رواية لم يبقى لنا الا الوداع الفصل التاسع 9 - بقلم منى احمد
(9) مواجهة صادمة.
تنفست منار بقوة وشبكت كفيها معًا والتفتت إليه، ونظرت نحوه وفحصته بِعينيها فأحست أنها تراه للمرة الأولى دون قناعه الذي اعتاد إخفاء حقيقته خلفه وابتسمت ساخرة لِسذاجهتها، فهي سلمت له أمرها بالكامل منذ سنوات، وعاشت تُفكر بعقله مرات ومرات لِتدرك الآن أنه لم يسع إلا لِمصلحته وشخصه، لذا عليها أن تضع حدًا لِكل عبثه! التقطت منار نفسًا عميقًا وزفرته قائلة:
- طلعت ممثل شاطر يا أمجد، وقدرت تخدع كل اللي حواليك بوش الشاب المكافح الطموح اللي بيسعى علشان يحقق ذاته ويبني نفسه بمجهوده، بصراحة أنا برفع القبعة علشان قدرت تحافظ على سرك ومحدش قدر يكشف خداعك، وعارف أنا لو كان حد جه قال أنك كذاب وخاين وأقسم أنك متجوز واحدة تانية مكنتش هصدق، بس حظك يا أمجد إن أنا اللي شوفتك بِعيني زي ما يكون ربنا أراد إن يفوقني من غفلتي وتنكشف حقيقتك قصادي.
أثارت غضبه ببرود حديثها فاقترب منها وقبض على ساعدها مُردفًا:
- منار الزمي أدبك معايا ومتنسيش إني جوزك يا هانم، وبعدين أنا عايز أعرف أنتِ إيه اللي جابك المؤسسة من غير ما تستأذنيني؟ وِأزاي أصلًا يا محترمة تسمحي لنفسك تخرجي مع راجل غريب؟ لعلمك أنا هحاسبك على كل غلطاتك دي بس هأجل الحساب لحد ما تبقي فبيتـ...
خلصت منار ساعدها منه ودفعته عنها بقوة لم تعرف كيف امتلكتها ووقفت تتطلع نحوه بصدمة لا تصدق تبجحه وجرأته فأشارت إليه بإصبعها قائلة:
- بيت مين يا أمجد اللي بتتكلم عنه، فوق البيت دا خلاص معدش له وجود وعمر ما هيكون فيه بيت يجمعني بيك، ولا هيبقى في حساب من الأساس بينا بعد النهارده، علشان أنا معدتش عايزة أشوفك بعد اللي عرفته عنك ولا حتى عايزة يكون لي أي صلة بيك، وبالنسبة لموضوع أنك جوزي والكلام الفاضي دا فأنت هَتطلقني ودا آخر كلام ليك عندي.
أطاحت بتعقله بطلبها الطلاق منه وكاد يصفعها لتجروأها على طلب الطلاق منه ولكنه تراجع، فهو لا يريد هدم كل سبله إليها كي لا يخسر وعليه تمالك نفسه خاصة أنه بمنزلها فعاد إلى الاقتراب منها وهو يختلس النظر حوله وأردف:
- لو في حد فينا محتاج يفوق فهو أنتِ يا منار علشان أنا مش هطلقك مهما عملتي، ولعلمك أنتِ لو نشفتي دماغك أنا ساعتها هضطر أطلبك في بيت الطاعة علشان مش مستعد أخسرك.
