رواية ليل و لعنة الزمن الفصل التاسع 9 - بقلم فريدة عبدالرحمن
كان الصمت ممدود جوه الغرفة
مش صمت عادي… ده من النوع اللي بيحكي أكتر من الكلام
أويس قاعد جنبها، ماسك إيدها كأنها الحياة نفسها
وريان واقف وراهم، بين عقله وقلبه، ساكت بس صاحي
ليل فتحت عينيها
بصّت لأويس، ولمّا شافت وشّه… قلبها رجع دق
مدّت إيديها ولمست وشّه بلُطف، بصوتها اللي بيترجّع جوّا الذاكرة:
أنا جيت…
متأخرة شوية،
بس جيت
الكلمات سكنت الغرفة
زي نَفَس أول بعد غرق طويل
أويس ما قدرش يردّ
بس عنيه اتغرقت، ونزلت دمعة بهدوء من غير ما يشعر
ريان بصّ ليهم…
وحس إنه بيشوف لحظة عمرها ما هتتكرر
أويس ما استحملش أكتر
الدموع نزلت من عينيه وهو بيقرب منها
حضنها بقوة، كأنها الرجوع… كأنها النجاة
قال بصوت مكسور:
ليل…
بس الكلمة الوحيدة دي كانت كفاية
كأن فيها كل الوجع والخوف والانتظار
ليل حضنته هي كمان
ووشّها دافنته في صدره، وهمست وهي بتترعش:
أويس…
أنا تايهة
ومش عارفة حاجة
ولا عارفة أتصرف
كل حاجة بتحصل بسرعة وأنا…
سكتت، كأن الكلام اتخنق في حلقها
أويس شدّها أقرب، وقال بنبرة فيها حسم وحنان:
مش مهم دلوقتي تعرفي كل حاجة
المهم إنك هنا
ومعايا
ليل فضلت ساكتة في حضنه
دموعها نازلة من غير صوت
بس كانت محتاجة الحضن ده كأنها بتتنفس بيه
ريان كان واقف ساكت
وبعدين فجأة، سحب من تحت عباءته قلادة صغيرة
قرب منهم وقال بهدوء:
أويس…
لقيت دي وسط حاجات ليل وقت الهجوم
أويس خدها، وبصّ فيها
قلادة قديمة…
فيها نقش غريب
وشكلها مش من الزمن ده
ولما ليل شافتها،
عينيها اتوسعت
مدّت إيدها ولمستها
وشّها اتغيّر
كأن حاجة جوّاها صحيت
همست:
دي…
أنا شفتها قبل كده
بس مش فاكرة فين…
ليل فضلت ماسكة القلادة
صوابعها بتتحرك عليها كأنها بتفتكرها بإحساس مش بكلام
همست:
دي…
دي كانت عندي
أنا شفتها
كنت لبساها في…
سكتت
وبصّت في الفراغ
كل حاجة حواليها بدأت تختفي
صوت أويس بقى بعيد
وحتى ريان بقى ضباب
وفجأة…
رجع في عقلها مشهد
كانت واقفة في مكان مختلف
أرض من رخام أبيض
حواليها ستات لابسين زي ملكي… بيجهزوها
وصوت ست كبيرة بيقول:
"لابد أن ترتدي الأميرة قلادتها… إنها ميراث الدم"
رجعت ليل تصرخ جوّه عقلها:
أميرة؟!
أنا مين؟!
أنا…
لكن المشهد اختفى
زي بخار بيتبخر فجأة
رجعت تفتح عنيها
وأويس لسه قدّامها
بس هي مش نفس ليل من قبل
همست بصوت مبحوح:
أنا شفت…
شفت حاجة
أويس قرب منها بسرعة:
شفتِ إيه يا ليل؟
ردّت بنظرة تايهة:
كنت…
أميرة
وكانوا بيجهزوني
والقلادة دي كانت… كانت ميراثي
بعد ما ليل قالت: أرجوك يا أويس… فهمني حاجة
أنا دماغي هتفرقع
ومش فاهمة أي حاجة
أويس يبصّ لها، بنظرة فيها وجع:
أنا كمان مش فاهم كل حاجة
بس متأكد من شيء واحد…
سكت لحظة، وبعدين قال بصوت ثابت:
إنتِ مش "حد جديد" في حياتي
إنتِ… منّي
ريان قرب شوية، وقال وهو بيبص في وش ليل:
القلادة دي مش بتتوارث إلا بين سيدات السلالة الملكية
وإنتِ… مش أي جارية، ولا أي بنت
أويس كمل وهو بيقرب منها أكتر، ونبرته بتتهدّى لكنها فيها تأكيد:
أنا حاسس بيك من أول لحظة
حتى قبل ما نعرف اسمك
في حاجة بتشدني ليكي
وكل يوم… بتأكد إنها مش صدفة
---
ليل سكتت لحظة
بس فجأة…
عينيها بدأت تسرح
الدنيا حواليها اختفت
وصوت خافت بدأ يهمس في ودانها
كانت واقفة وسط حديقة كبيرة
الشمس دافية
والهوا بيحرّك الفستان الحرير اللي كانت لابساه
