رواية حب في الدقيقة 90 الفصل الحادي و الخمسون و الاخير 51 - بقلم نعمة حسن

    رواية حب في الدقيقة 90 الفصل الحادي و الخمسون و الاخير 51 -  بقلم نعمة حسن


فتح قاسم الباب ودخل فاستوقفه الظلام الدامس والسكون الذي يعم المكان، ما عدا ضوء خافت ينبعث من الشرفة فكان هو الدليل الذي تتبعه قاسم وتقفى أثرهُ حتى وصل إلى حياة، دخل فوجدها تجلس أرضا وبجوارها العديد من الصور التي تجمعها هي وعائلتها في الصغر ، تطالعها وتبكي.

تنهد قاسم بيأس ثم تقدم منها ومد يده إليها بصمت فنظرت إليه مطولا ليقول:
ـ إما تنهضي أو أحملك ؛ الخيار لكِ.

أمسكت بيده الممدودة ونهضت ثم جلست على المقعد وهي على نفس شرودها، فجلس على المقعد المقابل لها وهو ينظر إليها بتفحص لا يخلو من الشفقة وقال:
ـ لماذا تفعلين بنفسك هكذا، تعرفين أن النبش في الذكريات المحفورة لا يجني سوى الألم.

نظرت إليه بعينين منطفئتين وقالت:
ـ الألم احيانا لا يكون اختياريا قاسم، نكون مجبرين.

تنهد بيأس وقال:
ـ حياة، لا بد أن تخرجي من هذه الحالة، أنتِ تغوصين بقدميكِ في الكآبة أكثر، لا تنسي أنكِ أم لثلاث أطفال يحتاجونك وأنتِ في كامل طاقتك وقوتك وحيويتك.. انظري لنفسك؛ حالتك تسوء بمرور الوقت.

صمتت وبعد صمت طويل قالت:
ـ أنت محق، أطفالي لا ذنب لهم فيما أمر به، أنا مجبرة أن أكون بخير من أجلهم.

ونظرت إليه مطولا وأردفت بصوت مهزوز:
ـ وأنت.. أنت أيضا لن تتحمل مزاجيتي وتقلباتي النفسية دائما، ستتحمل يوم، أسبوع، شهر ولكنك لن تتحملني مدى الحياة. هه.. أنت لست ملاكا في النهاية.

تنهد بهدوء ثم نهض واقفا أمامها وهو يقول مبتسما برضا:
ـ ماذا عساني أفعل؟ المزاجية دائما لعنة الجميلات مثيلاتك وعلي أن أتحملها.

ضحكت ضحكة ساخرة متهكمة ثم قالت بنزق:
ـ قاسم بربك ليس عليك أن تكون مثاليا هكذا طوال الوقت، كُف عن مجاملتي كلما تنفست الأمر ليس رومانسيا إطلاقا.

لم يفاجئه ردها، فلقد اعتاد مثل هذه الردود المُفحمة، والعدائية أحيانا، ولكنه في كل مرة لا يسعه سوى التفاجؤ والصمت.. مراعيًا لما تمر به في الفترة الأخيرة منذ وفاة أمها، إضافة إلى تقلبات نفسية أصبحت ملازمةً لها من بعد ولادتها طفلهما الثالث "فضل" وإصابتها باكتئاب ما بعد الولادة.

يذكر أنه عانى معها لأسابيع طويلة كانت تمر عليهم جميعهم كسنوات من شدة ثقلها، حينها كانت حالة الطوارئ مُعلنة طول الوقت والجو العام للبيت سيء للغاية، حتى حلا وسند تأثرا بتلك الفترة، ولولا تدخل حنان ومساعدتها لهما لما تجاوزا تلك الفترة أبدا.

وكعادة قاسم لا يدخر جهدا في احتوائها وتدليلها فمال عليها وحملها من فوق المقعد بغتةً وهو ينظر إليها مبتسما بحنان وهو يقول:
ـ يبدو أنكِ بدأتِ في تكوين صورة خاطئة عني، لذا علي أن أحسنها بطريقة أو بأخرى.

وفجأة وجدت نفسها بين ذراعيه، يحملها ويتجه بها للداخل، فأسقطت رأسها للوراء وهي تتلمس جبينها بإجهاد وإحباط وقالت:
ـ من فضلك قاسم توقف عن هذه السخافات.

تجاهل كلمتها الأخيرة وتوجه بها نحو غرفتهما ودخل وهو يقول:
ـ السخافة فعلا أن أراكِ في هذه الحالة ولا أنتزعك منها.

وجلس على السرير وهو لا زال يحملها وقال:
ـ لا أستطيع التفريط بكِ يا كهرمانة.

ضحكت ضحكة حزينة بائسة وقالت باستسلام:
ـ إلى متى؟ كل شيء أصبح عبئا ثقيلا علي، أصبحتُ كئيبة دائما ومزعجة، أنا أعرف ذلك لست غبية، أصبحت ضجرة وحانقة طوال الوقت، لا يمكنني الاعتناء لا بالصغير ولا بالكبار.. أوشكت على الإقرار بأنني أم فاشلة!

مسح على وجنتها بحنان وقال:
ـ بالعكس، أنتِ أم جميلة وحنونة حبيبتي ، لا بأس.. ما تمرين به سيمضي.. ولكن عليكِ أن تحاولي مرارا.. لا تستسلمي.

تنهدت تنهيدة حارقة وتساءلت ببؤس:
ـ هل أنا مقصرة مع أولادنا؟ أرجوك كن صريحا معي، أنا أشعر بأني أصبحت مقصرة تجاه كل شيء، أصبحت أنفعل بسبب أتفه الأمور، اليوم صرخت بوجه حلا لأنها فقدت زجاجة مياهها بالمدرسة، وبالأمس كدت أصفع سند لأنه تعثر في نطق بعض الكلمات.

وسالت دمعاتها بعجز وهي تقول بقلة حيلة:
ـ بتُ أشعر أنني لست أهل لهذه المسئولية، الأولاد سيكرهونني عما قريب.

قبّل يديها برفق وقال مبتسما بحنو:
ـ لا تقولي هذا الهراء مجددا حياة، أنتِ أعظم وأحن أم في الوجود، تحملتِ أعباءا كثيرة ولا زلتِ تقاومين، وبالنسبة للأولاد فلقد اعتذرتِ لهم بعدها وهم تقبلوا اعتذارك، لا تحملي نفسك فوق طاقتها إذن.

ـ وأنت، أنت أيضا تتحمل فوق طاقتك قاسم، لو أنه رجلا آخرا بمكانك فلت يتحمل ما تتحمله أنت.

ـ أنا أحبك حياتي وهذا يكفي، لا بأس بقليل من العصبية التي أتلقاها منك، أنا أتفهم ما تواجهينه من ضغوط، ولا بأس بكثير من البكاء في أحضاني يا زوجتي الجميلة.

عانقته عناقا حارا يعبر عن امتنانها له ولضمته الحنونة التي تُسكّن آلام روحها، ثم قبلت وجنته بقوة وقالت وهي تمسح دمعاتها:
ـ أنت أب عظيم، أنت كنت أبا لي قبل أن تكون أبا لأولادنا، لولاك لما استطعت تجاوز أي شيء، أنت تحملتني كثيرا، تجاوزت عن أخطائي وذلاتي وتقصيري بحقك، تحملتني في أسوأ حالاتي وتحملت انهياري وصراخي، لك الفضل في كل شيء يا قاسم.

مسح دموعها وقال مازحا:
ـ حياة، أقسم أنني سأبكي وحينها سنبحث عمن يتدخل لكي يهدأ من روعنا أنا وأنتِ.

ضحكت ودمعاتها تتقاطر ثم قالت بابتسامة متأثرة:
ـ أرغب في تعويضك يا قاسم، صدقا أرغب في مكافئتك .

اتسعت ابتسامتها وأخذ يطالعها بولهٍ واشتياق ثم قال محاولة استغلال هذه الفرصة التي تأتي في العمر مرة وقال:
ـ حقا ترغبين في مكافئتي؟ مممم.. إذن عليّ أن أكون انتهازيا.. فهذه فرصة من التي لا تأتي في العمر إلا مرة واحدة.