لم تصدق إصراره المقيت للنفس بتمسكه بها وهو زوج لأخرى وارتمت فوق الأريكة بانهزام ونظرت نحوه بحسرة، فَقلبها أحبه وعاش يحلم طويلًا باللحظة التي ستكون له ولكنه غدر بها وطعنها بخيانته لها وأمام نظراته المتحدية لها أجابته بتأكيد:
- حتى لو طلبتني فبيت الطاعة عمري ما هكون ليك ولا هشوفك راجل يملى عيني بعد ما بعتني بالرخيص، وصدقني أنت لو عاندت فأنا كمان هعاند وهرفع عليك قضية خلع ومش كده وبس، لا أنا هروح لمراتك بنت الحسب والنسب اللي أكيد ضحكت عليها زي ما ضحكت عليا وهَكشفك على حقيقتك وهَفضحك قصادها، وهقولها إن أمجد المُشير الفارس المغوار مش أكتر من محتال لعب بيها وخدعها زي ما لعبت بقلبي وبحياتي وكسرتني بدل المرة تلاتة، مرة لما هربت مني وأنا فِأشد احتياجي لِوجوده معايا، ومرة لما اتجوزت واحدة تانية وأنت معيشني في الوهم، ومرة لما روحت اتفقت مع المهندس أيمن وطلبت منه يرفض تصميمي علشان أمجد المُشير بجلالة قدره مينفعش واحدة زي منار البنت الفقيرة اللي أبوها شغال بدل الشغلانة اتنين علشان يوفر لهم لقمة العيش واللي له سنين مديون تنافسه وتبقى أحسن منه، مش دا السبب اللي علشانه روحت استخدمت أقذر الأساليب وكنت عايز تقتل طموحي وتسرق فرحتي فكل مرة أثبت نجاح فيها، للأسف يا أمجد أنا اكتشفت متأخر جدًا أنك إنسان أناني ومغرور ومش بتحب إلا نفسك وصدقني مراتك صاحبة الأملاك لو عرفت كل دا عنك ما أظنش أنها هتفضل باقية عليك وأكيد هَترميك برا حياتها زي ما أنا هرميك؟
ود لو يخرس لسانها عن الكلام فهي تكشف عورة عيوبه رُغم ضعفها، فزفر وأمعن النظر إليها فأخبرته عيناها أنها لن تهدأ حتى تنفذ وعدها، ولكن أكثر ما هاله كان انطفاء جذوة الحب خاصته التي كانت تلمع بعمق عينيها فأشاح بوجهه عنها وأردف باستسلام:
- تمام يا منار أنا هعمل لك اللي أنتِ عايزاه عن إذنك.
هم أمجد بالانصراف ولكنه توقف حين ارتفع صوت شُهدي الذي استمع إلى حديثهم بقوله:
- استنى عندك وقبل ما تروح لحال سبيلك أرمي على بنتي يمين الطلاق علشان منار مش هتبات ليلة زيادة وهي على ذمتك، ولو على للمأذون فأنا كلمته وزمانه على وصول، واطمن بنتي هَتبريك وهَتتنازل عن أي حق ليها عندك، حتى شبكتك هسلمهالك هي وكل حاجة جبتها، الله الغني عن أي حاجة تيجي من طرفك، ولو على حق بنتي برقبتك فربنا قادر وعادل وبكرة يجبر خاطرها ويطيب كسرها وينسيها حتى اسمك.
جلست أمامه تحدق بعينه بثبات وقوة ولم يرف لها جفن تعلم أنه سيمضي بعيدًا عنها ويرحل ولكنه سيخلف بقلبها جُرحًا غائرًا تعلم أنه لن يندمل أبدًا، وبلحظة مر شريط حياتها برفقته أمامها وأحست بيد باردة تنزع وجوده من داخل كل ذكرى جمعتهما معًا ذات يوم، فجأة ساد المكان هدوءًا مريبًا فرفعت عينيها فأبصرت الشيخ يغلق دفتره ويغادر مُستغفرًا بينما تجمد أمجد بمكانه بوجوم، وقبل أن تشيح وجهها بعيدًا تلاقت أعينهما وبثوان وجدته يجثو أمامها ويتطلع بملامحها بحزن ولم تدر كيف السبيل لتمنع دموعها من الانهمار أمامه فتلك هي نهاية قصتهما ولحظة وداعهم الأخيرة، ومن مكانه تابعهم شُهدي فتسلل بعدما أدرك أن لا خوف على ابنته من الآن فصاعدا، ظل الصمت يغلفهم لدقائق قطعها أمجد بقوله:
- أنا لو لفيت الدنيا مستحيل هلاقي قلب زي قلبك للأسف بغبائي خسرتك ومعرفتش أحافظ عليكِ، منار أنا عمري ما كذبت عليكِ لما قلت لك إني بحبك وهَفضل أحبك لآخر نفس جوايا، أنا عارف إنك مش مصدقاني وفاكره أني بمثل عليكِ بس صدقيني الراجل اللي قاعد تحت رجلك هو أمجد حبيبك اللي مكنش يتخيل إن هيجي عليه اليوم وتضيعي منه.
