رواية لم يبقى لنا الا الوداع الفصل الخامس 5 - بقلم منى احمد
(5) للحُلم الغلبة.
ظلت منار على وضعها بجواره بملامح هادئة تخفي ألمها وحزنها بداخلها بمهارة وتركت يدها بين أصابعه وعقلها يتساءل إلى متى ستظل ملتزمة الصمت معه، في حين حاول أمجد إيجاد اللحظة المناسبة ليسألها عن دراستها ووجد أن عليه الإسراع قبل أن تظهر نتيجتها وتضعه أمام الأمر الواقع فضغط كفها ومرر إصبعه فوق باطنه ببطء فنظرت نحوه بقلق فابتسم لردة فعلها وزادها عليها بتقبيله إياها ببطء فجذبت منار يدها منه وحذرته بنظراتها فمال نحو أذنها وأخبرها بصوتٍ أجش:
- مراتي وحقي أعمل اللي أكتر من كده ومحدش يقدر يسألني بعمل إيه؟
طالت نظرتها نحوه لا تصدق جرأة حديثه وراودتها الرغبة بمحو ابتسامة الثقة التي ارتسمت بعينه فَأردفت:
- مراتك ومحدش يقدر يقول حاجة لكن أنا لسه فِبيت والدي وطول ما أنا فِبيته فالولاية له لحد ما يسلمني ليك فالفرح ووقتها يبقى من حقك تعمل اللي أكتر من كده، إنما قبل كده لا يا أمجد ومش علشان بابا هَيعترض لا علشان أنا اللي هَعترض وهَرفض أصغر من بابا مهما قلت أنه حقك.
تلاتشت ابتسامته وعقد حاجبيه وهتف بحدة:
- قصدك إيه بالكلام دا يا منار؟
جائتها الفرصة لتبادله الابتسام فَابتسمت بتهكم وأردفت:
- أنا مقصدش حاجة من كلامي إلا أني حبيت الفت نظرك لِوعدك لِبابا ولا نسيت كلامك عن الصبر والتحمل علشان نقدر نرجع ثقة بابا لينا، عمومًا متزعلش من كلامي أنا عارفة وفاهمة أنه حقك بس كنت عايزاك تهدى مش أكتر علشان محدش يطب علينا ويحرجنا.
زادته كلماتها ريبة فزفر بقوة وابتعد قليلًا عنها وأردف:
- تمام يا منار طالما شايفة كده فأنا هعمل اللي أنتِ عايزاه.
ربتت ساقه وأردفت بسخرية مُبطنة:
- اللي عايزاه أنك تبقى راضي ومش زعلان علشان متمشيش من هنا وتغيب لك أسبوع ولا شهر زي ما عملت سابق.
رمقها بغيظ ووقف سريعًا فَرفعت وجهها نحوه وسألته ببرود:
- إيه خلاص ماشي بسرعة كده؟
رماها بنظرة نارية وأجابها بحدة:
- أيوة هَروح يا منار علشان مصدع وتعبان واليوم كان مرهق.
وقفت وأومأت قائلة:
- تمام أبقى طمني عليك لما توصل.
كاد يصفعها لبرودة مشاعرها التي عادت لِتسيطر عليها فَمالت نحوه وأردفت:
- هدي نفسك وأفرح هو مش المفروض أنك تفرح علشان النهاردة حققت اللي كان نفسك فيه وارتبطنا، فَسيبك من العصبية والزعل وقولي ناوي تخرجني بكرة ولا هتبقى مشغول.
أجابها وهو يتجه صوب الباب:
- على حسب ظروفي عمومًا هبقى أتصل بيكِ.
أوقفته قبل أن يغلق الباب خلفه قائلة باستخفاف:
- طب لما ترن عليا من رقمك الجديد اللي مش معايا أبقى ابعت رسالة الأول علشان أعرف أنه رقمك علشان أنا فعلت خاصية عدم الرد على الأرقام الغريبة.
اختفى من أمامها دون إجابة حينها نزعت قناع برودها وَزفرت بأسف فهو لم يشعر ولو لوهلة بحزنها واحتياجها ليضمد انكسارها منه، فَاستدارت إلى غرفتها وولجتها وقفت أمام المرآة ونزعت ثوبها عنها وكأنه صنع من الشوك والقت به بزاوية الغرفة باهمال وارتدت منامتها واندست بفراشها وسحبت غطائه فوق رأسها واستسلمت للبكاء.