ابتسمت فقال وهو يغمز بعينه نحو الخزانة:
ـ ما رأيك أن ترتدي تلك البدلة التي تنتظر الفرج بالخزانة منذ عامين ثم تأتي لنرقص فوق جراحنا سويًا؟! اشتقتُ لرؤية ذلك الخِصر وهو يتمايل مُلهبًا جميع ما أنعم الله علي به من حواس.

اتسعت عينيها برفض وقالت باستهجان:
ـ بربك هل ترى أنني بمزاج جيد لذلك؟! أقول لك أنني أرغب في مكافئتك وليس في إلهاب حواسك المصونة.

تجاهل تذمرها ونهض وهو يجرها نحو الخزانة وأخرج تلك البدلة السوداء المكونة من قطعتين، والتي اشتراها لها قبل عامين في يوم عيد زواجهما الخامس، ثم أعطاها لها وهو يرمقها بنظرات تواقة وقال بنبرة متحمسة:
ـ هيا حياتي، دعينا نسترجع أيام شبابنا.

حدجته بنظرات ساخطة وقالت:
ـ ما الذي تقوله أنت؟ أيُ شباب هذا التي تود استرجاعه، تحدث عن نفسك، أنا لا زلت طفلة يا جدي.

فنظر إليها متفاجئا وبحركة مباغتة كان قد حملها على كتفه مثل كيس البطاطا، ثم قام بتشغيل أغنية وأخذ يرقص بحركات شعبية غوغائية وهو يقول متهكما:
ـ جدك؟! جدك رَحِمهُ الله..

تعالت ضحكاتها التي أثلجت قلبه وأطربت أذناه، فحياة أصبحت قلما تضحك أو تبتسم، وبرغم أنه أصبح يستاء ويضجر كثيرا بسبب المزاج السيء الذي يعم أجواء البيت أغلب الوقت، إلا أنه لا يسعه إلا أن يكون مراعيًا، فيتناسى كل ضجره واستياءه ويعود معها قاسم المتهور المجنون.

أنزلها قاسم أخيرا فنظرت إليه بابتسامة فضمها إليه بقوة وخطف قبلة من ثغرها وقال:
ـ لا تتوقفِ عن الضحك حياتي، ضحكاتك هي شمس حياتنا، هيا.. سأمر مرورا سريعا على الأولاد وأعود إليكِ.

ثم ألقى إليها قبلة طائرة وقال:
ـ أسرعي حياتي تنتظرنا أوقاتا من اللهو والمرح يا فتاة.

وخرج من الغرفة متجها لغرفة أولاده ليطمئن عليهم، بينما أمسكت حياة بالبدلة بين يديها وشردت، تذكرت المرة الوحيدة التي ارتدتها فيها، يومها كانت تحتفل بعيد زواجها، كانت سعيدة ومتحمسة، ولكن أمها كان لها رأيا آخرا ..

•••• استرجاع زمنـي ••••

كانت قد انتهت للتو من أشغال منزلها، ونوّمت صغيريْها وساعدت أمها في تناول دوائها قبل النوم ، ثم ركضت سريعا إلى غرفتها، أخذت حماما وبدلت ثيابها بأخرى ملائمة لاستقبال قاسم، فاليوم عيد زواجهما الخامـس وقد أخبرها قبل أن يغادر أنه يريد أن يعود فيجدها كالمصباح المضيء، تملأ الغرفة دفئا وإنارة.

جلست أمام طاولة الزينة خاصتها وبدأت في وضع لمسات جمالية بسيطة، ولم تنسَ أن تسكب فوقها قنينة عطر الأوقات الخاصة الذي اشتراه لها زوجها المنحرف قبل أيام .

وقفت أمام المرآة تطالع النتيجة النهائية فابتسمت بثقة يشوبها الحياء وهي تقول:
ـ أرى أن هذا القميص مبالغ فيه.. سأبدله.

فدخلت غرفة تبديل الملابس تبحث عن ثوبا آخرا ولكنها استمعت لصوت باب الغرفة فأغمضت عينيها وهي تقول بهمس:
ـ تأخرتِ يا حياة.

دخل قاسم يبحث عنها بعينيه كالمجنون في الغرفة الخالية وهو يقول:
ـ حياتي، أين أنتِ؟

لم يصلهُ صوتها فابتسم وهو يفرك يديه بحماس ويتمتم:
ـ أعشق أجواء الإثارة والتشويق هذه بشدة، حيــاة.. أين تختبئين مني يا كهرمانة، هيا لا تضيعي وقتنا الثمين.

كتمت حياة ضحكاتها بصعوبة وأخذت تتلفت حولها عن مكان لتختبئ به وقد أعجبتها الفكرة لتختبئ بداخل الخِزانة، فسمعته وهو يقول:
ـ حياااة، هيا يا فتاة لا وقت للمزاح، سيستيقظ ابنك المزعج ويأتي لينام بجوارنا وحينها سأرسلك أنتِ وهو إلى غرفة أمك لتأنسوا سويا.

وفجأة فتح الخِزانة فانفجرت ضاحكة فقال:
ـ أمسكتُ بكِ.

قبّلها بشوق ثم قال:
ـ عطرك هو من أرشدني إلى مكانك، يبدو أنكِ أسرفتِ في رشهِ، علامَ تنوين يا زوجتي الشقيـة.

تعالت ضحكاتهما سويا فجذبها من يدها للخارج وهو يقول:
ـ تعالي، لتري ماذا أحضرتُ لكِ.

تساءلت بحماس:
ـ هل هدية عيد زواجنا؟

ـ لا.. ليست هدية، الهدية لاحقا.

وأمسك بحقيبة الهدايا الورقية وأخرج منها شيئا أسودا لم تتبين حياة ماهيته إلا عندما أسدلهُ قاسم أمامها فاتسعت عينيها بغير تصديق وقالت:
ـ لا، هذا مستحيل. أنا لن أرتدي هذا الشيء أبدا مستحيــل!!

ـ وما الذي جعله مستحيلا حياتي؟ هيا من أجلي..

ـ قاسم لا تمزح، أساسا أنا لا أجيد الرقص وأنت تعرف هذا.. لا تجبرني أرجوك.

أمسك بها مُحكمًا قبضته حول خصرها وهو يقول:
ـ هذا أمر لا يقبل النقاش، هيا حياتي كوني مطيعة.

وبالفعل أذعنت لرغبته وارتدتها ليقف مطالعا إياها بشغف، مطلقا صفيرا متحمسا وهو يقول:
ـ يا إلهي ، أقسم أنني سأسقط صريعا من شدة جمالك.

ضحكت وراقبته وهو يقوم بتشغيل أغنية صاخبة شعبية، ثم قام بتوصيلها بجهاز مكبر صوت صغير وهو يقول:
ـ هيا حياتي، أريني أفضل ما لديكِ.

شرعا في الرقص سويا وحياة تحاول جاهدة أن تريه أفضل ما لديها فعلا بينما هو يراقبها مفتتنا بهيئتها المهلكة ، مر حوالي ساعة وهما منسجمان، يتشاركان الرقص واللهو وفجأة استمعا إلى طرقات قوية وحادة على باب الغرفة وصوت صفية الغاضب يتبعها.

اختبأت حياة بغرفة تبديل الملابس سريعا وقد صبغ الحرج وجهها باللون الأحمر، بينما أخفض قاسم صوت الأغاني وقام بفتح الباب متحفزا للقتــال مع هذه المتطفلة التي خربت ليلة أحلامه.

وقبل أن ينطق حرفا واحدا كانت قد انفجرت هي صارخة بوجهه بانفعال قاتل:
ـ هل أُصبتم بالصمم؟ أنا هنا منذ نصف ساعة أضرب على بابكم حتى تورمت يداي، ما هذا الصخب وقلة الحياء هذه، ألا تدرون كم الساعة الآن !!!!!

وقف قاسم أمامها كالأبله يستند إلى الباب بصمت منتظرا أن ينطق الجدار من خلفه فينطق هو، لتتفاقم الأزمة بينهما وتعلو وتيرة غضبها فقالت :
ـ وأين زوجتك؟

نظر خلفه فلم يرى حياة فنظر إلى صفية بلامبالاة وقال:
ـ على الأغلب تختبأ بالداخل، لأنها ترتدي بدلة رقص ومؤكد لن تظهر أمامك بها.