تحشرج صوت أمجد وهو يخبرها كم أحبها فكتمت منار أنفاسها لرؤيتها دموعه تسيل فوق وجنتيه وودت الهرب ولكنه التقط يدها قائلًا:
- أنا ضعفت وشيطاني عماني وخلاني مش شايف إلا نفسي وافتكرت إن طالما بتحبيني أبقى ضمنتك، ومش هنكر أني فعلًا حسيت بالغيرة منك بس فنفس الوقت كنت خايف عليكِ، خوفت أحسن يكون في حد شبهي ويضايقك، علشان كده اتصرفت وبدأت أضيع منك أي فرصة تجيلك.
ترك أمجد يدها ووقف أمامها واستطرد قائلًا:
- أنا همشي زي ما أنتِ عايزة وهختفي، بس مش خوف منك ومن تهديدك أنك تفضحيني، لا أنا همشي لأني مش قادر أشوف نفسي صغير في عينك أكتر من كده.
غادر فأسرع والدها وضمها بقوة لتنهار منار بين ذراعيه تنتحب حبها المسلوب وجرحها الغائر، فمد شُهدي يده ورفع وجهها نحوه وأردف:
- عارف أني مينفعش أتكلم وأنتِ بالحالة دي، لكن حقك عليا يجبرني أقولك إن اللي اتبنى بينكم على الغلط كان لازم يتهد، وأحمدي ربنا إن قصتك أنتِ وأمجد انتهت قبل ما خسارتكم تكون أكبر.
تعلم أنه على حق فهي خانت ثقته ولكنها رُغم ذلك تشعر بألم فاق تحملها، فأغمضت عينها وأسندت رأسها فوق صدر والدها، فَربت شُهدي ظهرها برفق مُضيفًا:
- كل شيء فأوله صعب ومن رحمة ربنا أنه أنعم علينا بالنسيان، وواحدة واحدة الأيام هَتداوي جرحك وهتلاقي وجعك قل صحيح بس هَيسيب أثر، فأتمنى أن الأثر دا يخليكِ تاخدي بالك بعد كده علشان متقعيش بِنفس الغلط وتعيدي نفس المأساة والمعاناة.
لم يستطع أمجد العودة إلى منزله وقاد سيارته حتى صفها بأبعد نقطة فوق قمة المقطم وأسند رأسه بانهزام فوق مقود سيارته يُفكر بخسارته الفادحة لمنار والتي لن تعوض أي فتاة أخرى حتى ليان، فهو شكلها طويلًا على يده وزرع خصاله بداخلها وأطلعها على طباعه حتى بدت في نهاية الأمر بالصورة التي تمناها دائمًا، والآن ضاعت من يده ولا فرصة أمامه لِيستعيدها مُجددًا فمن المؤكد أن والدها سيحيطها بدرع حمايته لِيمنعه عنها، زفر أمجد ورفع رأسه وتطلع حوله وتذكر نظرتها حين علمت بحمل زوجته، كم ود بتلك اللحظة أن ينفصل بها عن العالم ويضع كفيه على كتفيها ويهزها بقوة لتمردها على أمره واقتحامها مكتبه دون إذن، ولكنه خشى أن تسأله ليان وتصر على معرفة صفتها بحياته حينها كان سيخسر على الرُغم من تأكده أن زواجه بليان لم يك إلا رغبة مؤقتة فاز بها وبالنفوذ الذي طالما رأى أنه حقه وناله بصفقته مع والدها وأن ما جمعه بها هو الواجب الزوجي وليس الحب إلا أنه لا يقدر على ضياعها منه أو خسارتها أبدًا.