وكم توقعت غاب عنها بضعة أيام هاتفها خلالها مراتٍ قليلة وكان الفتور سيد الموقف بينهما حتى ظهرت نتيجتها التي جأت كالغيث بعد طول جفاف ووقفت أمام والدها تبكي وتقول:
- أنا مش مصدقة أني نجحت، أنا حاسة إن ربنا هيعاقبني على اللي عملته و...
منعها والدها من قول المزيد مُردفًا:
- استغفري ربنا يا بنتي علشان ربنا مبيضيعش تعب حد وأنتِ ذاكرتي وتعبتي وعملتِ اللي عليكِ، ولو قصدك على اللي فات فهو فات وأنتِ توبتي عنه ودلوقتي يلا قومي كلمي أمجد وفرحيه وبطلي عياط بقى.
حافظت منار على ابتسامتها كي لا يسائلها والدها عن سبب فتورها وعزوفها عن الحديث معه والتقطت هاتفها لِتمنعها شقيقتها بقولها:
- أبيه أمجد برا يا منار وعايز يشوفك.
غادرت مسرعة على الرغم من استيائها منه ووقفت أمامه بلهفة وكما تمنت سرًا احتضنها وهو يهنأها بنجاحها فَتشبثت منار به وسمحت لِقلبها بِتجاوز حزنه والتمتع باللحظة معه، أوقفها أمجد أمامه ووتيرة أنفاسهما تعلو وتلاقت أبصارهم لثوان فَمال نحو جبهتها وقبلها وأسند جبهته إلى خاصتها وأردف بصوت أجش من فرط مشاعره:
- أول ما عرفت النتيجة مقدرتش أصبر وجيت لك جري وقلت لازم نحتفل بالمناسبة دي أنا وأنتِ فالمكان اللي تشاوري عليه.
ابعدت وجهها عنه وعيناها تسبح بعمق عينه فَرآت مشاعره تتاقفز لِتُخبرها بما يريد فعله معها فَخفضتها بحرج وأردفت:
- أنا يكفيني مجيتك يا أمجد وفرحتك بنجاحي صدقني دا عندي أحسن من أي أحتفال.
خفض ساعديه وأحاط بهم خصرها وأدناها منه وهمس:
- يعني أفهم من كلامك ونظرة عيونك اللي دوبتني دي أنك سامحتيني وِمبقتيش زعلانة مني وهَترجعي منار حبيبتي من تاني.
حدقت به بدهشة وتساءلت كيف علم بما أخفته عن الجميع، فَابتسم وغمز بِعينه لِيخبرها بِمعرفته أفكارها قائلًا:
- يا منار أنا بحبك من سنين وِعارفك وِعارف طبعك كويس، صحيح لما مشيت من هنا يوم كتب الكتاب كنت زعلان منك لكن لما هديت فهمت ليه اتكلمتِي معايا كده، وقلت بلاش أعاتبك وأصبر لما النتيجة تظهر علشان اعتذر بطريقة تليق بمراتي حبيبتي، وقبل ما دماغك تروح لِبعيد وتقولي ما أنت عاقبني وغبت عني فاسمحي لي أقولك أني طول الوقت دا كنت فِالشغل وطبقت أيام كتير ورا بعض علشان أقدر أحقق لك أي طلب تطلبيه النهاردة.
نظرت له بدهشة وسألته:
- وأنت اشتغلت من أمته يا أمجد وأنت يا دوب لسه مخلص امتحانات؟
أبعد ذراعيه عنها ورفعهما وأشار إلى صدره وأردف:
- وهو جوزك حاجة قليلة يا منار، يا حبيبتي أنا الحمد لله اشتغلت في مؤسسة كبيرة من قبل ما اخلص امتحانات.
رافق أمجد قوله بِأشار إلى رأسها مُستطردًا:
- أومال بدماغك وتفكيرك كده هكون يعني بصرف منين ولا اشتريت لك فستان كتب الكتاب منين يا ذكية إلا لو كنت بشتغل.
