجفت وهي تنظر للمكان الفخم ورواده الاثرياء الذين يلتمعون من الغنى الفاحش، ورفعت نظارتها على أنفها بقوة من فرط القلق وهي تجاهد حتى لا تقارن مظهرها بمن يسيرون حولها دخولًا للمبنى، حتى حسها السائق الطيب على الدخول :
_ اعملي اللي عليكي ويمكن خير ..

أعطته ليلة العيد أجرته ولكنه رفض قائلًا بلطف:
_ لو قابلتك تاني هاخد منك أجرة، أنما المرادي خليها عليا، وربنا يجبر بخاطرك.

صممت على اعطائه الاجرة، ولكنه أيضا صمم على موقفه، ثم سألته بأمتنان :
_ هو حضرتك اسمك إيه ؟

رد عليها السائق الطيب :
_ عمك رزق .. بنت أختي اسمها منة جمال .. هتلاقيها شبهي شوية.

ابتسمت له ليلة العيد بأمتنان حقيقي، واستدارت للمبنى وتقدمت بخطوات تجاهه وهي تردد بعض الاذكار بتوتر قد تملّك منها، وضمت حقيبتها بقوة كالتلميذة المعاقبة خارج فصلها الدراسي.
خطواتها كانت مرتبكة وبطيئة، حتى بات مظهرها ملفت للنظر وهي تدخل المبنى وعينيها تدور بتوتر شديد على الجميع، رغما عنها قارنت مظهرها البائس هذا مع الفتيات التي يتنافسن في الأنوثة والأناقة .. ابتلعت ريقها بصعوبة عندما انتبهت لبدء الهمسات والسخرية عليها .. مظهرها تمامًا يبدو كالتلميذة التي تأخرت على صفها الدراسي ..

وبحشرجة ملأت صوتها سألت موظف الاستقبال عن المكان الذي تستطع فيه أن تجري مقابلة العمل للوظيفة المُعلن عنها، ودون ان ينظر لها الموظف أشار للمصعد قائلًا :
_ الدور الأخير .. آخر مكتب.

أومأت رأسها لتشكره سريعا وتركته عدة خطوات، ثم عادت له وسألته بحرج وهي ترفع نظارتها أعلى أنفها :
_ الدور الأخير ده اللي هو الكام ؟

رد الموظف بتأفف وسحب نظرته من على جهاز "اللاب توب " وأجاب :
_ الخامس ..

عاد لعمله مجددًا ووقفت هي للحظة تفكر بوضعها، واصبحت رغبة الركض من هنا تتعدى رغبتها بالحصول على الوظيفة .. استدارت وتابعت سيرها للمصعد ببطء وشرود .. ثم دخلت المصعد ولم تنتبه أن هذا المصعد خاص بالمدير فقط، بينما المصعد المجاور على بعد خطوات بسيطة خاص بالموظفين .. استندت بظهرها على جدار المصعد ولا زالت تضم حقيبتها لصدرها بقوة وتنهدت بحنق، ثم انتظرت حتى توقف المصعد عند الطابق الخامس ..

خرجت منه ليلة وهي تشعر بالخنقة والدوار، فهمست لنفسها بدعم :
_ لا اجمدي كده ده انتي هتستخدميه كتير، الشغل ما يعرفش فوبيا الاسانسيرات ..

وظلت تحدث نفسها بدعم وهي تهرب من روية حشد من الفتيات الجميلات اللاتي يقدمن أوراقهن اليوم للوظيفة ، ازدرت ريقها بصعوبة حتى انتبهت لفتاة جميلة أتت ووقفت أمامها تمامًا وتبتسم ابتسامة صافية، ثم قالت :
_ أكيد أنتي اللي خالي رزق كلمني عشانها من شوية.

لم تفهم ليلة العيد الأمر للحظات، ولكنها تذكرت السائق الطيب وأنشرحت نفسها قليلًا وابتسمت قائلة :
_ آه أنا .. اكيد أنتي منة.

ضحكت منه وقالت بمودة :
_ آه أنا منه .. منون ، وشكلنا كده هنبقى أصحاب، حكم أنا عشرية أوي والناس بتحبني بسرعة.

