رواية الجدران الناطقة الفصل الخامس 5 - بقلم مريم عثمان
استيقظتُ على شهقة حادة، قلبي ينبض بجنون، وشعور غريب يسري في جسدي كأنني كنتُ عالقة بين عالمين، أحدهما ملموس والآخر… غارق في الظلام
نظرت حولي، كنت في غرفتي، فراشي مرتب كما تركته، لكن شيئًا ما لم يكن صحيحًا الهواء كان ثقيلاً، محمّلًا برائحة غريبة، مزيج بين عطر قديم ورطوبة عفنة، وكأن الغرفة تنتمي لزمن آخر شعرتُ بوخز بارد في رقبتي، تحسستها، وجدتُ هناك شيئًا… علامة
ركضتُ إلى المرآة، أزحتُ شعري بسرعة، وعندما نظرت… كانت هناك بصمة داكنة، أصابع صغيرة محفورة على جلدي كأن أحدًا أمسك بي بقوة ارتجفتُ، هذه لم تكن بصمتي، لم تكن بصمة إنسان طبيعي، كانت… لبقايا شيء لا يجب أن يكون هنا
أخذتُ نفسًا عميقًا، لكن صوتًا جعل الدم يتجمد في عروقي
أنتِ رأيتِنا… والآن، لن تخرجي من هذه القصة
كانت الهمسة تخرج من كل اتجاه، من الجدران، من الأرض، من الظلام المتسلل عبر النوافذ، وكأن البيت بأكمله قد تحول إلى كائن حي يراقبني… يتغذى على خوفي
ركضتُ إلى غرفة والدتي، كنت بحاجة لأن أراها، لأتأكد أنني لم أُحبس في كابوس آخر طرقت الباب بعنف، لكن لم يكن هناك رد فتحت الباب بحذر، والغرفة كانت… فارغة
السرير لم يكن يبدو كما تركته، بل بدا وكأنه لم يُستخدم منذ أيام، الغبار يغطي أطرافه، والهواء بارد بشكل غير طبيعي هرعتُ نحو الخزانة، فتحتُها، لم أجد أيًّا من ملابسها، فقط… فستان أسود قديم، معلق في المنتصف، يبدو كأنه يعود إلى زمن بعيد، تتساقط منه خيوط ممزقة، وتحته… حذاء طفولي صغير، مغطى بقطرات حمراء جافة
شعرتُ بالدوار، أمسكتُ برأسي، محاولًة استيعاب ما يحدث، لكن شيئًا جعل الدم يتجمد في عروقي
المرآة أمامي… لم أكن وحدي فيها
خلفي… كانت تقف تلك الطفلة
لكنها لم تكن كما رأيتها سابقًا لا ملامح بريئة، لا جسد شفاف هذه المرة، كانت واقفة هناك… كاملة عيناها كانتا سوداوين بالكامل، خالية من البياض، تلمعان كما لو كانتا مرآتين تعكسان شيئًا لا يجب أن أراه ابتسامتها… لم تكن بشرية، كانت طويلة بشكل غير طبيعي، تمتد حتى حدود وجنتيها، وكأنها قد خيطت بخيط أسود سميك، وبين شفتيها… أنصال حادة، كأن أسنانها تحولت إلى شفرات
حاولتُ الصراخ، لكن صوتي لم يخرج رأيتها تحرك رأسها ببطء، تميل نحو كتفي وكأنها تهمس لي بشيء، لكن قبل أن يصل صوتها…
أُغلقت الأضواء
وأدركتُ حينها… أنني لستُ في منزلي وأصبحت في كابوس ولعبة غريبة لن استطع الفرار منها الآن
ها هي آنا، جالسة في غرفتها، شاردة الذهن، تائهة بين أفكارها التي تحاصرها كالأشباح كانت الأسئلة تتناوب في عقلها كعاصفة لا تهدأ: من تكون تلك الطفلة؟ لماذا لم تخبر الرجل عنها؟ ومن يكون هذا الرجل القاسي؟ لماذا تعاملها بهذه الوحشية؟ ولماذا لا تظهر إلا لها وحدها؟ كان عليها اكتشاف السر، كان عليها أن تعرف الحقيقة، مهما كان الثمن…
بينما كانت غارقة في بحر هواجسها، فُتح باب الغرفة فجأة، ودخلت والدتها، ماريانا، وعلامات القلق مرتسمة على وجهها
ماريانا (بغضب مكبوت): آنا لماذا لم تخبريني أنك قد طُردتِ من الجامعة؟ لقد كنتِ تكذبين عليّ طوال هذا الوقت وتدّعين أنها إجازة منتصف العام، بينما الحقيقة أنك مفصولة منذ أسبوع هل بلغ بكِ الإهمال إلى هذه الدرجة؟ أين كنتِ كل هذا الوقت؟
رفعت ماريانا هاتفها ولوّحت به أمام وجه آنا، مضيفة بنبرة متهدجة:
لقد اتصل بي الأستاذ ندين وأخبرني بما حدث حاولتُ التوسط لحل المشكلة، لكنه طلب منكِ الحضور إلى مكتبه غدًا لتقديم اعتذار رسمي للدكتور عليكِ أن تكوني أكثر حذرًا، آنا، فأنتِ لم تعودي طفلة
حدّقت آنا في وجه والدتها، مشاعر مختلطة تتراقص في قلبها، لكنها أخفت كل شيء خلف قناع اللامبالاة
آنا (ببرود مصطنع): لم يكن الأمر بذلك السوء، يا أمي… لقد سرحتُ قليلًا أثناء المحاضرة، فطردني الدكتور لا تقلقي، أنا بخير، فقط مرهقة قليلًا، سأنام لبعض الوقت