قفز منار بسعادة واحتضنته قائلة:
- أنا مبسوطة يا أمجد علشان أشتغلت طب تصدق فرحتي بِشغلك غلبت فرحتي بِنجاحي، ياه يا أمجد لو أغمض عيني والقيني أنا كمان خلصت هندسة زيك واشتغلت.
أصابه قولها بالتوتر وأبعدها عنه وأشار بِرأسه إلى غرفة والدها فَخفضت عينها بوجنة مشتعلة فمال نحوها وأردف:
- ما تيجي نطلع فوق نتكلم براحتنا بدل ما أنا واقف اتلفت حواليا زي ما كنتِ بتعملي زمان؟
ازداد وجهها احمرارًا وأخبرته أنها ستسأل والدها فأذن لها بعدما أوصاها أن ترعى الله بخلوتها معه، فَأومأت بحرج ورافقته إلى الأعلى وجلست بجواره وأحست للمرة الأولى أنها لا تخشى عين مراقب، فَأدركت أن لا شيء يتساوى والحلال لينتشلها صوت أمجد الجاد بسؤاله:
- إلا قوليلي يا منار أنتِ لسه ناوية على هندسة؟
لوهلة أحست بالحيرة فهو يعلم رغبتها منذ نعومة أظافرها فَلِما يسألها وكأنها ستغير رغبتها بين ليلة وضحاها وعقبت على قوله بما يؤكد أفكارها:
- غريبة أنك بتسأل وأنت عارف إن الهندسة حلمي!
حاول أمجد أن يخفي توتره وأردف:
- أنا عارف بس أفتكرت علشان الظروف والوضع هَتغيري رأيك وتدخلي حاجة تانيـ..
اعتدلت منار بجلستها وقد سيطر عليها الوجوم وقاطعته قائلة:
- وإيه اللي غير الوضع ولا الظروف يا أمجد علشان أدخل حاجة تانية غير هندسة؟
واجهها بعبوس طفيف وأردف:
- هو أنا ليه حاسس بنبرة هجوم فِصوتك كأني بقولك بلاش هندسة، على فكرة أنا بتناقش معاكِ عادي ومش قصدي حاجة يعني.
تطلعت نحوه بحيرة تتساءل عن سبب النقاش وحلمها أمر مفروغ منه لا جدال فيه فَهي سعت ووفقها الله وحانت اللحظة لها فَلِما لا؟ أعادت منار تركيزها عليه وسألته بهدوء:
- طيب ممكن تفهمني قصدك علشان مفهمش غلط؟ لأني بصراحة مستغربة كلامك.
زفر بقوة وخلل شعره بأصابعه وأردف:
- بصي يا منار أنا اللي خلاني أتكلم هي الظروف اللي دايمًا كنتِ بتحكي لي عنها، زي ديون عمي شُهدي اللي لحد دلوقتي بيسدد فيها ومصاريف الدروس والدراسة والبيت، وعلشان أنا كنت فِالكلية فَعارف اللي فيها فَقلت لِنفسي ألفت انتباهك إنها كلية مجهدة نفسيًا وبدنيًا ومحتاجة مصاريف كتير، ومقصدتش أني أحبطك ولا أثبط عزيمتك زي ما حسيت فِكلامك.
بدل أمجد لهجته إلى أخرى أكتر نعومة وأستطرد قائلًا:
- وبعدين أفرضي إن عندي أسباب غير اللي قلتها وطلبت منك متدخليش هندسة بالذات علشان بغير عليكِ وهَغير أكتر من الشباب اللي فيها اللي مش بيسيبوا بنت حلوة فِحالها، ولا مثلًا قلت لك بلاش من باب تقليل عدد سنين الدراسة علشان نتجوز بسرعة، وأني كده كده مش عايزك تشتغلي ولا تتبهدلي وطمعان تبقي ليا لوحدي وتبقي فبيتك ملكة معززة مكرمة، كنتِ وقتها هتقولي إيه؟
رمقته للحظات لا تدري لِما شعرت بالخوف يتسلل إليها بسبب نظراته وكلماته التي تبدلت كُليًا عن الماضي؟ فهو حفزها على مدار سنوات لِتنجح وتلتحق به وتكون المهندسة منار زوجة المهندس أمجد، والآن وبعد أن باتت على أعتاب حلمها يُثنيها عنه، زفرت منار بخيبة وأطرقت تفكر وتتساءل أعليها الإنصات له والتفكر بِحديثه ونسيان الأمر برمته أم تتشبث وتعافر حتى تنال ما تصبو إليه، ازداد صراعها خاصة حين لاحت أمامها صورة والدها الذي غزى الشيب رأسه واحنى ظهره وزاده الدين عمرًا فوق عمره ليظنه الأخرين كهلًا تخطى الستين وهو على مشارف الخمسين.
