رواية الجدران الناطقة الفصل السادس 6 - بقلم مريم عثمان

 رواية الجدران الناطقة الفصل السادس 6 - بقلم مريم عثمان

لم تستطع آنا النوم طوال الليل، ظلت تتقلب في فراشها حتى أشرقت الشمس معلنةً بداية يوم جديد، لكن عقلها ظل عالقًا في ذكريات ذلك اليوم المشؤوم
كانت تقود سيارة والدتها متجهة إلى المكتبة القومية، ظنًا منها أنها ستجد إجابة لأسئلتها هناك، علَّ ما يحدث معها ليس مجرد أحلام أو تهيؤات من صنع عقلها الباطن ولكن فجأة، ظهرت شاحنة ضخمة من العدم، لتخترق طريقها، ولم تشعر إلا والعالم من حولها يتلاشى الطريق الذي كانت تسير عليه اختفى، والمباني التي تحيط بها تبخرت، وحل محلها صحراء قاحلة تمتد إلى ما لا نهاية، تملؤها أعشاب جافة متناثرة
شعرت آنا بدوار شديد، وباتت الرؤية أمامها مشوشة، ثم خيم الظلام على عينيها وسقطت مغشيًا عليها
آنسة آنسة، هيا استيقظي جاءها صوت رجل غريب يهزها برفق
جرب أن ترش عليها بعض الماء، ربما تفيق، قال صوت آخر
هل تظن ذلك؟ أعطني إذن
لم يكن هناك وقت للنقاش الطويل، فقد كان أحد الرجلين متوترًا بشكل واضح، بينما الآخر بدت على ملامحه علامات القلق والتردد
لماذا لا تفيق؟ ما هذه الكارثة التي حلت بنا؟ قلت لك إنه لا يجب الدخول من تلك البوابة صاح الأول غاضبًا
اصمت ستسمعنا، لقد بدأت تستيقظ، همس الآخر محاولًا تهدئته
شعرت آنا بألم شديد في رأسها وهي تفتح عينيها ببطء، لتجد وجهين يحدقان بها
آه رأسي ما الذي حدث؟ أين أنا؟ ماذا؟
هذا ما ينبغي علينا سؤالك إياه ماذا تفعل فتاة في عمرك وحدها في مكان كهذا؟ قال أحد الرجلين بحدة
ارتبكت آنا وهي تتلفت حولها في ذهول أين أنا؟ لا أعلم ما الذي جاء بي إلى هنا كنت متجهة إلى المكتبة القومية وفجأة ظهرت أمامي شاحنة، حاولت تفاديها، وبعدها بعدها وجدت نفسي هنا أين سيارتي؟
نظر الرجلان إلى بعضهما بتوجس، وكأنهما يعلمان أكثر مما يريدان أن يظهراه
ما هذه الورطة التي أوقعنا أنفسنا فيها؟ تمتم الأول بصوت خافت
سيقضي علينا إلا إذا قال الآخر وهو يحدق بها نظرة غامضة
آنا شعرت بالريبة، وقلبها أخذ ينبض بجنون بماذا تتهامسان؟ أين سيارتي؟ وأين أنا؟
لا تقلقي، آنسة، كل شيء سيكون على ما يرام أنظري هناك، هذه سيارتك لكنها لم تعد صالحة للاستخدام أشار أحد الرجلين إلى سيارة محطمة على بعد أمتار قليلة
يا إلهي ستقتلني أمي ماذا سأفعل الآن؟ شهقت بفزع
قهقه الرجل الأول بسخرية: البشر وغباؤهم تخافين على السيارة ولا تأبهين لما أنتِ فيه؟ ثم أضاف بتهكم: أنتِ في وسط صحراء قاحلة، لا يوجد حولكِ سوى الرمال وأشواك الحنظل ونحن الثلاثة إن تركناكِ هنا، ليس لديكِ خيار سوى الموت عطشًا أو انتظار حلول الظلام ومواجهة الوحوش المفترسة أو ربما الموت بطريقة أخرى أكثر إيلامًا
كف عن إخافتها، أيها الأحمق قاطعه الآخر بصرامة، ثم التفت إلى آنا وقال بلطف مصطنع: نحن ذاهبون إلى المدينة، بإمكاننا أن نوصلكِ إلى هناك، وبعدها يمكنكِ تدبر أمركِ بنفسكِ
لكن ماذا عن سيارتي؟ لا يمكنني تركها، أمي لن تسامحني إن عدت من دونها
إن أردتِ، يمكننا الاتصال بشركائنا ليأتوا ويأخذوها إلى ورشتنا نحن نعمل في مجال السيارات، يمكننا إصلاحها رغم أنني أشك في ذلك، فقد أصبحت مجرد كومة خردة قالها الأول وهو يضحك ضحكة خبيثة
لكن يجب أن أصلحها بأي ثمن، تمتمت آنا بيأس
لا تقلقي، سنهتم بالأمر لكن علينا الرحيل الآن هيا، اصعدي إلى الشاحنة قال الآخر، مشيرًا إلى شاحنة سوداء متوقفة على مقربة منهم
شعرت آنا بتوجس غريب وهي تنظر إلى الشاحنة، ثم اتسعت عيناها في رعب أليست هذه الشاحنة التي صدمتني؟
تبادل الرجلان نظرات سريعة، ثم قال أحدهما ببرود: لا، ليست هي
كانت هناك نبرة كاذبة واضحة في صوته نظرت إليهما آنا بتوتر، لكن لم يكن أمامها خيار سوى الركوب معهما
تحركت الشاحنة عبر الطريق الرملي، وأخذت آنا تتفحص الرجلين بحذر أحدهما كان يقود بهدوء، بينما الآخر كان ينظر إليها بين الحين والآخر بجمود مريب
من أنتما؟ وأين نحن؟ سألت بصوت مرتجف
لسنا من هنا أما عن مكاننا لن يفيدكِ معرفته، قال السائق بلهجة مبهمة
وفجأة، سمعت آنا صوت صراخ خافت، كأنه بكاء طفل
هناك أحد يصرخ قالت بقلق وهي تلتفت نحو الجزء الخلفي من الشاحنة
ارتبك الرجلان، وبادر أحدهما بالرد بعصبية: لا، لا يوجد أحد أنتِ تتخيلين
لكنني سمعت صوت طفلة تصرخ أقسم لكم بذلك قالت بإصرار
انفجر أحد الرجلين غضبًا، وصرخ فيها: قلت لكِ لا يوجد أحد إن فتحتِ فمكِ مجددًا سأقتلكِ
ارتعدت آنا خوفًا، لكنها لم تستطع منع نفسها من ملاحظة شيء آخر الرجل الذي كان يجلس بجانبها التفت إليها، وعيناه بدتا وكأنهما تتوهجان بلون أحمر قانٍ، وكأن الدم يقطر منهما
أريد أن أنزل أنزلوني فورًا صاحت بذعر
لكن قبل أن تستطيع فعل شيء، التصق وجه شاحب ودامٍ بزجاج النافذة المجاورة لها كانت فتاة مشوهة، بشعر متشابك، وجسد مغطى بالجروح النازفة، تحدق بها بعينين واسعتين مليئتين بالغضب
صرخت آنا بأعلى صوتها، ثم فجأة استيقظت لتجد نفسها في غرفتها، والمنبه يرن معلنًا الساعة السابعة صباحًا
لكن هل كان مجرد كابوس؟ أم أن شيئًا ما من ذلك العالم لا يزال يطاردها؟
آنا لم تستطع استيعاب ما حدث، قلبها ينبض بجنون وهي تحدق في الضابط وكلماته تتردد في رأسها كصدى كابوسي لا ينتهي كيف لسيارتها أن تظهر في تلك الصحراء؟ كيف توقّع على شيء لم تفعله؟ ولكن الأسوأ لم يكن هنا… الأسوأ كان يكمن فيما لم يقله الضابط