لم تقتنع ماريانا، لكنها آثرت الصمت وخرجت، تاركة ابنتها وحدها… لكن آنا لم تنم
في تلك الليلة، وبينما كانت مستلقية على سريرها، شقّ الظلام الساكن صوتُ صراخٍ مخيف قادم من المنزل المجاور انتفضت آنا جالسةً، ثم ركضت إلى النافذة لتستطلع الأمر من خلال ستائر الليل الكثيفة، رأت رجلاً قصير القامة، وجهه مشوّه بندبة عميقة على جانب ذقنه، ممسكًا بحزام جلدي أسود غليظ، ينهال به ضربًا على جسد طفل صغير كانت الضربات وحشية، جسد الصبي كان متورمًا، الدماء تنزف منه بغزارة، لكن صوته بدأ يخفت… وكأنه يذوي
لم تتمالك آنا نفسها، هرعت خارج غرفتها واندفعت نحو المنزل المجاور لإنقاذ الصبي لكنها عندما وصلت… لم يكن هناك أحد
كان المكان خاليًا تمامًا، كما لو أن المشهد كله كان مجرد وهم أو شبح من الماضي ولكن… كانت هناك الفتاة الصغيرة نفسها
كانت تقف هناك، تبكي بحرقة، عيناها المغرورقتان بالدموع تعكسان شعورًا غريبًا… مزيج من الرعب واليأس
آنا (متلهفة): لماذا تبكين يا صغيرتي؟ ماذا يحدث هنا؟
رفعت الطفلة وجهها، وصوتها المرتجف بالكاد يُسمع:
أمي… لقد فقدت وعيها… أظن أنها ستموت… ولا أحد يريد مساعدتنا
آنا (بفزع): ماذا؟ أين والدكِ؟ أين إخوتكِ؟
ازدادت شهقات الطفلة، ثم همست بصوت مخنوق:
أبي يقول: دَعُوها تموت… هذا جزاء من يتدخل فيما لا يعنيه
ارتجفت آنا، شعرت بجسدها يقشعر بالكامل نظرت إلى الطفلة بدهشة، متسائلة بصوت متحشرج:
لا أفهم… ماذا فعلت والدتكِ؟ وأين ذلك الصبي الذي كان يصرخ؟
مسحت الطفلة دموعها بظهر يدها المرتجفة، وقالت:
إنه أخي… لقد رفض إحضار ما عبّر عنه والدي، فحبسه في تلك الغرفة ليعاقبه… وأمي حاولت إنقاذه، لكنهم منعوها حبسوه هناك أيضًا، وأبي يقول إن الأطفال يجب أن يتربوا بالقوة، حتى لو كان الثمن حياتهم
كانت كلمات الطفلة أشبه بشفرات تمزق قلب آنا، لم تستطع تحمّل المزيد ولكن فجأة… ومن دون سابق إنذار…
صرخة مروعة
التفتت الطفلة بسرعة وركضت باتجاه مصدر الصوت داخل المنزل تبعتها آنا راكضة خلفها، لكن… ما إن تخطت الباب حتى اختفت الطفلة
وقفت آنا وسط المكان المهجور، جسدها يرتجف، عيناها تتلفتان في كل الاتجاهات
أيتها الصغيرة أين أنتِ؟ هل من أحد هنا؟
لم يكن هناك سوى الصمت… صمت ثقيل كالموت، لا يقطعه سوى دقات قلبها المتسارعة
خرجت مسرعة من المنزل، تتنفس بصعوبة، وفجأة رأت امرأتين تقفان بعيدًا، تحدقان بها بذهول وخوف
المرأة الأولى (بصوت مرتعش): يا إلهي… إنها ابنة ماريانا ما الذي تفعلينه هنا، يا فتاة؟
آنا (لاهثة): كنت أبحث عن الطفلة الصغيرة لقد كانت هنا… ألم تريها تخرج أمامكما؟
نظرت المرأتان إلى بعضهما البعض، ثم قالت الثانية، بصوت خافت، وكأنها تخشى أن تسمعها الأرواح:
بسم الله… ماذا تهذين؟ هذا المنزل مهجور منذ سنوات لم يتجرأ أحد على الاقتراب منه حتى… كيف سمحت لكِ والدتكِ بالدخول إلى هنا؟
ازدادت ضربات قلب آنا، حاولت أن تفهم، لكن الكلمات لم تسعفها
المرأة الأولى (بصوت متهدج): استمعي إليّ جيدًا، يا فتاة… إيّاكِ والاقتراب من هذا المكان مرة أخرى هذا المنزل مسكون… ومنذ الحادثة المشؤومة، حلّت عليه لعنة لم تُرفع لا أحد يجرؤ حتى على المرور من أمامه، لقد حذرتك
انسحبت آنا من المكان ببطء، وقفت في منتصف الطريق، نظرت إلى المنزل مرة أخرى…
وهناك، عند الشرفة العلوية…
رأت خيال شخص يقف بصمت، يحدّق بها…
ثم… اختفى
شعرت آنا بدوار، وضعت يدها على صدرها، وكأنها تحاول أن تُمسك بأنفاسها الهاربة
يا إلهي… سأفقد صوابي ما قصة هذا المنزل؟ وما قصة تلك الطفلة؟ من تكون؟ وماذا تريد مني؟
لكن الأهم من كل ذلك…
هل ما تعيشه الآن واقع؟ أم أنها مجرد ضحية لكابوس لا ينتهي؟ عرض أقل
•تابع الفصل التالي "رواية الجدران الناطقة" اضغط على اسم الرواية