قدامها ست كبيرة، بتضحك وهي بتحط تاج صغير فوق راسها
الست قالت بصوت دافي:
"كده بقيتي أميرة بجد…
لكن الأميرة مش بس تاجها، الأميرة قلبها"
ليل بصّت لها، وضحكت
ومسكت القلادة نفسها، وكانت لابساها
القلادة بتنور تحت الشمس… بنفس اللمعة اللي شافتها من شوية
وفجأة…
المشهد اختفى
ليل رجعت تبص حواليها
نفس الغرفة
نفس أويس ورايان
بس هي ما بقتش نفس البنت
همست وهي بتحاول تلمّ الكلام:
أنا كنت في حديقة…
وكان في ست كبيرة
وقالتلي إني أميرة
ولبستني التاج…
سكتت، وبصّت في القلادة اللي في إيدها
أنا كنت لابساها
نفسها…
القلادة دي
حد خبط على الباب
أويس بص ناحيته، وقال بهدوء:
ادخلوا
دخلت ست كبيرة في السن
خطوتها واثقة… بس ملامحها فيها تعب السنين
كانت لابسة زيّ الخدم الكبار، بس الوقار اللي فيها ما كانش عادي
وقفت قدّامهم، وقالت بصوت هادي:
مولاي…
هل نبدأ في تعديل الجناح الشرقي من القصر؟
أم ننتظر أوامركم، يا مولاي؟
أويس ابتسم بخفة، وقال بنبرة فيها حنية خفيفة:
ابدأي، يا يُمنى
وكم مرة أقول لكِ… لا تُخفضي رأسك وأنتِ تكلّمينني؟
أنتِ أكبر مني… وتستحقين الاحترام
يُمنى رفعت نظرها، وابتسمت بخجل:
ولو، يا مولاي…
أنت الملك
لكن وهي بتبص له…
عينيها وقعت على ليل
وتجمّدت
شهقت بصوت واضح
واتسع بؤبؤ عينيها كأنها شافت شبح
خطت خطوة للوراء، وهمست:
المستحيل!
يمنى كانت لسه واقفة
بس رجليها بدأت تهتز
ووشّها اتسحب منه الدم
قربت تقع
أويس اتنفض من مكانه، وجري ناحيتها بسرعة
مسكها من دراعها وسندها:
يمنى!
ريان… هات كرسي بسرعة! هياا!
ريان جري
جاب كرسي وحطه بسرعة
أويس ساعدها تقعد عليه
ووشّه مليان قلق:
ماذا يحدث؟
مالك يا يُمنى؟!
بس يمنى ما ردتش
عينيها لسه مثبتة على ليل
مفتوحة على الآخر
وصوت أنفاسها عالي
ليل كانت شاخصة فيها
الدنيا اتجمّدت حواليها
قالت بصوت مهزوز:
أنتِ…
أنتِ اللي كنتِ هناك…
في الحديقة…
اللي لبستيني التاج…
كانت بتتكلّم وهي مش مصدّقة
مش قادرة تقرر إذا كانت بتحلم ولا بتفقد عقلها
ريان بص ليهم الاتنين، وقال بانفعال:
في حد هيفهمنا إيه اللي بيحصل؟!
أويس بصّ ليمنى، وهو بيضغط على كتفها:
قولي يا يُمنى
إيه اللي شوفتيه؟
إيه اللي خلاكي كده؟!
يمنى كانت بتبص لليل، ولسانها اتعقّد من الصدمة
وأخيرًا خرجت الكلمة من شفايفها المرتجفة:
جود…
أنتِ… جود، ابنة الملك سلطان
ليل اتجمدت مكانها
كل اللي حواليها اختفى
وقالت بصوت بيترعش:
جود؟
لا… لا أنا اسمي ليل
ده اللي دايمًا عرفته عن نفسي!
يمنى قربت منها
صوتها هادي… لكن فيه قهر سنين:
اسمك الحقيقي… هو ليل
لكن جلالته، الملك سلطان، ماكنش بيناديكي بيه
كان دايمًا يقولك: جود
كان شايف فيكي الحنية… وبيشوف فيك “جود” الخير، العطاء، القلب الأبيض
كانت دي طريقته في إنه يحبك… بطريقته الخاصة
أويس بصّ لها بذهول:
ابنة… الملك سلطان؟
لكن ده… مستحيل، لو كانت موجودة، كانت هتبقى…
يمنى بصوت مكسور:
كانت هتبقى الملكة الشرعية…
بس في خيانة حصلت
وليل… اختفت من القصر وهي طفلة
ليل بصوت واطي:
يعني أنا…
أنا بنت الملك؟
وأنتِ… كنتِ تعرفيني؟
يمنى:
ربيتك على إيدي
بس ما كنتش أتخيل إنك… هترجعي تاني
ليل وقفت، عنيها بتلمع بالدموع
بصّت حواليها، لكن كل اللي حواليها كان ضباب
قالت بصوت مكسور… مزيج من الصدمة والتعب:
أرجع منين…
وأنا أصلاً مش فاكرة حاجة؟!