وبغرفتها اكتفت هالة من تمردها الذي عزلها عن الجميع فاتجهت بخطى مضطربة صوب غرفة والدها وطرقت بابه بقلب يرجف خوفًا، وحين أذن لها بالدخول وقفت أمامه تشعر بالخجل لعنادها ولخسارتها كل هذا الوقت بعيدًا عن حنانه وحبه الذي أغدق به على الجميع ورفضته طواعية، ولاحظها شُهدي فقرر اتخاذ خطوته الأولى نحوها ليدفعه بها نحو الطريق القويم وفتح ذراعيه ليستقبلها بينهما فأسرعت وتشبثت بفرصتها ولاذت بين أمان ذراعيه وسكنت وهمست بانكسار:
- سامحني يا بابا...
ضمها شُهدي بمحبة رابتًا ظهرها بحنو واعطاها وقتها حتى فرغت من بكائها وأردف:
- أنا مسامحك من يوم ما اتكلمت معاكِ يا هالة والأهم من أني اسامحك أنك أنتِ تكوني مسامحة نفسك علشان تقدري تجهادي نفسك.
أجلسها شُهدي جواره وكفكف دموعها وأضاف:
- أنا بحمد ربنا إنه استجاب لِدعايا وهداكِ يا بنتي لأني مكنتش أحب أشوفك خسرانة دنيتك ودينك، وصدقيني ندمك على الغلط اللي عملتيه فِحد ذاته توبة وربنا بِيقبل التوبة وبِيغفر الذنوب بس المهم إن متجرعيش للغلط تاني، وعلشان أكون صريح أنتِ لازم تأهلي نفسك إن الشيطان مش هَيسيبك فِحالك وهَيحاول يرجعك ويغويكِ وعليكِ أنك تثبتي وتقاوميه بِصلاتك ورجعوك لِحفظ القرآن والدعاء.
زفرت هالة بحزن وسألته:
- يعني ربنا فعلًا هَيسامحني وهَيقبل توبتي؟
أومأ شُهدي وأكد لها بالكثير من آيات الذكر الحكيم وأخبرها بأنها ما زالت بمقتبل العمر والحياة أمامها، وعليها الفوز بكل فرصة تقربها إلى الله وتجنبها الشيطان وأن تسعى وتتغير وسترى بعينها نتيجة صلاحها التي ستنعكس على حياتها في كل شيء، ضمته هالة ووعدته بمجاهدة نفسها وغادرته إلى غرفتها واقتربت على استحياء من توأمها ووقف أمامها بحرج، فَنظرت نهلة إليها ووقفت بمواجهتها واحتضنتها قائلة:
- وحشتيني يا نصي الحلو.
أجابتها هالة بدموع:
- وأنتِ كمان وحشتيني يا نهلة ووحشني نرجع زي ما كنا توأم فِكل حاجة.
ربتت نهلة ظهر شقيقتها وأردفت:
- وهَنفضل توأم فِكل حاجة بس مع الأختلاف أننا هَنحفظ القرآن سوا وهَنذاكر سوا ونلعب ونهزر ونضحك ونتكلم مع أخواتنا سوا، ونعمل فيهم المقالب بتاعتنا ونحيرهم زي زمان مين فينا نهلة ومين فينا هالة إيه رأيك؟
ابتسمت هالة وأومأت بِموافقتها في اللحظة نفسها التي ولجت رنا ولكنها توقفت حين رأتهم سويًا فظنتهما سيبتعدان عنها كالسابق إلا أنها نفضت هاجسها حين جذبتها هالة نحوها وأردفت:
- وحشتني لمضتك يا شبر ونص أنتِ.