عادت إلى المنزل مع والدتها، لكنها لم تستطع النوم، تلك الفتاة ذات الوجه النازف، العيون الحمراء المشتعلة بالغضب، الأصوات المكتومة التي سمعتها في الشاحنة… كانت كلها حقيقة ليست مجرد كوابيس ليست تهيؤات
في منتصف الليل، ارتفع صدى صوت أنين خافت في الغرفة، كأن هناك من يلفظ أنفاسه الأخيرة عند قدم سريرها جسدها تجمد في مكانه، لم تستطع حتى التنفس، وحدها عيناها تحركتا ببطء نحو مصدر الصوت… وهناك، في زاوية الغرفة، رأت شيئًا جعل الدم يتجمد في عروقها
جسد الفتاة النازفة، كان يقف هناك، نصفه غارق في الظلام، نصفه الآخر مكشوف تحت ضوء القمر المتسلل عبر النافذة تلك العيون… لم تكن بشرية، كانت سوداء كحفرة لا قرار لها، والدم يقطر من فمها المفتوح في شبه ابتسامة مريعة
آنا لم تصرخ، كان الخوف قد سلب منها حتى القدرة على الصراخ، لكن جسدها تحرك لا إراديًا إلى الوراء، اصطدمت رأسها بلوح السرير الخشبي فأصدرت صوتًا عالياً
وفي تلك اللحظة… قفز الكيان عليها
صرخة مرعبة هزّت المكان، لكن الغريب أن لا أحد سمعها، لا والدتها، لا أحد… كأن العالم تجمد في تلك اللحظة، كأن الغرفة نفسها أصبحت سجنًا مغلقًا لا صوت فيه
شعرت بأظافر حادة تمزق جلدها، أنفاس حارة كريهة تقترب من وجهها، وصوت هامس يزحف إلى أذنيها كدودة سامّة:
أنتِ السبب… أنتِ فتحت البوابة… وأنتِ ستدفعين الثمن…
وفجأة، اختفى كل شيء
استيقظت آنا على سريرها، قلبها يكاد ينفجر، جسدها يرتجف بجنون، لكن هذه المرة لم يكن الأمر مجرد حلم هناك علامات واضحة على ذراعيها… آثار أظافر محفورة في جلدها، تنزف ببطء
اللعنة… هذا ليس حلمًا
ارتجفت يداها وهي تلمس الجروح، شعرت برائحة الدم تملأ أنفها، وعندما نزلت من السرير… لاحظت شيئًا جعل جسدها كله ينهار رعبًا
هناك آثار أقدام دامية… تبدأ من زاوية الغرفة، حيث كان يقف ذلك الكيان… وتمتد حتى باب غرفتها
لكن الأفظع كان شيئًا آخر…
آثار الأقدام… لم تكن تخرج من الغرفة بل كانت تدخل إليها
(يتبع…) عرض أقل

•تابع الفصل التالي "رواية الجدران الناطقة" اضغط على اسم الرواية

تعليقات