حملقت به بغير تصديق لوقاحته التي لا تتوقف عند حد وتفاجئها في كل مرة وفي كل موقف يحدث بينهما، هي تعرف أنه يتعمد مضايقتها لكي تغادر أرضهم ولكنها أبدا لم تتوقع أن تصل به الوقاحة والجرأة لهذا الحد .

ـ بدلة رقص؟!

تمتمت بها بذهول ليقول مؤكدا ببرود:
ـ أجل، كنا نحتفل بعيد زواجنا.. تفضلي معنا.

نظرت إليه بغيظ مكتوم فبادلها النظر بتحدي صريح لتنفجر صارخة بنفاذ صبر وتقول بصوت عالٍ اخترق طبلة أذنيه:
ـ " اللـــــــــي اختشـــــــــوا ماتـــــــــوا "

ورمقته ببعض النظرات المحتقرة وتحركت بكرسيها المتحرك عائدةً إلى غرفتها ولكن قاسم لم يفوت تلك الفرصة لاستفزازها فرد عليها قائلا:
ـ صحيح، رحمهم الله.

وصفق باب الغرفة ودخل ليجد حياة وقد خرجت من جُحرها وتنظر إليه بضيق واستياء فابتسم ابتسامة محبطة وقال:
ـ عيد زواج سعيد حياة، العام المقبل إن شاء الله نحتفل به من خلف الأسوار لأنني سأكون حينها مسجونا للمرة الثالثة بتهمة قتل حماتي التي هي والدتك، تصبحين على خير.

—-------------------

عودة للوقـت الحاضـر ••••

دخل قاسم إلى الغرفة ليجدها لازالت بمكانها تمسك بالبدلة بين يديها وتبكي فعلم أنها تذكرت ذلك اليوم ، وكيف لا وهي لا تتوقف عن استرجاع ذكرياتها مع أمها ثم تنخرط في بكاء لا يتوقف إلا بالنوم .

اقترب منها وجلس بجوارها ثم قرب رأسها إلى صدره وضمها بقوة وأخذ يمسح على شعرها برأفة ولأول مرة لا يدري ما يقول، لذا التزم الصمت واكتفى بدعمها روحيا، ولما طال الصمت بينهما قال :
ـ كلانا نحتاج للنوم، أرى أن عناقا دافئا الآن سيكون صحيًا أكثر من هذه البدلة المشئومة.

ضحكت رغما عنها وأومأت بموافقة ثم نهضت برفقته لينتقلا إلى فراشهما، فضمها إليه بقوة وقال وهو يمسح آثار البكاء عن وجهها:
ـ علينا أن نأخذ أكبر قسط من الراحة ، الثمانية وأربعين ساعة المقبلين مرهقين للغاية.

أومأت بموافقة وضمت يده التي تستند على خصرها إلى قلبها، وأوصدت جفنيها بهدوء ثم غطت في النوم سريعا.

ــــــــــــــــــــــــ

في مكان آخر..
وبالتحديد في غرفة سارة التي تستلقي بفراشها بتعب و تضع هانفها على أذنها وهي تبتسم ابتسامة عريضة بينما تستمع إلى صوت قصي المبتهج وهو يقول:
ـ لقد جهزت كل شيء، حتى أنني حجزت الغرفة الملكية بالفندق الذي اخترتِه لنقضي به شهر العسل يا عسل.

ارتفعت ضحكتها الأنثوية مما ألهب قلبه أكثر فقال بصوت متحمس متقد:
ـ سارة، صدقا أنا لا أصدق أننا سنتزوج بعد يومين فقط !! يا إلهي هل هي حقيقة؟ أريد أن أضرب رأسي بالجدار علّني أصدق أنني لا احلم.

ضحكت مجددا وقالت بفرحة:
ـ مهلا يا حبيبي ، يمكنك أن تنتظر أسهل من ضرب رأسك بالجدار.

ـ أنا أصاب هنا بالحمى من فرط الشوق إليكِ وأنتِ تمزحين، أقول لكِ أنني لا أصدق يا سارة ، يا إلهي فليخبرني أحدهم أنني لا أحلمممممممممممم…..

صرخ بعلو صوته لينفرج الباب فجأة وإذ به يتفاجأ بشيئا ما وقد ارتطم بوجهه ووالده يقول:
ـ كفاك صراخا أيها المزعج البغيض، تُشعرني وكأنك أول وآخر من سيتزوج على وجه الأرض.

ألقى إليه والده بهذه الكلمات بعد أن قذفه بالعلبة الخاصة بنظارته الطبية ثم أوصد الباب وانصرف، بينما كان قصي ممسكا بالعلبة بين يديه بصمت وهو يسمع ضحكات سارة التي استمعت لما قاله حماها الدكتور ممدوح فقال قصي حانقا:
ـ ما المضحك ؟ أخبرتك أنني سأذهب للمبيت بشقتنا ولكنك رفضتِ، على الأقل هناك كان سيكون بوسعي الصراخ بحرية.

ـ قصي، هل أنت سعيد لهذه الدرجة ؟

قالتها بهدوء وحنو ليبتسم هو قائلا بسعادة حقيقية:
ـ أنا أكثر من سعيد يا سارة، أخيرا وبعد انتظار دام سبعة أعوام كاملة سنتزوج !!

ثم أضاف بصوت ماكر متلاعب:
ـ سنلعب عريس وعروس يا فتاة..

ـ قصي !!!

برز صوتها حادا محذرا فقال بضجر:
ـ ما به قصي؟ حبيبتي نحن سنتزوج بعد ثمان وأربعون ساعة فقط! لا يعقل أننا سنتزوج وأنتِ لا زلتِ تعامليني معاملة موظفي السكك الحديدية هكذا !!

ضحكت ملء فمها ثم قالت وهي تهز رأسها بيأس من سخريته المعتادة:
ـ هيا يا خفيف الظل، تمنى لي نوما هنيئا.

ـ ممم.. كالعادة تجيدين الهرب، اهربي عروسي الجميلة كيفما شئتِ، فكل ما يفصلني عنك طابق واحد وثمانية وأربعين ساعة، سأعدهم ساعة بساعة ودقيقة بدقيقة..

ثم ألقى إليها قبلة وقال:
ـ سأنتظر على أحر من الجمر سرسورة.

لم تستطع التوقف عن الضحك وهي تستمع لوصلة الرومانسية طراز الستينات هذه التي يلقيها على مسامعها يوميا منذ أن تم تحديد موعد زفافهم، ثم تنهدت بابتسامة واسعة وقالت:
ـ حسنا يا حبيبي ، أنت انتظر وأنا سأنام، لا بد أن أحصل على قسط كاف من الراحة لكي تكون بشرتي صافية كما أخبرتني أمي.

ـ حسنا يا عروسي، فديتكِ وفديت بشرتكِ الصافية، أرسل لكِ قبلاتي.

أنهت الاتصال وهي تتمتم بيأس:
ـ يا إلهي، لماذا أبليتني بمجنون هارب من القرن التاسع عشر كهذا!!

ألقت الهاتف على فراشها ووقفت أمام المرآة لكي تضع القناع التجميلي قبل النوم لتستمع حينها إلى طرقات على باب الغرفة فقالت:
ـ تفضلي أمي.

انفرج الباب ودخل حبيب وهو يحمل كوبًا من الحليب وعلى وجهه ابتسامة واسعة وهو يقول:
ـ هذا أنا حبيبتي.

اتسعت ابتسامة سارة واقتربت منه، التقطت كوب الحليب وأسندته فوق الطاولة، ثم ارتمت بحضن أبيها فضمها إليه بقوة وأخذ يمسد فوق ظهرها وهو يقول:
ـ يبدو أنكِ لم تعتادي أن أطرق أنا الباب بعد .

هزت رأسها بموافقة وهي تقول:
ـ أجل، لم يمر على وجودك معما سوى أسبوع واحد. لم أشبع منك بعد.

مسح على شعرها بحنان وهو يقول:
ـ الأيام أمامنا حبيبتي، سنكون سويا دائما لا تقلقي.