تصنعت رنا العبوس وعقبت عليها وهي تصعد فوق فراش نهلة:
- الشبر ونص طولت وبكرة هَطول بجد وهَتبقي أنتِ اللي شبر وربع مش حتى نص.
هاجمتها هالة مدغدغدة إياها بينما أسرعت نهلة والتقطت وسادتها وأنهالت عليهما ضربًا بلطف فتحول الأمر بلحظات إلى حرب وسادات ولهو واترفعت أصوات ضحكات سعادتهم.
بينما بالأعلى حاولت منار رؤية الأمر بزاوية أخرى وقررت التفكير بوجهة نظر أمجد لتتأكد من صواب رأيه، فَوالدها حتى اللحظة لم يسدد دينه وبسبب ما حدث منها أهمل عمله وترك إحدى وظيفتيه لِيبقى برفقتهم لِوقت أطول، وتذكرت حديث والدها عن تبديل حلمها لِتدرك أنها كانت رسالة مبطنة منه ولكنها لم تفهمها إلا الآن بعد أن أنار لها أمجد الطريق، فَرفعت عيناها ونظرت إلى ملامح وجهه العابسة ورأت أن عليها إصلاح الأمر وسألته:
- مقولتليش يا أمجد هتخرجني فين؟
نظر إليها ورأى ابتسامتها فأجابها بهدوء حذر:
- لو فدماغك مكان معين أنا تحت أمرك، ولو مافيش يبقى أمري لله أوديكِ جنينة الحيوانات وخلاص.
عقبت على قوله بمزاح بعدما استجاب لِمحاولة الصلح:
- لا يا عم جنينة إيه بص أنا عايزة أروح مكان على النيل ويبقى رومانسي وتجيب لي ورد، أيوه أنا عايزة ورد يا ابراهيم.
تبادلا الضحكات وتنهدت بارتياح وأردفت بجدية بعدما تمسكت بِكفيه:
- تعرف إن أنت معاك حق وتقريبًا كده أنا مكنتش شايفة الإشارات أو يمكن شوفتها وطنشت بس بعد كلامك معايا اقتنعت.
سألها أمجد بريبة:
- اقتنعتِ بإيه؟
أجابته بوجه خضبه الخجل:
- اقتنعت أأقل سنين الدراسة علشان أبقى ملكة فِبيت حبيبي ولا أنت غيرت رأيك؟
اتسعت ابتسامة أمجد وسحب كفيه منها وأحاط وجهها بهما وأردف:
- يعني مش هتقدمي هندسة وهتشوفي حاجة سهلة ممكن تخلصيها واحنا متجوزين.
أومأت بحرج فَصاح أمجد بصوتٍ عال:
- أنا بحبك يا منار بحبك بحبك بحبـــك...
مدت يدها ووضعتها فوق شفتيه لِتمنعه من الصياح وهي تخبره بأن يكف فَأبعد يدها ونظر إليها للحظات وجذبها لِتقف وسحبها خلفه نحو الأسفل، فَسألته بقلق عما حدث ولكنه لزم الصمت حتى أصبح أمام مسكنها وفاجئها بِإخراجه مفتاح مسكنه وفتح بابه وولج بها إلى الداخل وأغلق الباب ووقف يلاحق ملامحها ملتهمًا بنظراته شفتيه وبإنفاس متهدجة ضمها بقوة بين ذراعيه، استكانت منار بقلب يرجف ونظرت نحوه بحيرة حين أبعدها عنه وقبل أن تعي اقتحم شفتيها وقبلها فَسكن كل شيء حولها وتاهت منار بقبلته التي داعبت مشاعرها البكر، ولم تدر كم لبثت بين ذراعيه يمطرها بقبلاته إلا حين دفعها بلطف تجاه إحدى الغرف فاستيقظت حواسها وأبعدت عنه وولاته ظهرها تلملم مشاعرها المبعثرة التي أثارها بداخلها، ولكنه لم يمهلها الوقت لِتفكر بالأمر وأدارها إليه ومرر إصبعه ببطء فوق شفتيها واحتواها بين ذراعيه ومال صوب أذنها هامسًا:
- مقدرتش أمنع نفسي أعمل إيه مشاعري غلبتني واحتياجي ليكِ هو اللي خلاني أنسى نفسي معاكِ، أعذريني يا منار أنا بشر وأنتِ مراتي حلالي وبين أيديا.
