رواية الجدران الناطقة الفصل التاسع 9 - بقلم مريم عثمان
في غرفة آنا، كانت تجلس في حيرة، تتأمل في ما كشفه لها المنزل من حقائق لم يكن الأمر محض صدفة، كان المنزل يوجهها، وكأنه يريدها أن تستمر في البحث، وإلا لكان أغلق عليها أبوابه ومنعها من رؤية ما رأته ولكن لماذا ظهرت إيمان؟ ما علاقتها بهذا المنزل؟ لماذا اختارت أن تظهر لها دون غيرها؟ أسئلة لا تتوقف عن نهش عقلها المتعب
تمتمت آنا لنفسها بصوت خافت:
لا سبيل سوى العودة هناك فقط، وسط جدران هذا المنزل، سأجد الإجابة لكل هذه الألغاز
كان هناك شيء مفقود، لغز ناقص، لم تستطع بعد وضع القطعة الأخيرة في مكانها تذكرت حديثها مع تلك العجوز التي تسكن بجوار المنزل، تلك المرأة التي حذرتها من البحث، والتي ترددت في الحديث عن ماضي هذا المكان لكنها أخبرتها بشيء واحد عن الخادم المخلص للعائلة، الحارس الصامت لأسرار هذا البيت وعن الفاجعة التي حدثت ذات ليلة منذ سنوات طويلة، عندما اختفت طفلة صغيرة، ولم يُعثر لها على أثر أبدًا
بينما كانت آنا تغوص في أفكارها، تسلل إليها النعاس، وأغمضت عينيها لكن نومها لم يدم طويلًا
كان هناك أصوات
همسات غريبة، خافتة في البداية، ولكنها بدأت تتكاثر، تتداخل، تصير أكثر وضوحًا مع مرور اللحظات همهمات غير مفهومة، أقرب إلى طلاسم تتردد بين الجدران كانت تشعر بشيء يتحرك في العتمة، شيء يزحف بين الجدران، كأن البيت يبتلعها ببطء شعرت أن الغرفة تتحول إلى فم وحش هائل، يريد أن يلتهمها حية
صرخت بفزع، واندفعت خارج الغرفة راكضة
لكن الأرض من تحتها تمايلت الأثاث بدأ يتحرك من تلقاء نفسه، الجدران اهتزت كأن زلزالًا عنيفًا ضرب المنزل ظلت تصرخ، ولكن لا أحد يسمع، لا أحد يأتي لإنقاذها ووسط الفوضى
رأتهم
أشخاص غرباء، يسيرون في المنزل يضحكون، يشربون، كأنهم في حفلة مترفة كانت الأضواء الصاخبة تعكس ملامحهم المتعجرفة، رجال يرتدون أفخم البدلات، نساء في فساتين براقة، كؤوس الويسكي والنبيذ تملأ الطاولات كان المشهد عبثيًا، لا يمكن أن يكون حقيقيًا، ولكنها كانت تراه بوضوح
هل كانت ترى ذكرى من الماضي؟
بدأ الضيوف في المغادرة شيئًا فشيئًا، لكن انتباهها تعلق بشخص واحد
رجل في الأربعين من عمره، لكن ملامحه توحي بشخص أصغر بعشر سنوات وسيم بطريقة متعجرفة، عيناه حادتان كالسكاكين، نظرته مغرورة إلى حد الاستفزاز وقف هناك، يتأمل المشهد بابتسامة باردة، ثم أشار بطرف إصبعه مباشرة نحوها
آنا (بخضة): هل يشير إليّ؟
استدارت خلفها بسرعة، لترى امرأة مسنة تقف بجوار فتاة صغيرة الطفلة كانت شاحبة، صامتة، عيناها فارغتان، كأنها ليست جزءًا من هذا العالم
آنا (بدهشة): يا إلهي هل هذه هي؟ أيتها الصغيرة
لكن الطفلة لم تتحرك، لم ترد، كأنها مجرد وهم كانت المرأة العجوز تمسك يدها، ولكن فجأة، أفلتت يدها منها، وبدأت في المشي، متجهة نحو الرجل المتعجرف مرّت بجانب آنا، لكنها لم تشعر بها، وكأنها محض طيف بلا جسد
آنا تابعتهم بخطوات حذرة، حتى دخلوا إلى غرفة مكتب في نهاية الممر
كان الرجل يجلس على كرسيه الوثير، ساق فوق الأخرى، ينفث دخان سيجارته في الهواء وضع أمامه رزمة من النقود، وألقى بها على سطح المكتب بلامبالاة
الرجل (ببرود): خذي هذه النقود، واذهبي، وأحضري لي علبة سجائر واحتفظي بالباقي
المرأة (بقلق): ولكن، الوقت متأخر يا سيدي
الرجل (بعجرفة ونفاد صبر): قلت لكِ اذهبي ونفذي ما طلبت
ارتعشت المرأة، ثم التقطت المال بسرعة، واتجهت إلى الباب، لكن قبل أن تغادر
الرجل (بصوت هادئ مخيف): لحظة
التفتت المرأة بوجل، ورأت عيناه تلمعان بشرّ خفي
الرجل (بغرور): معك فتاة جميلة هل هي ابنتك؟
المرأة (بحذر): نعم إنها ابنتي
الرجل (بابتسامة خبيثة): حسنًا اذهبي وأحضري لي ما طلبتِ، وأخبري ابنتك أن تجلب لي كأسًا من الثلج إلى غرفتي
المرأة (بخوف): أنا سأحضره لك، سيدي
الرجل (بغضب مفاجئ): قلت لكِ أريد الصغيرة أن تحضره نفذي ما أقول
ارتجفت المرأة، ثم غادرت على عجل، بينما ظلت الطفلة واقفة بلا حراك
كانت آنا تراقب المشهد بعيون متسعة، ما الذي يحدث هنا؟ لماذا ترى هذه الأحداث؟
نهض الرجل من مقعده، واتجه إلى غرفته ببطء
آنا (بقلق متزايد): إلى أين يذهب؟ ماذا يحدث هنا؟
وفجأة، بدأت الفتاة الصغيرة تتحرك صعدت السلالم ببطء، تحمل بيدها كأسًا من الثلج، تمامًا كما طلب الرجل
آنا تبعتها بصمت، حتى دخلت الفتاة إلى غرفة الرجل
ثم
دقّت ساعات المنزل بعنف، كأنها أجراس جهنمية تعلن عن كارثة وشيكة
صرخات مرعبة عالية متداخلة أصوات عظام تتحطم صوت نحيب مرعب، كأن أحدهم يُذبح ببطء من الداخل
آنا تجمدت مكانها، جسدها يرتعش بالكامل
حاولت أن تحرك قدميها، لكنها شعرت كأن شيئًا غير مرئي يقيدها كان عليها أن تصل إلى تلك الغرفة
جاهدت نفسها، دفعت جسدها للأمام رغم الرعب الذي ينهشها الأصوات تزداد حدة، كأن الجدران تنزف ألما
أمسكت مقبض الباب بيديها المرتجفتين
ثم فتحته ببطء
وتجمدت مكانها من الصدمة
ما رأته داخل الغرفة كان أبشع من أي كابوس عرض أقل
•تابع الفصل التالي "رواية الجدران الناطقة" اضغط على اسم الرواية