إزاي…
إزاي أكون مراتك يا أويس؟
وإزاي… أكون بنت ملك؟
وايه اللي خلاني أسيب كل ده… واروح زمن تاني؟!
أنا تعبت…
تعبت أوي
إيديها كانت بترتعش
وملامحها بتنهار قدام عينيهم
زي ورقة وقعت من شجرة… وبتتساقط بالبطء اللي يوجع
أويس قرب منها بهدوء
وهو بيكتم مشاعره بصعوبة
قال بصوت دافي:
لو كنتِ نسيتي…
فأنا مش ناسي
أنا حسّيتك من أول لحظة
وقلبي كان عارفك حتى وإنتِ بتقولي إنك "مش فاكرة"
ريان واقف ساكت، لكنه بيشد نفسه عشان ما يتكلمش قبل أوانه
يمنى دموعها نازلة بصمت
وبصوت مخنوق قالت:
اللي حصل ليكي مش بسيط…
في خيانة… وفي دم… وفي سحر أقوى من الزمن نفسه
وإنتِ مشيتي مش بإرادتك، ليل
إنتِ كنتي بتحمي نفسك… وتحمي اللي بتحبيهم
أويس بهدوء، بص ليُمنى وقال:
احكي…
أنا مش فاكر غير شظايا، وهي مش فاكرة حاجه
لكن من حقها تعرف… ومن حقي كمان
يُمنى خدت نفس عميق، ونظرتها كانت فيها وجع سنين:
كنتِ كبيرة يا ليل… مش طفلة
كنتِ أميرة القصر، و… زوجة الملك أويس
الملك سلطان – والدك – كان فخور بيكي
اختارك تكوني الملكة من بعده
مش بس عشانك، لكن عشانك وعشان أويس
القصر كله شهد يوم زفافك
وكلنا صدّقنا إن السلام هيبدأ بوجودكم سوا
لكن ماكنّاش نعرف… إن في قلوب سُمّها أسود
ليل عنيها بتدمع وهي بتسمع
يُمنى كملت، بصوت مكسور:
بعد تتويجك بأيام قليلة
اتسمّم الملك سلطان
وكنتِ إنتي الهدف الجاي
الخونة ماكانوش هيخلّوكي تعيشي
ولا حتى وأنتي في حضن أويس
كنتِ قرّبتي تعرفي الحقيقة
وكانوا عاوزين ينهوا وجودك بأي تمن
لكن ظهرت الساحرة
أويس بصّ ليُمنى بسرعة:
سحرية؟
هي اللي...
يُمنى أومأت براسها:
أيوه، هي
عرفت إن في لعنة جاية…
وعشان تنقذك، وتديك فرصة تنقذي اللي حواليكي…
فتحتلك باب تاني
باب في الزمن
أويس انفعل:
وأنا؟!
أنا ماكنتش هقدر أحميها؟!
أنا كنت جنبها!
هي إزاي تسيبني وتمشي؟!
يُمنى قالت بنبرة هادئة:
كنت حتدفع حياتك تمنًا لحمايتها
لكن هي…
اختارت إنها تحميك إنت، وتحمي كل اللي بتحبهم
وهي اللي أصرت
وأنا…
أنا ساعدتها، غصب عن قلبي
ليل همست بصوت مكسور:
يعني…
أنا…
أنا اللي مشيت؟
أنا اللي اخترت أسيبكم؟
يُمنى حطّت إيدها على قلبها وقالت:
مش سبتينا…
إنتِ أنقذتنا
ليل كانت ساكتة…
عينها بتهرب من الكل،
بس فجأة… وشها تغيّر
صوت النار
صوت الصراخ
ريحة الدخان
كله رجع في لحظة
بدأت تتمتم… وكأنها مش بتكلم حد
كأنها شايفة حاجة محدش شايفها:
كنت في القصر…
والحراس بيتساقطوا قدامي
والصوت… الصوت كان مخيف
رجعت تتنفس بسرعة
كنت لابسة فستان التتويج…
أيوه، كنت لسه عروسة
والناس بيجروا
وكنت بدوّر على أويس…
وبدوّر على باب أخرّج الكل منه
أويس قرب منها، صوته بيترعش:
وقتها…
كنت بنده عليكي
بس اختفيتي
ليل دموعها بدأت تنزل:
الساحرة ظهرت فجأة
وقالتلي: الوقت خلص
لو مخرجتيش دلوقتي… الكل هيموت
قلت لها:
طب و أويس؟!
قالتلي:
هيعيش… بس انتي لازم تمشي
يُمنى حطّت إيديها على بطنها، بتكتم الألم:
أنا كنت تحت السلالم
شفتك وإنت داخلة على المرايا
وصوتك بيقول:
أنا هرجع… هرجع لما أكون قادرة أنقذهم بجد
ليل همست بصوت مكسور:
ودخلت…
والنور خدني
والصوت سكت
وبقيت…
في زمن مش ليّا
وسط ناس مش عارفاني
وناسيه كل حاجه
....
تفاعل صفرر👀
لو مش حلوه هوقفها
يتبع
- يتبع الفصل التالي اضغط على (ليل و لعنة الزمن) اسم الرواية