نظرت إليه بعينين لامعتين وقالت:
ـ بابا، لو أننا أجلنا حفل الزفاف لفترة قصيرة إضافية..

ـ لاااا… هذا مستحيل، خطيبك هذا مجنون ومن الممكن أن يرتكب جريمة إذا طلبنا منه تأخير الزفاف مرة أخرى، يكفي أنه انتظر سبع سنوات كاملة.

ـ ولكنني وددتُ لو أننا بقينا سويا لفترة.

قبل وجنتها مردفا بحنو لم يفتر:
ـ زواجك لا يعني أننا سنفترق أبدا حبيبتي ، لا تخافي.

عانقته عناقا دافئا فقال وهو يضمها بحب:
ـ هيا اشربي الحليب ونامي، وأنا سأذهب لأناول والدتك كوب الحليب خاصتها، بالإذن منك يا ابنتي الجميلة.

غادر حبيب الغرفة تاركا وراءه سارة مبتسمة بحب وسعادة وقد شارف حلمها على التحقيق أخيرا في وجود أهم شخص في حياتها، والدها.

ـــــــــــــــــــ

خرج حبيب من الغرفة ثم اتجه إلى غرفته وهو يحمل كوبا من الحليب الدافئ، دخل فوجد فتون تجلس أمام مرآتها تهندم نفسها وما إن رأته يدخل حتى اتسعت ابتسامتها وتألقت بشوق، اقترب حبيب منها وأسند الكوب على الطاولة ثم أحاط عنقها من الخلف بساعده وهو ينحني بجذعه عليها حتى بات ملتصقا بها، ثم طبع على خدها قبلة سخية وقال:
ـ عروسي الحلوة تنتظرني، أليس كذلك ؟

أومأت بموافقة فقبلها بقوة مجددا وقال بهمس:
ـ أشتاقك فتونة، لا أدري متى ستخبو لهفتي ويختفي شغفي بكِ، كلما رأيتك شعرت بأنني أود أن أحملك وأدور بكِ في الغرفة، لا بل في البناية، لا.. بل ألف بكِ الكون كله.. وأدور وأنا أهتف أنني أحبك فتــون، أعشقك يا فتون القلب والروح.

تناول كفيها وقبلهما فقالت مبتسمة :
ـ وأنا أحبــك يا حبيــب العمــر، أحب حنانك المفرط الذي جاء بمثابة إعتذار عن كل إساءة قدمتها لي الأيام، أحب تدليلك لي وكأني ابنتك الثانية، أحبك وأحب الحياة منذ الساعة التي أنرت فيها حياتنا من جديد حبيبي.

و طوّقت عنقه بحنان، ونهر حنين لا ينضب، ثم قالت وعلى ثغرها ابتسامة رضا:
ـ دعنا نتعانق دائما، لا نتخلى عن عناق يومي حتى إذا هرمنا وصرنا أجدادا لأجداد.. لا تحرمني من عناقك مجددا يا حبيب.

أحاط حبيب خصرها بتملك وهو يمسح على ظهرها تارة وعلى شعرها تارة، يجدد مشاعره التي لم تتبلد يوما رغم طول الفراق والبعد، ثم قال مبتسما كذلك:
ـ نعم حبيبتي، دعينا نتعانق دوما، في أي وقت وكل وقت، اسمحي لآلامي أن تبرأ فتون؛ فالعنـاق وصفة طبية سريعة المفعول.

العنــاق وصفة طبية سريعة المفعول فعلا، سريعة بالقدر الذي يسمح لها أن تطيب جراحك في ثانية وكأنها لم تكن، سريعة وفعالة لإزالة الندوب وتجميل آثارها، العناق دائما عناق روحين وليس جسدين، العناق كان ولازال وسيبقى عمل فني مدهش!

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

ارتفع آذان الفجر ليستيقظ قاسم تلقائيا بعد أن اعتادت ساعته البيولوجية على الاستيقاظ في نفس الوقت كل يوم، نهض ليصلي ثم دخل كالعادة ليمر بغرفة الأولاد " حلا و سند " واللذان يبلغان سبع سنوات ، و الصغير " فضل " .

سمى قاسم باسم الله قبل أن يدخل الغرفة ومد يده وقبس الضوء الخافت، ثم تقدم منهم مبتسما ووقف يتأملهم بحب ثم تمتم بنزق لا ينتهي وهو يعدل غطاء سند فوقه:
ـ هذا الوغد يشبهني كثيرا ، كنت أتمرغ بفراشي كالحلوف وأُسقط غطائي أرضا كل ليلة هكذا.

ثم اتجه نحو حلا التي تسند ساقيها الصغيرتين على الحائط ورأسها يتدلى من على حافة الفراش وخصلات شعرها البنية الناعمة تكاد تلامس الأرض، فأمسك برأسها وساقيها وهو يعدل وضعية نومها وهو يقول بخفوت:
ـ أما أنتِ تشبهين أمك بكل تأكيد، كدت أستئصل طحالي عدة مرات بسبب فرط حركتها، تمرضن إن نمتن بسلام دون الركل والرفس كالحمير البرية .

ختم حديثه وهو يتلفت حوله مدركا ما تفوه به ثم تنهد بارتياح وهو يتجه إلى سرير فضل.. وقف أمامه وهو يميل بجذعه نحوه ويقول:
ـ وماذا عنك يا صغير ؟! من ستشبه؟ والدك الذي هو أنا، أم أمك مفرطة الحركة؟ أم أنك ستكون هجينًا مثيرا للجدل!!

واستقام بجذعه ووقف يتمتم وهو ينظر لابنه ذو الوجه الملائكي بحيرة وتفكر:
ـ يبدو أنك ستكون هجينا مثيرا للجدل فعلا.. على كل حال أنتظر اللحظة التي تكبر فيها بفارغ الصبر، لا بد أن نكون حليفين يا صديقي، يكفي أن ثلاثتهم يكونون فريقا ضدي، لك أن تتخيل حجم الاضطهاد الذي أتعرض له يوميا يا رجل.

ـ قاســــم..

استمع قاسم لصوت حياة فاستدار مفزوعا وهو يقول:
ـ حياتي، أنتِ هنا؟

رفعت حاجبها بتعجب وقالت:
ـ نعم على ما يبدو.

ثم نظرت إلى سرير فضل وتساءلت:
ـ ماذا تفعل عندك؟

ـ أنا.. أنا فقط أطمئن عليهم.

ـ تطمئن عليهم أم تطن فوق آذانهم؟ هيا اخرج قبل أن يستيقظ فضل، أساسا بالكاد استطعت تنويمه .

أذعن لطلبها وخرج من الغرفة ثم دخل إلى الشرفة وجلس يفكر وهو ينظر للبحر بشرود فجلست بجواره وهي تقول:
ـ فيما أنت شارد يا ابن العم؟ يمكنك أن تفكر معي بصوت عالِ.

نظر إليها مبتسما وضمها إليه فاستندت برأسها على صدره وهي تسمعه يقول:
ـ لجأ إلي عزيز بخصوص أمرا ما، والحقيقة أنني أشعر بالحيرة بشأنه.

ـ وما هو هذا الأمر؟ هل هو أمرا خاصا بالعمل؟

ـ لا، بخصوص كريم؟

ابتعدت عنه ونظرت إليه باهتمام وتسائلت:
ـ كريم؟ ماذا هناك، تكلم.

تنهد مطولا ثم قال:
ـ عزيز أخبرني أنه لم يعد مرتاحا بشأن وجود كريم بالبيت وخاصةً أن أسيل تكبر وهو أيضا أصبح مراهقا ، وفي الحقيقة أنا أيضا أشعر أن الوضع لم يعد ملائما، سابقا كريم كان طفل ، أما الآن الوضع قد تغير وفي ظل وجود فتاة بالبيت فالوضع سيزداد سوءا كلما مر الوقت، في النهاية هي بنت عمه ليست شقيقته وأنتِ تعرفين فترة المراهقة خاصةً للشاب ليست سهلة ولا يستهان بها أبدا.

أومأت حياة بتأييد وشردت بحزن تفكر فقالت:
ـ وما الحل؟ لن يكون مناسبا أيضا أن يعيش معنا، حلا في مثل سن أسيل والمشكلة ستظل قائمة.