فجأة تبدلت مشاعره وغامت عينه وتفجر غضبه وحنقه عليها فضرب مقود سيارته بقوة وصرخ بغضب:
- هرجعك وهدفعك تمن رفضك ليا غالي يا منار علشان مش أمجد المُشير اللي تتكلمي معاه ببجاحة وصوت عالي وتطلبي منه الطلاق، وأنتِ المفروض تبوسي إيدك وش وضهر أنه اختارك وحبك ودخلك حياته، والله ونسيت أصلك يا بنت شُهدي ووقفتي قصادي تتهدديني لا وعايزة تحطِ راسك براسي وتتساوى معايا فالنجاح، وماله يا منار مش اطلقتي وخرجتيني برا حياتك غصب عني يبقى استحملي مني أي حاجة بقى.
عاد أمجد إلى منزله غاضبًا بعد شروق الشمس، يطبق عليه سخطه من كل صوب وحين ولج غرفته رأى ليان تجلس فوق فراشه بعيون دامعة فزفر بضيق واتجه صوب خزانة ثيابه والتقط منها بنطالًا وأسرع إلى المرحاض بوجه مُكفهر وبعد قليل غادر وقد تبدلت ملامحه كُليًا فبدا وكأن هناك من تلبسه ونظر إلى ملامحها الحزينة واقترب منها وجلس بجوارها والتقط يدها ورفعها صوب شفتيه وقبلها ومد الأخرى إلى ذقنها وأدار وجهها نحو وأردف:
- عارف إنك زعلانة مني علشان كان المفروض آجي من بدري ونحتفل سوا بالبيبي اللي ربنا أكرمنا بيه بس غصب عني يا ليان أنا...
تعمد أمجد بتر حديثه والابتعاد عنها ونكس رأسه وولاها ظهره فتطلعت ليان نحوه بخوف وحين رأت اهتزاز جسده هرولت ووقفت أمامه وأحاطت وجهه بكفيها وسألته بقلق:
- مالك يا أمجد إيه اللي حصل ووصلك للحالة دي، حبيبي أرجوك بلاش تخوفني عليك أنا أول مرة أشوفك زعلان للدرجة دي؟
مد أمجد يده وأدناها منه وضمها بامتلاك قائلًا:
- بعد ما مشيتي واحد صاحبي من منطقة سكني القديمة اتصل وبلغني إن في واحد زميلنا اتوفى، بصراحة أنا كنت فاكره عامل مقلب فيا، لكن لما اتأكدت من الخبر مكنتش مصدق فأخدت بعضي ومشيت ومردتش أتكلم معاكِ علشان مكسرش فرحتك، بعد العزا قعدت شوية مع والده ووالدته وبسبب الحالة اللي شوفتهم عليها مقدرتش أرجع على البيت وفضلت ألف فالشارع لحد ما حسيت إن نفسيتي هديت من الخنقة اللي كنت فيها، أنا عارف إن ملكيش ذنب أكسر فرحتك بابننا بس صاحبي دا كان له معزة كبيرة عندي ولحد اللحظة مش متخيل أني خسرته.
ربتت ليان وجنته ومسحت بأصابعها فوق شعره وأردفت:
- ادعي له يا أمجد وأعمل له صدقة جارية باسمه دي أفضل حاجة تعملها لصاحبك علشان يعرف أنه ساب وراه الصاحب الصالح.
التقط أمجد يدها وقبلها وأومأ لها قائلًا:
- أنا مش عارف من غيرك يا ليان كان حصل إيه حقيقي أنتِ ونعم الزوجة الصالحة اللي ربنا أكرمني بيها، المهم أنا عارف إن دمي تقيل شوية بس صدقيني هحاول أعوضك عن القلق والخوف اللي اتسببت لك فيهم، بس قصاد كده عايزك فأي زيارة للدكتورة تخديني معاكِ علشان أشوف ابني وأسمع دقات قلبه واطمن عليكِ من الدكتورة، وإن شاء الله لما الدكتورة تأكد لي أن ما فيش أي ضرر عليكِ من السفر هاخدك ونسافر أي مكان أنسيكِ فيه أي حاجة عملتها بقصد أو بدون قصد وزعلتك مني.