شعرت ليلة بذلك بالفعل وما كادت أن تقول شيء حتى سحبتها منه قائلة بلطف شديد:
_ تعالي هوديكي على المكتب تسلمي ورقك وتنتظري دورك عشان الأنترفيو .. النهاردة آخر يوم وفي بنات كتير أوي قدموا للوظيفة دي ... بس المدير بتاعنا مش عاجبه حد وبيطرد أي بنت جياله بواسطة ... بيتنرفز موت.

تبسمت ليلة العيد بأمل وقالت بلهفة :
_ معنى كده أنه بيهتم بالكفاءة أكتر صح ؟

أكدت منة وقالت :
_ جدًا جدًا .. مش مهم عنده أي شيء تاني بس الكفاءة في الشغل رقم واحد ..

اطمئنت ليلة العيد وغضت الطرف عن مظهرها البائس وقالت بابتسامة عريضة :
_ يبقى في أمل أن شاء الله ..

وانقطع الحديث عندما مر شاب ثلاثيني يرمي نظراته الخبيثة للفتيات الجالسن في انتظار موعد المقابلة ودخل مكتب المدير مباشرةً، فنفخت منه وهي تنظر له، فسألتها ليلة العيد بتعجب :
_ مالك حصل ايه ؟!

قالت منه بضيق :
_ رشاد أخوه وصل ... ايه اللي جابه النهاردة ده ؟!!

قلقت ليلة وسألتها مجددًا :
_ هو ماله ؟!

تنهدت منه بضيق وقالت لليلة العيد بصدق :
_ مش هكدب عليكي ، ده بقا أهم حاجة عنده المظهر، ومش أي مظهر ، ده عايز موظفات ملكات جمال حتى لو معاهمش شهادات .. طالما جه يبقى هيفضل قاعد وهيحضر الأنترفيو ، وده ...

وقطعت منه حديثها ولم تعرف كيف تخبرخا دون أن تجرح مشاعرها، فأختفت الابتسامة من وجه ليلة وقالت بغصة :
_ أنا فاهمة .. ما أنا يعني عارفة أن مظهري مش احسن حاجة .. وصعب أتقبل في وسط كل دول وانا لا حسنة المظهر ولا معايا شهادات كفاية.

أستوقف منه الجملة الأخيرة فسألتها بقلق :
_ أنتي معاكي شهادات إيه ؟!

ابتلعت ليلة ريقها المرير وقد اعتقدت أن السائق قد أعطاها ولو نبذة بسيطة عنها ترفع عنها حرج التوضيح، فقالت بصدق :
_ مش معايا غير شهادة ٣ ثانوي عام .. كنت جايبة مجموع كبير أوي .. والاكسنت بتاعي ممتاز والله ، أصل واحدة جارتي قبل ما تسافر ساعدتني اتعلم لغة وفضلت معايا سنين لحد ما وصلت لمستوى عالي .. وكمان أنا من صغري عندي هوس بالحضارة المصرية والكتب وأعرف معلومات كتير أوي .. ومستعدة لأي امتحان.

ربتت منه على يدها بلطف وقالت :
_ مش هكدب عليكي وأقولك أن كل ده كفاية، الشهادة مهمة جدًا وأهم خطوة .. يمكن لو رشاد مكنش موجود كنت اديتك أمل ، لكن في حضوره صدقيني مقدرش أتوقع ايه اللي يحصل.

امتلأت عينان ليلة بالمرارة والدموع، وكان قرارها أن تعود وتتجنب مزيدًا من الألم النفسي عندما يتم رفضها .. ولكن أتى لمنة اتصال هاتفي من رقم خالها، فأجابت سريعا :
_ أيوة يا خالي معاك.

حدثته قليلًا ثم نظرت لليلة التائهة بعالمها الكئيب وقالت بعدما انتهت المكالمة :
_ خالي بيقولك كملي وقدمي .. عشان ما تحسيش بالندم بعد كده .. يمكن يحصل حاجة.

ردت ليلة بيأس :
_ هيحصل إيه يعني ..

واتسعت عينان ليلة العيد بذهول عندما رأت فجأة آخر شيء كانت تتوقع أن تراه ...؟!

•تابع الفصل التالي "رواية مديري مستر فرعون" اضغط على اسم الرواية

تعليقات