أومأ مؤكدا وقال:
ـ لا يوجد سوى حل واحد، أن يعيش في بيت جده.. هذا أنسب حل .

صمتت حياة تفكر للحظات ثم قالت:
ـ صحيح أنه حل مناسب ولكن لا أعتقد أن عزيز سيملك الجرأة الكافية لكي يطلب من كريم أن ينتقل لبيت جده، لا يمكنه كسر خاطره .

ـ صحيح، لذلك لجأ إلي عزيز، يريدني أن أتحدث مع كريم وألمح له حيال ذلك الأمر.

ـ لا.. إياك.. لا تكسر خاطره قاسم أرجوك.

زم شفتيه بأسف وقال:
ـ نعم، كلما فكرت في الأمر أرى أنه غير ممكنا، ماذا سأقول له؟ هل سأذهب وأقول له اترك بيت عمك الذي تعتبره أبا لك لأن وجودك لم يعد لائقا، لا.. الولد حساس أساسا بما فيه الكفاية.

اعترت الشفقة ملامحها وهبطت دمعاتها وهي تردد بأسى:
ـ مسكين يا كريــم، وكأنك مكتوبا عليك الفقد والحرمان دائما.

زفر قاسم بضيق وقد عجز عن الوصول لحل لهذه الأزمة، وبينما هو يفكر قالت حياة :
ـ أبي هو من سيحلها، أثق أننا إن لجأنا له سنجد لديه التصرف الصحيح.

ـ أتمنى، حسنا سأتصل به في الصباح وأرى ماذا بإمكاننا فعله.

ـ إن شاء الله ، أنا سأعد الفطور، هل تريد أن تتناول شيئا معينا؟

شرد مطولا في تفكير وهمي، ثم نظر إليها وقال بغمزة متلاعبة تفهم فحواها:
ـ أجل، أريد أن أضعك بين شريحتي توست وألتهمك يا قصيرة.

ضحكت حياة وأسرعت تركض أمامه وهو يركض خلفها يحاول الإمساك بها وفجأة توقفا وهما يطالعان سند الذي يقف على باب غرفته ويفرك عينيه بنعاس وهو يقول:
ـ صباح الخير ، لماذا تركضان؟

نظرت حياة إلى قاسم وأشارت بعينيها إلى سند وكأنها تأمره أن يخترع إجابه منطقية مقنعة ترضي فضول الولد، فقال قاسم متعتعا:
ـ صباح الخير سند، لماذا استيقظت باكرا، لا يزال هناك وقت هيا اذهب واغتنمه في النوم.

ـ لا، لم أعد أشعر برغبة في النوم، أمي.. لماذا كنتما تركضان؟

همس قاسم إلى حياة قائلا وهو يصر على أسنانه بغيظ:
ـ ما هذا الفضول اللعين، لماذا يتدخل فيما لا يعنيه هذا المتطفل طويل الأنف؟

طالعته حياة بحنق وبحنق وقالت:
ـ ليس فضول، الأمر يستحق التفسير فعلا، هيا أخبره لماذا نركض منذ الصباح لأنه لن يتوقف عن التساؤل، تفضل.

نظر قاسم إلى ابنه وهو يحك رأسه بتفكير ثم قال:
ـ في الحقيقة.. كنا أنا وهي.. أقصد والدتك طبعا. كنا .. آه نعم.. كنا بنقوم بعمل بعض التمرينات الرياضية.

تساءل سند ببراءة:
ـ الآن ؟

كتمت حياة ضحكتها وهي تنظر لقاسم الذي يقف أمام ابنه كالمتهم الذي يتم استجوابه ثم قال:
ـ أجل، أنت ألا تقوم بعمل تمرينات الصباح في المدرسة؟ ونحن نفعلها بالبيت.

ظهر الاقتناع باديا على الطفل الذي هز رأسه بهدوء ثم اتجه نحو الحمام بصمت، فزفر قاسم براحة وهو يقول:
ـ ما هذا الطفل، عندما كنت في نفس عمره لم أكن فضوليا بتاتا، لو أنني رأيت القتيل يُقتل أمامي حتى لم أكن لأهتم، أما أولادك يعدون على أنفاسي التي أتنفسها .

ضحكت حياة وهي تضرب على صدره بخفة وتقول:
ـ الزمن اختلف يا والدي.
ومأ مؤيدا وهو يحدث نفسه ويقول:
ـ على ما يبدو فعلا. على كل حال أنا سأذهب الآن لكي آخذ حماما بشكلٍ جميل ثم أتوكل على الله وأذهب للمعرض، سيكون مُجديا أن أركض وراء لقمة عيشي أكثر من الركض وراءك.

ضحكت بتشفي وقالت بهدوء:
ـ وأنا سأعد الفطـور ريثما تنتهي .

ـــــــــــــــــــــــــ

استيقظ ممدوح من نومه ونظر بجواره فلم يجد فريال، فاعتدل بفراشه لتقع عيناه عليها وهي تدلف الغرفة فشعر بالفزع للحظة وهو يراقبها تدنو منه وعلى وجهها ذلك القناع التجميلي الذي تعده بنفسها، أخذ منه الأمر لحظات حتى استوعب أنها هذه هي زوجته فلة والتي عرفها من صوتها عندما قالت:
ـ صباح الخير حبيبي ممدوح.

ـ صباح الخير فلة، ألن تتوقفي عن مفاجئتي كل صباح بأقنعتك المريبة هذه؟ هل هذا قناع الطمي أم ماذا؟

ضحكت ضحكة رنانة وهي تقول:
ـ لا دكتوري الحبيب، هذا قناع منقوع الترمس المطحون مخلوط مع عشبة إكليل الجبل الاخضر.. يساعد على ترطيب وشد البشرة ومنحها نضارة وحيوية.

قطب جبينه باستغراب ولكنه لم يعقب فقال:
ـ امممم.. ولكن بشرتك نضرة وناعمة فلتي، ما فائدة هذه الأقنعة التي ستصيبني بسكتة قلبية يوما ما هذه؟

ـ بعيد الشر عنك حبيبي، اتفل من فمك، هذه الوصفة لكي تكون بشرتي صافية في حفل الزفاف، لا بد أن أكون أم عريس جميلة وصغيرة وأجعل النساء جميعهن يتسائلن عن سر شبابي الدائم.

هز رأسه متصنعا الجدية ونهض متجها نحو الحمام فقالت:
ـ هل أعد لك قناع معجون النشا بماء الورد ؟ سيساعدك على الظهور بمظهر جذاب للغاية وسيجعلك تبدو شابا في العشرين من عمرك.

ـ لا، يكفي أن تعدي لي القهوة .. فنجان قهوة وليس قناع القهوة لكي لا يختلط عليكِ الأمر.

ضحكت برقة وقالت:
ـ أمرك دكتور.

خرجت من الغرفة متجهة إلى المطبخ لكي تعد القهوة لزوجها وبينما هي منشغلة باعدادها استمعت إلى صوت قصي خلفها يقول:
ـ صباح الخير فلة.

استدارت ونظرت إليه وقبل أن تنطق كان قد بصق الماء الذي كان يتجرعه وهو ينظر إليها بهلع ويقول:
ـ سلام قولا من رب رحيم، ما هذا .

ـ ماذا بك، هل رأيت عفريتا يا وقح؟

ـ فلة؟! هذه أنت؟ لقد عرفتك من صوتك.

قذفته بزجاجة مياه وهي تقول:
ـ توقف عن سخافتك تلك قصي.

اقترب منها وهو يضحك ووقف أمامها وهو يتفحص وجهها عن قرب ثم قال:
ـ ما هذا؟ ماذا تضعين على وجهك؟

ـ إنه قناع منقوع الترمس المطحون مخلوط مع عشبة إكليل الجبل.

قطب جبينه باستغراب فقالت بحنق:
ـ ما الغريب في ما اقوله؟ ما الذي يستدعي كل ذلك الاندهاش؟ أنت تشبه والدك تماما، تبالغ في ردة فعلك جدا.

ـ لا ابدا، ولكن مر زمن طويل ولم نركِ تضعين هذه الاختراعات على بشرتك! لقد تفاجئت، هذا كل ما في الأمر.