عانقته بسعادة وقبلت وجنته واستكانت لبعض الوقت بين ذراعيه ولكنها ابتعدت عنه فجأة ونظرت إليه وسألته بغيرة:
- إلا البنت اللي اسمها منار ورفضت تشتغل فالمؤسسة ملحظتش أن تصرفها كان غريب؟ يعني واحدة جاية علشان مقابلة شغل المفروض أنها تكون ملتزمة أكتر من كده ولا أنت إيه رأيك؟
حاول أمجد تمالك أعصابه فهو نسى تمامًا أمر رؤيتها لمنار فمط شفتيه وأردف:
- مش عارف بصراحة أساسًا أنا بعد ما سألتها عن كام حاجة حسيت أنها مش مظبوطة، حركتها مريبة ونظراتها مريحتنيش، ففكرت أني لو رفضت أنها تشتغل ممكن تستغل الرفض وتطلع تتكلم عن المؤسسة، علشان كده قدمت لها عرض تافهة رفضته وبصراحة أنا استغربت أنها كانت لسه موجودة فالمكتب ولولا أنها مشيت كنت هتطردها.
زمت لينا شفتيها ولوحت بإصبعها أمام وجهه وأردفت:
- عمومًا بعد كده لما تيجي واحدة تقدم على شغل أرفض أو خلي أي حد تاني يعمل الانترفيو مكانك علشان أنا بغير عليك ومش حابة أنك تتعامل مع أي واحدة.
قبض على إصبعها وقبله قائلًا:
- وأنا تحت أمرك يا حبيبتي ولو تحبي أنا ممكن امشي أي موظفة فالمؤسسة وأجيب مكانهم رجاله علشان مراتي حبيبتي تبقى مطمنة.
وضعت ليان رأسها فوق صدره وأردفت:
- لا يا حبيبي أنا بهزر معاك أنا صحيح بغير عليك لكن ثقتي فيك ملهاش حدود.
---
لم تدر منار إن كانت ستتجاوز محنتها أم لا؟ ولكن ما تدركه أنها تشعر بالألم يزداد يومًا بعد يوم، وكيف لا وهي تراه الآن بكثرة وكأنه يتعمد أن تتقاطع سبلهما معًا؟ تمنت لو يبتعد ويعطي قلبها الفرصة ليبرأ جرحه، ولكن هيهات فالأمر بات وكأنه يطاردها من مكانٍ لمكان، تارة تراه بجامعتها وتارة بعملها، حتى أيقنت أن وجوده بات لعنة تلازمها ولا تترك لها الفرصة لتنساه.
عادت منار منهكة القوى تبحث عن ملاذٍ لها فولجت غرفتها واندست بين ثنايا غطاء فراشها وأخفت به وجهها وأطلقت لدموعها العنان فاليوم رأته كما اعتادت ولكنه كان بصحبة زوجته يعاملها بحنان لم تره منه من قبل ويدللها ويلمسها وكأنها من بلور يخشى عليها من الكسر، ازدادت دموع حسرتها فهو لم يترفق بقلبها ومزقه دون رحمة ولم يأبه به.
وأمام فراشها وقفت رنا تحدق بجسدها المهتز بحزن واستدارت عنها واتجهت صوب شقيقتها وزفرت بضيق قائلة:
- هو احنا هنفضل ساكتين وسيبين منار فالحالة اللي هي فيها دي، أنا مش عارفة هي هتفضل تعيط وتتعذب لحد أمته دي بقت بتيجي كل يوم من الكلية وتدخل سريرها تستخبى تحت الغطا وتعيط.
ربتت هالة كتفها برفق وأردفت:
- الموضوع مش سهل عليها يا رنا وأختك محتاجة لوقت علشان تنسى وللأسف احنا ما فيش فأيدنا أي حاجة نعملها غير أننا ندعي لها إن ربنا يهون عليها ويخفف عنها وجعها.
عقدت رنا ما بين حاجبيها وأردفت بحدة:
- يعني هي تتألم وتتوجع هنا وأمجد عايش حياته ولا على باله، عارفة أنا ساعات بفكر أروح أقول لمراته على اللي عمله فمنار علشان يدوق الوجع زيها لما تسيبه.
تجهم وجه هالة وقبضت على كتفي شقيقتها بحزم وأردفت:
- إياكِ يا رنا تفكري فِي حاجة زي كده، وأوعي تستسلمي للشيطان وتفتكري إنك لما تكشفيه ويطلق مراته أنك بكده رديتِ حق منار، لا يا رنا أنتِ كده هتبقي وجعتي مراته وبدل ما أختك بس اللي بتتعذب هتبقى مراته كمان، وبعدين متنسيش إن منار قالت إنها حامل يعني كلام زي دا ممكن يأثر فيها ووقتها هيبقى ذنبها وذنب البيبي فرقبتك.