تنفست بقوة لتحتوي تشتتها وأجابته:
- عارفة يا أمجد بس.
أسكتها بقبلة آخرى وهو يهمس بحبه لها وبعد نحو الدقيقة أبعد وجهها وأردف:
- متقوليش بس تاني ومتخافيش أنا عارف اللي دامغك بتفكر فأيه واطمني مش هعمل أي حاجة تحرجك قصاد عمي، بس الأمر ميمنعش أني أعيش اللحظة زي ما حلمت بيها معاكِ.
أومأت بتفهم وابتسمت بحرج وأردفت:
- طيب مش يلا بينا قبل ما حد يلاحظ إننا مش فوق و...
فجأة انتبهت منار لمكان وقوفهما فأوقفت استرسالها وجالت بعينها تتفحص محتويات شقته وعادت ببصرها إليه وسألته بحيرة:
- أمجد هو مش أنت قلت أنك بعت الشقة؟
زجر أمجد نفسه لِنسيانه الأمر ولكنه سارع بتصحيحه قائلًا:
- بصراحة أنا قلت كده لِعمي علشان يهدى شوية من ناحيتي ويبطل خوف عليكِ مني.
تعجبت منار فَوالدها لم يعقب على أمر سكنه من قبل ولكنه الآن كلف نفسه ثمن مسكن آخر فأعربت عن مخاوفها قائلة:
- بس أنت كده أرهقت نفسك بمصاريف زيادة أنت أولى بيها فالوقت الحالي يا أمجد، وبعدين بابا مكنش فنيته يطلب منك تبعد ولا تمشي؟
أجابها أمجد عن سؤالها الذي قرأه بعيونها:
- مافيش أرهاق أنا أصلًا متكلفتش مصاريف وقاعد بشقة تبع المؤسسة، المهم أنا هطلع الأول أراقب الجو على ما تدخلي الحمام ترتبي نفسك وتخرجي من غير ما حد يلاحظ، ويا ريت يعني لو يفضل موضوع الشقة سر بينا ومحدش يعرف بيه ممكن.
رافقها أمجد إلى داخل منزلها وجلس بجوارها يشاكسها حتى أزف موعد مغادرته فوقف قائلًا:
- هعدي عليكِ بدري علشان نقضي اليوم من أوله مع بعض علشان الفترة الجاية طالع مأمورية تبع المؤسسة واحتمال أغيب أسبوعين أو تلاتة، فأدعي لي زي أي زوجة مصرية أصيلة إن ربنا يوفقني فالمأمورية علشان لو تمت زي ما أنا عايز هَتنقل نقلة تانية خالص.
وفي صباح اليوم التالي أيقظ أمجد ليان بقبلاته ففتحت عيناها وابتسمت له قائلة:
- صباح الخير يا حبيبي.
قبل أنفها وأردف وهو يجذبها لتجلس بين ذراعيه:
- حبيبي عايزك لما تفوقي تجهزي نفسك علشان هنسافر بالليل زي ما وعدتك، أنا خلاص رتبت كل حاجة وهخدك فرحلة هنسيكِ بيها الدنيا كلها.
صفقت ليان بيدها كالأطفال واحتضنته قائلة:
- بجد يا أمجد هنسافر سوا خلاص.
أومأ مبتسمًا وأردف:
- أيوه بجد يا قلب أمجد المهم أنا هقوم دلوقتي أخلص شوية مشاوير وهتصل بيكِ علشان نروح نتعشى سوا وبعدها نطلع على المطار.
قبلته بسعادة قائلة:
- هو أنا قلت لك أني بموت فيك.
جذبها نحوها ومددها بجواره ومال فوقها قائلًا:
- لو على القول فسيبيني أنا أقولها بالفعل يا قلب أمجد.
---
بعد ساعات جال أمجد برفقة منار أماكن عديدة حتى شعر كلاهما بالتعب فأشار إلى أحد المطاعم وأردف:
- إيه رأيك لو ندخل نشرب حاجة ونرتاح من اللف شوية.