أومأت بيأس وقالت:
ـ أجل، لقد أهملت جمالي وشبابي مؤخرا، أخواتك الفضليات يجعلنني أدور حول نفسي كما لو أنني أدور في ساقية.

ابتسم وقال:
ـ لا تقولي مثل هذا الحديث أمام الدكتور، لقد عرض عليكِ مرارا وتكرارا أن يجلب إحداهن لمساعدتك ولكنك رفضتِ، إذا لا تشتكي.

وفجأة فارت القهوة فهرعت نحو الموقد وهي تنظر إليه بغيظ وتقول:
ـ هل رأيت؟ لقد فارت القهوة لأنك ألهيتني، هيا اغرب عن وجهي.

ـ كالعادة ستلقي اللوم علي، في الحقيقة أنا لا أعرف ما فائدة ماكينة صنع القهوة المهملة تلك، كانت لتكون أسهل من إعداد القهوة يوميا بتلك الطريقة البدائية.

نظرت إليه بغيظ وحنق فابتعد عن مرماها قبل أن تقذفه بفنجان القهوة هذه المرة فقالت بابتسامة فخورة:
ـ والدك و أحكامه، يقول أنه لا يستمتع بفنجان القهوة إلا إذا أعددته بنفسي.

ضحك متهكما وقال:
ـ إننا الرجال، حين نريد إقناعكم بشيء سنفعل حتى لو كان مستحيلا.

صرخت بوجهه بعصبية وهي تقول:
ـ اخرج يا قصي حالا من المطبخ، يكفي حرارة الموقد التي أذابت قناعي.

خرج قصي فاستدارت تنظف الموقد قبل ان تشرع في إعداد القهوة مرة أخرى لتتفاجأ بقصي الذي باغتها وهو يقبل خدها ثم ركض للخارج وهو يضحك ويقول:
ـ يا إلهي، قبلة بطعم الترمس.

ـ اخــــــــررج حالاااااااااا يا وغـــــــد !!!

خرج قصي من المطبخ ليتقابل في الرواق مع شقيقته زينة فضربها على مؤخرة رأسها كعادة كل صباح وهو يقول:
ـ صباح الخير زنزونة.

طالعته زينة ذات السبع سنوات بحنق وهمست:
ـ وأخيرا الحمدلله انك ستتزوج وتنتقل من هنا.

تصنع الحزن وقال:
ـ ألن تشتاقي إلي؟

صرخت بانفعال طفولي:
ـ لااااا.. وان اشتقت إليك لن أشتاق لضربك لي كلما رأيت وجهي.

كانت فريال تصطحب القهوة إلى الشرفة حيث ينتظر ممدوح فسمعت قول ابنتها فقالت:
ـ أخاكِ يمازحك حبيبتي.

أجابت زينة باندفاع:
ـ وأنا أكره المزاح، وأكره كل الذكور أساسا.

رفع قصي حاجبه بتعجب من قولها وقبل أن ينطق كانت زهرة قد قفزت على ظهره وتشبثت بعنقه وهي تقبل خده وتقول:
ـ صباح الخير أخي قصي.

ـ صباح الخير يا زهرتي، متى ستتوقفين عن حركات القرود هذه؟ أخشى أن ينكسر عنقك في مرة!

أنزلها عن ظهره وهو ينظر إليها مبتسما فقالت:
ـ لا تقلق، أقوم بحركات أخطر منها أثناء لعب الچودو .

ربت على كتفها بقوة لينة وهو يقول:
ـ عاش يا بطلة.

ربتت على صدرها بامتنان فضحك لحركتها العفوية ثم قال:
ـ إذًا بما أن لاعبة الچودو ومؤسسة نادي كارهي الذكور موجودتين، أين ثالثتكما؟

ـ تقصد زمرد ؟!

ـ ومن غيرها؟

" أنا هنا "
نظروا جميعهم إلى زمرد التي خرجت من الغرفة متألقة متأنقة ، وقد مشطت شعرها ووضعت بعضا من اكسسوارات الشعر وارتدت فستانا زهريا ملائما لرقتها المفرطة.

خرجت زمرد من الغرفة وتوجهت إلى حيث يجلس والدها، قبلته كعادة كل صباح، ثم قبلت أمها، ثم انتهى بها المطاف عند قصي الذي ضمها بحنان وهو يقول:
ـ صباح الخير زمردة.. ما كل هذا الجمال.

ابتسمت بتألق وقالت وهي تدور حول نفسها بزهو:
ـ هل أعجبك حقا؟ لقد اشتريت فستانا بنفس اللون من أجل حفل زفافك.

ابتسم وهو يقرص وجنتها ويقول:
ـ ستكونين أميرة يا حبيبتي ، كلكن ستكونن أميرات، ما شاء الله لا قوة إلا بالله.

خرجت فريال وألقت على بناتها تحية الصباح ثم قالت:
ـ هيا حبيباتي، ساعدنني في تحضير الفطور، أمامنا يوما حافلا بالتجهيزات.

انتفخ صدر قصي فرحا وطربت أذنيه سمعا لهذه الكلمات التي ذكرته بقرب لقائه بمعشوقته الأبدية فقال:
ـ ريثما تحضرن الفطور أكون انتهيت من مكالمة مهمة.

نظرت إليه فريال نظرة العارف وقالت:
ـ أبلغها سلامي.

ابتسم بحبورٍ واسع وقال:
ـ يصل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

في بيت الحاج صالح الحداد.

كان صالح يجلس بمقعده الدائم بعد أن أنهى صلاة الظهر وقرأ ورده اليومي، فإذ به يستقبل مكالمة من قاسم يخبره فيها بخصوص كريم ورغبته في حل الأمر بدون جرح مشاعره أو خلق أزمة بينه وبين عمه .

أنهى صالح الاتصال وبقي شاردا يفكر كيف يمكنه حل الأمر فدخلت حسناء وهي تحمل كوبا من الماء وحبة الضغط التي يتناولها صالح يوميا ، جلست بجواره وناولته الدواء والماء فلاحظت شروده فتساءلت :
ـ ما بك يا صالح؟ هل أنت بخير؟

أجابها بعد أن أطلق تنهيدة حارة:
ـ أجل، ولكن هناك أمرا ما يشغل بالي.

ـ خيرا؟

لم يخبرها باتصال قاسم، وذلك لأنه لم يرد أن تفكر أن وجود كريم أصبح غير مرحب به في بيت عمه، أسرها في نفسه لأنه لا يريد لأي شيء أو أي شخص أن يجرح خاطر حفيده ، فقال متمهلا:
ـ أرى أنه قد آن الأوان لكي ينتقل كريم للعيش برفقتنا.

قطبت حاجبيها بتعجب وقالت بعد صمت قصير:
ـ مرحبا به في أي وقت أكيد، ولكن ما السبب؟ هل طرأ طارئ ؟؟

ـ لا أبدا، ولكن كما تعرفين، كريم أصبح شابا في طور المراهقة، ووجوده في بيت عمه أصبح غير مناسبا، أرى أن أنسب مكان له هو بيت جده، هنا بيته، وبيت والديه.

أومأت حسناء بموافقة وقالت:
ـ صحيح، أنت محق فيما قلته، إذًا متى ستتحدث معه؟

ـ اليوم، لا بل حالا .

وبالفعل قام صالح بالاتصال بكريم وطلب منه الحضور إليه اليوم فأخبره أنه سيمر عليه بعد ساعة.

نظر إلى حسناء وقال:
ـ سيأتي بعد قليــل.

ـ ليفعل الله خيرا إن شاء الله.

في تلك اللحظة دخل أحمد ذو الست سنوات الغرفة وهو يحمل كتابه ويقول:
ـ أمي، لقد أنهيت واجباتي، هل يمكنني النزول لكي ألعب الكرة بالشارع؟

مسح صالح على شعره بحنان ثم قال:
ـ انتظر قليلا حبيبي، سيأتي كريم لا بد أن تستضيفه أولا.

ـ كريم ابن أختي عنبر؟؟

تسائل الطفل بحماس فأجابه صالح وهو يهز رأسه مهموما وقال بعد أن تنهد:
ـ أجل، ابن أختك عنبر.