احمر وجه رنا خجلًا وخفضت رأسها قائلة:
- أستغفر الله العظيم أنا مش عارفة أزاي فكرت كده ربنا يسامحني، بس أنا مكنش فدماغي أي حاجة من دي وكنت فاكرة إن هو بس اللي هيتوجع.
هزت هالة رأسها بالنفي وأردفت:
- لا يا رنا لو على أمجد فهو مش هيتوجع مهما عملنا علشان هو مرتب نفسه لكل حاجة وإلا مكنش قدر يخدع منار ويخدعنا كلنا طول الوقت دا، ولو على مراته فهي ملهاش ذنب وحرام نأذيها، عمومًا أنا زي ما قلت لك أدعي لأختك وإن شاء الله ربنا هَيخفف عنها ويعوضها عنه بالأفضل.
أطرقت رنا برأسها أرضًا وحاولت أن تبعد عن عقلها أمرًا أمجد وزفرت بخوف وعينها تختلس النظر إلى شقيقتها بعجز.
ولم تدرك هالة ورنا في تلك اللحظة أن القدر كان له ترتيبه الخاص للأطراف كلهم، فلا شيء يترك للصدفة ولا لعبث الأشخاص، فَـلِكلِ أمرٍ مهما استصغره المرء ثمنًا عليه سداده مهما طال أو قصر الزمن، خاصة حين يمس القوارير الذي أوصى النبي عليه الصلاة والسلام برعايتهن بقوله "استوصوا بالنساء خيرا".
وحاشى لله أن يظلم أحدًا أو يترك أمرًا مظلمة دون عاقبة، ومن يظن نفسه سينجو دون حساب فعليه مراجعة نفسه، حتى وإن أمهله الله الوقت سنواتٍ وسنوات، فإنه يُمهله الفرصة ولكنه لا يُهمل أبدا.
بعد مرور شهر على طلاق أمجد لمنار وتعمده الظهور بكل مكان هي فيه، أرسل أحدهم وعقد صفقة عمل بينه وبين شركة سامر وها هو بات على موعد جديد معها لِيزكي نيران عذابها فَرؤيته شحوب وجهها وضعفها يزيده نشوة وعليه زيادة معاناتها لِتدرك ما خسرته.
خطى أمجد في اليوم التالي بثقة نحو شركة سامر يُمني نفسه بِسداده ضربة أخرى إليها، بينما داخل مكتب سامر جلست منار توضح أهم نقاط تصميمها الأخير في حين أنصت إليها سامر ولكنه صب كامل اهتمامه ونظراته عليها وتفحصها بعينه يتمنى لو تخبره سبب إنطفائها المفاجئ، انتبه سامر بعد مرور دقيقة كاملة لسؤالها إياه عن رأيه بما أخبرته بشأن تصميمها فازدرد لعابه بحرج وأردف:
- التصميم روعة وبصراحة أنا بتمنى أنك تمضي عقد وتبقي من ضمن فريق الشركة الهندسي.
حدقت به منار بشيء من التيه في بادئ الأمر وحين تفهمت عرضه أدركت أنها بعملها بِشركته ستكون عرضة بشكل أكبر لمصادفة أمجد وهو الشيء الذي باتت تبغضه وتكرهه وتتمنى ألا يقع بصرها عليه مُجددًا، فزفرت بأسف وهزت رأسها مُردفة:
- أنا حقيقي مش عارفة أقول لحضرتك إيه؟ بس أصل أنا كنت جاية النهاردة علشان أقدم لك التصميم وأبلغك أني مش هقدر أعمل أي تصاميم تانية الفترة الجاية علشان محتاجة أركز فدراستي بشكل أكبر.