أومأت وهي تتكأ إلى ساعده ورحبت قائلة:
- أنا موافقة نقعد فأي مكان المهم نرتاح أحسن أنا تعبت بجد يا أمجد.
جلس بجوارها بإحدى الزوايا البعيدة بعدما تفحص المطعم بعينه وأردف:
- ها قوليلي مبسوطة يا حبيبتي ولا تحبي أعيد لك البرنامج من أوله.
وضعت منار رأسها فوق كتفه واحتضنت كفه قائلة:
- أنا مش مبسوطة وبس أنا هطير من السعادة يا أمجد، حقيقي اليوم حلوة جدًا واللي محليه أني معاك وماشية إيدي فأيدك من غير ما أخاف.
وضع أمجد يده فوق يدها وربتها قائلًا:
- ليكِ عليا لما أرجع من المأمورية أخدك ونسافر اسكندرية نقضي اليوم كله هناك ونرجع آخر النهار إيه رأيك؟
أبعدت رأسها عن كتفه وسألته بلهفة:
- بجد يا أمجد هتخدني إسكندرية؟
أومأ مبتسمًا لسعادتها وأردف:
- ولو كان ينفع كنت حجزت لنا يومين هناك بس ملحوقة نعوضها فشهر العسل يا قلبي.
احمر وجهها واعتدلت قائلة:
- يا خبر أنا نسيت أننا وسط الناس و...
قاطعها أمجد بهزة طفيفة من رأسه قائلًا:
- متفكريش فأي حد وركزي جوزك حبيبك وبس، ودلوقتي قوليلي تحبي تاكلي إيه؟
مضى الوقت بهما سريعًا ورافقها إلى منزلها وغادر إلى وجهته وعينه تلمع ببريق النشوة والنصر، بعدما استطاع الفوز بكلاهما وسافر أمجد إلى الخارج بعدما أمن ضياء الرحلة بكامل.
قالوا من يأمن عجلة الحياة حين تدور فهو ساذج، ومن يظن أنه يملك من أمره شيء فهو غر.
ففي القاهرة جلست منار بجوار والدها يحاورها عن سبب رفضها الالتحاق بكلية الهندسة ولم تدر منار كيف تخبره دون إحراجه وجرحه وأطرقت برأسها أمامه فزفر شُهدي وابتعد عنها قائلًا:
- بصي يا منار دماغك قالت لك أغير الكلية علشان الفلوس فحطي فدماغك إن طول ما أنتِ فِبيتي فأنتِ وأخواتك ملزومين مني، ولو فاكرة إنك لما توطي راسك أني كده مش هعرف السبب تبقي غلطانة، واعملي حسابك لو مكتبتيش الرغبة الأولى هندسة أنا هقاطعك و...
هبت منار على قدميها وتشبثت بساعده وصرخت بخوف:
- لا يا بابا بالله عليك أوعى تقولها ولو على الكلية فأنا هعمل اللي أنت عايزه وهكتب الرغبة الأولى هندسة بس أرجوك بلاش تقاطعني دا أنا ما صدقت أننا نرجع زي الأول.
زم شُهدي شفتيه وأشاح بوجهه عنها ونظر إلى ابنته رنا التي جلست تتابع حوارهم وأردف:
- ما تقولي حاجة لأختك يا رنا ولا أنتِ هتفضلي قاعدة تتفرجي علينا وخلاص.
ابتسمت رنا حين غمز إليها والدها بعينه وأردفت:
- وهو في قول بعد قولك يا بابا عمومًا منار بنتنا عاقلة ومستحيل تفكر أنها تضيع حلمها وتزعلك.
وخصت رنا شقيقتها بنظراتها وأضافت:
- مش كده يا منار؟
ابتسمت منار وأجابتها ضاحكة:
- طبعًا يا ماما رنا وهو بنتكم منار تقدر تقول لا.
وهكذا تم لمنار ما تمنت والتحقت بركب كلية الهندسة بغفلة من أمجد الذي تاه عنه أن لكل حصانٍ كبوة ولكل فارس غفوة. عرض أقل
•تابع الفصل التالي "رواية لم يبقى لنا الا الوداع" اضغط على اسم الرواية