ـ حسنا سأنتظر، ومتى سأرى أختي عنبر؟؟

أجابه صالح بأسى وأسف:
ـ عندما يأذن الله يا أحمد.

ـ حسنا، ولكن لماذا لا اراها أبدا، أرى أختي حياة باستمرار ولكن هي لم أرها إلا بالصور.

ربتت حسناء على رأسه بلطف وقالت:
ـ أحمد، بابا مرهق الآن يا حبيبي، سنتحدث معه لاحقا.

أومأ الطفل موافقا وخرج مع أمه بينما أخذ صالح يفكر فيما قاله قاسم وما ستؤول إليه الأمور .

وبعد قليل، ركض أحمد إلى غرفته يبلغه بقدوم كريم، وبعدها دخل كريم إلى غرفة جده وعلى وجهه ابتسامة عريضة، انحنى وقبل يده بأدب ثم صافحه بحرارة وهو يقول:
ـ كيف حالك يا جدي؟

عانقه صالح بقوة وشدد من ضمه إليه مطولا وهو يجاهد نفسه لكي لا يبكي، ففي كل مرة يرى فيها كريم تجتاحه رغبة عارمة بالبكاء، لا يدري هل لأنه يذكره بوالدته التي ذاقت المر بأنواعه، أم لأنه يذكره بوالده الذي خسر بغبائه دنياه وآخرته ومات بطريقة مأساوية في النهاية لا يسعه عند تذكرها إلا أن يشفق عليه وعلى شبابه الذي أفناه في اللاشيء، هذا الولد خليط مأساوي يستحق الشفقة فعلا.

ـ أنا بخير لأني رأيتك يا كريم، بالرغم من أنني عاتب عليك، أسبوعين كاملين لم تفكر في زيارتي يا نذل!

ابتسم كريم ببشاشة وقال:
ـ أعتذر منك يا جدي، يومي كله يفنى في ملاحقة الدروس الخصوصية ، آمل في النهاية أن أحصل على درجات تؤهلني لدخول كليـة التربية الرياضية التي أتمناها ، أحلم أن أصبح لاعب كرة قدم محترف.

ربت جده على كتفه بدعم وقال:
ـ إن شاء الله ستكون يا بني، هيا اجلس لنتحدث ريثما تجهز أم أحمد الغداء.

جلس كريم وبدأا يتناولان أطراف الحديث إلى أن قال الجد:
ـ هذا ليس كل شيء، في الحقيقة لقد أحضرتك اليوم لأني أريد مخاطبتك في أمرا هاما.

أرهف كريم السمع فقال جده:
ـ أريدك أن تنتقل للعيش هنا، معنا.

قطب الآخر جبينه متعجبا وقال:
ـ لماذا، هل اشتكى لك عمي مني في شيء ؟؟

تجاوز صالح الغصة بحلقه وقال بثبات مزعوم:
ـ لااا لا أبدا.. أنت تعرف عمك أكثر مني، عمك يحبك كما يحب أولاده تماما وأكثر.. ولكن هذه رغبتي الخاصة، أشعر بدنو الأجل يا كريم.

انقبض قلب كريم ووضع كفه على يد جده وقال بلهفة:
ـ لا تقل هذا يا جدي من فضلك.

ـ كريم، أريد أن أشبع منك يا بني، لقد احترمت رغبتك عندما كنت طفلا وقررت البقاء ببيت عمك، ولكنك الآن لم تعد طفلا، لقد أصبحت رجلا يعتمد عليه ماشاء الله ، هل تبخل علي بوجودك معي السنوات القليلة المتبقية في عمري؟؟

ـ لااا، أنا تحت أمرك يا جدي، من الغد سأنقل أغراضي استعدادا للعيش هنا.

ابتسم صالح براحة وربت على ساعده وقال:
ـ بارك الله فيك يا بني، ثم أنك هنا ستكون في بيتك، بيت جدك هو بيتك، وشقة والديك بالأسفل موجودة يمكنك استثمارها كيف تشاء، والمحل الخاص بوالدك رحمه الله لا يزال موجودا، لا بد أن تكون بالقرب من مالك يا بني وتديره وتستثمره، وأنا سأساعدك لا تقلق، عليك أن تكون رجلاً مسئولا منذ الصغر.

أومأ كريم متحمسا موافقا وقال بتهذيب:
ـ كما ترى يا جدي، ما تراه مناسبا سأفعله.

اتسعت ابتسامة صالح الذي قال برضا:
ـ بارك الله فيك يا كريم. وقر عيني بك دائما يا بني.

ـــــــــــــــــــــــــــ

في صباح اليوم التالي..

كان كريم قد حزم أمتعته استعدادا للانتقال إلى بيت جده، وقف متأملا غرفته التي قضى فيها سبع سنوات من عمره، ومتأملا كل شبر بالبيت الذي قضى فيه أحلى وأكثر سنوات عمره استقرارا ودفئا ، وشعر بغصة تخنقه وتحجر الدموع بعينه لأنه سيفارق مكانا وأناسا أحبهم وتعلقهم بهم للمرة التي لا يعرف عددها، وكأنه مصاب بلعنة الفراق، كلما أحب شيئا فقده، وكلمت تعلق بشخصا حُرم منه.

كانت حنان في المقابل تبكي بالتياع، تشعر أنها ستفارق قطعة من روحها بعد قليل، مسحت دموعها عندما رأت عزيز الذي أقبل عليه بائس الوجه، ووقف امامها وهو يربت على كتفها ويقول بحزن دفين:
ـ لا تبكي حنان، هذا ما كان سيحدث الآن أو بعد سنوات، في النهاية لا يصح الا الصحيح.

نظرت إليه حنان بانكسار وقالت:
ـ لا أفرط به يا عزيز، هذا ابني، كريم ابني وأنا أمه.

همس إليها بعصبية مكبوتة وقال:
ـ حنان يكفيني ما بي أساسا، لقد تكلمنا في هذا الأمر ألف مرة بالأمس، أنتِ لستِ أمه، أنتِ زوجة عمه، والولد أصبح بالغا لا يجوز أن يبقى هنا ، يعني أنه إن ظل هنا عام لن يبقى الآخر، ثم أنه سينتقل للعيش في بيت جده، لن يبقى بالشارع مثلا.

مسحت دمعاتها وهي تقول:
ـ ولكنه متعلقا بنا يا عزيز، ابتعاده عنا سيسبب له أزمة نفسية شديدة، الولد لا يعرف غيرنا، نحن كل عائلته.

ـ لا حول ولا قوة إلا بالله، ومن قال أننا سنبتعد عنه، لن يتغير شيء يا حنان أعدك، هذا كريم، كريم ابن أخي، لن يحبه أحد مثلما سأحبه أنا ولن يكترث أحدا لأمره كما أفعل أنا، لا تقلقي.

هزت رأسها بهدوء فمسح دموعها بيده بحنان وهو يقول:
ـ هيا، لا تبالغي لكي لا يشعر بالحزن.

خرجت حنان من غرفتها الى غرفة كريم الذي كان يجلس على طرف فراشه وأمامه تقف أسيل تبكي بانهيار، وهو يربت على كتفها ويقول:
ـ أرجوكِ سيلا لا تبكي، ستجديني أمامك كل يوم وأنتِ تركبين باص المدرسة، سألوح لكِ كالعادة، وسأشتري لكِ الحلوى نهاية كل أسبوع كما كنت أفعل دوما، لن يتغير شيء.

مسحت الطفلة دمعاتها المنهمرة وهي تقول:
ـ هذا يعني أنك لن تبتعد عنا؟

مسح وجهها بحزن وقال مبتسما:
ـ لا، أنتم عائلتي الوحيدة، هل هناك من يبتعد عن عائلته الوحيدة؟ لا يمكن.

طوقت الصغيرة عنقه بذراعيها وانفجرت في بكاءٍ مرير وهو يربت عليها ويحاول تهدئتها إلى أن تدخل والدها وسحبها من ذراعيها يبعدها عنه برفق وهو يقول بحنان:
ـ أسيل، لا تبكي حبيبتي، كريم لن يبتعد عنا، ها هو قد أعطاكِ وعدا والرجال لا يحنثون بوعودهم. أليس كذلك كريم؟

هز كريم رأسه مؤكدا وقال:
ـ بلى عمي، أعدك أسيـل.. لن نفترق أبدا .