باغتته بقولها وبهتت ملامحه وهو ينظر إليها وأدرك من تهربها من مواجهة نظراته بأن الأمر أكبر من احتياجها للتركيز فزم شفتيه وترك مقعده وسألها بقلق:
- منار هو أنا ينفع أسألك سؤال شخصي وتجاوبيني بصراحة؟
ارتجفت من نظراته وتراجعت هربًا وهزت رأسها بالرفض ولكنه لم يقبل رفضها واقترب منها قائلًا:
- مين السبب فالحالة اللي بقيتي فيها دي؟
استدارت عنه ورفضت إجابته وهمت بمغادرة مكتبه، فسارع سامر واعترض طريقها مُردفًا:
- أمجد السبب فالحالة دي مش كده؟
تصلبت ملامحها وهي تبادله النظر وزفرت بقوة قائلة:
- لو سمحت يا بشمهندس سيبني أمشي ويا ريت بعد كده تخلي كلامنا فحدود الشغل وبس عن إذنك.
تجاوزته لتغادر وليتها لم تفعل فما أن مست يدها مقبض الباب حتى دُفعت بغتة إلى الخلف وقد اختل توازنها فسارع سامر بإسنادها في اللحظة نفسها التي ولج فيها أمجد فوقف يبادل نظره بينها ملامحها الباهتة وبين ساعد سامر الملامسة لخصرها، حينها تمنت منار لو تنشق الأرض وتبتلعها في حين رفع سامر يده عنها معتذرًا بينما ارتسم الجمود على ملامح أمجد الذي عقد ساعديه مُردفًا:
- ممكن أفهم إيه اللي بيحصل فالمكتب بينك وبينه يا الأستاذة؟
أثار سؤاله غضبها فرفعت وجهها ونظرت نحوه بكراهية بينما تابع سامر ملامحها وتعجب لنظراتها النافرة وهم بإجابته ليمنعه صوت منار الحانق بقولها:
- اسمي البشمهندسة منار مش الأستاذة واللي بيحصل هنا ميخصكش يا بشمهندس فيا ريت تلتزم بحدود اللي يخصك وبس.
صفعته بإجابتها واستدارت عنه بإهمال ونظرت إلى سامر الذي ازداد فضولًا ورغبة لمعرفة ما حدث بينهما ليتفاجأ بها تخبره:
- أنا مضطرة أمشي يا بشمهندس وبالنسبة لِعرض الشغل أوعدك إني هفكر فيه بجدية بعد ما استشير والدي وهرد عليك فأقرب وقت، وبعدين حضرتك لازم تكون واثق إن مافيش حد عاقل يقدر يرفض عرض مميز زي اللي حضرتك قدمته.
مرت من جواره ورمقته باشمئزاز، لم يتحمل أمجد اهمالها إياه ولا تقبل أهانتها له فمد يده وقبض على ساعدها مُتناسيًا وجود سامر، انتفضت منار لِجرأته ونفضت يده بغضبٍ ودفعته عنها ولوحت بإصبعها أمام وجهه تنهره بِقولها:
- ألزم حدك يا أمجد وأبعد عني وصدقني لو أتكرر اللي عملته دا أنا هقل منك جامد وأظن أنك مش هتقبل إن منار شُهدي تعلم عليك تاني.
ألقت كلمتها الأخير بتهكم واضح وغادرت مُسرعة وخلفت ورائها رجلًا كاد يفتك بها من شدة غضبه، وآخر حاول كبح سعادته كي لا يلحظه غريمه وحاول أن يشتت انتباه أمجد ولكنه تفاجأ به يسرع بمغادرة مكتبه بوجه ينذر بحلول كارثة، لم يتمهل سامر أو يُفكر بعقابة قراره ولكنه لبى نداء قلبه وتبع حدس عقله وغادر متتبعًا خطوات أمجد الذي عمى الانتقام قلبه وغيب عقله وزفر بارتياح حين فشل أمجد في اللحاق بها، ولكن ما زاد سامر قلقًا واسترعى انتباهه رؤيته أيمن يطرق نافذة سيارة أمجد قبل إنطلاقه وحديثه معه بوجه متجهم فتوارى سامر عن النظر وأدرك سبب رفض أيمن لتصميم منار لذا قرر ملاحقة أمجد ومواجهته. عرض أقل
•تابع الفصل التالي "رواية لم يبقى لنا الا الوداع" اضغط على اسم الرواية