تعلقت عينا الصغيرة به وهو يغادر الغرفة ويصافح والديها وشقيقها علي الذي كان مفطورا من البكاء أيضا، ثم غادر كريم، غادر تاركا خلفه سبع سنوات هن الأجمل في حياته على الإطلاق.

ـــــــــــــــــــــــــ

مساءا…

في قاعة فخمة وراقية جدا تطل على البحر مباشرةً، احتشد المئات الذين تمت دعوتهم من قبل والد العريس ووالد العروس لحضور حفل زفافهما ، حيث كانا يقفان في استقبال الحضور وكلا منهما يرتدي حلة سوداء أنيقة صُنعت لأجله خصيصا. وبجوارهم يقف قاسم متأنقا خاطفا للأنظار بوسامته وقامته الفارعة حيث كان يرحب بالحضور كذلك.

دقائق ورن هاتف حبيب حيث كانت زوجته فتون تخبره أن العروس أصبحت جاهزة وفي انتظاره لكي يصطحبها من غرفتها ويسلمها إلى عريسها، فانسحب حبيب وترك قاسم برفقة ممدوح، ثم صعد إلى الغرفة بالطابق العلوي من الفندق المقام به الحفل، حيث تمكث بها العروس وأمها وصديقاتها ريثما ينتهين من تجهيزات العرس.

كانت سارة تقف أمام المرآة الطويلة بزاوية الغرفة، تطالع هيئتها الملائكية بفستانها الأبيض، وهي تشعر أنها تحلم ، دارت حول نفسها عدة مرات وهي تبتسم بسعادة وحماس.. و خوف.

دق الباب فتأهبت جميع حواسها، حينها فتحت أمها الباب فدخل حبيب الذي تسمر بأرضه ما إن رأى ابنته بهيئتها الحابسة للأنفاس، ترقرق الدمع بعينيه من فرط تأثره وأقبل عليها مبتسما وهو يقول:
ـ بسم الله ماشاء الله ، كم أنتِ جميلة حبيبتي.

قبل جبينها وعانقها وهو يردف بصوت مهزوز:
ـ أرجو من الله أن يرزقك السعادة وراحة البال وأن يُعمر بكِ.

ضغطت سارة كل أعصابها في هذه اللحظة لكي لا تستسلم لتلك الدموع الجامحة التي تخنقها، وعندما رأتها والدتها أمرت والدها أن يصطحبها للأسفل، فتأبطت سارة ذراع أبيها، وارتفعت زغاريد صديقاتها وهي تخرج من الغرفة منتقلةً إلى الأسفل حيث ينتظرها الجميع.

كان قصي يقف عند نهاية الدرج ينتظر ظهور ست الحسن والجمال عروسه الجميلة في طلتها البهية، يهز قدمه بتوتر ويقرض أظافره بارتباك، وبمجرد أن رآها حتى فغر فاه والتصق الهواء بحلقه من فرط اندهاشه واعجابه بطلتها التي تشبه الأميرات بفستانها المحتشم الراقي الذي اختارت تصميمه بنفسها.

اشتعلت الأجواء حماسا مع صوت الموسيقى القوي الذي يتزامن مع نزول العروس برفقة والدها الدرج في مشهد رائع تدق له القلوب وتدمع له الأعين، إلى أن توقف حبيب أمام قصي وصافحه بود بالغ وتقدير چم، ثم قال :
ـ سارة في أمانتك من اليوم.

ربت قصي على يده بتأكيد شديد وهو يقول بثقة عالية:
ـ سارة في عينيّ.

ونظر قصي إلى سارة التي كانت تبدو وكأنها حورية من الجنة، لوحة فنية مرسومة بحرفية عالية، الشعر الأصفر المنسدل بأريحية والبشرة البيضاء الصافية، ناهيك عن الزمرديتين اللتين تتوهجا ببريقٍ بارع.

مد قصي يده والتقط يد عروسه، ثم انحنى قليلا وقبلها بحب، ثم حل محل والدها وتقدم بها ليرقصا سويا على أنغام أغنية من أجمل ما غنت قيثارة السماء ماجدة الرومي.

يُسمعني.. حـينَ يراقصُني
كلماتٍ ليست كالكلمات

يأخذني من تحـتِ ذراعي
يزرعني في إحدى الغيمات

والمطـرُ الأسـودُ في عيني
يتساقـطُ زخاتٍ.. زخات

يحملـني معـهُ.. يحملـني
لمسـاءٍ ورديِ الشُـرفـات

وأنا.. كالطفلـةِ في يـدهِ
كالريشةِ تحملها النسمـات

يحمـلُ لي سبعـةَ أقمـارٍ
بيديـهِ وحُزمـةَ أغنيـات

يهديني شمسـاً.. يهـديني
صيفاً.. وقطيـعَ سنونوَّات

يخـبرني.. أني تحفتـهُ
وأساوي آلافَ النجمات

و بأنـي كنـزٌ... وبأني
أجملُ ما شاهدَ من لوحات

يروي أشيـاءَ تدوخـني
تنسيني المرقصَ والخطوات

في هذه اللحظة همس قصي إلى سارة وهما يتراقصان بانسجام:
ـ أحبك سارة، هذا يكفي الآن، ولكن أعدك عندما عر
في هذه اللحظة همس قصي إلى سارة وهما يتراقصان بانسجام:
ـ أحبك سارة، هذا يكفي الآن، ولكن أعدك عندما نصل منزلنا سأقول ما لم يقله حبيب ماجدة الرومي الذي كان يروي أشياءا تدوخها وتنسيها المرقص والخطوات.

ابتسمت ودق قلبها بقوة وتشبثت به أكثر ، بينما ضمها هو إليه أكثر وأكثر وأكملا رقصتهما الأولى وقد انفصلا عن الواقع تماما وسبحا ببحر من الخيال.

لم ينتبها إلى حبيب الذي سحب يد عروسه الفاتنة وضمها إليه ووقفا يشاركان ابنتهما فرحتها، ولا إلى ممدوح الذي انضم إليهم وبرفقته فلة ذات الشباب الدائم والتي كانت تشعر أنه فعلا أم العريس، ليست مجرد زوجة والده، لا قصي قد احتل مكانة الابن بقلبها منذ زمن وفرحتها به اليوم فرحة صادقة نابعة من القلب.

وعلى طاولة مستديرة كبيرة اجتمع كلا من بنات ممدوح، زينة وزهرة وزمرد، وبجوارهن البرنسيسة حلا أحلى فتيات الكوكب كما يلقبها والدها، وبجوارها الأنيق سند الذي صمم أن يرتدي كما يرتدي والده تماما، حتى أنه يستعمل نفس عطره ويصفف شعره تماما كما يصففه والده فكان أشبه بقاسم على هيئة مصغرة.. وبجوارهم أيضا أسيل وعلى اللذان حضرا مع والديهما بعد أن تمت دعوتهما رسميا من قبل الدكتور ممدوح والسيد حبيب.

حين التقيتك عاد قلبي نابضاً
وجرى هواكَ بداخلي مجرى دمي

وشعرتُ حضنك دافئاً ورأيتني
رغم الحياﺀ أذوب فيه وأرتمي

كانت حياة تتغنى بتلك الكلمات وهي تحيط عنق قاسم بيديها وهما يرقصان سويا وقد شاركا الثنائيات التي انضمت لمشاركة العروسين.. لتتسائل بعشق وهي تردد ما تبقى من كلمات الأغنية وتقول:
ـ قل لي أيا رجلاً لأي قبيلةٍ
ولأي عصرٍ أو لجنسٍ تنتمي

ابتسم قاسم الذي يمعن النظر بعينيها الكهرمانيتين غارقا في عشقهما مأخوذا بسحرهما ممتد المفعول ويقول مساهما :
ـ ولمن تعود أصول عينيكِ التي
أضحت قناديل الضياﺀ بعالمي

لقراءة و متابعة روايات جديده و حصريا اضغط هنا

•تابع الفصل التالي "رواية حب في الدقيقة 90" اضغط على اسم الرواية

تعليقات